عبر هذه القصة (الضيف) ومعها إحدى عشرة قصة أخرى التقطتها من شبكة الإنترنت (ستصدر قريبا في كتاب) يطل الكاتب الروسي الكبير انطون تشيخوف (1860 – 1904) على القارئ العربي مرة أخرى… وفي ظني أن هذه القصص، وما قد يتبعها من أعمال أخرى لم تترجم إلى اللغة العربية من قبل، سواء لتشيخوف او لغيره من الكتاب الكلاسيكيين الروس، وزيادة على أنها تنقل للمرة الأولى إلى لغة الضاد، فهي تمثل بالضرورة صوتا آخر يتردد من العالم الواسع لهذا الكاتب المذهل. فالمترجمون أجيال وأذواق وثقافات، ونحن إن أخذنا اللغة العربية، التي ينهل لسانها من لهجات متشعبة ويتلون بأطياف من الثقافات المحلية، سنجد فضاء واسعا لممارسة الترجمة وستنفتح أمامنا أبوابا رحبة للدخول إلى عالمها. وبهذا المعنى فإن ترجمة عربية “جديدة” لكاتب “قديم” إنما هي تجربة تشرع على أسئلة معرفية متجددة وتتشكل منها مناخات جمالية تختلف باختلاف المرجعيات الثقافية العربية.
كتبت هذه القصة التي تحمل نكهة تيشخوفية بامتياز عام 1885 بتوقيع “أ. تشيخونتي” اتقاء تعسف السلطات وهو ما جرت عليه العادة لدى الكثيرين من مجايلي تشيخوف من الكتاب؛ ومن خواص أسلوبه في تلك المرحلة المبكرة، حس الفكاهة الإبداعي الذي أفاده كثيرا في الاقتراب من شؤون مجتمعه وقولبتها فنيا، كما ومكنه من اهتمام القراء وحفر إسمه في أرض الشعب.
r تراخت جفون الوكيل الخاص زيلتيرسكي. الطبيعة غاصت في الظلام. همدت حركة الغصون وصمت غناء العصافير، والقطعان آوت إلى حظائرها. زوجة زيلتيرسكي كانت قد نامت منذ فترة طويلة، والخادمة نامت هي الأخرى، النفوس جميعها غافية، وحده زيلتيرسكي كان محظورا عليه الذهاب إلى سريره، مع أن ثلاثة أرطال من الأوزان وقفت على جفنيه. مرّدُ ذلك أن جاره في الضيعة، العقيد المتقاعد بيريغارين حل ضيفا عليه. فمنذ وفوده بعد الغداء وجلوسه على الأريكة، منذ ذلك الحين لم يتزحزح عن مكانه قيد شعرة، فكأنه قد عَلق هنالك. جلس وشرع يروي، بصوته الأجش، الأخن، كيف أن كلبة شاردة عضّته في مدينة كريميتشوغ عام 1842. ينهي قصته ثم يعود ويحكيها من جديد. وبعد أن جرب جميع الحيل لاقتلاع ضيفه، وقع زيلتيرسكي في حالة من اليأس. صار ينظر، بين الفينة والأخرى، إلى ساعته، يعلن أن رأسه يؤلمه، ومن وقت لآخر، يغادر الغرفة التي جلس فيها الضيف، ولكن شيئا من ذلك لم يُجد معه نفعا. لم يفهمه الضيف وواصل قصته عن الكلبة الشاردة.
“سيبقى هذا العجوز السمج حتى الصباح! – احتدم زيلتيرسكي – أي لوح هو! حسنا، وبما أنه لا يفهم التلميحات المعتادة، سيتحتم عليّ استخدام الطرق المباشرة.
– من فضلك – قال مجاهرا – أتعلم ما هو أكثر ما يروقني في حياة الضِيْع؟
– ما هو؟
– إمكانية التحكم بالحياة هنا. في المدينة يصعب التقيد بنظام محدد، أما هنا فبالعكس. نستيقظ في التاسعة، نتغدى في الثالثة، في العاشرة نتعشى وننام في الثانية عشرة. في الثانية عشرة أنا دائما فوق السرير. ولا قدّر الله أن أتأخر عن ذلك، حينها لن أتخلص من الصداع النصفي في اليوم التالي.
– حتى من دون أن تخبرني … هذه حقيقة، وكل واحد حسبما تعود. أتعلم، كنت أعرف أحدهم، إسمه كلوشكين، برتبة نقيب. تعرفت عليه في سيربوخوف. وهكذا، فإن هذا الكلوشكين نفسه…
وبدأ العقيد يروي عن كلوشكين، متأتئاً، مدويا بصوته ومبعثرا أصابعه الثخينة في الهواء. دقت ساعة الثانية عشرة، ومضى سهم الساعة نحو الثانية عشرة والنصف، وهو مازال يتحدث. غطس زيلتيرسكي في عرقه.
“لا يفهم! أحمق! – استشاط غضبا – أويعتقد حقا أنه يسليني بزيارته هذه؟ ولكن كيف السبيل إلى خلعه من هنا؟
– اسمعني – قال مقاطعا العقيد – لا أعرف ما أفعل! أشعر بألم مخيف في حنجرتي. شيطان قادني صباح اليوم للمرور على أحد معارفي وكان ابنه مصابا بداء الخُناق. كأني أصبت بالعدوى! بلى، أشعر بأن العدوى قد انتقلت إليّ. أنا مريض بداء الخناق!
– يحدث مثل هذا! – ببرود تحدث بيريغارين من أنفه.
– إنه مرض خطير! وفوقما أني مريض بنفسي، فبإمكاني نقل العدوى إلى الآخرين. فالمرض عند تقدمه يلتصق كالصمغ. فكيف عساني ألا أنقل إليك العدوى، بارفينيه سافيتش!
– من هو الذي يصاب بالعدوى؟ أنا؟! هه – هه! لقد آويت في مستشفيات التيفوس ولم تصبني العدوى، وتريدني الآن، هكذا فجأة، أن أستعدي هنا في بيتك! هه – هه… أنا، الشايب، هذه النواة العجوز، لا يمكن لأي مرض أن ينال منه. العجائز أحياءٌ باقون. كان عندنا في اللواء شيخ شائخ، المقدم تريبين… من أصول فرنسية. وهكذا، فإن هذا التريبين نفسه…
وأخذ بيريغارين يحكي عن حيوية تريبين. دقت ساعة الثانية عشرة والنصف.
– لو سمحت، سوف أقاطعك، بارفينيه سافيتش – تنهد زيلتيرسكي – في أي ساعة تذهب إلى النوم؟
– أحيانا في الثانية، أحيانا في الثالثة، ويحدث أيضا أن لا أذهب إلى النوم البتة، خاصة حينما أكون برفقة جيدة أو حين يضايقني الروماتزم. اليوم، على سبيل المثال، سأستلقي في الساعة الرابعة فقد نمت حتى ساعة الغداء. أنا الآن في الحالة التي لا أنام فيها البتة. في الحرب لم نكن ننام أسبوعا بأكمله. وحدث مرة أننا كنا على مشارف أخالتسيخ…
– بعد إذنك. هاك أنا، آوي إلى النوم دوما في الثانية عشرة. استيقظ في التاسعة، لذلك فأنا مضطر للنوم في ساعة أبكر.
– بالتأكيد. الاستيقاظ الباكر مفيد للصحة أيضا. وهكذا، فقد كنا نقف على مشارف أخالتسيخ…
– شيطان يعلم ما هذا. شيء ما يخضني ويقذف بي في أتون الحمى. دائما ما يحدث هذا قبل وقوع النوبة. عليّ إخبارك بأني أتعرض أحيانا لنوبة عصبية غريبة. تقريبا في الواحدة ليلا… لا تأتي النوبة نهارا… فجأة يصدر ضجيج في رأسي: ج ج ج… أفقد وعيي وأبدأ بالقفز ورمي أهل البيت بكل ما يقع في يدي. إن وقعت سكين بيدي، أرمي بالسكين، كرسي، أرمي بالكرسي. أشعر الآن بقشعريرة، وربما هي النوبة. دائما ما تبدأ بقشعريرة.
– يا لهذا الأمر… كان عليك أن تتعالج!
– لا طائل من العلاج… كل ما أستطيع فعله هو تحذير معارفي وأهل بيتي قبل حدوث النوبة بقليل ليغادروا المكان، أما العلاج فقد تركته منذ زمن بعيد…
– بفففف… يا لكثرة الأمراض على الأرض! الطاعون والكوليرا والنوبات بأنواعها…
هز العقيد رأسه وأطرق يفكر. أطبق الصمت.
“فلأقرأ له ما كتبته – استدرك زيلتيرسكي مفكرا. – ثمة رواية لي وهي ملقية في مكان ما، كتبتها وأنا بعد في الثانوية… وها قد حان أوانها…”
– أوه، بالمناسبة – قطع زيلتيرسكي على بيريغارين حبل أفكاره – ألا ترغب أن أقرأ عليك مؤلفا لي؟ طبخته بهذا الشكل أو ذاك في أوقات فراغي. إنها رواية من خمسة أجزاء إضافة إلى المقدمة والخاتمة…
ومن غير أن ينتظر الجواب، وثب زيلتيرسكي وأخرج من الطاولة مخطوطا قديما وباليا، وقد كتب عليه بخط ثخين: “المويجات الميتة. رواية من خمسة أجزاء”.
“أعتقد أنه سيغادر الآن – راود الأمل زيلتيرسكي وهو يتصفح ما اقترفه في يفاعته – سأقرأ له ولن أتركه قبل أن ينهض وهو يعوي…
– والآن استمع إليّ، بارفينيه سافيتش…
– بكل سرور… أحب هذا…
بدأ زيلتيرسكي القراءة. العقيد وضع رجلا على رجل، استوى في جلسته واتخذ وجها رصينا، فبدا أنه متأهب للاستماع لأطول وقت وبكل طيبة خاطر. شرع القارئ بوصف الطبيعة. حين دقت ساعة الواحدة، أخلت الطبيعة مكانها لوصف القصر الذي عاش فيه بطل الرواية، الكونت فالينتين بلينسكي.
– ليتني أعيش في مثل هذا القصر! – تنهد بيريغارين – ويا لجودة الكتابة! على استعداد للجلوس قرنا لأستمع إليها!
“ولكن مهلك عليّ! – فكر زليتيرسكي – لسوف تعوي!”
في الساعة الواحدة والنصف، أخلى القصر مكانه لأحلام البطل الجميلة. وفي تمام الثانية، وبصوت هادئ ومخنوق، مضى القارئ يقرأ:
– “أنت تسألين عما أريد؟ آه، ما أريد هو أن نكون هناك، في البعيد، تحت القبة الجنوبية للسماء، ويدك الصغيرة ترتعش بوهن بين يديّ… فقط هناك، تطرق الصبابة قلبي تحت قبة هامتي الروحية… الحب، الحب!..” كلا، بارفينيه سافيتش… لا قوة لي بعد… لقد تعبت!
– إذن فلتترك عنك هذا! غدا ستكمل القراءة، والآن تعال بنا نتحدث… وهكذا فأنا لم أخبرك بعد عما جرى عند أخالتسيخ…
أغلق زيلتيرسكي عينيه وهوى على ظهر الأريكة مستنفد القوى وأخذ يسمع…
“لقد جربت جميع الحيل – فكر – ولا طلقة واحدة أصابت هذا الماموث، والآن فسيبقى هنا حتى الرابعة… يا إلهي، مستعد أن أدفع مائة روبل كاملة، فقط لأغفو في هذه اللحظة… بااا! لأسأله سلفة! فكرة عظيمة…”
– بارفينيه سافيتش! – قطع كلام العقيد – سأقاطعك من جديد. بودي أن أسألك غرضا صغيرا… المسألة أنني في الآونة الأخيرة، ومع سكني هنا في الضيعة، أنفقت بشكل مريع. نفدت النقود ولا أحتكم ولا على كوبيك واحد، ولكني سأستلم أجوري نهاية شهر أغسطس.
– ولكن… لقد مكثت طويلا عندكم – اهتاج بيريغارين وبحث بعينيه عن قبعته. إنها الثالثة الآن… عن ماذا كنت تتحدث؟
– بودي أن أقترض من أحدهم مائتين أو ثلاثمائة روبل… ألا تعرف من يقوم بذلك؟
– ومن أين لي أن أعرف؟ وبالمناسبة، أصبح الوقت متأخرا بالنسبة لك… ليلة سعيدة… لك ولحرمك…
تناول العقيد قبعته وخطى خطوة إلى الباب.
– إلى أين – قال زيلتيرسكي بهرج. – كان بودي أن أطلبك سلفة… إني أعوّل على طيبتك التي أعرفها…
– غدا… أما الآن فامض إلى زوجتك… مارش! وبسرعة صافح بيريغارين زيلتيرسكي، اعتمر قبعته وخرج. وبالنصر انتشى سيد البيت.
تقديم وترجمة: أحمد م الرحبي *