كان <<موسم أصيلة>> هذا العام مفعما بالنشاطات والندوات الكثيرة المتعددة الوجوه والاختصاصات. كان عام اليوبيل الفضي لهذا الموسم الذي أصبح علامة مضيئة في المشهد الثقافي العربي.
هذه الورقة التي قدمها سيف الرحبي في الندوة الاخيرة للموسم والتي وسمت ب-(ندوة الندوات) ضمت حشدا من المفكرين والأدباء والفنانين من مختلف الأرجاء العربية والعالم. كان في مقدمتهم أدونيس, محمد اركون, الطيب صالح, عبدالمعطي حجازي, العربي المساري, ادورد مونيك, أحمد المديني, السيد ياسين, فيرادوراطي, انطونيو جالا, امين معلوف, هشام شرابي, صلاح استيتيه …. الخ.
في هذا العام المميز لمنتدى أصيلة الثقافي الابداعي وموسمها الدولي, الذي يترك خلفه ربع قرن من الزمن ويتطلع إلى مستقبل مليء بالاحتمالات والاحلام .
في خضم تلك السنوات وحصرا منذ مطلع الثمانينيات حين بدأنا نفد الى هذه المدينة الصغيرة الآخذة في نموها الثقافي والعمراني, هذه المدينة المجدولة من أمواج المحيط والتاريخ البعيد الذي يشبه في بعض قسماته العمرانية الكثير من المدن العمانية الساحلية.
يمكن للذاكرة أن تحتشد بمشاهدات وذكريات على المستوى الشخصي والفكري والثقافي, فكم من العلاقات والوجوه والصداقات التي أقيمت واستمرت على أرض هذا البلد في موسمها الحاضن لجنسيات واتجاهات وأمزجة مختلفة فكانت الصلات الشخصية الحميمة ممتزجة بالحوارات الفكرية والفنية مهما شط الخلاف والتباين في الآراء والأفكار أحيانا.
ورغم مناخات القمع العربية السائدة على أصعدة شتى في كل حدب وصوب, تبنى <<موسم أصيلة>> طموح خيار الديمقراطية الصعب في هذه الازمنة العربية المدلهمة التي تفتقر إلى مشروعها الحضاري الثقافي بالمعنى العميق لهذا المصطلح الذي ابتذ ل مثل الكثير ممن على شاكلته في الخطاب العربي الشعاري … فهذا المشروع الذي انكسر تاريخيا قبل بدايته الفعلية, ربما لا يأتي هكذا دفعة واحدة كمعطى جاهز, وليس هبة من السماء أو انفجارا أرضيا كانفجار ثروة أو وهم أفكار تزعم لنفسها الجامع المانع والنهائي. الكتاب والمثقفون وكل الفعاليات الواعية المدركة لحجم الخطر الذي أصبح يهدد الكيان الروحي والمادي أو ما تبقى منه للشعوب العربية ويكاد يرمي بها خارج الزمن والتاريخ عبر وسائل داخلية وخارجية تتبارى في الفتك والاستئصال والتدمير . التجمعات الثقافية والفكرية العربية وفعالياتها, التي ه مشت نتيجة لعدم الايمان بالثقافة وهيمنة السياسة بأوهامها وتهريجها الذي انتهى كتجسيد أوضح في دفق بعض الفضائيات العربية, هذه التجمعات أو الفعاليات مدعوة أكثر لخلق حوار جدي مع الذات واقتحام المناطق المقصية فلسفة وفكرا وفنا, ومع الآخر من كل الاماكن والجنسيات والهويات الثقافية والروحية ما يسهم اسهاما كبيرا في محاولة تبين رؤية المشروع الحضاري المحلوم به منذ بداية القرن المنصرم, ذلك القرن الذي كان بامتياز قرن الإنجاز العقلاني الباهر على مستوى التاريخ, وقرن الحروب والإبادات والتنكيل, انها سمة العقل الملتبسة على نحو تراجيدي.
أشرت الى امكانيات الحوار مع (الآخر) بعد الذات الفردية والقومية الممزقة أيما تمزيق والمنفصمة رؤية وسلوكا .
وهذه الاشارة لا تحمل أي بعد تبشيري, فواقع التاريخ والعلاقات البشرية أكثر تعقيدا من أي تبشير ووعظ, أو تفاؤل مبس ط, لكن الضرورة لمثل هذه المعرفة وهذا الحوار الحقيقي ليس مع الغرب وامتداده الأمريكي, أي مع الحضارة الممسكة بزمام الكون فحسب, وانما اضافة اليه مع ثقافات وهويات اخرى تربطنا بها روابط التطلع الى تجاوز الواقع المزري الذي نتخبط في ظلامه الغزير منذ أجيال.
<<موسم أصيلة>> أش ار إلى هذا فعليا وكان جزءا من طموحه, فشهدنا ذلك التماس الحواري مع هويات إفريقية وآسيوية ولاتينية, استمرارا للسجال العربي في مناحي الفكر والأدب وأنماط التعبير المختلفة التي حظيت بالحضور على اختلاف مشاربها ومنازعها, فوحدة الثقافة العربية ليست وحدة ايديولوجيا او شعارات وهتافات تمليها هذه الجهة او تلك, إنها وحدة مصير لا يقبل الفكاك إلا في القراءة الخاطئة للتاريخ.
غياب هذا الحوار وهذا الجدل ضمن الخيار الديمقراطي الذي لا يقصي ولا يلغي المختلف ويبيده ضمن مذبحة الواحد ية والاستبداد الذي تمتلىء بأطيافها العنيفة دنيا العرب.
غياب هذا الحوار وهذا الانفتاح التعددي هو ربما واحد من الأسباب العميقة التي قادت إلى أصوليات عربية تو جتها الأصولية الاسلاموية التي تقصي أي حوار من أطروحاتها عدا حوار العنف والسلاح.
الوضع العربي البالغ الانحدار في مستويات شتى بالضرورة يتحول الى مزرعة خصبة تعج بكل أنواع بكتيريا العنف والفساد والظلام .
هناك المناخ العالمي الذي لا يقل تحفيزا لمثل هذه الأصوليات العنيفة, الفكر الصهيوني الطالع من أوهام ميثولوجية خرقاء والبالغ التعصب والانحطاط على المستوى الحضاري والديمقراطي ضد الآخر, مدفوعا بتحالفه مع أشباه النازيي ن الجدد في العالم.
هذه العناصر مجتمعة تهدد انجازات الفكر الحضاري الخلاق على مدى الأزمنة التي قدمت فيها البشرية وطلائعها العلمية والمعرفية كل تلك التضحيات الجليلة والمرو عة كي تصل إلى هذا المستوى الإنساني والأخلاقي اللائق بسكان هذا الكوكب الآخذ في الشيخوخة والانحلال عبر الفعل البشري نفسه.
هذه العجالة التي ليست إلا إشارة تحية متواضعة لموسم أصيلة في يوبيله الفضي, أشارت إلى أهمية الحوار والخيار الديمقراطي تأسيسا وبداية من الجمعيات والأطر الأهلية والمؤسسات المدنية التي ينتمي إليها منتدى أصيلة, حيث الثقافة الطامحة إلى الانسلاخ من إهابها السلطوي وإكراهاته وإملاءاته, وربط هذا السياق بالرؤية التنموية التي يستفيد منها سكان هذه المدينة الكريمة, التي أصبحت بشرائحها ووجوهها وطبيعتها الأخ اذة, جزءا من وجداننا وترحالنا العاطفي, فكانت دائما مقصدا ومبتغى ونحن نقيم في أكثر من بلد ومكان, كمحطة دفء إنساني بين الأخوة والأصدقاء.
أحيي هؤلاء الأخوة والأصدقاء القائمين على إنجاز هذا الموسم الثقافي, على الدأب والمثابرة, وفي مقدمتهم الأستاذ محمد بن عيسى, الذي رغم انشغالاته الكثيرة, كان هذا الموسم من مشاغله وهواجسه الاساسية.