صالح لبريني
شاعر وناقد مغربي
تَوْطِئَةٌ :
الشّعرُ لحظةٌ وُجوديةٌ تسعى الذّاتُ، من خلاله، إلى تشكيلِ رُؤيةٍ تمزج الواقعيَّ بالخياليّ لخَلْقِ العالَم والأشياء، تماهيًّا مع اللحظة الشعرية وانطلاقًا من التجربة في الحياة والكتابة. فالشّاعرُ يُبدِعُ اللحظة الشعرية التي بِإمكانها تحويل الوجود إلى عوالمَ لغويّة تعبيرًا عن الذات والعالَم؛ داخل بنية تتفاعل فيها العناصر اللغوية، علاقة منبثقة من تصوّر خاصّ لكتابةِ التجربة وتجربة الكتابة، ومن التّعالق القائم بين الكائنات والكينونة التي تمثّل هاجسًا وجوديّا وسؤالا ميتافيزيقيًّا بالنسبة للذات، وفق منظور رؤياويّ يُخصّبُ التجربة واللحظة لتشكيل كينونة “لا تعي نفسها إلا في اللحظة الحاضرة فكيف لا نلاحظ أنّ اللحظة الحاضرة هي المجال الوحيد الذي يُدرك فيه الواقع، ذلك أنّه ينبغي لنا أن ننطلق من أنفسنا لإثبات الوجود حتّى وإن أدّى بنا ذلك فيما بعد إلى التّخلّص من ذاتنا”1، فالوعي بالتجربة واللحظة يفضي إلى “وعي الشاعر لذاته لا يبدأ من التاريخ، أو من الماضي، بل يبدأ من ذاته نفسها- وذاته في يقظة دائمة، ففي كلّ لحظة يعيش ويُفكّر ويخلُق كأنّما للمرّة الأولى، فهو لا يؤرّخ بل يستبق”2. ويضفي على الذات والعالَم والأشياء بُعْدًا جماليًّا مفارقًا، يستمد أثره من تشعبات الواقع والتباسات الوجود.
(1) زَاهِرُ الْغَافِرِيّ الشَّاعِرُ التْرُوبَادُورِيُّ:
عاشَ الشّاعر العُمّاني زاهر الغافريّ حيواتٍ متعدّدة وممتدة في تاريخ وجوده الإنساني والإبداعي، إذ نذر حياته للتّرحالِ في وهادِ العالَم ومتاهاته الموغلة في السؤال والحفْر في طبقاته العميقة، في الدهشة والغواية، في زخم الوجود بالتباساته وغوامضه المغرية، في ارتياد مسالك لا تشبه أحدًا، مسالك تُحفّز على المغامرة والبحث الأبدي عن عشبة الصّحو من أجل البقاء يقظًا ومتيقّظًا لاقتناص اللحظة واغتنام المباغت والمفاجئ في دروب الحياة. شاعرٌ يقظُ الحوّاس ومتوهّج الحدوس، يكتب العالَم والتجربة باليد والعين والبصيرة، بالعاطفة المُعقلنة والوعي، بلغة شعرية مُفعمة وطافحة بمباهج الحياة ومضائقها، ومتحرّرة من سلطة الماضي؛ منغمسة في حاضر التجربة وأبعادها وامتداداتها، في نَسَقٍ “يوضّح نفسه بنفسه، والمعنى لا يوجد خارج هذه اللغة، إنه موجود من خلال الإحالات وليس مُودَعًا في محفل متعالٍ لا يُدرِك سرّه إلا الله”3، ولعلّ هذا ما جعله أكثر بحثًا عن لغة خاصّةٍ به؛ بعيدة عن المسكوك والمجترّ في الشعر العربي المعاصر، لغة تقول الذات والعالَم بكثافة جمالية وفنية تُوسّعُ المعنى وتبني الدلالات. وما اختياره لقصيدة النثر كتصوّر للكتابة إلا شاهدا على امتلاكه لأفق شعريّ يؤسس لشعرية الحياة القائمة على المفارقة والتعدّد لا على المطابقة والائتلاف، وهنا مكمن إبداعيته. شاعرٌ ينثر أناشيده على الطرقات والمقامات المنذورة لصخب الوجود والحياة، إنه التروبادوريّ الأخير الذي أضاء عتمة العالَم الموحش بقصائد تفوح منها روائح الأنفاس والأجساد والكينونات مُلغية بذلك الحدود ومقيمة بين تخوم الغفوة واليقظة. والمشاء المصغي لأصقاع الذات وغوامضها، والرّحاّلة الجوّاب لمجاهل كون في حاجة إلى الاكتشاف، ومع ذلك ظلت لغة الشاعر قريبة من نبض الحياة وارتجاجاتها غير أنها تقوم على الخرق للغة المعيارية، فجاء نصّه الشعريّ عبارة عن فسحة كلامية متجدّدة واحتمال لا يتوقف على التأويل – كما يرى ريكور- 4 يمنحُ لصوتِ الذات والآخر الإمكانية للتفاعل داخل النص والتعبير لإبداع شعرية مفرطة في الاحتمالات الدلالية.
(2) كَيْنُونَةُ التِّرْحالِ وَالْإِقَامَةُ فِي الخيال:
ثمّةَ سؤالٌ يتبادرُ إلى ذهن قارئِ شعر زاهر الغافري يتعلّق بالعلاقة الّتي يربطها الشاعر بمباهج اليومي والحياة بما تحمله من مغامراتٍ تقود الذّات إلى مجاهل الكوامنِ المنسية في اللاوعي، حيث الذّاكرة تعجّ بصور التّيه والاغتراب والضياع في أرضٍ مجلوّة بالحكايات القديمة، والتاريخ الجمعي لكينونة منذورة لطفولة مطوّقة بذاكرة توقظ الغائر والغامض في الذات يقول الشاعر:
«ليست هذه قصيدة، ليس
موتًا ولا جرحًا في الحرب ولا فقاعة في فم السّمكة
كما أنها ليست طائرة ورقية تبحث عن الأطفال
على الدوام.
ثمت لسان معقودٌ يريد أن يقول ما لا يرى
هنا طريق طويلة للجنازات
لوحة أو ذكرى تموء تحت الظّلّ
تحت السلالم الخفيضة…» ص11.
النص المفتتح في ديوان “في كلّ أرضٍ بئر تحلم بالحديقة” بمثابة بيانٍ شعريّ يقدّم تصور الشاعر للكتابة الشعرية باعتبارها إفصاحا عمّا تختزنه الذات من مكابدات وهو المأسور بمواضعات الحياة ومفارقاتها يقول:«أنا سجين سابق في الحياة»، فالتحرر في الحياة دعوة صريحة إلى تجاوز السرديات الكبرى والقضايا الاجتماعية في الكتابة الشعرية؛ بالانتساب إلى شعر ينهمك باليومي والآني والعابر اقتفاء لأثر مالارميه الشاعر المتمرّد المؤسس للحداثة الشعرية، والمؤمن بأن الكتابة الشعرية متحوّلة ومتغيّرة وفق السياقات المؤثرة والفاعلة في تشكّل خطابٍ شعريّ مغاير. والشاعر زاهر الغافري ينحو بكتابته الشعرية منحى حداثيّا يُجدّد الشعرية العربية بالفاعلية الشعرية التي عمادها بساطة اللفظ والتّعدّد الدلالي، فالشاعرية تتجلى “في كون الكلمة تُدْرَك بوصفها كلمة، وليست مجرّد بديل من الشيء المسمّى ولا كانبثاق للانفعال. وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرّد أمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها5 يقول:
«سأسلك ذات الطريق يا مالارميه
وأنا أنظر في خريف
يصعد الأنفاس إلى يد النحّات الأعمى» ص 15.
فالذات تخوض ترحالًا وجوديّا وإبداعيّا لتشكيل كينونةٍ مأسورة تحت سطوة الوعي الجمعي البائد وسلطة القواعد البائتة، لذا نجد الشاعر يعلن خَلْق نصٍّ لا يكرّر الواقع بل يصوغه بلغة يومية عمادها الحسي والمجرّد في الآن نفسه مادام (الشعر هواية ملعونة) ص19، فاللعنة هنا تحيل إلى النّبذ مادام العالَم الخلفي عالَمَ المتعة واللذة والغناء، غير أنّ المبهر والاستثنائي في هذه الحوارية الشعرية بين الشاعر زاهر الغافري وسركون بولص، يتمثل في التواشج والتماهي بين سيرتيْ الشاعرين اللذين يشتركان في التجربة نفسها، تجربة الترحال والإقامة في المنافي وفي الانتماء إلى قصيدة النثر وما تحيل إليه من تمرّد على النسق الإيقاعي التقليدي والشكل العمودي يقول على لسان سركون :
«شايف كيف يا زاهر يصنعون لنا التوابيت
قبل أن نولد (…) هل هذا هو المصير أيها الشاعر؟
سنعبر، أعرف أننا سنعبر هذا الجسر الصغير
ونرمي/ تلك القنينة في البحر
والرسالة لن تصل إلى أحد
جرّب ذلك المشّاؤون وكهنة البحار والعشاق اليتامى
صدقني، شيء شبيهٌ ببرميل البارود…» ص20و22.
ففي هذا الملفوظ يقوم خطاب شعريّ يكتب الذات والعالَم بحبر المكابدة والتوتّر والقلق، حيث الموت هو سيّد العالَم. فالوعي بالخيبات والانكسارات والفجائع واللاجدوى ناجمٌ عن رؤية حداثية شعريةٍ مُشْرَعةٍ على أفقٍ غامضٍ ومُلتبِسٍ يحفّز المتلقي على المغامرة والكشف والتأويل. والغافري يُقدّمُ الحياة اليومية في بنية شعرية ذات طابعٍ سردي. فالنص زاخرٌ بالعلامات اللغوية المستمدة من حقول معرفية مختلفة تاريخية وفلسفية ومكانية وحكائية وأسطورية لعبت دورا تثويريا للنص في أبعاده الدلالية، ويمكن عدّ هذا النص الشعريّ نصّا ينهل من معين واقع المفارقات، فالعالَمُ توابيتٌ ومصيرٌ وعبورٌ له أثره في الذات، وفيما يحدثه من متعة الإفادة واللذة مادام يزرع الغبطة والوهج ومليء بالمعرفة لأن “نص اللذة: هو الذي يُرضي، فيملأ، فيهب الغبطة. إنه النص الذي ينحدر من الثقافة، فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة”6.
(3) شِعْرِيَةُ الْيَوْمِي
وَالْفَاعِلِيةُ الْجَمَالِيةُ:
تتميّز التجربة الشعرية للشاعر بالقدرة على امتصاص العابر والآني وصياغته في نصية شعرية متخفّفة من جلبة العالَم وثقله، بحثًا عن المنفلت واللافت في الزمان والمكان، وهذا أمرٌ لن يتحقق إلا باليقظة في الحواس والوعي بالحدس كمنافذ للمعرفة الأنطولوجية. وذلك لإعادة خلق المبتذل والهامشيّ في صيغٍ تعبيرية تجدّدُ اللغة وفق سياقٍ علائقي جديد، كلّ أفضى إلى تأسيس كتابة شعرية مفعمة بالنَّفَسِ الواقعي، وبالفاعلية الجمالية، التي صارت عقيدة الشاعر الإبداعية التي آمن بأهميتها وجدارتها في تشكيل الذات والعالَم، والانفتاح على اليومي في تعالقٍ مع المطلق. لهذا ينسج الشاعر تفاصيل الحياة بالسرد يقول:
«لم أستطع أن أترك المدينة إلا بعد أن…
إلا بعد أن بكيت
تحت حافر الشجرة
حالما بموسيقى الجاز ووالت ويتمان
عبرتُ الأطلسي في سفينة الموتى (…) أنا رجل طيّب يشرب النبيذ
تركت أصدقائي وودعت طفلتي في طنجة
وكما لو كنتُ ثملًا مخفيّا في بستان
يحرّك يديه ليلعب بالدعابل
بزغ الفجر هادئا في مدينة أخرى …) ص 39.
في هذا المقطع الشعري تتفاعل الأمكنة والأزمنة والأفعال والأسماء في تركيبة لغوية تحوّل الواقعي إلى كائن خيالي تتشكّل كينونته الجمالية والفنّية من سردية شعرية تصوغ الذات والعالم،الأشياء والموجودات في متواليات مشهدية يتفاعل فيها صوت الشاعر مع صوت الآخر للتعبير عن الفقدان والفراغ، بل إنّ الذات تتحول إلى ذاكرة للأمكنة والكائنات وسؤال ترحالٍ أبدي بحثا عن الفجر القادم. فالقصيدة عند زاهر الغافري تبدع الكون الشعري من روح المجازات والاستعارات لمواراة الحقيقة يقول:
«ليست هذه القصيدة لأحد
إنها حياة المنعطفات
حتى تُرى بعين ذهبية
نبتة نائمة في صحراء
الملوك وقد ضاعوا
يبحثون عن الذهب بعد سقوط الممالك».ص40.
هكذا تعلن القصيدة هويتها المتجلّية في البحث عن الكينونة الضائعة وسط متاهات الوجود المدلهمة، بلغة تراوح الإضمار والإظهار، لكنّها تخفي أكثر مما تُجلّي، وتطمس أكثر مما تُبرز، مما ثوّر التجربة الشعرية وشحنها بطاقة الخَلْق والإبداع لهذا لن يتحقّق “إلا بالقوة الرؤيوية التي تستشف ما وراء الواقع بالحدس والتخييل وتجاوز التصورات العقلية والأفكار المجرّدة المنطقية. فيتغيّر نظام الكلمة ونظام الحساسية ونظام العالم“7. فصوغ اليومي وتفاصيل الحياة لن يتأتى إلا بواسطة رؤيا شعرية تنمو داخل مشيمة المجازات والاستعارات لتشكيل متخيّل سردي بملامح شعرية. وهذا يعكس أن القصيدة عند الغافري تتخلّق من رحم الداخل والخارج.
(4) شِعْرِيَةُ الْعَيْنِ وَالْبُعْدُ الدّلَالِيُّ:
يراهن الشّاعر الغافري على كتابة شعرية تقترب من نبض الحياة وتبتعد عن القوالب الشعرية المعتادة بغية تأسيس أفق شعريّ لا يقف عند حدود الشّكل، وإنّما يوسّعه دلاليّا وبنائيًا وفق تصور شعريّ يمزج بين الرؤية والرؤيا في تواشج تشكيليّ خالقا نصّا شعريًّا تتداخل فيه السيرة الذاتية الحياتية بسيرة الآخر، الوعي الوجودي ذو الطابع الفلسفي للوجود والكائنات والأشياء بإبداع بنية لغوية جديدة لا تستمد وجودها الشعري من لغة المعاجم وإنما معجم الحياة، والاعتماد على روافد تشكيلية وأسطورية وجمالية القناع ودهشة اليومي. ومن تجليات هذه الجماليات نشير إلى:
أ- المشهدية الشعرية:
إنّ هذه السّمة الجمالية لها حضور جليّ في الخطاب الشّعري، بل تشكّل معلمًا من معالم الخلْق والصنعة الإبداعية، وعلةُ ذلك اعتماد الشّاعر على الحواس كآلية من آليات التعبير وتجسيد الذات والعالَم في لوحات شعرية ذات جماليات تُغري بالتّأمّل والغوص في بنيتها النّصية؛ قصد الوعي بدورها في تشكيل خطاب شعري منفتح على الأجناس الأدبية، لأنّ “الوعي بهذه الحدود، يولّد الكتابة الحديثة التي ترفض النماذج والأنماط، وتسعى إلى تجاوزها”8، وبواسطته جدّد الشاعر تجربته المستمدة من نسْغ الحياة ومتاهاتها، ووسّع أفق النص الشعري دلاليّا دون الاهتمام بالصراع والجدال الذي أثارته قصيدة النثر، بل شقّ طريقه لكتابةٍ تشعرِن تفاصيل الحياة والوجود. يقول:
«في هذه اللحظة بالذات
ينهار سور الحديقة
بينما أنت تنظر
إلى طيور جريحة في أعلى السماوات
وتتسيّد على أرضك وحوش ما قبل التاريخ
هذه أنشودة قديمة صانعة الحياة
لكنها لا تريد أن ترحل» ص120.
و«تنام تحت السدرة
تحلم أنّك تكتب بعينين مغمضتين سيرة الليل
تكتب وتكتب كأن حيوانًا
دائخا في الأدغال ميّتا من التعب يتساءل: ما أدراك بالكلمة وهي تسافر وحدها في أرجوحة
لسان صامت وتقطعُ أنفاس من بقي من الأحياء…» ص121.
استطاع الشّاعر تحويل الزمن والموجود والكائن إلى عالمٍ لغوي عماده تخييلٌ شعريّ يرسم صورة مشهدية للأزمنة والموجودات والكائنات والأمكنة والأبجدية داخل بنية إبداعية تعجّ بالمفارقات والمتناقضات لتخصيب المعنى وتوسيع الدلالة مما أسبغ التجربة بأبعادٍ تشكيلية تصنعها اللغة الشعرية في مسارات القصيدة. فالذات تدخل حالة حلمية جوهرها كتابة ضاجّة بالأعطاب وبتاريخ يشهد على الانهيارات وانتصار اللامعنى على الحياة، فالحلم والكتابة بطاقة هوية الشاعر، بدونهما لا تستقيم دورة الكون. هي رحلة الذات في تلك الأدغال حيث الصحو مقامٌ فيه يتوارى صوت الشاعر خلف أقنعة أسطورية وإبداعية ورموز شعرية ويجلّى في قصيدة (مشهد خلفي لسركون بولص) التي يقول فيها:
«في لوديف بعد العناق هل لديك مكان يا زاهر
هل لديك زجاجة الصّفرد
ذلك الطائر الذي يغني مثل أجراس الكنيسة؟
هل هناك مكان نغني فيه
ونشرب لكي نخاطب هذه الليلة الميّتة؟
أريد أن أشرب الحياة من جوف البئر…» ص19.
إن هذا النص تتداخل فيه الأمكنة والأزمنة والأصوات (صوت الشاعر الخفي وصوت بولص البارز) والوقائع الشعرية لبناء خطاب شعري مشهدي بحوارية مرآوية -إن صح التعبير- تعكس مشاهد الذات في ارتباطها بالآخر لتشكيل صورة الحياة المترعة بالوحدة والغربة والاغتراب والشعور بالضياع والاحتفاء بالذاكرة المشتركة التاريخية والفكرية والفلسفية والثقافية، من خلال الإشارة إلى (المشاؤون/ لينين/ القياصرة/ كارل ماركس…) فهذه المرجعيات الإنسانية ما هي إلا تكيّة يعمد الشاعر توظيفها داخل سياق نصيّ يبرز أنّ سيرة الشاعر من سيرة سركون بولص، فكل واحد منهما خاض غمار الترحال وعدم الإقامة في مكان محدّد، بل إن رحلة الذات والكينونة وتاريخها تمتد في اللامحدود داخل كونٍ يزداد قتامة، لذا نجد المكان والزمان مندغمان ومتوشجان في سيرورة القصيدة وصيرورتها في مشهدية شعريّة “تعتمد على خلق مشهد شعريّ يتّسمُ بالاضطراب والاكتمال، وهذا الاكتمال لا يتحقق إلا عند الوصول إلى الكلمة الأخيرة من المقطع، أو القصيدة، وهي عادة تعبّر عن مفارقة ساخرة، والعلاقات الفنية تنزع إلى الصدام والاختلاف بين التفكير الحسي والرؤية البصرية للعلاقات بين الأشياء”9.
ب- أسطرة الذات:
تمثّل الأسطورة أداة تعبيرية تمكّن بواسطتها الشاعر من الكشف عن الكوامن الدفينة ورؤيته للذات والعالَم باعتبارها ”قوّة ابتكارية فذّة يستطيع بها أن يرتفع بالواقعة الفردية المعاصرة إلى مستوى الواقعة الإنسانية العامة ذات الطابع الأسطوري”10 لما لها من قوة في شحن اللغة الطبيعية بقدرة إيحائية ورمزية، لهذا نجد الشاعر يستلهم أسطورة جلجامش للتعبير عن الترحال الداخلي الذي تخوضه الذات بواسطة الآخر للبحث عن الكينونة والذاكرة بنسق لغويّ إيحائي تصويري يقول:
«وتعود كأنّك جلجامش يبحث عن زهرة الخلود
وأنكيدو يبكي في الأدغال
شفيفة تلك الليالي عندما كان يصغر الزمن
ونحن نضحك فوق التلال
ونصطاد سمكا ملوّنا
بينما الفراشات
تدور فوق رؤوسنا لتوزّع الرذاذ» ص74.
يروم الشاعر أسطرة الذات بالمزج بين البعد الأسطوري (جلجامش والبحث عن عشبة الخلود ومكابدة أنكيدو في العالم السفلي) والبعد الطفولي بإحالاته المشرعة على الحياة والغبطة الوجودية، مما يجعلها (الذات) أكثر دُنُوًّا من تلك العوالم السفلية ولمتاهاتها المشرعة على الموت والغياب والرحيل والسفر والأسى. بل يمكن اعتبار الأسطورة إضاءة لعتمات الطفولة واستحضارًا لوجود طفوليّ في طيّ الذاكرة، ليعلن ميلاده لغويّا، ففي تفاصيل التجربة يوجد المنسيّ والمخفيّ، المضيء والمعتم. وتتوهج اللغة الشعرية التي تمّ خلقها من طين الحياة اليومية بعنفوان جماليّ يعبّر عن صدام الذات مع العالَم وتمجيد للآلام والمكابدات الناتجة عن هذا التّرحال الوجودي والتوغّل في سراديب هذه الذات المعتمة يقول الشاعر:
«بعد أن حفرت في مسرى الليل
واكتشفت طريقًا للآلام،
بعد أن صفعت الهواء بقلادة من يدي
لأجد البيت
وأُقبّل ترابًا ذهبيًا يغطي عتبة الباب
أنا القادم من مسالك الضوء البعيد
لأجد نفسي أتعثر بالحجارة،
هذه العظام الأخيرة
المحمولة في قعر التابوت» ص72.
فالضوء البعيد بمسالكه ما هو إلا تلك الكوات المشرعة على زمن ليليّ يبئر الآلام داخل مكان يشكّل ذاكرة الذات الطفولية والحالية، حيث الغياب والموت يحتلّان الخطاب الشعري، والشعور بنوع من التوتّر جرّاء الفراغ المهول المطوق لوجوده؛ فتغدو الأسطورة مشعّةً بحكاياتٍ مفعمةٍ بالأهوال والمخاوف والموتى والتوابيت وتنضح ببنية سردية ببعد درامي تكتسيها الأصوات الحاضرة بقوة، في مقابل ذلك نجد ذات الشاعر متوارية خلف هذه الأصوات، وهي حيلة فنية توسّل بها الشاعر لفسح المجال لذوات خيالية ورمزية للتعبير عن موقفه من العالَم والحياة بالاعتماد على “الوسائل التصويرية والسردية التي تضفي التخييل على مساره في الحياة (شاعرية الحالة)، وتتيح له التّقنّع بأقنعة مختلفة، والالتباس في هوياتٍ متضاربة”11. يقول الشاعر :
«شيء شبيه بالحلم
وأنت تعبر الجسر لتنحدر الصرخة من الفم
إنّه أمر مماثل في يد إدوارد مونخ،
اللوحة في الطبيعة، لكن الخسارة تنام أيضا في اليد القوية،
تزور أحيانا غرفًا طينية
وقلما كانت الريح أختك،
الأشغال كثيرة في هواء الألم
بالكاد تفتح صندوقا لتفتش عن
طفلة ميتة والمساء يصرخ بجناحين كبيرين» ص144.
فالشّاعر يبدع حلمه وزمنه من العبور من حال الألم إلى حال الخسارة حيث المكان وعناصر الطبيعة تتفاعل في سيمفونية وجودية يستبد عليها زمنٌ ليليّ حافلٌ بالسؤال والقلق، المكابدة والكشف عمّا يعتور الحياة من حيرة والتباس مادامت الكينونة مسيّجة بملامح زمنية تطول الرؤية والبصيرة، لذا يقدّمها استعاريّا (الخسارة تنام أيضا في اليد القوية/ الأشغال كثيرة في هواء الألم/ المساء يصرخ بجناحين كبيرين) في صورٍ شعرية يتداخل الوصف والسرد في نسيجها، وتكشف عن الجوانب الشعورية والنفسية. فالذات تخلق أسطورتها في الحياة انطلاقا من أخذ المسافة بين الحقيقة والمجاز لصوغ لغة شعرية تطعّم الخطاب الشعري، وبين الحلم والمكان والزمان تنوجد الذات مطوقة بالآلام والريح والعبور كملفوظات لغوية تعرّي حقيقتها وجوهرها القادم من تلك البئر العميقة في الكينونة والكون. كما أنّ الطابع الفكري والمعرفي والفلسفي يسري في بنية الخطاب الشعري. فأنسنة المجرد والمادي والمعنوي (المساء/ الخسارة/ الصرخة ) ما هو إلا تشييء للكائن الإنساني لتبيان الاختلال الحاصل في الجسد والرّوح، ويعكس “ثورة عريقة الجذور في رؤيا الشاعر تستمد عناصرها من الثورة الحضارية الشاملة التي تجتاح وطننا العربي في الوقت الحاضر. ورؤيا الشاعر ليست هي المحتوى السياسي أو المضمون الاجتماعي أو الدلالة الفكرية. إنها تنحت خصائصها من جُمَاعَى التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافي والسيكولوجي والاجتماعي، وخبراته الجمالية في الخَلْق والتذوّق، ومعدّل تجاوبه أو رفضه للمجتمع، وطبيعة العلاقة بين أسرار هذا الكون”12. وهي ثورة على الشكل والمعنى الواحد لتوطين السرد وسيلة لإنتاج المجازات والاستعارات الشعرية، لأنه يشعّ في النصّ الشعريّ بغنائية مأساوية تقود إلى درامية تزيد الخطاب الشعري توهجًا وقابلية للاحتمال الدلالي.
(5) السردية والحضور الشعري:
أشرنا إلى أن الشاعر يعتبر من أبرز شعراء قصيدة النثر العمّانيين، من خلال الإسهام الكبير في توطين هذا النمط التعبيري في الساحة الثقافية العمانية، والسعي إلى تثويره وفق رؤية جديدة لكتابة قصيدة تنتمي إلى الحاضر والمستقبل، من خلال إعادة النظر في الشكل بتوسيع ليكون فضاء حاضنًا لأجناس أدبية. والمتأمّل في هذا المتن الشعري يقف على الطابع السردي القائم على استلهام مقوماته واستثماره شعريا في بناء الخطاب، وهذا ما تحقق للشاعر، يقول:
«كنت دائخا فوق السلالم الخلفية،
أنا الذي يكتب مرثية في حياته،
وجد الطاعون والجرذان ونخبة المخبولين
في الحرب،
كنت في هارلم عندما وصلني الخبر
هناك حروب كثيرة
لم ينتصر فيها أحد
وهناك فحم في الموقد
أمام سنابل الأموات،
وحيدا أمشي في أربعاء الرماد
بين الأسرّة في الممشى الطويل…» ص141.
ينبني الشاهد الشعريّ على ثنائية الموت (الحرب) والحياة (لكنها حية بين الكهوف والأنقاض)، فالبطل صوت الشاعر وهو السارد المشارك في بناء الأحداث والفاعل في توجيه مسارها الشعري؛ وذلك وفق سردية تجسّد صراع الكائن مع الموت، والشعور بالوحدة والعزلة في مسارب الحياة وتشعباتها. ويقول :
«في فرنسا، منذ زمن بعيد
في بلدة صغيرة في النورماندي
في منتصف الليل البارد
وكنت أشبك يديّ في معطفي الأسود
وكانت الريح تهبّ بحثا عن ضحيّة
وكنت أشبك يديّ أيضا
وأنا أدفع برجلي اليمنى مغمورا بالأسى …» ص 133.
هذا الملفوظ الشعري مدبوغ بنَفَسٍ سردي حيث المكان سيد السرد والباني لخطاب قصصي يقوم بالكشف عن الزمن الهارب من عقارب الكون ليقدّم صورًا حكائية تعكس الاغتراب الجواني والغربة القاتلة حيث الأسى يتربع ذاكرة الشاعر، فتصبح اللذة جسرًا للعبور إلى تلك المنافي الصادحة في الأعماق، حيث الصحو والبوح والرغبات والأهواء تتوهّج شعرية بلغة السرد. وإذا كان الشاعر ينثر اللغة تشكيلا وتصويرًا، فإنه ينسج إيقاعا بشحنة سردية تتمدّد في النص كلّه، تتولّد عنه تراجيديا الذات ودراميتها.
أمّا قَبْلُ:
هذه القراءة المنصتة لنداء الشعر ما هي إلا اقترابٌ مُصغٍ ومتأمّل لعوالم شعرية تثير الإدهاش وتفيض بجماليات تشحن النصّ الشعريّ بطاقة الإبداع؛ مما يتطلّب آليات قرائية أساسها الشرح والتفسير والتحليل والتفكيك والتأويل، على اعتبار أنها تجربة تندرج ضمن كتابة إبداعية لاتقدّم وجودها اللغوي بسهولة بقدر ما تحفّز الحواس والحدوس لاستكناه العوالم الشعرية المتولّدة من المكابدات الوجودية والمنافي، وتمجيد الحياة بما تحمله من مفارقات تحيل الذات إلى كونٍ حسّيّ متوتّر، وما يشفع للغافري كونه شاعرًا تخفّف من ثقل الأيديولوجيا وانحاز إلى صفّ الأسلوب البسيط والغني بالمعاني المتعدّدة، مما خلّف أثرًا شعريًّا إذا تمّ تقليب أراضيه سيكتشف المتلقي تجربة شعرية جوهرها المعرفة العميقة والمحيطة بمنعطفات الحياة وتحولاتها، وبعدًا أنطولوجيًا زاخرًا بوعي الشاعر بأهمية الإبداع في تشكيل قيمٍ إنسانية مفتوحة على الإنسان، ومخاطبة فيه كل ما يمتّ بصِلَة إلى وجوده، ومعبّرًا عن صراع الذات مع الواقع القائم لابتكار واقع جديدٍ يحتفي بالحياة بأبعادها وامتداداتها وما تطرحه من الأسئلة الحارقة.
الهوامش
1 – غاستون باشلار : حدس اللحظة، ترجمة: رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية آفاق عربية، بغداد، العراق، 1986، ص2.
2 – أدونيس: الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، لبنان،ط 4، 1985، ص5.
3 – بنكراد سعيد: السيميائيات والتأويل: مدخل لسميائيات ش.س. بورس، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2005، ص38.
4 – ينظر عماد الدين إبراهيم عبد الرزاق: من الدلالة الهرمينوطيقي للنص إلى السردية؛ دراسة في فلسفة بول ريكور، مجلة تأويليات، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد2، خريف 2018، ص64.
5 -محمد جاسم جبارة: مسائل الشعرية في النقد العربي: دراسة في نقد النقد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2013،ص35.
6 – رولان بارت: لذة النص، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، سوريا، د.ط، 1992، ص 39.
7 – لواتي آمال: الشعر العربي وفرضيات التغيّر في النقد الحداثي، عالم الفكر، العدد 188، أكتوبر – ديسمبر، 2022، ص54.
8 – محمد البكري: الذات في القصيدة المغربية الحديثة ( مقاربة دلالية)، ضمن كتاب جماعي: نعاله من ريح ، مقاربات في شعرية محمد بنطلحة، تنسيق وإشراف د. محمد الداهي، دار الفاصلة للنشر، طنجة، المغرب،ط1، 2021، ص144 .
9 – أماني فؤاد: تحولات الصورة الشعرية في قصيدة ما بعد الحداثة، مجلة علامات في النقد، المجلد 18، الجزء 70، شعبان 1430ه،
أغسطس 2009م، ص71.
10 – عزالدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي،ط3، 1978، ص 18
11 – محمد الداهي: فضاء الذاتية في ديوان أخسر السماء وأربح الأرض لمحمد بنطلحة، كتاب جماعي نعاله من ريح: مقاربات في شعرية محمد بنطلحة، دار الفاصلة للنشر ، طنجة ، المغرب، ط1، 2021، ص43.
12 – غالي شكري: شعرنا الحديث.. إلى أين؟ دار المعارف، القاهرة، 1968، ص 68.