"1" الحقيـبة
فرح انتابه حينما اشترى له أبوه حقيبة كبيرة.. فرح كثيرا.. أعجبه لونها البني.. لها رائحة غريبة تشبه رائحة الدفاتر الجديدة.. في تلك الليلة أخذ يصف باستمتاع كتبه المدرسية بداخلها.. كان حريصا أن يكون كتاب التربية الاسلامية فوق كل الكتب الأخرى وبعده يأتي كتاب اللغة العربية.. قبل أن ينام حدق كثيرا في الحقيبة وهي ممتلئة بالكتب والدفاتر والأقلام ومسطرة مصنوعة من الخشب يحدها معدن مثل السكين ، جرحته مرة بينما كان يجرب حدتها. في الصباح خرج بها متباهيا وقد وضعت أمه بداخلها فطيرة الجبن بعد أن لفتها له بورق.. أحس أن الجميع ينظرون اليه بإعجاب.. وصل مكان انتظار الباص.. وجده مزدحما بالطلبة.. ينتظر الآن خوض معركة قاسية من أجل التدافع والتسابق والاستحواذ على مقعد شاغر.. حقيبته جديدة.. انتابه خوف من أن يصيبها مكروه.. سوف توبخه أمه لايام طويلة.. يذكر كرة القدم التي اشتراها له أبوه وانفجرت في اليوم الثاني.. حينها تلقى توبيخا شديدا من أمه. وصل الباص.. تأهب الجميع للدخول في المعركة.. ارتفعت الحقائب والكتب.. ثلة من الطلبة المشاكسين يلجأون للضرب من أجل الاستحواذ على مقعد.. ومنهم من يلجأ الى العبث بمؤخرات الآخرين في سبيل الصعود داخل الباص.. هو يحذر دائما من كل هذه التصرفات.. نصائح أمه تتردد في ذهنه كلما نظر في أحد الأولاد الملاعين الذين يهوون إفساد الأولاد الأقل منهم سنا.. لذا يفضل أن يكون آخر من يدخل الباص.. أمه تقول له دائما (إياك أن ترابع الصيع.. عن يضحكوا عليك.. كون رجال.. عن تمشي في هذيك الدرب.. كون رجال ). كان ممسكا بالحقيبة حتى لا تقع منه.. سمع أصواتا من داخل الباص تقول له 0(أوه.. شنطة جديدة.. شنطة جديدة.. ايش عليك..). بالطبع لم يجد مقعدا شاغرا.. وقف مع الواقفين.. وضع حقيبته بين قدميه.. تفاجأ بسائق الباص يتجه ناحيته والغضب والعرق يتساقطان من وجهه.. ظن أن هناك من أغضبه ، لكن ما ذنبه هو حتى يوجه له الغضب.. دب الذعر فيه وتذكر أمه وأباه وأخوته والمدرسة.. كاد أن يبكي.. صرخ السائق: (جايبلي شنطة أكبر منك.. انت تعرف أن الباص مثل قوق السنورة ما يسد الطلبة الجعور.. هيا أخرج بشنطتك هذي. هيا.. هيا).
غادر الباص محشوا بالطلبة وكأنه صندوق مكتنز بالتمر. تركه مع حقيبته في الشارع.
" 2 " قمة البرج
وقت الغروب ، يدخل صناديق الفاكهة والخضرة والزعتر والهيل والعدس ، يغلق باب دكانه الخشبي ويربطه بقفل كبير، هذا الليلة انتابه هاجس من نوع غريب فهو لا يريد أن يذهب للمسجد لصلاة المغرب ولا يريد أن يرجع الى البيت كي يتناول عشاءه ويسمع أحاديث زوجته وأولادا، لن يضع مفتاح الدكان في حزام خصره بل يخبئه -هذه المرة – تحت صخرة صغيرة أمام الدكان
يتوغل داخل السوق كأنما يبحث عن شيء، يسعل ويتذكر المئات من نوبات السعال التي رافقته طوال حياته ، يحك على صلعته من تحت العمامة البيضاء ثم ينتقل للحيته يمسدها. يحشر جسده في زحام السوق مارا بأزقته الملتوية المظلمة ، يحصي عدد المجانين الذين يردهم كل يوم ويلقي نظرة في آخرين يستعدون للنوم على الأرصفة أمام محلات سوف تغلق بعد قليل، يلقي نظرة عجلى ناحية أرض خاوية كان عليها مستشفى (الرحمة ) فتنفرط منه دمعة ، أصوات الباعة تتباطأ في الدخول الى أذنيه ، أنفاسه كسولة ، وروائح السوق منعشة ، لكنه يشم رائحة غريبة يحاول أن يتتبعها.
سقف السوق سماء غائمة معلق عليه قمر صغير، تتراءى له أجنحة تطير من بين الزحام ، تأسر قلبه ، يركض كي يلحق بها ويلامسها. لكن التعب يوخز قدميه وقلبه ، يجلس ويمد قدميه ، يمسد عليهما بتأن ويراقب طيورا تحوم حول قمة برج السوق.
يقف على قدميه من جديد ويتجه ناحية باب البرج ، يناشد قدميه أن تسرعا والا تخذلاه في الوصول ، تركلان حجرا وزجاجة لم تكن فارغة لتوقظ قطا نائما، قلبه يخفق ، قدماه تمشيان باتجاه الهواء البارد والغيم ، أنفاسه كسولة وحارقة. القدمان تتعثران وتسقطان في وحل المطر، لكنهما تتحديان السقوط ، ترفسان الوحل فيتطاير خائبا.
يعاود المشي فينقطع احد نعليه ، ينظر فيها بحسررة وحزن ، لكن رغم ذلك قدماه تتشبثان بالنعلين جيدا حتى لا تنفرطا. أخيرا تتسلقان السلم المؤدي لقمة البرج ، هاجس الوصول يزداد لديه ، فقدماه هما سبيل الوصول تحملان جسده الى أعلى كي يلتقي ربما بالطيور أو الاجنحة بعد كل هذه السنين ، خطواته صعبة وثقيلة ، سلمة وراء سلمة ، القدمان صارتا تنزفان عرقا، النعلان تسقطان الى أسفل السلم ، أصبحتا عاريتين ، منتفختين ، مشربتين بحمرة قانية ، إلا أنهما تنجحان في الوصول الى قمة البرج ، عندئذ تنتهي مهمتهما الشاقة ، يمددهما على أرضية البرج كمكافأة لهما على انجاز مهمتهما، ثم سرعان ما خارتا في نوم عميق.
عيناه تحومان ناحية سماء مظلمة انطفأ قمرها بسبب غيمة وسوق أصبح نقطة هلامية من فوق البرج ، يسمع صراخا حادا في السماء ويتلقى بعده سقوط مطر كثيف ، يفتش عن شيء ، يشعر براحة ، ويشعر بحزن ، العالم من حوله مضبب منذ زمن بعيد،لا يفهمه ، بشر كثيرون ، قرب بدماء، انفاس تتصادم. يحاول أن يقوم ، تخونه قدماه.
يزداد صراخ السماء، يزداد علو البرج ، يزداد تضاؤل البشر والسوق ،وبعد ساعات حضرت شمس الصباح ساخطة ،شربت بقايا المطر، غربان كثيرة تحوم حول قمة البرج ، بينما المفتاح هذه المرة مخبأ تحت صخرة ،القفل كبير صامد يقيد الباب.
"3" كيف يبدو صباح اليوم؟
أليس هذا الصباح جميلا..؟
إذن وبكل هدوء سوف أقوم من على سريري وأقفز ثلاث قفزات في الغرفة لأن الصباح يبدو جميلا. أقف عند باب الغرفة أتطلع ناحية زوجتي التي مازالت نائمة.. نهداها يرتفعان وينخفضان.. على الفور أركض ناحيتهما.. والصباح يدفعني لذلك وقد سقاني شراب الانتشاء، تقوم زوجتي ضاحكة بغنج وتضربني على يدي ضربات لينة مثل نسمة هواء باردة تلاطف خدي، أتركها لكي أدخل الحمام.. أفتح الحنفية فأجد الماء يتدفق بغزارة لا توصف ، وهذا لا يحدث في بقية الصباحات الماضية ، وهذا الصباح جميل يدفعني أن أضع أصبعي في فوهة الحنفية (فيطرطش ) الماء بقوة ليستحيل المكان الى مشهد ماطر ينهمر فوق رأسي وعلى وجهي ويصل حتى السقف.
تذكرت الآن صباحا قديما حينما نقر غراب زجاج نافذتي فسقط قلبي خائفا لأني تذكرت طيور هيتشكوك. وفي حينها تذكرت القط الأسود الذي دهسته بسيارتي قبل يومين من ذلك الصباح القديم فساورني القلق وازدادت وساوسي حول الايام القادمة ومدى ثقلها، فلماذا إذن ينقر الغراب زجاج نافذتي محاولا تهشيمها؟ ولماذا القط الأسود ينفذ عملية انتحاره بنجاح ويستخدمني اداة لموته؟ هل سأخسر احلامي تدريجيا ذلك صباح قديم
وصباح اليوم يبدو جميلا.. الا يبدو جميلا حقا؟
ها أنا أتهيأ للذهاب الى العمل ، واذا فتحت الباب سأجد الصباح شخصيا يرحب بي وسوف يعرفني على هدوئه غير المعتاد وسأسأله إن كان سيحتفظ بهدوئه هذا، فيجيبني "وكيف لي أن أعرف ذلك؟".
أخاف الآن أن أقوم من على سريري ولا أقفز القفزات الثلاث ، وبالطبع ليست لي زوجة أتطلع لنهديها واركض ناحيتهما، ولا أعتقد بأنني سوف أدخل الحمام طالما ان حنفيتة جافة ، لأجعل هذا اليوم مناسبا للنوم. غدا سأفكر جديا بالذهاب للعمل.
يحيى بن سلام المنذري (قاص من سلطنة عمان)