هاني القط
كاتب مصري
السيارة تنهب الطريق، وأنا غائبٌ أستشرف المدى، وكلّما حَلّت نهايته تتلاشى ويعاود الضبابٍ خداعي، كأنّ العالم لا يريد أن يُظهر لي وجههُ الحقيقيّ.
لماذا عاقبني أبي؟ لا، ليس عقابًا، بل هو نوعٌ من النفيّ، إلى حيثُ لا أعرف!
دخلتُ إلى مكتبه بعد انتظارٍ طويلٍ بجوار السكرتيرة، وبعد تجاهلٍ مقصود، نظر لي بحدة وقرر:
– عقابك أن تقضي وقتًا في العمل بالصحراء!
– لم يذكر لي خطئي، لم يُحدّد لي ذنبي، فقط رمقني بنظرة باردة كصحراء مُمتدّة، كانت كافيةً ليُعلمني أنني موظف في الشركة التي يملكها وليس ابنا من صلبه.
سألته بتعجبٍ واستياء:
– وماذا أعمل في الصحراء يا أبي؟
– لسنا هنا أبًا وابنه، أنا صاحب الشركة وأنت مُوظّفٌ فيها!
كأنّه يُذكّرني بمكاني في هذا العالم، مكاني الصغير، الهشّ، المُهدّد دائمًا بالطرد.
بضيقٍ سألته:
– وبماذا يأمرني صاحب الشركة؟
ـ تحرس المعدات حتى مجيء طاقم العمل في الشركة.
– حارس.. أنا حارس؟!
– هذا أقلّ عقاب.
فقلتُ مُستنكرًا:
– عقابٌ على ماذا؟
نظر لي بغضبٍ ونهض من على كرسي مكتبه الفخم، ارتدى جاكت بدلته الأسود وغادر لاجتماعه الشهري دون أن يسمع رجائي بأن أبقى ولا أغادر.
**
خرجتُ من باب الشركة وتفاجأتُ بأنّ كلّ شيءٍ مُعدّ. فتح أحدهم باب سيارة نصف نقل وأشار لي آخر قائلا وكأنه يسخر:
– ترجع بالسلامة يا باشا.
سببته في سري وانطلقت السيارة. لم ينبس السائق بحرفٍ بعد إجابته المُقتضبة عن بُعد موقع العمل الجديد من مكان الشركة! الحقّ أنّني كنتُ أتصوّر الأمر كله مزحةً وسترجع بي السيارة، لكنّ الصحراء امتدت أمامي كحقيقةٍ لا مفرّ منها. تفادى السائق الطرق الوعرة، مُتجّنبًا التلال والوهاد، ولكي أُبدّد الوحشة التي استدعتها الصحراء إلى روحي سألت:
– أليس عندك أغنيةٌ أو موسيقى مُفرحة؟
– الردايو لا يعمل
ظل الصمتُ يملأ الفراغ الهائل في صدري، إلا أن انتابني نومٌ متقطع، صحوتُ منه شاردًا أسأل:
– كم مرّ من الوقت؟
فردّ السائق:
– أربع ساعات
وآثر الصمت كأنه أُمر بذلك. خضنا في قلب الصحراء ما يُقارب الساعة، وفجأة توقفت السيارة أمام بنايةٍ صغيرةٍ مشيدةٍ بالحجر الجيريّ ومسقوفةٍ بالصاج، بجوارها حاوية ضخمة من المعدن، تقف وحيدةً بسقفها المائل في عمق الصحراء، وبإشارةٍ من إصبع السائق قال:
– هنا مكان عملك.
وصعد أعلى صندوق السيارة الخلفيّ وناولني ما عليها: مرتبة إسفنجية وجوالٌ من المُقدّدات وآخر من الخبز، وبعض المعلبات وخمسة صفائح من الماء ينتهي كلٌّ منهم بصنبور بلاستيكي.
رتّب معي السائق بعض الأشياء في الغرفة الصغيرة. ثمّ فرش على المرتبة ملاءةً، ونام ثلاث ساعات وبمجرد استيقاظه؛ حذّرني من مكر الصحراء، وأدار السيارة وانطلق راجعًا دون أن يُتيح لي أن أسأله:
ما السرّ فيما فعله أبي معي؟؟
**
الصحراء.. فضاءٌ أصفرُ يسكنه الصمت، حيث ذرات الرمل تنتقل كأرواح هائمة، تحمل رائحة العدم ونداء البداية، خيمة السماء المُتدرّجة الزُّرقة تُطبق على الرمال من كلّ الجهات، آلاف من النجوم البعيدة في سماء بلا حد، تمسح جبين الرمال، لتكتب رسائلها القلقة التي تعود لتمحوها وتختفي.
هوة ذلك الفضاء الصامت يخنق الأنفاس، يشعل في أعماقي هواجس الخوف والغربة، يكلس الكلمات في حنجرتي وينسيني الكلام، حتى يداهمني عواء الريح الذي يبدأ مع الغروب ويتوحّش كلّما امتدت قبضة الليل إلى المدى. أسمع هدره كأنّه أرواح الهالكين تصرخ ملقية عليّ تحية الموت.
جهاز الراديو الذي فرحتُ بوجوده وظننتهُ سيسري عني، لا يلتقط أية موجة ولا يَخرُج منه غير وشيشٍ محبوس. صوتُ الفراغ الذي يملأ الكون، يُذكّرني بعزلتي المُطلقة. كلّ دقيقةٍ تمرّ؛ تشم روحي الكآبة وتنفخ في هواجسي بأنّ شيئًا خفيًا يتربّص بي، سلب الحذر من قلبي الطمأنينة، وعند الفجر يرميني التعب الشديد في بئر النوم.
صحوتُ قرب الضحى، أكلتُ المُتاح، وجلستُ على تبةٍ عاليةٍ أُرقب المدى حائرًا في حالي، حتى امتصت الرمال البعيدة قرص الشمس المُنفجر، ظللتُ هكذا شاردًا وخائفًا من شيءٍ لا أعرفه ، وعندما لم أجد ما أفعله؛ كنتُ أذهب إلى النوم لكنّه كان مُعاندًا.
الليالي التالية جاءت أقلّ وطأةً من الأولى، لكنّ الصحراء كانت تُغرِسُ أشواكها في روحي، ببطئها، وصمتها، كأنّها تُريدني أن أُدرك هشاشة وجودي أمامها. يومًا بعد يوم اعتدتُ المكان وأئتلفتُ صمته، ثمّ مرت الأيام كنسخةٍ مُكرّرة، وقبل أن تجعلني كائنًا بليدًا؛ حاولتُ في صباح يومٍ مشمسٍ الخروج من العزلة والملل والكآبة، فكرتُ كثيرًا ولم أجد شيئًا ذا جدوى أفعله، وعندما وقعت عيني على باب الحاوية الضخمة؛ قلت: لم لا أفتحها لرؤية ما بداخلها من معدات؟
لم تُصدّق عيني ما رأت، الحاوية كانت خاليةً تمامًا إلا من شعاع نورٍ أبيضَ يخترق سقفها المثقوب، ظللتُ مبهوتًا تدور برأسي الدنيا، وقد بدا للحظة أن الفراغ هو الحقيقة، والوجود هو الوهم، وخرجت من باب الحاوية، أسأل الخلاء وأنا أدور حول البناية ربما وجدتُ شيئًا يُهدّئ روعي، وفي سعيي اكتشفتُ مدَقًّا لا يتعدى عرضه ذراعًا، سرتُ مع انحناءاته التي أخذت تضيق وتتسع، أُلقي أسئلةً بلا إجابة.. لماذا جاء بي أبي إلى هنا؟ وبعد وقتٍ من سيري، التفتُّ لأرى الحاوية الضخمة نقطةً ضئيلةً جدًا، وبعد خطواتٍ غامت الحاوية في عيني وتلاشت، ولما حاولتُ الاقتراب والبحث عنها؛ فقدتُ الممشى أيضًا كأنّ ساحرًا أخفاه عن عيوني، سرتُ دون هدى يتملكني الخوف، وعندما استبدّ بي التعب، تمدّدتُ مكاني ونمت، ونهضتُ جرّاء لسعة الشمس لوجهي. مؤمنًا أنّ العقابَ ليسَ نارًا ولا سَوطًا، بل هو تيه فضاء من رمالٍ بلا نهاية.
الأفق خالٍ أمامي سوى من صفرة الرمال وعطشي، حاولتُ البحث في عدة اتجاهات، مُحدّدًا كلّ مرةٍ طريقًا مستقيمًا أسير فيه. رأيتُ السراب الذي تعانقه الرياح، أنهارًا بعيدة. أربع مراتٍ سرتُ فيهنّ حاسبًا أنّي سأعثر عند هذا النهر الوهميّ على ماءٍ أو أحدٍ يلتقطني من تيهي، وكلّما اقتربتُ كان النهر الوهميّ يبتعد.
مشيتُ تائهًا، ألعن أبي مرةً ثمّ ألعن مكر الصحراء التي غلبتني مرات، وبقدر فزعي من ذلك الكلب الذي انشقت الرمال عنه، بقدر شعوري الغريب بأنّهُ ليس عدوًّا، بل هو الكف الرحيم الذي يمده العالم لي، ليقودني إلى منجى من هذا التيه. رفع الكلب رأسه وهزّ ذيله مراتٍ بعد أن شمّ رِجل بنطالي ثمّ ارتدّ في الاتجاه الذي جاء منه فتبعته منهكًا، ظلّ ينبح طوال سيره وأنا أمشي خلفه. هدأتُ عندما انتهت المنعطفات التي سرتُ فيها خلف الكلب إلى مُتسعٍ يُحضن شجرتي سدرٍ سامقتين، كأنّهما بوابةٌ إلى عالمٍ آخر. وهناك، بين الشجرتين، كان الكوخ، وكأنّهُ مُخبّأٌ عن عيون العالم. وعلى عتبةِ الكوخِ، كان يجلسُ الأشيب، كأنّهُ جزءٌ من الصخورِ والرمالِ، أحسست أن وجودهُ قديمٌ قدم الصحراءِ نفسها وأنا أسأل:
– هل أُرسل الكلب لي؟ هل كان دليلًا مُقدّرًا في رحلتي هذه؟
سرت طمأنينةٌ في جسدي كله كلّما اقتربتُ من الأشيب، أَجهدتُ عيني لأتبين ملامحه فلم أستطع، كأنّ وجههُ كان مُغطًّى بطبقةٍ رقيقةٍ من الغمام، تُخفي ملامحهُ وهو يبتسم ويقول:
– أقبل.
وأخذني من يدي إلى مكان مجلسه أمام الكوخ وقال برفق:
– اجلس
استطبتُ النظر في عينيه بقدر ما استطبتُ الماء والطعام الذي أحضرهما لي. هالني حزن عينيه الذي لم ينتقص من بشاشته شيئًا. أحسستُ برغبةٍ عميقةٍ في أن أفضي له ما بقلبي، ولما رفعتُ عينيّ إليه، قال والنور يشع من وجهه:
– احكِ؟
حكيتُ لهُ عن والدي، عن الصحراء، عن الخوفِ والفراغ. حكيتُ لهُ عن بحثي عن إجابةٍ، عن معنى، عن سببٍ لوجودي هنا. لكنّ الشيخَ لم يُقدّم لي إجاباتٍ، فقط استمع بصمت، كأنّهُ يُريدني أن أجد إجاباتي بنفسي.
ظللتُ أبوح بأوجاعي، حتى غيبني النعاس بجواره، استيقظتُ على لمسة كفه، كان وديعًا وهو يُعلّمني أسرار الصحراء، عرفني بالنباتات التي تؤكل والتي تميت والتي تُشفي، أعلمني حساب المواقيت من طول امتداد ظلّ جسمي وقصره، وكان رقيقًا وهو يُعلّمني نصائح سمعتُ بعضها من أبي!
وأثناء وداعه شرح لي كيف أحتاط من الرياح وأتقى شرّها إن هبَّت، رفع رأسه ووضع كفه على كتفي وترنّم بكلامٍ مبهمٍ ثمّ ودّعني قاطعًا الهواء بكفه:
– إذهب من هنا.
بُغتُّ بالوصول إلى بناية الصاج الكبيرة من أقصر طريقٍ دون أن أعرف كيف!
هل كان الشيخ سرابًا؟ هل كان جزءًا من خيالي؟ أم أنّهُ كان حقيقةً، حقيقةً غامضةً كالصحراءِ نفسها؟
نمتُ مرهقًا، واستيقظتُ مبتسمًا، صرتُ أشقّ الطريق له دون دليل، غرابته ذابت في حمى ائتلافنا، وشعرتُ أنّني أعرفه من سنين عندما ابتسم آمرا:
– مدّ يدك.
وأراح كفي في راحته، قرأها بعينيه ثمّ مرّ بأنامله الرهيفة كأنه يشدّ ببطن خنصره خطوطًا تتوازى وتتقاطع مع خطوط يدي:
– في التيه رسالةٌ تشفي وجع السؤال.
فقلتُ بسخريةٍ دون أن أُدرك مغزى ما قال:
– هل مصائرنا منقوشةٌ على باطن أكفّنا؟
– لا، صفاء روحك هو من يُطلعك على مصيرك.
– وكيف أُصفّي؟
فنظر لي بلطفٍ وهمس:
– عندما تعرف نفسك.
– وكيف أعرف نفسي؟
– عندما يرى قلبك!
**
حاولتُ فهم ما قاله، فخاتلتني المعاني ولم أصل لشيء، وفي المرة التي لم ينبس فيها بحرفٍ جوابًا على سؤالي:
– كيف يرى قلبي؟
رجعتُ من عنده ضجرًا، خلعتُ ملابسي ووقفتُ عاريًا في وجه الريح أُصيح:
– من أنا؟ وكيف أعرف نفسي؟
بكيتُ للريح، وابتهلتُ للسماء، فلم أقرأ على صفحتها ما يُروّض حيرتي، وحين دخلتُ جحر بنايتي الصغيرة، شعرتُ بلهيبٍ في عيني وبنارٍ في جوفي، تدثّرت بكلّ ما أملك من أغطية ولم تَهدأ ارتعاشتي، استبدّ بي الوهن ليشلّ عزمي حتى على النهوض للتبول، ومن إناءٍ جوارى كنتُ أشرب فيجري الماء في جوفي مطفئًا نارًا موقدةً أخرى أشدّ، خايلني النوم كثيرًا إلى أن استرحتُ في خدره. طيفٌ أبيضُ كأنّهُ الشيخُ، يتحسّس جبيني ويلقمني أعشابًا في فمي، أمضغ مرارتها على مضضٍ وأنا شبه غارقٍ في الغياب، أفيق مضبب الرؤية على كفٍّ تمدُّ لي دواءً من زجاجة، فأسأل:
– من أنت؟
– أنا كبير مهندسي الموقع الذي تحرسه.
مستندًا على نقمتي؛ نهضتُ مُتحاملًا على نفسي حتى فتحتُ باب الحاوية الكبيرة وصحتُ مُشتكيًا:
– لا شيء أحرسه؟
وتفاجأتُ بالحاوية مكتظةً بالمعدات والآلات، فصرختُ:
– جئتم بها الآن؟
فردّ المهندس:
– كلّ المعدات موجودةٌ منذ وصولك، لكن ربما لم ترها!
هل كنتُ أعمى؟ أم أنّ الصحراءَ غيّبت عنّي رؤيةَ ما هو موجودٌ أمامي؟
– والآن ماذا عليّ أن أفعل؟
– تعود إلى مقرّ الشركة فور أن تشفى فقد أتممت مهمتك!
كتمتُ سروري وغرقتُ في الأماني، وفي صباح اليوم الذي أحسستُ فيه بقدرتي على الرجوع، اصطحبتني سيارةٌ لم يكفّ سائقها عن الثرثرة حتى أوصلني إلى مقرّ الشركة، دخلتُ من البوابة وكلّ ما أتمناه هو إجابةٌ واضحةٌ من أبي عن سرّ إرسالي إلى الصحراء!
**
– لا أعلم أين ذهب منذ أكثر من شهر؟
هكذا أجابت السكرتيرة عن سؤالي وهي تفتح لي باب مكتبه مبتسمة. كلّ هواتفه مغلقة، وأثناء لحظات الصمت والشرود، تيقظتُ على رنين الهاتف، حيّاني المحامي على عودتي وقال بصوتٍ مُتوتر:
– دقائق وأكون عندك!
بمجرد جلوسه فتح الظرف الذي جاء به وقال:
– وصية أبيك لك.
وقبل أن يقرأها عليّ، سألته بصوتٍ مذعور:
– وصية ماذا.. أين أبي؟
– لا أحد يعلم!
وأخذ يقرأ الوصية التي ورثتُ فيها كلّ ما يملكهُ أبي.
**
لأيامٍ وليالٍ تسترجع ذاكرتي كلّ الحوارات التي دارت بيني وبين أبي، علّني أهتدي منها إلى سرّ غيابه، أو المكان الذي يتوارى فيه عن عيوني. أخذ الأمر يزداد غموضًا وتُشوبه كلّ الشكوك المُقلقة، ومع مرور الأيام المُترعة بأحلام العمل والنجاح وتجنّب الخسارة ونهم المكسب. بدأ حماسي يتوارى عن البحث عنه، وفي لحظة يأسٍ بدّلتُ مهمة من أوكلتهم للبحث عنه بمهامَّ أخرى تخصّ الشركة. شيئًا فشيئًا غشت توترات العمل غموض غيابه، وحنيني إليه حتى وارها النسيان ولم يعد أبي يُمثِّل لي غير ذكرى لحقيقةٍ كانت في يومٍ ما مُؤكّدة الحضور.
* *
ظلّت الأيام تستنسخ نفسها في رداءة، كنتُ كلّما كسبتُ يزداد نهمي لمكاسب أكبر، فقادني طموحي وجسارتي في الإدارة، إلى أن صحوتُ في يومٍ أصبحت فيه شركتي الأكبر بين كلّ الشركات، فتنحّت الخطورة عن أيّ عملٍ تقوم به الشركة، وبدأت المكاسب تتوالد ومعها خيالات الأحلام المُبهجة. بمرور الوقت فتر شغفي للعمل حتى تبدّد، فقلتُ لنفسي: استمتع بالحياة.
صنعتُ كلّ ما يَسرُّ ولم أفرح، سافرتُ، تزوجتُ، أنجبتُ، ولم يخرجني من ذلك السأم إلى اليوم الذي تفاجأتُ فيه بالساعي يدخل عليّ ومعه خطابٌ مجهول المصدر أسقطه كاتبه في صندوق بريد الشركة، كان بالخطاب جملةٌ واحدةٌ، تُثير الريبة أكثر ممّا تُطمئن إلى يقين:
– ابحث عنّي تجدني!
**
الحقّ أنّني استربتُ في الأمر، إن كان الخطاب مُرسلًا من أبي، فما الذي يمنعه من الظهور بنفسه وتجنيبي ذلك الشكّ، لم يريد أن أبحث عنه؟ هل في بحثي عنه سرّ سأكتشفه؟ كان الأمر كله يزداد إلغازًا وبين يومٍ وليلةٍ، لم يعد يشغلني في الحياة سوى البحث عنه. قمتُ بكلّ ما يُمكن أن يُصنع، وفي النهاية فشلتُ في إيجاده، وقبل أن أيأس حلمتُ بوقوفي وحيدًا في صحراء وصيحة أبي آتية على جناح الغروب، فقلتُ لنفسي ولم لا؟
**
استدعيتُ نفس السائق الذي ذهب بي إلى الصحراء، علمتُ من ملامحه أن سنين مرّت، سار في نفس الطريق الذي لم أستوحشهُ، أنزلني في نفس المكان، التفّ حواليّ المديرون يشرحون لي كميّة الزيت المُستخرج من الموقع وعدد العمال والمهندسين وأشياء عقيمة كتلك، صرفتهم، وأخذتُ عربة الشركة ذات الدفع الرباعيّ، وأخذتُ أبحث عن الطريق الذي كان يوصلني للشيخ، فلم أجد للطريق أيّ أثر، لعدة أيامٍ متتاليةٍ ظللتُ أمشط الصحراء، عيني تبحث عن شجرتي سدرٍ سامقتين وكوخٍ صغيرٍ، وكلبٍ كثير اللهاث، وقلبي يبحث عن شيخٍ أشيب، قضيتُ معه ما قضيتُ ولم أستبِن ملامحهُ، فدائمًا ما بدا لي كأنّهُ سحابةٌ منحوتةٌ في جسدٍ بشريّ.
وعندما تكرّر البحث بلا جدوى، سألتُ نفسي هل تبحث عن الشيخ أم أنّك تبحث عن أبيك؟
فسمعتُ هاتفًا من داخلي يقول بثقةٍ ويقين: هذا هو هذا!
**
انعزلتُ في سكن مدير المشروع يومًا كاملًا، عقلي مشوشٌ وقلبي يتألّم، وسألتُ نفسي بتوجّس:
أين الحلم من الواقع فيما أنا فيه؟
وبقيتُ في حيرةٍ يلفّها عدم اليقين، وكان الهاتف بداخلي يزداد صخبًا ويقينًا:
ثمة سرٌّ يَحملهُ مجيئك إلى هنا؟
وبطمأنينةٍ لا أعرف من أين تنبع، استبعدتُ أنّ الخطأ القديم الذي ارتكبتهُ هو ما جعل أبي يُعاقبني ويدفع بي إلى سكن الصحراء، وقلتُ لنفسي: إن كان في الجواب سرٌّ ففكّر فيه!
خاصمني النوم في ليلةٍ بدا فيها القمر مكتملًا، خرجتُ مُتلمّسًا بروحي طريقي القديم الذي خضتهُ مراتٍ، تركتُ قدميّ حُرّةً في سيرها، للأمام أسير حول تلة، ولليمين أقطع الوادي، ولليسار أرنو بأملٍ في أن أشقّ الضباب. بعد جهدٍ أدركتُ أنّني أدور حول نفسي، غطّت سحابةٌ على ضوء القمر، فتعتمت الرؤية أمامي، كدتُ أسقط في حفرةٍ ونجوتُ، وعندما عبر الضباب صفحة السماء؛ عاد للقمر ضوؤهُ، ووُلد بداخلي إصرارٌ وعزمٌ جديدان، صدّتني تلةٌ فاحتلتُ بالالتفاف من حولها وأكملتُ السير، انقشعت ظلمة ليلي، وأضاءت النجوم طريقي، دبّ في روحي صفاءٌ؛ فرأيتُ على مرمى بصري، الشجرتين السامقتين، هرولتُ تجاههما فوجدتُ الشيخ يجلس في مكانه كأنه ينتظرني:
– لم تغب.
– كيف وقد طال الطريق والغياب؟
– أتشعر به الآن؟
– كأنه لم يكن بعد انقضائه.
– هيا.
– إلى أين؟
– إلى حيثُ تُريد.
سرنا سويًا، عصاه تخطّ في الرمال خطًا خفيفًا ظاهرًا بطول طريق سيرنا، لكنّ الريحَ، محت ما خطّهُ الشيخُ من أثر على الرّمال. باغتني وتوقف هامسًا:
– ما تبحث عنه أمامك.
ابتسم بصفاءٍ ثمّ ربت على كتفي مشيرًا إلي نقطة تختفي في الأُفقِ قائلًا:
– هيا.
وودّعتني عيناه ببشاشةٍ ثمّ ارتدّ عائدًا. تأملته فبدا وكأنه سحابةٌ منحوتةٌ في جسدٍ بشريّ، اختفى رويدًا رويدًا وغطّى الضبابُ العالمَ من حولي.
أين هو؟ سألتُ نفسي ولم أجد شيئًا أصنعه سوى أن أسير، سرتُ حتى كلّت قدماي فتمدّدتُ على كومة رمالٍ ونمتُ تحتَ سماءٍ مليئةٍ بالنجومِ التي تُشبهُ عيني أبي، عيونَ كلّ الذينَ رحلوا. وعلى صوتٍ ينادي باسمي انتبهتُ:
– أحلم ما أنا فيه؟
فردّ الصوت:
– بل الآن صحوت!
وعندما لاح لي وجهُ من يُنادي وسط النورِ الذي أشرق؛ أيقنتُ أنّي لستُ وحدي، وأنّ الرّحلةَ لم تنتهِ بعد.