شيماماندا نغوزي أديتشي- كاتبة وروائية نيجيرية
ترجمة: سمر مرسي – كاتبة ومترجمة مصرية
اعتدت أن أزور والديّ –كأي ابن بار- مرتين شهريا بشقتهما الصغيرة في مدينة إينوغو، تلك الشقة المكدّسة بالأثاث، التي ينحسرعنها ضوء الشمس بعد الظهيرة. لقد تبدّلت حال أبويّ منذ تقاعدهما عن العمل وكأنما قد انكمشا. كانا في نهايات عقدهما التاسع، ضئيلَي الحجم، داكنَي البشرة، محدودبين قليلا. ورويدا رويدا أضحى كل منهما يشبه الآخر، فكأنما طول العشرة قد طبع أثره على ملامح كل منهما لتندمج في ملامح الآخر. حتى إن الرائحة المنبعثة منهما غدت واحدة؛ رائحة الميثانول المنبعث من زجاجة فيكس فابوراب الخضراء التي يناولها كل منهما للآخر، ويدهنان منخاريهما وركبتيهما الموجعتين بالقليل منها بحرص. كنت حين أصل إليهما أجدهما إما قاعدين يُطلان من الشرفة على الطريق أو غائصين في أريكة حجرة المعيشة يشاهدان قناة (أنيمال بلانت)، وقد اكتست ملامحهما بدهشة ساذجة لم أعهدها فيهما من قبل. وكانا يعجبان بما للذئاب من إرادة قوية ويتضاحكان من ذكاء القردة المتقد، وأحيانا يُساءل الواحد منهما الآخر: «أرأيت هذا»؟!
صار أبواي أيضا يتسمان بصبر مذهل على سماع القصص العجيبة لم أعهده فيهما سلفا. ذات مرة أخبرتني أمي أن أحد جيراننا في مدينة آبا –موطن أسلافنا الأصلي- كان مريضا وتقيأ جرادة حية تتلوى، ما نهض دليلا –على حد قولها- على أن شرار أقربائنا قد دسّوا له سما. وأضاف أبي:”إن شخصا ما أرسل إلينا بصورة الجرادة”. دوما ما كان كل منهما يؤكد ما يروي الآخر من حكايا. فحينما أخبرني أبي أن خادمة رئيس القبيلة أوكيكي الصبية قد قُتلت في ظروف غامضة، وأنه قد ذاع في المدينة أنه هو من قتلها واستخدم كبدها في طقوس لجلب المال، أضافت أمي مؤكدة: “يقولون إنه استخدم قلبها أيضا”.
قبل ذلك بخمسة عشر عاما، كان أبواي ليسخران من مثل تلك الحكايات. فأمي –الأستاذة الجامعية في العلوم السياسية- كانت لتنعتها بأسلوبها المقتضب المعهود: “هراء”، وأبي -الأستاذ الجامعي في التعليم- كان ليصيح صيحة استهزاء؛ فمثل تلك الحكايا لا يستحق عناء الحديث عنه. ولكم اعترتني الحيرة من كونهما قد تخليا عن نفسهما القديمة وصارا ينتميان إلى ذلك النوع من النيجيريين ممن ينشرون الخرافات عن مرض السكري وكيف أنه يُعالج بشرب الماء المقدس.
كنت لا أزال أتفكه معهما وأستمع إلى قصصهما بأذنٍ نصف منصتة. قد كانت نوعا من البراءة، تلك الطفولة التي تولد من رحم الشيخوخة. لقد صارا أبطأ حركة مع مر السنين. كان وجهاهما يتهللان فرحا حين رؤيتي، ولم أعد أنا أنزعج من أسئلتهما الفضولية من أمثال: “متى تهبنا حفيدا؟” أو “متى تصطحب معك فتاة لتعرّفها بنا؟”. وفي كل مرة حين كنت أغادرهما بعد ظهيرة أيام الآحاد بعد تناول غداء عامر من الأرز واليخنة كنت أسائل نفسي: تُرى أتكون تلك هي آخر مرة أراهما فيها كليهما حيَّين؟ ماذا لو هاتفني أحدهما قبل زيارتي القادمة يطلب إلىّ أن أحضر في الحال؟ تملكتني هذه الفكرة وملأتني حزنا وحنينا لازماني إلى أن عدت أدراجي إلى بورت هاركورت. كنت أعرف أنني إذا ما قُدّر أن يكون لي أسرة، فأشكو من غلاء مصاريف المدارس مثلما يفعل أبناء أصدقائهما فلن يتسنى لي حينذاك أن أزورهما بانتظام.
وفي إحدى زياراتي في شهر نوفمبر تحدث والداي عن ارتفاع معدل السطو المسلح على امتداد المنطقة الشرقية. فاللصوص أيضا عليهم أن يستعدوا للكريسماس! وقد أخبرتني أمي كيف أن حشدا من عوام الناس المتطوعين للحراسة بمدينة أونتشا قد أمسكوا ببعض اللصوص وضربوهم ومزّقوا ملابسهم، وكيف ألقيت إطارات السيارات القديمة على رؤوسهم فطوّقت أعناقهم كأنها القلائد، وذلك وسط هتافات وصيحات تطالب ببنزين وأعواد ثقاب، إلى أن جاءت الشرطة وأطلقت الرصاص في الهواء لتفريق الجموع، ثم ألقت القبض على اللصوص. سكتت أمي وانتظرت أنا أن أسمع منها تفاصيل خارقة تنمّق بها قصتها؛ فلربما فور وصول اللصوص إلى قسم الشرطة تحولوا نسورا وحلّقوا بعيدا.
استأنفت أمي: “هل تعلم أن أحد أولئك اللصوص المسلحين -وهو في الواقع قائدهم- كان رفائيل؟ لقد عمل خادما لدينا منذ سنين. لا أظنك تذكره”.
حدّقت في أمي قائلا: “رفائيل؟!”
فقال أبي: “ليس غريبا أن تنتهي به الحال هكذا، فالمقدمات توحي بالنتائج.”
استفاق ذهني على تلك الذكرى بعد أن كان غارقا في سبات طويل خيّم عليه من جرّاء الحكايات التي رواها أبواي.
أعادت أمي قولها: “ربما لن تتذكره؛ فقد عمل لدينا الكثير منهم تباعا، وكنت حينها لا تزال صغيرا”.
ولكني تذكرته. تذكرت رفائيل بلا شك.
لم يتغير شيء حين جاء رفائيل ليعمل ويعيش معنا. لم يتغير شيء في البداية، فقد بدا كجميع من سبقوه: غلاما عاديا من إحدى القرى القريبة. كان الخادم الذي سبقه يدعى هيجينس وقد طُرد لإهانته والدتي. وقبل هيجينس كان جون، الذي أذكره جيدا لأنه لم يُطرد ولكنه حزم أمتعته وغادر خوفا من سخط والدتي لكسره صحنا أثناء غسله، فآثر الهرب قبل عودة أمي من العمل. جميع الخدم كانوا يعاملونني بحرص يشوبه ازدراء لمقتهم والدتي. فكانوا يقولون لي: “تعال من فضلك وتناول طعامك. إني لا أحتمل إثارة المشاكل مع السيدة”. كانت أمي دوما ما تصيح فيهم إما لبطئهم أو لغبائهم أو لضعف سمعهم. حتى إن طريقة قرعها للجرس وصوتها الحاد في أرجاء البيت كانا يبدوان كما الصياح. فكم هو عسير أن يتذكر الخادم أن يقلي البيض بطريقتين مختلفتين؛ بدون أي إضافات لوالدي وبالبصل لأمي، أو إعادة الدمى الروسية إلى موضعها على الرف نفسه بعد نفض الغبار، أو كي زيّي المدرسي بإتقان!
كنت وحيد أبويّ وقد ولدت في كبرهما. قالت لي أمي ذات مرة: “حين حملت بك كنت أظن أني بلغت سن اليأس”. أغلب الظن أني كنت حينها في الثامنة تقريبا ولم أكن أعلم ماذا تعني بسن اليأس. كان لوالدتي سمت مقتضب في كلامها وكذلك أبي. وكانا يعطيان انطباع من هو متأهب دوما للاستغناء عن الآخرين.
التقى والداي لأول مرة في جامعة إبادان وتزوجا على غير رغبة أسرتيهما. فأسرة أبي رأت أمي متعلمة أكثر مما ينبغي، وأسرة أمي كانت تؤثر لها خاطبا أثرى. لقد أمضيا حياتهما في منافسة حميمة ومحمومة: من نُشرت له أعمال أكثر أو من فاز في لعبة الريشة الطائرة أو من كانت له الكلمة الفصل في أي مناقشة. وعادةً ما كانا يقرآن لبعضهما بعضا بصوت عالٍ في المساء صفحات من الدوريات أو الصحف وهما واقفين في الردهة لا قاعدين، وأحيانا كانا يذرعان الردهة جيئة وذهابا كما لو كانا على وشك القفز إذا ما هبطت عليهما فكرة جديدة. لقد اعتادا احتساء النبيذ الوردي فدائما ما كانت زجاجته الداكنة اللون الجذابة المظهر هناك على المنضدة بالقرب منهما. وكانا يخلّفان وراءهما كؤوسا تحوي ثمالةً ضاربا لونها إلى الحمرة. كان يقلقني في طفولتي أني لم أكن حاضر الذهن بما يكفي لإجابتهما حين كانا يحدّثاني.
ساورني القلق أيضا من أنني لم أكن مولعا بالكتب؛ فالقراءة لم تؤثر فيّ أثرها في أبويّ؛ إذ كانت تثيرهما أو تحوّلهما إنسانين تغشاهما هالة من الغموض تخرجهما من دائرة الزمن، فلم يكونا يشعران بوجودي إذا ما أقبلت أو أدبرت. كنت أقرأ الكتب فقط لإرضائهما ولإجابة أسئلتهما غير المتوقعة التي قد يوجهانها إليّ أثناء تناول الطعام. أسئلة على شاكلة: ما رأيك في بيب؟ هل أحسن إيزيولو صنعا؟ كنت أحيانا ما أشعر بأنني غريب في بيتي. كان ثمة أرفف للكتب في حجرة نومي مكدّسة بما فاض من الكتب التي لم يعد لها مكان في حجرة المكتب أو في الرواق. لقد جعلتني أشعر بأن وجودي مؤقت، وكأن هذا المكان لم يكن البتة حيث يُفترض أن أكون. لقد أحسست بخيبة أمل أبويّ وبدا ذلك لي حين كانا يتبادلان النظرات وهما يستمعان لرأيي في أحد الكتب. وكنت أعلم أن ما قلته لم يكن خطأً بل إنه مجرد شيء عادي لا يحظى بخاتمهما للجدة والابتكار. كان ذهابي معهما إلى نادي هيئة التدريس كارثة كبرى. إذ وجدت أن لعبة الريشة الطائرة مملة ولعبة الكرة المُريّشة غير مكتملة وكأن الذي اخترعها قد مات قبل أن يكملها.
إن اللعبة التي أحببتها كانت الكونغ فو؛ لقد ظللت أشاهد فيلم (دخول التنين) مرات عديدة حتى إنني حفظت الحوار كله عن ظهر قلب، وتمنيت أن أستيقظ ذات يوم لأجد نفسي قد أصبحت بروس لي. كنت أركل الهواء وأضربه، فكأني أضرب أعداء وهميين قتلوا أسرتي الوهمية. وكنت أجر مرتبتي لتقرّ على الأرض ثم أقف على مجلدين ضخمين –عادة ما يكونان (الجمال الأسود) و(أطفال المياه)- فأقفز إلى المرتبة صائحا: “هاااا” مثل بروس لي. وفي أحد الأيام بينما كنت مندمجا في تمريني نظرت لأعلى فرايت رفائيل واقفا عند مدخل الحجرة يراقبني. توقعت منه توبيخا رقيقا؛ إذ إنه رتّب سريري ذلك الصباح وها هي الحجرة صارت تعمها الفوضى. ولكنه ابتسم ولمس صدره ووضع أصبعه على لسانه وكأنه يتذوق دمه، وكان ذلك هو مشهدي المفضل من الفيلم. حدقت فيه ونشوة الفرحة المباغتة تفعمني. قال رفائيل: “لقد شاهدت الفيلم في البيت الآخر حيث كنت أعمل. انظر إلى هذا!”
والتف قليلا ووثب لأعلى وسدد ركلة في الهواء بساق مشدودة عالية وجسد مشدود رشيق. كنت حينها في الثانية عشرة من عمري، وحتى ذلك الحين لم أكن أشعر بأني رأيت نفسي يوما في صورة شخص آخر.
ظللنا أنا ورفائيل نتمرن في الفناء الخلفي، نقفز من التلة الخراسانية التي كانت تغطي حفر التشرب ونهبط على العشب. طلب إليّ رفائيل أن أضمر بطني حتى أحفظ ساقيّ وأصابعي مشدودة. علمني أيضا كيف أنظم تنفسي. أحسست أن محاولاتي السابقة داخل حجرتي كان ينقصها الشيء الكثير. أما في الهواء الطلق مع رفائيل -حيث كنت أضرب الهواء بذراعيّ- فشعرت أن التمرين غدا حقيقيا حيث العشب الطري من تحتي والسماء العالية من فوقي والفضاء الرحب ملكا لي لأنتصر عليه. شعرت أني لربما أحوز الحزام الأسود يوما ما. كان باب المطبخ يفضي إلى شرفة عالية مفتوحة وكنت أود أن أقفز درجات السلم الستة التي تفصلها عن الأرض محاولا تسديد ركلة في الهواء، ولكن رفائيل رفض قائلا: “لا، هذه الشرفة مرتفعة جدا”.
وفي أيام العطلات إذا ما ذهب أبواي إلى نادي هيئة التدريس بدوني كنت أشاهد مع رفائيل أشرطة فيديو لبروس لي، وكان رفائيل بين الفينة والأخري يقول لي: “انظر هذا! انظر هذا!” كنت أشاهد الأفلام بعينيه كأنما أشاهدها لأول مرة. فبعض الحركات التي ظننتها في السالف مجرد حركات عادية صارت تعد حركات بارعة وذلك بمجرد أن يقول: “انظر هذا!” كان رفائيل يعرف ما هو المهم فعلا؛ فقد اتسم بحكمة عفوية. كان يعيد المشاهد التي يستخدم فيها بروس لي الننشاكو ويشاهد دون أن تطرف عيناه، بل تتسارع أنفاسه حالما يرى هجوما بذلك السلاح المصنوع من الخشب والمعدن.
قلت: “آمل أن يكون لديّ ننشاكو”.
أجاب رفائيل بحزم: “إن استخدامه صعب جدا” وحينها شعرت بالخجل من رغبتي في اقتنائه.
لم يمض وقت طويل حتى باغتني رفائيل لدى عودتي من المدرسة قائلا: “انظر!”، وأخرج من خزانة الملابس ننشاكو، كان عبارة عن خشبتين اقتطعهما من ممسحة قديمة وصنفرهما وربطهما بلولب معدني. حتما استغرق صنعه ما لا يقل عن أسبوع، في وقت فراغه بعد الانتهاء من أعمال المنزل. وقد أراني كيف أستخدمه، ولكن حركاته بدت غير احترافية، لم تشبه حركات لي قط. أخذت الننشاكو وحاولت أن ألوّح به ما أفضى إلى ضربة في صدري. فضحك رفائيل قائلا: “أتظن أنه بوسعك أن تبدأ هكذا؟! عليك أن تتمرن طويلا”.
وفي المدرسة كنت أقعد مفكرا خلال الحصة في نعومة ملمس الخشب في راحتي. كانت حياتي الحقيقية تبدأ مع رفائيل بعد المدرسة. لم يلحظ والداي كم تقاربنا أنا وهو، كل ما لاحظاه هو أني صرت ألعب خارج المنزل، وكان رفائيل هناك بطبيعة الحال كجزء من المنظر ينزع الحشائش أو يغسل أصص الزرع عند حوض المياه. وفي ظهيرة أحد الأيام عند فراغه من نزع ريش دجاجة بادرني وأنا أتمرن وحدي على العشب قائلا: “ألا دافع عن نفسك!”. وبدأت المنازلة، كان أعزل بينما كانت يدي تلوّح بسلاحي الجديد. دفعني بقوة، فضربته بطرف سلاحي في ذراعه. أخذته الدهشة مني تلاها الإعجاب بي كمن لم يكن في حسبانه أني قادر على ذلك. لوّحت بسلاحي تارة بعد أخرى. كان يراوغ ويتفادى ضرباتي ويسدد ركلات، ومر الوقت سريعا وفي النهاية ظللنا نتضاحك لاهثين. ما أزال أذكر بوضوح الآن كم كان بنطاله قصيرا في ذلك اليوم وكيف بدت عضلاته متعرجة على طول ساقيه كما الحبال.
في أيام العطلات، كنت أتناول الغداء مع والديّ، وكنت دائما ما أتناوله سريعا آملا في الهرب، راجيا ألا يوجّها لي أحد تلك الأسئلة الاستجوابية. وفي أحد الغداءات، قدم لنا رفائيل شرائح بيضاء من اليام المسلوق موضوعة على بعض الخضراوات ثم قدم لنا مكعبات الباوباو والأناناس.
قالت أمي: “الخضر صلبة جدا. هل تظننا أغناما من آكلات العشب؟” ثم نظرت إليه قائلة: “ماذا أصاب عينيك”؟
استغرق الأمر مني وقتا لأدرك أنها لم تكن إحدى عباراتها المجازية الساخرة المعهودة. كأن تقول مثلا إذا ما شمت رائحة في المطبخ لم يشمها هو: “ما عساه ذلك الحمل الجاثم على أنفك؟” كانت عينا رفائيل حمراوين بصورة غير طبيعية. وقد غمغم قائلا أن حشرة ما دخلت فيهما.
قال أبي: «يبدو كأنه مرض أبولّو».
دفعت أمي كرسيها إلى الخلف لتتفحص وجه رفائيل وقالت: “أجل، أجل، هو كذلك. اذهب إلى حجرتك ولا تغادرها”.
تردد رفائيل كما لو كان يرغب في الفراغ من رفع الصحون.
قال أبي: “هيّا اذهب قبل أن تنقل العدوى لنا جميعا”.
ابتعد رفائيل ببطء من المائدة مرتبكا فاستدعته أمي قائلة: “هل أصبت بهذا من قبل؟”
“لا يا سيدتي”.
“إنه التهاب الملتحمة، ذلك الجزء الذي يغطي العينين”.
بدت كلمة “الملتحمة” وسط حزمة كلماتها خطيرة مخيفة. وأردفت: “سنشتري لك دواءً. عليك أن تستخدمه ثلاث مرات يوميا وتلزم حجرتك. لا تطهِ الطعام حتى تُشفى عيناك تماما”، ثم وجهت كلامها إلىّ قائلة: “وأنت يا أوكينوا، لا تقترب منه، فمرض أبولّو شديد العدوى”. كان جليا من لهجتها الفاترة أنه لم يكن يساورها أدنى شك في أنه ليس لديّ ما يدفعني للاقتراب من رفائيل.
وبعدها ذهب والداي بسيارتهما إلى الصيدلية بالمدينة وابتاعا منها قطرة للعين أخذها والدي إلى حجرة رفائيل في مقر الخدم في الجزء الخلفي من البيت. ذهب أبي على مضض كمن يُساق سوقا إلى ساحة الوغى. وفي مساء ذلك اليوم ذهبت مع أبويّ إلى شارع أوبوللو لنشتري أكارا لطعام العشاء. وحين عدنا انتابني شعور غريب حين لم أرَ رفائيل يفتح لنا الباب الأمامي أو يسدل ستائر حجرة المعيشة أو يضيئها. أصبح المطبخ هادئا فبدا بيتنا لا حياة فيه. وبمجرد أن غاص أبواي في عالمِهما ذهبت إلى مقر الخدم وطرقت باب حجرة رفائيل. كان الباب مواربا وكان هو مستلقيا على سريره الصغير المستند إلى الجدار. التفت إليّ مدهوشا حين قدمت وتظاهر بأنه يهمّ بالقيام. لم أكن قد ولجت حجرته من قبل. كان المصباح المدّلى من السقف يلقي بظلال كئيبة على المكان.
سألني: «ما الأمر؟»
«لا شيء. فقط أتيت لأطمئن عليك».
هز كتفيه وأسند ظهره إلى السرير قائلا: «لا أدري كيف أُصبتُ بهذا. لا تقترب!»
ولكني اقتربت.
قلت: “أُصبتُ أنا أيضا بمرض أبولّو وأنا في الصف الثالث الابتدائي. لا تقلق، فسرعان ما ستُشفى منه. هل وضعت من القطرة هذا المساء؟”
هز رفائيل كتفيه ولم يقل شيئا، ولمحت زجاجة القطرة على المنضدة لم تُفتح بعد.
سألته: “ألم تستخدمها قط؟”
“لا”
“لمَ؟”
أردف متحاشيا النظر في عينيّ: “لا أستطيع”.
أمعقولٌ أن رفائيل القادر على نزع أحشاء ديك رومي ورفع جوال مملوء بالأرز لا يستطيع تنقيط دواء سائل في عينيه. في البداية، أخذتني الدهشة ثم ما لبثت أن ضحكت في سري، إلا أن التأثر قد غلبني في نهاية الأمر. أجلت النظر في أرجاء حجرته وهالني كيف كانت خالية إلا من سرير مستند إلى الجدار، ومنضدة مغزلية الشكل، وصندوق معدني رمادي في زاوية الحجرة حسبت أنه يحوي كل متعلقاته.
قلت: “سأضع لك القطرة”، وتناولت الزجاجة وفتحتها.
قال لي ثانية: “لا تقترب!”
ولكني كنت قد اقتربت بالفعل. ملتُ نحوه وبدأت عيناه تطرفان باضطراب.
قلت: “تنفس كما لو كنت تلعب الكونغ فو”.
لمست وجهه برفق وشددت جفنه السفلي الأيسر، ثم قطّرت قليلا من السائل في عينه، أما الجفن الآخر فقد شددته على نحو أكثر قوة إذ كان يغمضه بإحكام.
قلت: “آسف.”
فتح رفائيل عينيه ونظر إليّ، كان وجهه يشرق على نحو عجيب. لم أشعر يوما أني محط إعجاب من أحد. وتخيلت حينها حصة العلوم في المدرسة، وتخيلت سويقة ذرة جديدة تنمو مخضوضرة باتجاه الضوء. وضع رفائيل يده على ذراعي.
هممتُ بالانصراف قائلا: “سأزورك قبل الذهاب إلى المدرسة”.
وفي الصباح تسللت إلى حجرته ووضعت له القطرة، ثم تسللت منها إلى سيارة أبي الذي أوصلني إلى المدرسة.
في اليوم الثالث، أصبحت حجرة رفائيل مألوفة ومريحة لي، ولا تعمها الفوضى. وبينما كنت أضع القطرات في عينيه اكتشفت أشياء تخصه راقبتها من كثب كنمو شعر داكن فوق شفته العليا، وكذا بقعة جلدية فيما بين فكه ورقبته. قعدت على حافة سريره وجعلنا نتحدث عن فيلم (ثعبان في ظل القرد). لقد ناقشنا الفيلم مرات عديدة آنفا، وها نحن نكرر ما قلناه. ولكن كلامنا بدا كالأسرار في ظل الهدوء المخيم على حجرته. كانت أصواتنا منخفضة وكأنها الهمس وقد سرى دفء جسده إليّ.
نهض رفائيل ليريني أسلوب الثعبان القتالي، وبعدها أمسك بيدي في يده ونحن نتضاحك، ثم ترك يدي وابتعد قليلا.
قال: “لقد شُفيتُ من مرض أبولّو”.
كانت عيناه رائقتين. تمنيت لو لم يُشف بهذه السرعة.
حين خلدت إلى النوم رأيتني بصحبة رفائيل وبروس لي في حقل رحيب نتمرن للنزال. وحين صحوت وجدتني غير قادر على فتح عينيّ، فباعدت ما بين جفوني بيدي. شعرت بألم بعينيّ ورغبة في حكّهما. وصرت كلما طرفت عيناي خرج منهما مزيد من سائل رمادي مقيت غطّى أهدابي. شعرت كأن حبات رمل ساخنة تقر تحت جفوني. وكنت أخشى أن يكون ثمة شيء بداخلي ينصهر.
صاحت أمي في رفائيل: “ لماذا أتيت إلى بيتي بهذا الشيء؟ لماذا؟”
وكأنه بإصابته بمرض أبولّو قد تآمر لينقل العدوى لابنها. لم يُجب رفائيل كعادته حين كانت تصيح فيه أمي.
كانت واقفة أعلى الدرج بينما رفائيل بالأسفل.
سألني أبي: “كيف استطاع أن ينقل إليك المرض وهو في حجرته؟”
“لم يكن رفائيل. أظن أنه انتقل إليّ من زميل لي أو آخر بالفصل”.
سألت أمي: “مَن؟”
كان عليّ أن أعلم أن أمي حتما ستسأل هذا السؤال. عندها استعرضت في ذهني أسماء زملائي جميعا.
كررت أمي السؤال: “من؟”
قلت أخيرا: “شيدي أوبي”.
كان هذا هو أول اسم طرأ على ذهني، إذ كان صاحبه يقعد أمامي وتنبعث منه رائحة ملابس قديمة.
سألتني أمي: “هل تشعر بصداع؟”
“نعم”.
أحضر لي أبي بانادول واتصلت أمي بالطبيب إغبوكوي. كان أبواي سريعي الحركة، وقد وقفا على باب حجرتي يراقباني وأنا أشرب فنجانا من الميلو أعده أبي. حسوت الشراب سريعا ورجوت ألا يجرّان كرسيا إلى داخل حجرتي كما كانا يفعلان كلما أصبتُ بالملاريا؛ إذ حينها كنت أصحو من نومي ولساني يؤلمني لأجد الواحد منهما ملاصقا لي، وبيده كتاب يقرؤه في صمت، فأتمنى أن أتماثل للشفاء سريعا لأفك أسرهما.
حضر الطبيب إغبوكوي ووجّه نور كشاف إلى عينيّ. كان يضع عطرا قويا ظلت رائحته في أنفي لمدة طويلة بعدما غادر. كانت الرائحة نفاذة تشبه رائحة الكحول، أحسست أنها ستزيد من شعوري بالغثيان. وبعد ما غادر الطبيب صنع أبواي ما يشبه مذبح المريض بجوار سريري. فعلى منضدة مغطاة بالقماش وضعا مشروبا للطاقة بطعم البرتقال، وعلبة زرقاء بها غلوكوز، وثمرات برتقال طازجة على صينية بلاستيكية. لم يحضرا كرسيا إلى حجرتي ولكن أحدهما ظل في البيت طوال أسبوع مرضي. وقد تناوبا على وضع القطرة في عينيّ. كانت أمي أقدر على وضعها من أبي الذي كان يُخلّف سائلا لزجا ينحدر على وجهي. لم يعلما قط كم أنا ماهر في وضع القطرة لنفسي. كنت كلما رفعا الزجاجة قبالة وجهي تذكرتُ نظرة رفائيل ذلك المساء الأول في حجرته وغشيتني السعادة.
أسدل أبواي ستائر غرفتي كي تبقى مظلمة. وكنت أنا سئمت من الرقود ورغبت في رؤية رفائيل ولكن أمي منعت دخوله إلى غرفتي كما لو كان بوسعه -بطريقة ما- أن يتسبب في تدهور حالتي. رجوت أن يأتي ليراني. من المؤكد أنه يستطيع التظاهر بأخذ إحدى ملاءات السرير أو إحضار دلو إلى الحمام. لمَ لم يأتِ؟ إنه حتى لم يعتذر مني. أرهفت أذنيّ لأسمع صوته ولكن المطبخ كان بعيدا جدا، وكان صوته حين يحادث أمي منخفضا جدا.
وذات مرة، بعد خروجي من الحمام حاولت أن أتسلل إلى الطابق السفلي نحو المطبخ، لأجد أبي واقفا عند نهاية الدرج.
سألني: “هل أنت بخير؟”
“أريد ماءً”.
“سأحضره لك. اذهب وارقد في فراشك.”
وأخيرا خرج أبواي معا. كنت نائما حينها وصحوت مستشعرا فراغا يلف البيت. هرولت إلى الطابق السفلي نحو المطبخ. كان خاليا أيضا. تساءلت هل كان رفائيل في مقر الخدم؟ فالمفترض ألا يذهب إلى حجرته أثناء النهار، ولكنه ربما ذهب إلى هناك حين غادر أبواي. خرجت إلى الشرفة المفتوحة. تنامى إلى سمعي صوت رفائيل قبل أن أراه، واقفا لدى الحوض. كان يدق بقدمه على الرمال وهو يحادث جوزفين خادمة البروفيسور نووسو الذي كان أحيانا ما يرسل إلى أبويّ بيضا من مزرعته ولا يأخذ ثمنه. فهل أحضرت جوزفين بيضا؟ كانت فتاة طويلة وممتلئة، وقد بدا حينها أنها على وشك الانصراف ولكنها كانت تتلكأ. بدا رفائيل برفقتها مختلفا؛ خَجِلا، بظهر منحنٍ وقدم غير ثابت. أما هي فقد كانت تحادثه بنوع من الدلال الآسر، كما لو كانت ترى من خلاله أشياء تُسرّي عنها. حينها تشوّش إدراكي.
ناديته: “رفائيل!”
التفت إليّ قائلا: “أوه، أوكينوا! هل أصبح مسموحا لك أن تهبط إلى الطابق السفلي؟”
كان يخاطبني كما لو كنت طفلا، وكما لو لم نكن نقعد معا في حجرته المعتمة.
قلت: “إني جائع. أين طعامي؟”، كانت تلك العبارة أول ما خطر ببالي، ومع أني حاولت أن أبدو متعجرفا فقد بدوت حادا.
تغضن وجه جوزفين كأنها كانت على شفا الانفجار في ضحك متواصل. بعدها قال رفائيل شيئا لم أستطع تبينه ولكنه بدا شيئا شابته مسحة من خيانة. وفي تلك اللحظة اقترب أبواي بسيارتهما فاضطرب الاثنان فجاة، وهُرعت جوزفين إلى الخارج بينما اتجه رفائيل نحوي. كان ثمة بقع برتقالية اللون على قميصه من قُبُلٍ كأنه تلطّخ بزيت نخيل من الحساء. لو لم يكن أبواي قد عادا لظل هناك يثرثر لدى الحوض؛ فوجودي لم يكن ليغير شيئا.
سألني: “ماذا تريد أن تأكل؟”
“أنت لم تأتِ لرؤيتي”.
“أنت تعلم أن السيدة قالت إنه لا ينبغي لي الاقتراب منك”.
لمَ يتكلم بهذه البساطة وكأن الأمر عادي؟ أنا أيضا أُمرت ألا أدخل حجرته، ومع ذلك دخلتها وكنت أضع القطرة في عينيه كل يوم.
قلت: “ومع ذلك فقد نقلت إليّ مرض أبولّو”.
“آسف” قالها ببرود فيما كان عقله شاردا بعيدا.
تناهى إلى سمعي صوت أمي. كنت غاضبا من كونهما قد عادا؛ إذ قلّص مجيئهما من وقت إضافي كان يمكنني أن أمضيه مع رفائيل. حينها داخلني شعور بفجوة تتسع.
سألني رفائيل: “هل تريد موزا مطبوخا أم يام؟” قالها بنبرة من يتظاهر بأن شيئا جادا لم يحدث لا كمن يبغي استرضائي. كانت عيناي تؤلماني مجددا. ارتقى رفائيل الدرج وابتعدت أنا عنه بسرعة نحو حافة الشرفة والتوى خفّاي المطاطيان من تحت قدميّ فاختل توازني ووقعت على يديّ وركبتيّ فراعني ثقل وزني. تحدّرت الدموع من عينيّ ولم أستطع لها كبحا، وتسمرت في مكاني من فرط الشعور بالاتضاع.
ظهر أبواي.
وصاح أبي: “أوكينوا!”
كنت ما أزال جاثيا، وكان ثمة حجر مغروس في ركبتي.
قلت: “لقد دفعني رفائيل”.
“ماذا؟!” قالها أبواي في وقت واحد بالإنكليزية.
كان لا يزال ثمة وقت، قبل أن يتجه أبي إلى رفائيل أو تهمّ أمي كما لو كانت ستلطمه، أو قبل أن تأمره بحزم أمتعته والرحيل من فوره، كان لا يزال ثمة وقت. كان بإمكاني الإبانة، وكسر ذلك الصمت، كان بإمكاني القول بأن ما حدث كان عَرَضا، كان بإمكاني إنكار ما قد قلته ساعتها. حينها كان أبواي سيدهشان لا أكثر.