سعاد زريبي
كاتبة تونسية
بدأت الخطوات الجدية لأفلام الطفولة في السينما الإيرانية قبيل الثورة الإسلامية ثم توطدت مع انطلاقة مؤسسة الفارابي للعمل على إنتاج ودعم هذه النوعية من الأفلام، وهي مؤسسة حكومية ساهمت بشكل كبير في دعم السينما الإيرانية وخاصة أفلام الأطفال. سعت سينما الطفولة إلى إرساء سينما جديدة تهدف إلى تطهير الذوق العام وإرساء ثقافة بصرية جديدة والابتعاد عن السينما التجارية ونشر السينما الجادة صورةً ومضمونًا، فتعددت أشكال السينما معبرة عن ثراء المشهد السينمائي ومؤكدة على دور السينما في صناعة الثقافة الجديدة للشعب الإيراني. على الرغم من وجود بعض التوجهات السينمائية الأخرى في السينما الإيرانية والتي تتوزع الى خمسة أقسام وهي: «سينما الأطفال واليافعين، سينما القصة والرواية، سينما الثورة والحرب، سينما التاريخ، والسينما الحديثة والفيلم القصير»1، فإن أفلام الطفولة تبقى الأفلام الأجمل على الإطلاق في السينما الإيرانية لا في المجال المحلي فحسب بل في العالم، والتي بقيت فضاءً يجب أن يمر منه كل باحث وناقد سينمائي مهتم بالسينما الإيرانية أو متفرج في أفلامها مستمتعا بعذوبة الصورة وجمالية السيناريو والبنى السردية، مقتفيا الأبعاد التاريخية والفكرية والسياسية الملغزة داخل الفيلم التي لا يخلو فيلم عن تغليفها بشكل ساحر وملغز في حركة الأطفال، نظراتهم وفي أسلوبهم في الحوار. هناك في باحة الأفلام التي تصل إلى العشرات شكلت هذه الأفلام فرعا خاصا ومتميزا من الأفلام الفريدة شكلا ومضمونا في تاريخ السينما العالمية. بإمكانات ضعيفة وممثلين غير محترفين مع غياب كل أشكال المؤثرات البصرية رسمت السينما الإيرانية في أفلام الطفولة فكرة مغايرة عن السينما، فهي ليست فنا تجاريا أو فنا يسقط تحت ضغوطات رأس المال لتعبر عن فرادة هذا الفن وعن جماليته فنا منغمسا في كل الفنون فهي تصنع مادته وتعبر عن تلاحم الفنون وتداخلها مما جعل أفلام الطفولة في السينما الإيرانية من أهم الصادرات الثقافية والحضارية لإيران وأبرز المنتجات التي وجدت ترحيبا واسعا في أوساط الفن في العالم كأنها صورة مغايرة لما يصل إلى الجمهور العالمي في فضاءات الإعلام.
شكلت السينما الإيرانية أحد أهم أشكال التعبير الفني والجمالي والثقافي عن الشعب الإيراني وعن حقيقة المجتمع في أدق تفاصيله اليومية، وهو توجه مدروس بدقة في دولة تشرف على كل تفاصيل ما ينتجه الأفراد ليتدخل رجال السياسة في سيرورة الإنتاج السينمائي بعد الثورة الإسلامية وبعد عشر سنوات من الصمت الإبداعي السينمائي ليأذنوا لها ببداية جديدة إثر تصريح آية الله الخميني في ردّه على الجماهير المحبّة للسّينما والمطالبة بعودة فتح قاعات السينما: «نحن لسنا معارضين للسينما أو الراديو أو التلفزيون إنّنا نعارض دور السينما التي تساهم في إفساد أخلاق الشباب، بما أنها مغايرة للثقافة الإسلامية. لكننا نوافق على البرامج التي تساعدنا في التهذيب وتكون لصالح التربية الأخلاقية والعلمية السليمة للمجتمع» ثم توطّدت قيمة السينما في المجتمع الإيراني بعد تولي محمد خاتمي وزارة الثقافة في بداية الثمانينيات(1982) حتى بداية التسعينيات(1993)، حيث أنشئت مؤسّسة الفارابي السّينمائية، ووقعت مصالحة جذرية بين الدّين والفنّ والسّياسة، فشكّلت السّينما دعامة أساسية في نمو الوعي الجماعي مشيدة بدور الفن في المجتمع وفي تهذيب الذوق والفكر خاصّة أنّ جلّ سينمائيي المرحلة عملوا على توظيف السّينما من أجل التعبير عن القيم الإنسانية والإشادة بها، وسعوا إلى خلق أرضية للتفكير الوجودي تسهم في تجذير السّلم الاجتماعي والتوافق بين كل أطياف المجتمع، ومن ثمّة كان الإعراض عن استعمال المؤثرات البصرية التي تطلبها الأفلام التجارية المولعة بالاشتغال على مواضيع من قبيل الجنس أو العنف والتي تسعى من ورائها إلى استمالة المتفرج عندما تغيب القصّة الهادفة والأساليب الفنية للعمل الفني ويحضر الإغراء والتّوجيه. انتمت إلى هذا التوجه الجديد للسينما أسماء مخرجين ومخرجات لامعة أمثال: عباس كياروستامي، محسن مخملبوف، كيانوش أباري، أبو الفضل جليلي، إبراهيم فروزش، جعفر بناهي، مجيد مجيدي، ليقدموا تحفًا سينمائية فارقة، لا في تاريخ السينما الإيرانية فحسب بل في تاريخ السينما العالمية نذكر بعضها: أين منزل صديقي، والواجب المدرسي المنزلي، ووتستمر الحياة، لعباس كياروستامي، والعداء لأمير نداري، والماء والريح والتراب وإيليا الرسام الشاب لأبي الحسن دازدي، ومرض الجرب لأبي الفضل الجليلي، والطفل والاستغلال لمحمد رضا أصلاني، والمدرسة التي كنا نذهب إليها لداريوش مهرجوبي، والمفتاح لإبراهيم فوروزيش، وأطفال الجنة وأطفال السماء والأب ولون الجنة لمجيد مجيدي، وصمت لمحسن مخملباف، والسبورات السوداء لسميرة مخملباف، وباشو الغريب لبرهام بيضايي، والبالون الأبيض وتاكسي لجعفر بناهي، ومدينة الفئران لمرضية برومند ومحمد علي طالبي، وأطفال إلى الأبد لبوران درخشنده، وباتال والأمنيات الصغيرة لمسعود كرامتي، وسارق الدمى لمحمد رضا هنرمند، والرحلة السحرية لأبي الحسن داودي. هذه الأسماء وغيرها تمثل سينما جادّة، قوية وغنية على الرّغم من المحظورات الرقابية العديدة والمحرّمات الاجتماعية والسياسيّة. لمع نجم أغلب صناع السينما الإيرانية حتى كدنا نتحدث عن نجوم إيرانية لا تقل في قيمتها وحضورها السينمائي العالمي عن نجوم هوليود، فصار جعفر بناهي ومحمد رسولوف من المخرجين السينمائيين الأكثر حضورا في مهرجانات كبرى كمهرجان كان ومهرجان البندقية.
هناك وإن بشكل مختلف عن توجه الأولين، صارت أفلام أصغر فرهادي بمثابة الفاكهة الناضجة التي تعبر عن توجه إنساني كوني بعيد عن التجاذبات السياسية مبتعدا عن المواجهة المباشرة مع سلطات بلاده. لم يختر فرهادي التوجه الكبير لسينما الطفولة مثل عباس كياروستامي وجعفر بناهي، لقد شكلت سينما هذا الأخير موضوع سجال كبير في إيران وخارجها. كيف ذلك؟
بدأ جعفر بناهي مسيرته في الإخراج السينمائي كمساعد مخرج في بعض أفلام عباس كياروستامي في فيلم بين أشجار الزيتون وفيلم وتستمر الحياة، فحين كتب عباس كياروستامي سيناريو أول فيلم طويل أخرجه بناهي (البالون الأبيض) 1995، الفيلم السينمائي الوحيد الذي كان فيه كياروستامي هاديا في مسيرة جعفر بناهي لأن هذا الأخير سيختار لنفسه دربا مغايرا ومختلفا عن مشروع عباس كياروستامي السينمائي الذي تعتبر أفلامه بعيدة بشكل كبير عن كل النزاعات السياسية، ولم تخلق تلك التوترات العنيفة بين المخرج السينمائي والسلطات الإيرانية. لجعفر بناهي أسلوب خاص اتسم بمعاداة كل أشكال السلطة: اجتماعية، دينية وسياسية، حيث اتخذ من نقد المجتمع الإيراني في طرح مشاكل اللاعدالة واللامساواة الاجتماعيتين، وصور أشكال التسلط على المرأة وكل أشكال الاستبداد السياسي للفرد بشكل عام والمخرج بشكل خاص و تكبيله عن التدخل في الشأن العمومي للمجتمع، مادة أساسية لأفلامه، ساهمت في نحت مسيرة مخرج معادٍ للسلطة ومسيرة مخرج ذي إشعاع كبير في الخارج. لقد مثل الوجه الطفولي الأنثوي عنصرا بصريا بارزا في جميع أفلام بناهي حيث كل أطفال بناهي سينمائيا من جنس البنات منذ فيلم البالون الأبيض وحتى فيلميه الأخيرين (لا وجود، ودببة وثلاث وجوه). ولعل الفيلم الأبرز شراسة من حيث الطرح والذي كان للفتاة المشجعة للمنتخب الإيراني الوجه الأبرز في أفلام بناهي. تسلل فيلم صوره بناهي يوم المقابلة بين إيران والبحرين. يصور الفيلم منع فتيات من الدخول لمشاهدة مباراة كرة قدم ومحاولتهن الفاشلة من دخول المباراة لكن في نهاية المباراة يكشف جعفر بناهي عن توحد الجماهير ذكورا وإناثا في حب ايران، حيث كسرت مشاعر الفرح بالنصر كل الحواجز التي يفرضها المجتمع في الفصل بين الرجل و المرأة، الفتيات والصبيان أو البنات والأولاد2. أما فيلم تاكسي الذي صوره بناهي بكاميرا مخفية متجولا في شوارع طهران مقتفيا الأحاديث العفوية التي قد تدور يوميا بين سائق أجرة ومواطنين حتى يختار بناهي ابنة أخيه هناء سعيدي أحد الوجوه المميزة في هذا الفيلم. بوجه بريء وعفوية ونشاط تعبر هناء عن حبها لفن السينما وتشجيع معلمتها لها على صناعة السينما، ولكن ما يبدو صادما في هذا الفيلم أن هناء تنقل إلى عمها جعفر بناهي ولجمهور السينما شروط صناعة السينما في إيران حيث تقول: «لقد أخبرتنا المعلمة بصنع فيلم تلفزيوني، فيلما يتبع الشروط التالية: احترام الحجاب وإحترام المسلمين، لا تواصل بين الرجل والمرأة، لا مؤامرات، لا عنف…». في الأثناء تتحرك الكاميرا من أجل تصوير جعفر بناهي وهو يشاهد الشوارع والناس ويعبر عن عدم اكتراثه بالشروط. لهذا المقطع دلالات رمزية لم تتوفر الا بحضور الصبية لأنها حولت النقاش حول شروط العمل السينمائي الإيراني من جدية السياسة الى درس تلقيني مدرسي تلقنه المعلمة الى التلاميذ في المدرسة، في حين كان المخرج يختار زاوية نظر مغايرة تنسحب إلى خارج الإطار «السيارة والمدرسة والحديث عن شروط العمل السينمائي». فاز هذا الفيلم بالدب الذهبي لأفضل فيلم في دورته الـ 65 لمهرجان برلين السينمائي الدولي وتسلمت الجائزة ابنة أخيه وبطلة الفيلم هناء سعيدي. حركة رمزية كثيرة الدلالات.
يستبين الدّارس لسينما الطفل إذًا سعيها نحو تطهير الذوق والابتعاد عن نظيرتها التّجارية ونشر سينما جادة صورةً ومضمونا، وكان من نتائج ذلك أن تعدّدت أشكالها معبرة عن ثراء المشهد السينمائي ومؤكدة دورَ هذا الفنّ في صناعة الثقافة الجديدة للشعب الإيراني. وما من شكّ في أنّ هذا الجهد قد يسّر لها السبيل لتضع مفاهيمها ومبادئها الأساسية، ومنحها القدرة على هيكلة أشكالها وترتيبها وفق أقسام محدّدة، وهو ما يدلّ على وفرة الإنتاج و تباين المضامين دون التنكّر لوحدة في الرهانات.
لقد عبّرت هذه الموجة الفنية السينمائية عن حقيقة المجتمع الإيراني وساهمت في التمرّد على الصورة «الكليشه» التي تعرضها القنوات الفضائية عن إيران بوصفها بلدا غير مستقرّ ويمثل خطرا يهدّد الأمن العالمي. لعبت السينما الإيرانية وخاصة من خلال سينما الأطفال واليافعين دورا سياسيا وحضاريا هاما في بناء صورة موازية للصورة العالمية العامة التي رسمتها التجاذبات السياسية العالمية. وما من شك أنها أصابت كبد الهدف والغاية التي تصبو إليها السياسات الإيرانية الداعمة للإنتاج السينمائي. لقد اعتمدت هذه الموجة على تقنيات فنية مختلفة، كاللقطة القريبة والطويلة، التقشف في الحوار، استعمال موسيقى فارسية، تركيز القصّة على الواقع الإيراني، اعتماد الأطفال بوصفهم ممثلين غير محترفين من أجل أن يعبّروا عن حقيقة الواقع الإيراني المتصالح والمتسامح… وهي تقنية قربت المتفرج غير الإيراني من الحقيقة الصّميمة للحياة في بلد لم يرَ الاستقرار السياسي في ظل التوترات العالمية في المنطقة، ودفعته ليعاين عن كثب مختلف تفاصيل الحياة اليوميّة لهذا الشعب.لقد شكلت عفوية الطفل والتصاقها الكبير بالمعاني الإنسانية مكسبا هاما في بناء قسم كبير من أفلام الطفل وفي بناء حقل واسع من الخريطة الكبرى لتاريخ سينما الطفل في العالم.
قد يبدو من الغلو أن نعتبر أن سينما الطفولة في الأفلام الإيرانية تجربة شريدة أو منفردة في تاريخ السينما، بل هي تجربة لها أصولها السينمائية والفكرية في تاريخ السينما والفكر، إذ على امتداد الفكر البشري ارتبط مفهوم التفكير ذاته بمفهوم الطفولة والتربية والعناية والتدريب والتقويم وهي مفاهيم مرتبطة مباشرة بالطفل. أما في مجال السينما فتعتبر صورة الطفل صورة مركزية وكلاسيكية في تاريخ السينما، إذ عمد العديد من المخرجين الغربيين إلى الاعتماد على بطولة الأطفال في أفلامهم التي ارتبطت بالأساس بالواقعية الإيطالية في أعمال روبرتو روسيلليني، ثم دي سيكا وفيسكونتي وفريدريكو فيلليني. لقد جسد الأطفال في أفلام الواقعية الإيطالية علامات وقيمًا متضاربة، فهي من جهة ترتسم في حضورهم ملامح العصر الجديد، لكن هذا العصر الجديد لم يكن مشرقا ومليئا بالاندفاع الطفولي والحيوي مثلما تدل عليها صور الطفل في المخيال والفكر الانساني، بل لقد جسد أطفال السينما الواقعية الإيطالية ملامح تيه بشري وضياع معاني الإنسانية، إذ جسدت أدوارهم صور البؤس والظلم الذي عاشه الإنسان المعاصر بعد ويلات الحرب العالمية الثانية. فنجده يقرر إنهاء حياة أحد أفراد عائلته «الجد» بالسم من أجل أن يريح بدنه ويخلصه من عبء الحياة، ثم يقرر إنهاء حياته في فيلم ألمانيا السنة صفر لروبرتو روسيليني. لقد جسدت صورة الطفل في أفلام روسيليني وفيلليني وفيسكونتي واقع أوروبا بعد الحرب، صورة قاتمة للواقع الإنساني في منتصف القرن الماضي من خلال صور أطفاله: جوع وفقر وسجن وظلم وحيف وتيه.
لم يكن المخرجان الفرنسيان فرانسوا تريفو وروبرت بريسون بالبعيدين عن قناعات السينما الإيطالية في اهتمامها بالطفل وبحضوره في السينما ودوره في بناء الواقعية السينمائية إذ صورا عددا من الأفلام كان أبطالها أطفالا أبدعوا وأبلغوا عن واقع مجتمع يشكو عديد التناقضات والهشاشة في بناء علاقاته، من بين هذه الأفلام جيل وجيم، أنطوان وكولات، حب في سن العشرين لتريفو 1962 أو فيلم موشات لروبرت بريسون. تحاكي هذه الأفلام واقع العالم وحقيقة الأزمنة الحديثة التي كشفت عن السقوط في هاوية أزمة تاريخية شاملة سرعان ما انتقلت إلى نصوص وأفلام المفكرين والمخرجين السينمائيين الغربيين. لكن رغم نفي كل مخرجي السينما الإيرانية إطلاعهم على أفلام الواقعية الإيطالية إلا أنه لا يمكن لناقد السينما أن ينفي هذا التقارب الكبير بين الواقعيتين الإيطالية والإيرانية واتباع الثانية دروب الأولى وإن باختيار الموضوع فحسب مع تغيير في أساليب الطرح والخلفيات الفكرية والثقافية والتاريخية، إذ إن فترة الحرب التي كانت محددا أساسيا لأفلام الواقعية الإيطالية ولتوجهات صناعها لا تختلف كثيرا عن الوضع السياسي والاجتماعي لإيران بعد الحرب الإيرانية العراقية ولإيران بعد الثورة الإسلامية، لكن نقطة الاختلاف هي الصورة النهائية للفيلم الواقعي الإيطالي والفيلم الواقعي الإيراني، فالأول واقعي تاريخي والثاني واقعي ثقافي وحضاري وشعري وساحر يستمد من أصوله الفارسية العريقة مادته الأساسية في تشكيل صورة فنية عالية وجذابة تكتنز بشغف الفرس بالتنميق والتزويق واحتفاء كبير بالزينة واللون، ولعل فيلم محسن مخملباف «صمت» خير دليل على ذلك. تعطينا أفلام الطفولة في الواقعية الإيطالية حقيقة تاريخية، فحين تهبنا أفلام الطفولة في السينما الإيرانية سحر الشرق الشغوف بالفنون كافة من الموسيقى إلى الشعر والخطابة والمنمنمات وفن الخط، فالواقعية الأولى «الإيطالية» تطلب من الدّارس معرفة للحقائق التاريخية لأوروبا إبان الحرب وبعدها، أما مع الواقعية الإيرانية فلابد للدّارس والناقد السينمائي من أن يتسلح بقدرة فائقة في التأويل والفهم ومعرفة واسعة بالثقافة والفكر الشرقي الإسلامي والفارسي. تهبنا الواقعية الإيطالية الحقيقة، في حين أفلام سينما الطفولة الإيرانية تهبنا معنى وحقيقة الوجود لأن كل أطفالها يتحدثون بحكمة ولا يعطون للمشاهد حقيقة تاريخية فحسب.
توحدت جهود المخرجين السينمائيين الإيرانيين في العمل على بناء توجه سينمائي خاص ومتميز وجد في سينما الطفولة مساحة حرة من أجل التعبير عن شواغل المواطن الإيراني وعن القيم الإنسانية الكونية، توجه دعمته الهياكل الحكومية بتأسيس مركز التربية الفكرية للأطفال والمراهقين وإطلاق مؤسسة الفارابي، كما أطلقت إيران في 1982 مهرجان أفلام الأطفال واليافعين الدولي في إيران.
يصعب على الدّارس للسينما الإيرانية الفصل بين أفلامها أو تصنيفها بصيغة تفاضلية كما لا يمكن الفصل بينها أيضا، ولكن يبقى عباس كياروستامي رائد السينما الإيرانية وسينما الطفل بالأساس، إذ مثل حضور الطفل في أفلامه حضورا رسميا في كل أفلامه وفي الأفلام التي قام فيها بكتابة السيناريو كفيلم البالون الأبيض لجعفر بناهي أو فيلم رياح وأشجار لمحمد علي طالبي. حرص كياروستامي على وضع صورة جميلة لأبطاله من الأطفال، إنهم يتمتعون بخصال إنسانية ويعبرون عن غايات الحياة ودلالات الوجود الإنساني من خلال الأسلوب البسيط ومن خلال براءة أقوالهم ونظراتهم. عبرت صورة الطفل في أفلامه عن دلالات فلسفية نابعة من تصور صوفي شرقي عميق لمفهوم الإنسان نفسه وهو ما صرح به منذ بداية مداخلته في مؤتمر خصص لأعماله في جامعة تولوز بفرنسا بعنوان الواقع في سينما كياروستامي عن ارتباط الفكر الفلسفي بالأطفال، يقول: «من المعلوم أن الفلاسفة كالأطفال» لقد التقطوا التفاحة وهي تسقط من أعلى، يقول المهندس في فيلم ستحملنا الريح للطفل فرزاد: «ستسقط التفاحة «إنها لك»، فهم الأحق بتفاحة آدم ويتمتعون بمرونة كبيرة في إلتقاطها فكرة وحركة. تعبر هذه الأفلام عن فرادة ثقافية يتمتع بها الشعب الإيراني والثقافة الفارسية، فعلى الرغم من سيطرة الدولة على كل مفاصل الإنتاج السينمائي الذي يعتبره البعض نوعا من التسلط والاستبداد إلا أنها توفر كل الدعم المادي للإنتاجات السينمائية لأنها رافد ثقافي وحضاري للدولة الإيرانية. كياروستامي نجح في ذلك إلى حد كبير في أفلام الطفولة، حيث صور لجمهوره ثقافة شعبه وبلده، ولوّح بسينما تنادي بالسلام الكوني والحوار الحضاري والصداقة الكونية، لعل حركة ذهاب الأطفال إلى الضفة الأخرى «الهناك» في أفلامه هي حركة رمزية تخرج من الهنا «إيران» إلى الهناك «العالم».
إن هذه الدهشة التي تسكن أقوال الأطفال في أسئلتهم وفي ردودهم في أفلام كياروستامي هي الأساس الذي سيبني من خلاله المخرج مفهوم الحياة وعلاقة الإنسان بالعالم، بالمكان والزمان وبالآخر. إن الدهشة وعدم الاستبداد بالحكم المعرفي والسيطرة على الحوار بين الشخصيات تفتح نوعا طريفا من المرونة والحيوية في الحوار بين الطرفين، حيث لا أحد يعرف الحقيقة ولا أحد يفرض سلطانه على العقول. إن هذا التوجه المضاد للسيناريو وسيطرة الروح الطفولية في أفلام كياروستامي يجسد فكرة «اللعب» بوصفه حيوية مع الحياة والعالم وتملص من كل أشكال الضغط «ان الاطفال لهم علاقة مباشرة مع العالم3.. يقول كياروستامي: «إن اللعب أسلوب للوجود في العالم… إن الأطفال يلعبون أمام الكاميرا كما لو أنهم يلعبون على الركح الذي هو العالم… إني أحب الترحل مع الأطفال»، إنهم يتقدمون بلا حذر ويلعبون في عالم بلا حدود، يكسرون حدود العالم المغلق. «الإنسان اليوم هو تجلٍ للكذب من رأسه الى قدميه. فقط الطفل يقول الحقيقة لأنه لا يعرف بعد العلاقات والأوامر الاجتماعية»4. إن العودة إلى أصول مفهوم «اللعب» و«الطفل» في الفلسفة يكشف عن تداخل بين المشروع السينمائي والمشروع الفلسفي، إلا أن الاختلاف يكمن في قدرة السينما على تحويل المفهوم الفلسفي إلى واقع بصري، تجسيد للمفهوم مرئيا، يقول كياروستامي: «أحب أن أعمل مع الأطفال لأن لهم نظرة حرة شبه صوفية. الحكماء الكبار القدامى هم أطفال اليوم، الأطفال يحبون الحياة من غير شعارات». يعتبر الفيلسوف الفرنسي جون لوك نانسي أن الطفولة هي عنوان الفاعلية والحركية النشيطة التي تفتح المكان والقادرة على خلخلة الفضاء، إنها قادرة على كل هذا «أن تلمس، أن تشم، أن تتذوق، أن تجس، أن تحدق بالعينين وأن تتنصت، أن تعبر، أن تشكل، أن تصمم، أن تهتز، ومائة طريقة أخرى فيما نسميه اللعب»5. يعود اختيار مفهوم الطفل في أفلام كياروستامي كبطل ومحور القصة الفيلمية إلى تثبيت مفهوم «الغموض» في التجربة الوجودية الإنسانية.
إن الحفاظ على غموض الوجود والعالم في عيون الإنسان/ الطفل يعزز فلسفة السؤال ومحاولة الفهم. إن الوجود اللغز هو سياسة فنية مضادة إزاء سينما البضاعة وسينما العرض أي سينما الفرجة التي تدعمها موجة السينما الهوليودية الأمريكية. يقول كياروستامي: «إن الكائنات البشرية تقف بين الجنة والجحيم بسبب غموضهم الوجودي والفن يعرض هذا الغموض»… يعتبر كياروستامي أن السينما هي فن السؤال وفن الفهم، تشتغل سينما كياروستامي على سلسلة الأسئلة التي تتمحور حول هوية الذات، من نحن؟، مفهوم الواقع، ما هو الواقع؟ وماذا يحدث؟ وأسئلة وجودية حول الحياة والموت، وما هي الحياة؟ وماهو الموت ؟، إيتيقا الفعل: ما الذي نفعله؟ وحول مفاهيم المجتمع وتقاليده، حول الحب، المرأة، الدين، الجنس، الفساد. يعيد كياروستامي من خلال الأطفال الطاقة الإنسانية على القدرة على السؤال بوصفه شكلا من التفلسف وشكلا من اليقظة الذهنية والفكرية عكس التبلد الفكري الذي يعيشه الإنسان المعاصر من فرط الثقافة الجاهزة وتقنيات العبودية الناعمة. يقول المخرج الروسي الشهير تاركوفسكي: «لطالما اعتقدت أنهم أكثر حكمة منا، كنت أرغب دائما في جلب الأطفال فهم الرابط بين هذا العالم والعالم الاخر، إنهم لم يفقدوا الترابط بعد، دور الطفل وهو يعزف على آلة الغيتار مهم جدا بالنسبة لي حيث لا يجد الكبار كلمات لقولها أو للتعبير عن شيء من هذا القبيل، على ما أعتقد، أنه إذا سألت طفلا سيكون قادرا على شرح كل شيء»6. تقدم سينما الطفولة لجمهور السينما وللإنسان بعامة ما فقده في العالم المعاصر: الدهشة، التأمل، الشغف. يقول كياروستامي: إن الوجود البشري لايزال بريئا، أي أننا لسنا مستهلكين ومتفرجين أو رهائن أما الصورة السلعة يجب أن تبقى «طفولتنا معنا إلى نهاية الطريق»7.
لا ترتبط سينما الطفولة بالفكر فحسب، بل بالتجربة الحياتية والواقعية للأفراد. فهي أفلام ترصد حقيقة الواقع الاجتماعي للمجتمع الإيراني، فهم أطفال يعانون الخصاصة والتهميش في أفلام مجيد مجيدي، محبو السلام والطمأنينة، يعانون من المرض والعجز، مصابون بالجذام في فيلم البيت الأسود لفروخ فرخزاد، أو مقصيون بسبب مرض نادر في فيلم التفاحة لسميرة مخملباف، أو ضحايا حرب في فيلمها السادسة عصرا، أو يعانون من نظام مدرسي يفوق قدرتهم على التحمل، إضافة الى الظلم والحيف الاجتماعي.
كما لا تخلو أفلام سينما الطفولة من حضور واضح للحيوانات ولأصواتهم: الذئاب والكلاب وابن آوى والثعلب عناصر تفوق الصورة المباشرة للحيوان لتحيل إلى الخوف وانعدام الاستقرار والرعب في أغلب الأحيان، ولكن قد يكون هذا العنصر المرعب للأطفال هو عنصر بشري أو فكرة أو معتقد أو عادات أو ضوابط اجتماعية أو مكان «كالمدرسة»، كلها صور تحيل إلى السلطة، النظام والقيد الذي يضع حدودا لحركة اليافعين ولأحلامهم، فهي حركة تسعى إلى قطع حيوية الأطفال وبتر براءتهم والحكم على نواياهم وأقوالهم ومشاعرهم لنجدهم في بعض الأحيان يغامرون من أجل الخروج عن النظام القائم في المدرسة أو في العائلة أو في العمل أو في الشارع والتمرد على السائد، وأحيانا ينهارون بالبكاء لتنقل لنا صورهم حالة الهشاشة النفسية التي بات فيها الطفل، وأحيانا أخرى يتحملون مسؤولية تفوق أعمارهم ويلتزمون بأدوار تفوق أحجامهم وأعمارهم. ولعل أفلام المخرج البارز اليوم جعفر بناهي خير دليل على ذلك الذي شكل من صورة الفتاة نقطة أساسية من أجل نقد النظام السياسي سينمائيا. هنا لابد من الإشارة إلى نقطة أساسية في سينما الطفولة في السينما الإيرانية التي ارتبطت بالطفل من جنس الذكور، فحين لا نجد اهتماما بارزا بالفتاة في سينما الطفولة في الأفلام الإيرانية وهذا توجه عام في السينما الإيرانية وليس في أفلام الطفولة فحسب إذ يطرح حضور المرأة مشكلا حيث يتوجب على المخرج العناية بكل تفاصيل صورة المرأة وكيفية ظهورها أمام الكاميرا وطبيعة الحوار الذي تستطيع القول فيه، ولكن لم يكن هذا الخط الأحمر في السينما الإيرانية من العسير لمخرج مثل جعفر بناهي من أن يتجاوزه لتكون أفلامه التي تدخل بشكل كبير تحت راية سينما الطفولة لتكون «الفتيات اليافعات» بطلات أفلامه منذ فيلم تاكسي والبالون الأبيض وحتى فيلم الدببة الثلاث.
لا يمكن أن نخفي الطابع السياسي الملغز في أفلام سينما الطفولة في السينما الإيرانية التي تتسم بنقد شرس وعميق للسلطة، والذي نلاحظه أن السينما الإيرانية ليست سينما عرضية أي لا تعرض بل تخفي وتحجب وتغلف الرسائل في الصور وفي حركة الممثلين وفي نظراتهم أيضا. يقول عباس كياروستامي في أحد حواراته: «السياسة ليست نفس الشيء الذي تفكرون به، ولكن بالنسبة لي يظل الفيلم الشاعري سياسيا أكثر من الفيلم السياسي ومن سياسة بحد ذاتها».
من جهة أخرى لعبت أفلام الطفولة في السينما الإيرانية دورا هاما في تقديم صورة المواطن الإيراني المحب للسلام والإخاء وتجاوز كل الصراعات الدينية والسياسية والذي لعب فيه فيلم باشو الغريب الصغير دورا أساسيا في تقديم هذه الصورة، وهو فيلم يقدم صورة الأم الحاضنة للطفل الغريب وهو من أصول كردية ليقدم الفيلم صورة الإيراني القادر على التعايش المشترك واحتضان الغريب. يقول محسن في فيلم الطيور المهاجرة «لنجعل وطننا مزدهرا أيها الأطفال، هذه الأرض ذات الطبيعة الخلابة من أشجار مزهرة وبساتين وغابات وسهول وجبال كلها وطننا فلنعمل يدا بيد على جعل هذه الأرض مزدهرة»8. هذه الأرض في سينما مجيد مجيدي هي إيران. تجدر الإشارة إلى أننا لاحظنا في أفلام الطفولة في سينما مجيد مجيدي حضورا مكثفا للطيور بكل أنواعها، هي تارة جريحة وتارة شريدة وتارة أخرى ترفض الطيران وتارة فريسة سهلة للسرقة والصيد، ولكن جسارة أطفال مجيدي أنهم على وعي شديد بأهمية الطيور وضرورة حمايتها وتعليمها الطيران والحرية وحفظ أمنها وحياتها، ولهذا دلالات واسعة منها الإنساني ومنها السياسي.
لئن ارتبطت سينما الطفولة في السينما الإيرانية باسم عباس كياروستامي وبهرام بيضايي إلا أن الجهود امتدت إلى أغلب المخرجين الإيرانيين وأبرزهم جعفر بناهي ومحسن مخملباف وسميرة مخملباف ومجيد مجيدي وأمير نادري ومحمد علي طالبي، ولكن لم يكن عدد الأفلام ووفرتها هو السبب الرئيس في نجاح هذه الموجة من الأفلام الإيرانية، بل جدية المضمون وجمالية الطرح وشعرية الخطاب الفيلمي وتمكن المخرجين من فنهم وقدرتهم على التأثير على الجمهور صورة ومضمونا، مما ساهم في قبول واسع لهذه النوعية من الأفلام الإيرانية عكس أفلام الحرب أو ما يسمى أفلام الدفاع المقدس. غيرت السينما الإيرانية وجه إيران في عيون العالم بأفلام قدمت الموروث الثقافي الفارسي لترسل لنا عبر العيون الصغيرة والأحاديث البسيطة اليومية التي نلتقطها من أفواه أطفال السينما الإيرانية حكم الشرق، وتحكي انغماس السينما في عمق الهوية الشرقية وارتباطها اللامحدود بالأرض وبالهوية لتعبر عن ضرورة أن ترتبط السينما بأصول المجتمع وثقافة الشعوب. إجمالا لقد أهدت السينما الإيرانية ما ينقصنا في اللحظة الراهنة: البراءة والسلام والمحبة.
الهوامش
حبيب الله آيت اللهي، تاريخ الفن في ايران، ت علي مشكوري، مجموعة الهدى للنشر والتوزيع، 2015، ص 452
لقراءة المزيد عن هذا المخرج الإيراني أنظر مقالي المعنون جعفر بناهي مسيرة مخرج معارض للسلطة رابط المقال
Abbas Kiarostami, la règle du jeu, in Philippe Ragel , Abbas Kiarostami ,Yann Calvet, Guy Chapouillie , collectif, Abbas Kiarostami, Le cinéma à l’épreuve du réel, Université de Toulouse 2 , Le Mirail, coté de cinéma, 2008, p19
Entretien entre Abbas Kiarostami et Hormuz Key au sujet de close up, in Le cinéma iranien, op. Cit. p 167
Nancy, Jean Luc, Les Muses, Paris, Galilée, 2001, p 168
فجر يعقوب، عباس كياروستامي، فاكهة السينما الممنوعة، دار كنعان، دمشق،2002، ص 59
فيلم الطيور المهاجرة.