إيمانويل برثيود-أكاديمية فرنسية
ترجمة محمد آيت حنا-مترجم مغربي
عند نهاية العصر الوسيط، وحتّى بداية العصر الحديث، كانت الأمومة تعدُّ بمثابة المصير الذي قُيِّض لكلِّ النّساء، حتّى أنّ معظم اللّوحاتِ التي كانت تصوِّر نساءً كانت تربطهنَّ بأبنائهنّ. وصورةُ الأمِّ المثاليةِ هي تلك التي تجسِّدها العذراءُ مريم، أمّ المسيح. ومع أنّ الرّسم الدنيويّ قد تطوّر خلال العصر، إلّا أنّ «العذراء والطّفلَ» ظلَّ هو النّموذج الحاضر دائمًا في ذهن الفنّانين، وذلك ما تشهد به لوحاتٌ من قبيل لوحة الرّضيع لجورج لاتور Georges de La Tour (1648) أو لوحة بورتريه آن النّمساويّة مع طفلَيها لويس الرّابع عشر وأخيه، التي رسمها شارل بوبران Charles Beaubrun سنة 1650. وهذه اللّوحة الأخيرة، دالةٌ أشدّ الدّلالة على التطوّر الذي حدث بين القرنين السّادس عشر والثامن عشر؛ صار النّساء يظهرنَ، أكثرَ فأكثر، في بورتريهات مع أطفالهنَّ، أحياءً أو أمواتًا. وكانت اللّوحات تمثّل عليةَ القومِ أساسًا، باستثناء أعمال الإخوة لونان Le Nain الذين كانوا يرسمون، عن طيب خاطرٍ، أمّهاتٍ فلاّحات. وأكثر ما كان يُثمَّنُ في الأمومة، هو حفاظها على السلالة، ومساهمتها في التربيّة. ويخلع الرّسامون على الأمّهات ملامحَ صارمة، (انظُر مثلًا ملامح آن النّمساويّة)، دلالةً على المسؤوليّة التي يرزحن تحتها. وفي ذلك العصر كانت معدّلات وفيات الأطفال مرتفعةً، وعنايةُ الأمّ ضروريّةً في السّنوات الأولى من حياة الطّفل.
وخلال القرن الثّامن عشر اكتست الأمومة تثمينًا لم يسبق له مثيلٌ، بسبب الخوف من انخفاض الكثافة السكّانية، وبباعثٍ من خطابٍ طبيٍّ جعل من «الأمومة» المصيرَ «الطّبيعيّ» لوحيد للنّساء. ونظرًا للأهميّة المعترف بها للأمّهات في تربية أطفالهنّ، خلال سنواتهم الأولى، وحتّى الزّواج بالنّسبة إلى البنات، فقد ذهب الرّسامون إلى تجسيدهنّ في وضعياتٍ تحاكي تلك الأدوار. وقد رسم جون سيمون شاردان Jean Siméon Chardin كثيرًا من اللّوحات التي تصوّر نساء برجوازياتٍ منهمكاتٍ في رعايةِ أطفالهنّ أثناء حياتهنّ اليوميّة (البركة 1740؛ الأمّ الشّغالة، 1740). كذلك ساهمت كتابات جان جاك روسو في تمجيد الأمومة من زاوية العاطفة ورعاية الرّضيع.
نوعٌ تصويريٌّ جديد
وقد أدّت التّطورات الآنفة إلى نشأة فنٍّ جديد يسمّى فنّ «الأمومة»، يصوّر أمًّا تهتمّ بنسلِها. إنّ الأمّهات، من علية القوم، اللّواتي كنَّ يَعهدن بأطفالهنّ إلى مرضعاتٍ، ما عدنَ يجدن غضاضةً في الوقوف أمام رسامٍ يصوِّرُهنَّ وهنَّ يُرضعنَ أطفالهنّ. في سياقٍ يشهد انتشارًا لتحديد النّسل، باتت الأمّهات يُصوَّرنَ في علاقةٍ أشدَّ حنانًا وفرادةً، مع نسلٍ أقلّ عددًا.
صارت الأمومة موضوعًا يستميل النّساء الرّسامات، أمثال مارغريت جيرار Marguerite Gérard أو إليزابيث فيجي لوبران Elisabeth Vigée Lebrun التي رسمت سنة 1786 لوحةً ذاتيةً تصوّرها رفقة ابنتها. وإن كانت اللّوحة في هذا العصر ما تزال تحيل على رسوم العذراء التي انتشرت إبّان عصر النّهضة، إلّا أنّها -وسرعان ما اتّخذت اسم حنان الأمّ- دالّةٌ على زمنها، إذ تمجّد الحبَّ الأموميَّ. وأدّت الأهميّةُ الممنوحة للأمومة، إلى تثمين دور النّساء في المجتمع، فانطلق عددٌ منهنّ إلى الانغماس في هذا الدّور بحماسةٍ، ممّا جعل الاعتراف بالمرأةِ خارج هذا الدّور أمرًا صعبًا.
احتفاء بالحبِّ الأموميّ
خلال القرن التّاسع عشر والمنتصف الأوّل من القرن العشرين، صارت الأمومة هي صلب وجود نساء الطّبقة البورجوازيّة التي أخذ نموذجها الأسريّ ينتشر، شيئًا فشيئًا في المجتمع برمّته. وظلَّ موضوع الأمومة موضوعًا أثيرًا لدى الرّسامات، شأنَ برث موريزو Berthe Morisot أو ماري كاسات Mary Cassat، غير أنّ نزعة إضفاء المثالية على الأمهات، النزعة التي سادت الفنّ، كانت تجعل من اللّوحات التي عالجت موضوع الأمومة، لوحاتٍ غارقةً في اللّطف وفي المحافظة. على أنّ هذا العصر قد تميّز بتمثيلٍ أكثر لنساء الطّبقات الشّعبيّة. معظم أولئك النّساء لم تكن الأمومة بالنّسبة إليهنّ اختيارًا، والأطفالُ -الكُثر في معظم الأحيان- كانوا بمثابة حملٍ يثقل كاهل يومهِنّ. كثيرًا ما كان يُحتفى بهؤلاء الأمهّات وهنّ منغمساتٍ في أدوارهنّ الأموميّة، على شاكلة لوحة الفلاحّات لجان فرانسوا ميليه Jean-François Millet.
وما لبثت النّساء العاملات والأمّهات العازبات أن صرنَ مُشكلًا يؤرق السّلطات التي رأت أنّهم يحملن بذور التخلّي عن الأطفال أو إجهاض الحمل. وقد ظهرت في فنَّ النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر هذه الإرادة المتنامية لدى النُّخب البورجوازيّة في أن تراقبَ وتضبطَ الأمومة لدى الطّبقات الشّعبيّة. في لوحته الثلاثيّة المسمّاة قطرة حليب بلفيل (1903)، يصوّر جان جوفروا Jean Geoffroy أوّل مستوصفٍ باريسيّ، أُسّس سنة 1892 على يد غاستون فاريو الذي طلبَ من الفنّان رسمَ اللّوحة لدواعٍ بيداغوجيّة. في الجزء الأوسط من اللّوحة الثلاثية تظهر نماذج أمّهاتٍ، من بنات الشّعب، تبدو عليهنّ أمارات الحبّ والرّضا وهنّ يعالجن أطفالهنّ ذوي الأجسام البضّة الممتلئة والمفعمة بالصحّة؛ يظهرن وهنّ يستشرن أطباء يقدّمون لهنّ النّصائح والرضّاعات المعقّمة. لوحةٌ معبّرةٌ عن سياسة الرّعاية التي انتهجتها الدّولةُ، انطلاقًا من الجمهورية الثالثة، إزاء الأمّهات والأطفال. لم تعد الأمومة مسألةً تخصّ النّساء وحدهنّ: لقد اقتحمَها الرّجال الذين أسّسوا لحقول طبيّة جديدة (رعاية الرضّع/ طبّ الأطفال) وأرادوا تعليم النّساء ليجعلوا منهنّ أمّهات صالحات.
وكان ينبغي انتظار سنوات 1960-1970 لكي يحدث منعطفٌ كبيرٌ في واقع الأمومة وتمثّلاتها. بفضل تحرير القيم، وتشريع موانع الحمل والإجهاض، صارت الأمومة تجربةً أندَر، تجربةَ اختيارٍ. على أنّها ما تزال، حتّى أيّامنا هذه، تجربةً ذات قيمةٍ كبرى في تحديد الهويّة الأنثويّة. لكنّها لم تعد موضوعًا يطرقه الرّسامون من الرّجال، باستثناء أسماء قليلة لا تنقصها الجرأة، على شاكلة رون مويك Ron Mueck الذي يصنع منحوتات تنتمي إلى مجال الواقع الفائق hyperréalistes، أعمال مُقلِقة، أجسام عملاقة أو مصغّرة (مثلًا، عمل أمّ وطفل Mother and Child 2001-2003).
أمٌّ، لكن في المقام الأوّل امرأةٌ
التّجديد أتى، على نحوٍّ خاصٍ، من قبل الفنّانات اللّواتي استحوذن على الموضوع ، مستعيناتٍ بتجاربهنّ الشخصيّة. بين السّعي إلى الاحتفاء بقوّة الأمومة، وبين الرّغبة في نزع طابع الغموض والألغاز عن الأمومة، تساهم فنّاناتٌ، من قبيل نيكي دو سان فال Niki de Saint-Phalle أو لويز بورجوا Louise Bourgeois في تجديد التمثّلات عن الأمّهات في الفنّ.
كذلك تغيّرت صورة الأمومة في وسائل الإعلام وفي الثّقافة الشّعبيّة، في ارتباطٍ بسعي النّساء إلى تملّك وتثمين مختلف أبعاد التّجربة الأموميّة. هكذا صار بالإمكان أن يُفصِح الحملُ عن نفسِه في الأعمال الفنيّة دونما حرجٍ، بعدما ظلّ لقرونٍ مقصيًا من فضاء اللّوحة، باعتباره تجربةً تنتمي إلى دائرة الحشمة والعفّة. في سنة 1991، تسبّبت المصوّرة آني لايبوفيتس Annie Leibovitz في فضيحةٍ، حين صوّرت الممثّلة دومي مور حاملًا وعاريةً، لحساب مجلّة Vanity Fair. لقد كانت الصوّرةُ التي عبّرت عن الحياة الجنسيّة للمرأة صادمةً، لابتعادها عن صور العذراء العفيفة، قبل أن تتحوّل إلى نموذجٍ لدى مجلّات المشاهير. غير أنّ هذه الصوَر التي تبدو في ظاهرها متحرّرةً، تسوِّق لمعايير أمومةٍ -رشيقة، سعيدة، مثيرة- وهي معاييرُ تفرض على النّساء كثيرًا من الإكراهات.