فيليب صابو
ترجمة: أبو بكر العيادي – كاتب ومترجم تونسي
للإجابة عن هذا السّؤال، يمكن الاستناد إلى الكتابات النّظريّة التي خصّصها فإنسان ديكومب لمسألة العلاقات بين الفلسفة والأدب في كتابه «بروست.. فلسفة الأدب». وخلافًا لما يوحي به العنوان، لا يقترح هذا المؤلَّف تأويلًا فلسفيًّا جديدًا للأثر الرّوائيّ، قد يضاف إلى ما اقترحه دولوز وريكور وحتّى جان فرانسوا ماركي2. بل إنّ الكاتب يقترح فيه مساءلة فرضيّات (قراءة فلسفيّة لرواية «في البحث عن الزّمن المفقود») بكيفيّة نقديّة. وبذلك يبدو بحث ديكومب منذ البداية أكثر طموحًا في غاياته من كونه مجرّد مقالة عن أثر بروست. ذلك أنّ الأهمّيّة الكبرى لهذا الكتاب، وربّما جانبه الأكثر إقناعًا، تكمن في كونه يطيل طرح سلسلة من الأسئلة المنهجيّة، تستبق بحثه في الأثر البروستيّ، وفي علاقة مباشرة مع نمط القراءة الذي يرغب في اقتراحه3. هذا المسعى يسمح له بوضع شروط إمكان تلك القراءة، ويدعو بصفة خاصّة إلى التّفكير في الأهمّيّة الفلسفيّة التي يمكن أن تثيرها تلك القراءة، ليس من وجهة نظر الفيلسوف الذي يمارسها، وإنّما أيضًا -وهنا تكمن النّقطة الحاسمة- من وجهة نظر الرّواية محلّ الدّرس. تكمن جِدّة مسعى ديكومب في كونه، وهو يتناول الفلسفة في عمل بروست بوصفه كاتبًا، لا يحاول أن يتوقّف مبدئيًّا عند ما يبدو مألوفًا لدى الفيلسوف، بل يحرص ألّا ينفلت البعدُ الأدبيّ الحقّ في الأثر الذي يزعم الحديث عنه فلسفيًّا. ذلك أنّه يتساءل على امتداد مقالته أيّ نوع من الفلسفة قام به بروست بروايته أو داخلها ما كان له أن يقوم بسواه قطّ؟ ماذا يعني ذلك؟ أنّه يجب الإقرار بأنّ رواية «البحث» تمتلك «بعدًا تأمّليًّا» خاصًّا بها، أي أنّ تلك المجموعة الرّوائيّة تعرض مضامين فكريّة تجد شكلها الخاصّ داخل بناء سرديّ معقّد تخيّله بروست، وليس خارجه أو استثناء له.
بيد أنّ شروط التّطبيق الأدبيّ لذلك الفكر، ذلك الاشتغال الأدبيّ على الفكر، تستحقّ أن تخضع بدورها للمساءلة بغية إيضاح وضع ذلك الفكر نفسه. هل يمكن إسناده إلى بروست، كفيلسوف رغمًا عنه، يختفي خلف الرّوائيّ، أم إلى الرّواية؟ وماذا نعتبر إذن ما أسماه ديكومب «فلسفة الرّواية»؟ لقد استهلّ ديكومب الصّفحات الأولى من كتابه بإبراز خطأ التّقويم الذي غالبًا ما وقع فيه الفلاسفة حين حاولوا أن يقرأوا رواية كرواية -البحث- «قراءة فلسفيّة». السّؤال الأهمّ في الواقع هو أن نعرف أين هي «فلسفة الرّواية» وفيمَ تتمثّل حقًّا. من هنا فقط يمكن أن تتحدّد بوضوح شروط قراءة فلسفيّة للرّواية تؤكّد أنّ الأمر يتعلّق برواية وليس برسالة في الفلسفة. ولكن لمّا كان الأمر يتعلّق بتحديد أدقّ للبعد التّأمّليّ الذي يُفترض أنّه موجود في البحث، يلاحظ ديكومب عن حقّ أنّ أغلب دارسي بروست حاولوا استخلاص المعنى الفلسفيّ لرواية «البحث» عبر تأويل «أجزاء الزّمن المفقود في ضوء الزّمن المستعاد»4، حيث ينبري السّارد كما نعرف في تأمّلات طويلة، ذات طبيعة فلسفيّة واضحة، عن «جوهر العمل الفنّيّ»:
«التّساؤل عن جوهر العمل الفنّيّ هو علامة فكر فلسفيّ خالص. من الطّبيعيّ إذن أن نقول مع كلّ النّقّاد الذين اهتمّوا بالمعنى الفلسفيّ لرواية البحث: ثمّة فعلًا قراءة فلسفيّة للحكاية، وهذه القراءة طرحها بروست نفسه في الجزء الأخير.»5
فرضيّة القراءة تلك، التي يبدو أنّها تضع الفيلسوف في طريق هرمينوطيقا (توفّر رواية «البحث» عنها أنموذجها وصورتها المثلى في الوقت ذاته 6) تعزّزها حقيقة أنّ بروست الرّوائيّ يشفعه بروست المنظّر، حيث قدّم في مقالته ضدّ سانت بوف تأمّلات نظريّة عن استقلاليّة الأثر، وهو ما يجعل من المستحيل، حسب مؤلّف البحث، أن نستخلص مجرّد معرفة شخصيّة للإنسان الذي أنتجها. في هذه الفرضيّة، تتّضح علاقة الرّواية والمقالة انطلاقًا من هذه المقالة التي حاول فيها بروست في البداية صياغة فكر في الفنّ والأدب قد يسمح لاحقًا بتوسّع روائيّ صرف لرواية «البحث»:
«وهكذا، لم تتمّ إضافة تأمّل الزّمن المستعاد إلى الحكاية لاحقًا لاستخلاص دلالتها. فما حصل هو العكس: لقد ولدت الرّواية من رغبة في تصوير مقترحات المقالة. ومن ثَمّ كان ذلك المبدأ المشترك للأثر، المبرّر تمامًا من وجهة نظر تاريخيّة: البحث رواية محمّلة بمعنى يجدر بالتّأمّل الفلسفيّ استخلاصه؛ هذا التّأمّل مُدرَج في الرّواية، حيث صارت طروحات ضدّ سانت بوف أفكارَ السّارد في الزّمن المستعاد. أي أنّ الكتاب باختصار يمكن أن يتمّ وصفه من جهة بنيته: هو رواية تعطي السّرديّة اقتراحات نظريّة لـ مقالة».7
هذا التّوزيع التّراتبيّ للنّظريّ والرّوائيّ يبدو أنّه يبرّر مبدئيًّا مسعى تأويليًّا يهدف، باستناده إلى الفكرة التي مفادها أنّ ثمّة عددًا من المقترحات النّظريّة في الرّواية، إلى عزلها واستئصالها من عرضها الأدبيّ لإظهار مضمونها التّأمّليّ الخاصّ. ولكن سبق أن بيّنّا كيف يقوم مثل ذلك المسعى على برّانيّة متبادلة بين الأدب والفلسفة، تحيل في نهاية الأمر إلى نوع من أولويّة المعنى (المضمون، المدلول) على الأشكال الملموسة لتجلّيه.
وهكذا، فمن الأشياء الدّالّة أنّ ما يشير إليه ديكومب في مؤلَّفه تحت عبارة «قراءة فلسفيّة للرّواية» لا يناسب ذلك المسعى الهرمينوطيقيّ الذي وصفه، والذي يتمثّل في النّهاية إلى إحالة الرّواية على المقالة –أو كما قال ديكومب نفسه، إلى «العودة» من هذه إلى تلك8، أي من النّصّ الأدبيّ إلى المعنى الفلسفيّ الذي يتستّر عليه– وكأنّ النصّ، عن طريق التّأويل، يعود إلى أصله حيث يتلقّى أخيرًا حقيقته ودلالته. هذه القراءة القائمة على الشّرح والكشف الاستعاديّ لمعنى مستتر في الأثر، يضع ديكومب في مواجهتها نوعًا آخر من المقاربة يعكس تلك الأولويّة القائمة في الظّاهر، أولويّة «النّظريّ» على «الرّوائيّ» وينتج تساؤلًا حول صحّة فرضيّاته:
«لمَ لا نعتبر أنّ الرّواية متقدّمة فلسفيًّا على المقالة؟ لمَ لا نبحث عن الفكر الأكثر إفادة في الحكاية؟ لقد حاولت، عن طريق قلب النّظام المعتاد، أن أعتبر الرّواية إبانة وليست مجرّد إبدال للمقالة. افترضت أنّ ثمّة شيئًا مثل إبانة روائيّة لمقترحات غامضة، مفارقة، مضلّلة، لبروست المنظّر».9
فالبحث عمّا أسماه ديكومب «فلسفة الرّواية» ينبغي أن يتمّ في الرّواية لا في المقالة، فهي لا توجد حيث نظنّ، أي حيث يظنّ دعاة الهرمينوطيقا الذين جعلوا من الرّواية مجرّد وعاءِ معنى فلسفيّ يُكشَف عنه لذاته أو في علاقته بـ»خلفيّة» تأمّليّة. فما هي في النّهاية سوى تلك الفلسفة التي تُنتجها الرّواية نفسُها، وليست تلك الكفيلة بالحديث عن الرّواية، انطلاقًا من برّانيّة معيّنة، دون أن يكون فيها للرّواية نصيب بصفة مباشرة، أي دون أن تساهم فيها فعليًّا عن طريق إجراء صياغة روائيّة لثيمات «فلسفيّة»، لا تغدو كذلك على أيّ حال إلّا عن طريق الاشتغال الأدبيّ الذي تخضع له في الرّواية.
والنّتيجة أنّ تلك الثّيمات، أو تلك «المقترحات الفلسفيّة» التي تستخدمها الكتابة السّرديّة، ليست هي أيضًا ما نتوقَّع: فبسبب التّحوير المنظوريّ الذي أجراه ديكومب، ينبغي ألّا نهتمّ بالاستطرادات التّأمّليّة التي ترصّع النّسيج السّرديّ للرّواية بقدر ما نهتمّ بـ «الأفكار» التي تنتجها تلك الرّواية بذاتها، والتي تضفي على رواية البحث بُعدَها وأهمّيّتها ووضعها الفلسفيّ الخاصّ. «وحتّى إن بدت رواية البحث أحيانًا كتاب فلسفة يتناول الزّمن والجوهر بشكل دغمائيّ»10، أي بمفاهيم تنتمي إلى الحقل الخاصّ بالفلسفة، فإنّه لمن أكثر الصّرامة والخصوبة خاصّة أن نقرأ فيها، بدل الفلسفة القائمة، إنتاج فلسفة روائيّة، تبتكر وتصوغ «مفاهيمها» الخاصّة في تتابع تجلّيها في الأثر الأدبيّ:
«رواية البحث كتاب مفيد فلسفيًّا بالمفاهيم التي أوردها الرّوائيّ ليفكّر بوصفه روائيًّا ويبني حكايته. أذكر بغير ترتيب: الحُظوة، سوء التّفاهم، الاصطفاء والإقصاء، الحسن الشّخصيّ، العجرفة، الواجبات والفروض، السّأم والنّشوة، الحديث، السّكن الذّاتيّ، قيمة علية القوم، فنّ المسافات، إلخ. كلّ ذلك يؤلّف فلسفة بروست الرّوائيّة.»11
إنّ التّمييز المقترح هنا بين «كتاب فلسفة» و»كتاب مفيد فلسفيًّا» حاسم لفهم فيمَ تتمثّل بالتّحديد «فلسفة الرّواية» تلك التي يحاول ديكومب أن يطرحها في مقالته. ذلك أنّ المسعى الذي يقترحه لا يتمثّل في محاولة إعادة تشكيل «كتاب الفلسفة» ذاك، الذي تعتبر رواية البحث تجسيدًا له (مثل هذا الكتاب، كطرس للرّواية، هو أيضًا «متخيّل» ما دام الرّوائيّ بروست لم يكتبه قطّ)12، بل يتمثّل في التّساؤل عن التّطبيق الفعليّ لـ «فلسفة الرّواية»، التي هي مبدئيًّا ما أنتجه بروست فعلًا حين كتب رواية– بدل مقالة.
يجد هذا المسعى أهمّيّته في كونه يساهم في إجراء انقلاب كلّيّ للعلاقات المقبولة في العادة بين إنتاج الأفكار والاشتغال الأدبيّ، ذلك أنّ أفكار الرّواية، حسب ديكومب، لا يمكن إقرارها أو تحديدها بمعزل عن تلك الرّواية حيث تتجلّى. ولهذا فهي بالضّرورة «أفكار رواية»13 – بلهَ أفكار روائيّة:
«الرّوائيّ […] لا يكتب فلسفة. بيد أنّ كتابة الرّواية تحتوي ربّما على مرحلة يمكن تسميتها التّحليل الرّوائيّ (كقولنا التّحليل النّحويّ14). إنّ فكرة عاديّة تصبح «فكرة رواية» حين يجد الكاتب وسيلة لتحليلها، أي تحويلها إلى سيناريو تخطيطيّ.»15 هذا يعني أنّ الأدب فضاء تحويل وإنتاج تأمّليّين: أو هو إنتاج «أفكار رواية» يتمّ في الغالب على حساب تحويل وصياغة أفكار «عاديّة».
من الواضح على أيّ حال أنّ هذا المنظور الجديد يتضمّن الاعتراف باشتغال حقيقيّ للأفكار داخل الآداب: وهذا لا يعني فقط أنّ ثمّة أفكارًا تُشَغَّل في الكتابة الأدبيّة، وبها، وإنّما أيضًا أنّ ثمّة من يُشّغِلها، ناسجًا بذلك شبكة معقّدة من المراسلات والمبادلات بين الفلسفيّ والرّوائيّ: وهكذا تغدو الرّواية مختبرَ أفكارٍ حقيقيًّا، ليس بمعنى كونها مكتوبة فقط انطلاقًا من أفكار يلوّح بها بروست المنظّر في مقالته (ممّا قد يجعل الرّواية نسخة كربونيّة من المقالة، فتكون هذه طِرْسًا لتلك) وإنّما بمعنى كونها موضع صياغة تأمّليّة تامّة الجدّة، منزاحة في أهدافها وتطبيقها عن النّظريّات التي عرضها بروست في كتابه ضدّ سانت بوف.
الهوامش
1 – فصل من كتاب «الفلسفة والأدب. مقاربات ورهانات مسألة. «
Philippe Sabot, Philosophie et littérature, Approches et enjeux d’une question, Paris, PUF, coll. Philosophies. 2002
2 – Jean-François Marquet, Miroirs de l’identité. La littérature hantée par la philosophie, Paris, Hermann, coll. Savoir : Lettres », 1996. Ch. 7 : « Proust, la fête inconcevable » ».
3 – Vincent Descombes, Proust. Philosophie du roman, Paris, Minuit, coll. Critique ,1987, p. 9
4 – نفسه، ص 13.
5 – في نظر دولوز، تُقرأ رواية البحث كحكاية تأويل، ترجع بالنّظر بوصفها ذاك إلى نظريّة العلامة والمعنى (تلك التي وضعها دولوز نفسه انطلاقًا من رواية بروست).
6 – فانسان ديكومب، المصدر السّابق، ص 14.
7 – نفسه.
8 -نفسه.
9 – نفسه، ص 15.
10 – فانسان ديكومب، المصدر السّابق، ص 18 (البنط العريض من وضع المؤلّف). كذلك هو المنظور الذي تبنّاه دولوز في بروست والعلامات، حيث سعى من وجهة نظره، أي من وجهة نظر بعض المفاهيم الدّولوزيّة، إلى إعادة بناء تلك الفلسفة المزعومة عند بروست، التي هي في الواقع فلسفة دولوز: فرواية البحث توفّر فرصة التّعليق على فكره الخاصّ.
11 – نفسه.
12- انظر المصدر السّابق، الفصل الأوّل: «الرّواية، جنس نثريّ» « Le roman, genre prosaïque »
13 – نفسه، ص 24.
14 – الإعراب (المترجم).
15 – نفسه، ص 90.