منصورة عز الدين
كاتبة مصرية
ما إن تطرأ ببالي مفردة الأمومة، حتى ترتسم في ذهني صورة امرأة متشحة بالسواد، تجلس القرفصاء، منزوية على نفسها، فيما وجهها مدفون في الهوة بين جذعها وركبتيها، وذراعاها معقودتان حول رأسها المنكفئ. امرأة ثكلى فقدت وليدها فكفت عن أن تكون ذاتها القديمة. أتابعها، مع مرور الأعوام، وأراها تنغمس في الحياة، بدرجة أو أخرى، فأود أن أسألها إن كانت ما تزال حبلى بما فقدته، لكنني أبتلع سؤالي لرؤيتي الفقد وقد ترك بصمة لا تُمحَى على نظرتها، وارتسم على محياها مهما سعت لإنكاره أو تجاهله.
تلك أول صور الأمومة التي وعيتُ عليها في حياتي، تتبعها صورة أخرى، بخطوة عرجاء، لتجربة الولادة بما يرافقها من ألم وصراخ وبكاء، انطبعت في ذاكرتي يوم تلصصت وأنا في السادسة على قريبة لي تعاني آلام المخاض. والحال هكذا، لا عجب أنني لطالما تهيبت من المرور بهذه التجربة في المستقبل، وتحاشيت الأطفال، في صباي، ما استطعت.
لن أدعي أنني كنت واعية بهذا، أو أنه كان قرارًا اتخذته بحسم، إذ لم أنتبه للأمر سوى عبر الكتابة، التي كانت وما زالت وآمل أن تظل وسيلتي الأولى لفهم نفسي والتعرف على العالم من حولي.
في روايتي “أخيلة الظل”، اعتادت بطلتها كاميليا أن تقول لنفسها:
“أن أحمل وأنجب طفلًا، يعني أن أذوب وأتحلل لأكون آخر، لأكوِّن آخر. سيتغذى عليّ: على دمي وأعصابي ولحمي”. [….] “لإقناع نفسها بأن تلك حميمية لم تكن لتقوى عليها، لم تكن لتتحملها. احتمالية أن تُوَاجَه بنسخة أخرى منها تزعجها، وإمكانية أن تخلف ذاتًا ممعنة في اختلافها عنها تشعرها كما لو أنها ستتعرض لخيانة لا تُطاق، وما بينهما من درجات لا يمنحها عزاءً يُذكر.”
اضطرت كاميليا لإجهاض جنينها بعد ستة أسابيع من تكونه في رحمها، وبهذا تكون قد اختبرت الأمومة عبر تجربة الفقد وحدها، فقدها للجنين، وفقدها للأمومة ذاتها. لكنها تدرك جوهرها بطريقة ما؛ أي ذوبان الذات لتكون آخر، لتكوِّن آخر. هل الأمومة فقدان للذات أم إعادة خلق لها؟ أم خطوة على طريق التنوع والتعدد؟
من الصعب الركون إلى جواب قاطع، حيث يختلف الأمر من حالة لأخرى، وإن ربط بينها جميعًا استحالة أن تظل الذات على ما كانت عليه قبلها. لكن إن أردنا علامة مميزة للأمومة، فهي أن نتنحى جانبًا لبعض الوقت، أن نتوارى في الخلفية تاركين لنسلنا أن يحتل الواجهة. أن نخرج من ذاتنا بشكلٍ ما، لنقف على مسافة منها فنراها في مشهد أوسع كجزء من فسيفساء إنسانية أعقد وأكثر تركيبًا، وقد ينطوي هذا على فهم أفضل لها وابتكار يحيلها خلقًا جديدًا كل مرة، ما دمنا قد تعلمنا عدم التقوقع والانغلاق على ذواتنا الضيقة.
هذا على الأقل ما وعيته من واقع تجربتي الخاصة كأم، إذ أتذكر، مثلًا، ذلك اليوم الذي وجدت نفسي مضطرة فيه للاتصال بامرأة لا أعرفها ولا تعرفني، تصادف أنها مشرفة ابنتي في رحلتها إلى شيكاغو، للمشاركة في برنامج كتابة إبداعية بالولايات المتحدة الأمريكية وهي في السابعة عشرة من عمرها.
اتفقت مع ابنتي أن ترسل لي رسالة من مطار فرانكفورت تطمئنني فيها على أنها لحقت بطائرتها التالية، ولَمَّا لم تفعل وظل جوالها مغلقًا، لم أجد أمامي سوى الاتصال بالمشرفة بعد وصولي لرقم هاتفها بمشقة، وحين ردت عليّ، عرَّفت نفسي بأنني “أم نادين”، ورغم أن هذا أمر طبيعي، انتبهت إلى أنها المرة الأولى تقريبًا، التي يختفي فيها اسمي في تعاملاتي مع الآخرين، وأُعرَّف بانتمائي إلى شخص آخر، تصادف أنه ابنتي، التي ظلت لفترة طويلة تُعرَّف بانتمائها إليّ. في تلك اللحظة، أدركت أنها استقلت عني تمامًا، واستمتعت بإدراكي هذا.
ترافق حملي بها مع اكتشاف أعمق تأثيرًا إذ أعاد تشكيل علاقتي بجسدي باعتباره جسدًا وظيفيًا في المقام الأول، ووظيفته الأساسية، على الأقل في تلك الفترة، تمثلت في احتضان كائن حي جديد وتغذيته تمهيدًا لإنجابه ثم إرضاعه. أفعال تتكرر منذ آلاف السنين، غير أن اختبارها، خاصة للمرة الأولى، والتفكر فيها في حينه، يحيلها إلى شيء مدهش وربما إلى معجزة صغيرة.
لكن بجوار شعور عارم بالاندهاش، غمرني نوع من هلع أليف وأسى كأنما فقدت جزءًا من ذاتي ووجودي لن أسترده أبدًا، رأيت جسدي كجسد وظيفي متحول، يخص الطبيعة البيولوجية أكثر مما يخصني، وراقبت تحولاته بمزيج من الحيرة والاغتراب عنه. لكن من حسن الحظ أنني اكتسبت في المقابل أكثر مما ظننتُ أنني فقدته بمراحل، اكتسبت نضجًا وثراءً ذاتيًا، وفتحت لي الأمومة بابًا للخروج من قوقعة الذات والانهمام بها إلى عالم أوسع، يعرفني على نفسي على نحو أفضل وأعمق.
رغم هذا، لم يغب عني للحظة اقتران الأمومة بالفقد، خاصة أنني لم أفهم وجوهها المتعددة سوى بفقد جنين خيَّم طيفه على حياتي، وسكن بين ثناياها. ربما لهذا تفهمت تعقد مشاعر شخصية كاميليا؛ بطلة روايتي “أخيلة الظل” وارتباكاتها وإحساسها الدائم بوجود هوة تتسع في جوفها باطراد منذ فقدت جنينها، هوة عميقة مظلمة مهدِّدة بابتلاعها.
من ناحية أخرى، أهديت “أخيلة الظل” إلى ابني كريم “عدو النار المسكون بظله والحالم بكونٍ أزرق.”، لم يكن هذا إهداءً من أم إلى ابنها، بل إلى شريك في الكتابة، حتى وإن لم يدرك هو ذلك، لأنه كان في الرابعة من عمره حين صدرت. فتفاصيل عديدة في العمل، مثل العلاقة بالظل والنار واللون الأزرق مستلهمة منه، حتى وإن كانت في أصلها مختلفة كثيرًا عن ما بُنِي عليها روائيًا.
لقد استفدت ككاتبة من رؤية العالم بعيون طفلَيَّ خلال سنواتهما الأولى. بدا الأمر كأنني أستعيد عبرهما دهشة الطفولة مجددًا، وأختبر كل شيء معهما كأنما لأول مرة، وقد ألهمني هذا بدرجة تفوق توقعاتي.
في روايتي الأولى “متاهة مريم” (2004) كتبت عن وجه مظلم للأمومة من خلال شخصية نرجس ومأزق علاقتها بجسدها وابنتها، عن شعورها الدائم بالذنب وكراهيتها لتجربة الحمل واغترابها عن طفلتها. في تلك الفترة لم يكن الحديث عن اكتئاب ما بعد الولادة أو عن هجاء الأمومة، من الناحية البيولوجية، متداولًا ومطروحًا للنقاش كما هو الحال الآن. لفت انتباهي أن تلك النقطة في الرواية حظيت باهتمام كبير من القراء، وتباين رد الفعل باختلاف الجنس، فمعظم القراء الرجال الذين تحدثوا معي أخبروني أن مشاعر نرجس غير منطقية ومخالفة لفطرة المرأة وغريزة الأمومة، في المقابل صارحتني قارئات عديدات بأنهن يتفهمن مشاعر تلك الشخصية تمامًا، واختبرن ما يشبهها مع أطفالهن، وإن خفن من الاعتراف بها خوفًا من أن يوصمن بأنهن أمهات سيئات.
دفعني هذا للتساؤل: أي من مشاعرنا أصيل ويخصنا فعلًا؟ وأيها متوارث ومُتبنَّى كي نحظى بالقبول من الآخرين؟ تساءلتُ أيضًا عن مفهوم الأم الجيدة من وجهة نظر الرجال تحديدًا، ولماذا يشيع بين معظمهم، حين يتعلق الأمر بالنساء، التمسك بالثنائيات الحدية دون اعتراف بمساحات بينية مركبة ويصعب حصرها في خانات وتوصيفات جاهزة نرتاح إليها؟ ثم ما معنى الإصرار على كون الأمومة غريزة ثابتة ومتطابقة عند جميع النساء؟ ماذا عمن يتعلمن الأمومة خطوة خطوة مع صغارهن، مَن يرتبكن أمامها ويتساءلن عن كنهها ويسعين جاهدات لفهمها عبر تهجي حروفها حرفًا حرفًا؟