تشارلز إي ماي- ناقد أمريكي
ترجمة عادل ضرغام- ناقد ومترجم مصري
أخذت الجزء الأول من عنواني من كاتب أمريكا الجنوبية العظيم خورخي لويس بورخيس الذي قال ذات مرة (القصة القصيرة-عكس الرواية- ضرورية لكل الأغراض) (qtd by Halpern)، وأخذت الجزء الثاني من الحقيقة المحزنة الخاصة بندرة القراءة، فعلى الرغم مما قاله بورخيس فإن القصة القصيرة محتقرة من المهتمين والمحررين والقراء والعلماء. وما آمل أن أقوم به في هذه الورقة هو تقديم بعض التبريرات الممكنة لإشارة بورخيس الاستفزازية، وتقديم بعض التفسيرات للوضع المهمل للقصة القصيرة، وتبيان كيف كان الأول هو المسبب للثاني.
لتحقيق هذه الغاية، أودّ أن أفحص ما أعتبره خمسًا من أهم القضايا النوعية التي تجمعت حول القصة القصيرة كما تطورت تاريخيا: (1) كيفية تعامل القصة القصيرة حول العلاقة بين التتابع البنائي والدلالة، (2) كيفية تعاملها بين الغامض المخفي والتنظيم الظاهر، (3) كيفية بناء الشخصية، (4) لماذا حلها دائما مجازي، (5) ولماذا تستعصي على التفسير.
التتابع والدلالة
السؤال الأساس الذي يثير اهتمامي هو: ما هي الدلالات النظرية والتاريخية المهمة في السرد؟ إذا كان السرد -كما اقترح فريدريك جيمسون- فئة معرفية، (إحدى الإحداثيات المجردة التي من خلالها نفهم العام، فأنا أريد أن أعرف ما إذا كانت السرود القصيرة تفهم العالم بشكل مختلف عن السرود الطويلة) (95). وكما لاحظ باختين وميدفيديف (إذا قاربنا النوع من خلال وجهة نظر علاقته الموضوعية والجوهرية بالواقع ونتاج هذا الواقع، فيمكن أن نقول إن كل نوع له أساليبه ووسائله في رؤية وتصور الواقع التي يمكن الوصول إليها منفردة) (133). ما أريد أن أعرفه: ما الأساليب والوسائل التي يمكن الوصول إليها للقص النثري القصير؟
من أكثر المناقشات فائدة لتأثير القصر على الملاحظ أو المتأمل مقال كلود ليفي شتراوس (علم المحددات- حيث يشير إلى أن التقليل في الحجم أو في عدد الخصائص بالنسبة للعمل الفني يخلق انعكاسا أو تغييرا في عملية الفهم. لفهم حقيقة الشيء يقول شتراوس: (إننا نميل إلى تقسيمه، وننطلق من خلال هذه الأجزاء في عملنا. فالتقليل في الحجم يعكس هذا الموقف. معرفة الكل تبدو أنها تفوق معرفة الأجزاء. حتى لو كان هذا وهما -كما يقول ليفي شتراوس- فإن الهدف من هذا الإجراء هو خلق أو الحفاظ على الإيهام الذي يشبع الذكاء، ويخلق شعورا بالمتعة، وما يمكن تسميته بالجمالية الخاصة بهذه الأسس بمفردها (148).
القصر في القصة القصيرة يخلق شعورا بالوهم، بأن فهم الكل يسبق أو يفوق فهم الأجزاء، وأول من اقترحه إدجار ألان بو. وقد كانت أهم مساهمة لبو في تطوير القصة القصيرة بوصفها نوعا أدبيا جديدا في الأدب الأمريكي هي خلقه لمفهوم مغاير للحبكة. فبدلا من (العقدة البسيطة) أو(دائرية الحدث) تبنى بو معنى جديدا للمصطلح أخذه من أ. دبليو شليجل (ذلك الذي لا يمكن حذف جزء منه دون تدمير للكل). من خلال هذه الإضافة حوّل بو التركيز السردي للقارئ من الأحداث المحكية إلى النمط الجمالي. أشار بو إلى أنه بدون (مفتاح) التصميم الشامل أو خطة للعمل القصصي، ستبدو العديد من النقاط ضئيلة أو غير مهمة من خلال استحالة فهم القارئ لها. ولكن بمجرد أن يستحضر القارئ التصميم الشامل في ذهنه، فإن كل تلك النقاط التي قد تكون بلا طعم بطريقة أو بأخرى، سوف تضيء في جميع الاتجاهات مثل النجوم، وتلقي بوميض مكثف وشامل فوق السرد (qtd in May, Edgar Allan Poe, 121).
إن مقاربة بو لقصر القصة القصيرة يمثل مفارقة أساسية متأصلة في السرد كله: تقييد الكاتب أو تحديده للبعد الزمني جنبا إلى جنب مع رغبته أو رغبتها في خلق بنية تعكس موضوعا زمنيا. يقول سي إس لويس (المشكلة الأساسية هي أنه لكي تصبح القصص قصصا يجب أن تكون هناك سلسلة من الأحداث، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يفهم أن هذه السلسلة ليست سوى شبكة للإمساك بشيء آخر. وهذا الشيء الآخر ليس له تسلسل أو تتابع زمني فيها. إنه شيء آخر مغاير لهذه العملية وأكثر شبها بالحالة أو النوعية، والنتيجة هي أن وسائل القص دائما ما تكون في حالة حرب مع النهاية. يقول لويس (في الحياة -كما في القصة- يجب أن يحدث شيء ما. هذه هي المشكلة، نحن ندرك الحالة، ونجد فقط سلسلة متوالية من الأحداث لا تتجسّد فيها هذه الحالة تماما) (91).
المشكلة بالنسبة للكتّاب هي كيفية تحويل مجرد الأحداث -واحدا وراء آخر- إلى معنى. يولد ذلك مشكلة إضافية، تتمثل في أنه حين يشجع الكتّاب القارئ للتقليب في الصفحات للوصول إلى ما سيحدث مستقبلا، فعليهم أن يجعلوا القارئ ضعيف المستوى يفهم ما يحدث، وما يحدث بعد ذلك ليس مهما أو جوهريا. هذا هو التناقض الأساس الذي تمت ملاحظته من قبل عدد من النقاد، وهو أكثر وضوحا في السرد القصير (حيث يبدو في تركيزه المتكرر على لحظة زمنية عرضيا ومنقطعا) من السرد الطويل (حيث يبدو في الأساس مجرد موضوع لشيء واحد، يتبعه شيء آخر).
تعتبر قصة أمبروز بيرس(1) (حادثة جسر أوول كريك) مثالا لافتا على التناقض. ففي نهاية الجزء الأول من القصة، عندما ينظر البطل إلى الماء بالأسفل، ويفكّر كيف يمكن أن يفلت من شنقه. يوجه الراوي القارئ إلى التشويه الزمني للقصة الذي لا مفرّ منه. فنظرا لأن هذه الأفكار التي يجب وضعها في كلمات كانت تومض في دماغ الرجل المنكوب بدلا من أن تخرج منه، أومأ القبطان برأسه إلى الرقيب. وتنحى الرقيب جانبا. هذا تذكر ذاتي الانعكاس، بالرغم من أن المؤلفين يرغبون في إيصال ما هو لحظي أو عرضي إلا أنهم محاصرون بسبب طبيعة الكلمات المحددة زمنيا. وهكذا نشعر بالصدمة لاكتشاف ما تحثنا كل القصص إلى تجاهله في القراءة، ولكن لكي نكون مدركين في وقت لاحق أن ما يبدو أنه يحدث في زمن هو وهم تقتضيه الطبيعة المقيدة زمنيا للغة السرد.
لقد ذكرنا بيتر بروكس أن الأحداث السابقة في السرد هي فقط استعادية، يقول بروكس: (يحدد العمل المجازي للمجموع النهائي معنى وحالة العمل المجازي للتسلسل والتتابع)، بالرغم من أنه يمكن القول إن مجازات الوسط أنتجت وولدت الاستعارة النهائية. قد يكون التناقض مرتبطا جدا بطبيعة السرد الذي لا يستخدم فقط، بل له منطق مزدوج) (29). يصف ليفي شتراوس الوهم (بأنه إدراك الكل قبل إدراك الأجزاء، أي إدراك الخطاب والنمط قبل إدراك تتابع الأحداث، مما يجعل القصة القصيرة –كما يقول جورج لوكاتش- شكلا فنيا صافيا) (51).
الغموض والنمط
لقد تمّ التعرف على سمتين أساسيتين للقصة القصيرة بوصفها صيغة عالمية من قبل المؤلفين والنقاد خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وكلاهما نتيجة لسمة القصر والتقاليد التي اشتق منها. لقد جعلوا التركيز القصصي على إحساس أساس بالغموض غير مدعوم بإطار اجتماعي وما يترتب عليه من النمط الشكلي والبنية.
لاحظ نقّاد النوفيلا الألمان في القرن التاسع عشر مقدمة ما يسمى (الحكاية المناسبة) التي وضع بو خصائصها في متابعته الشهيرة (مراجعة الحكاية مرتين)، لقد لاحظوا أن أي نقاش حول هذا الشكل يحتوي على بعض الكلمات التي توحي بالغرابة، وغير الطبيعي، وغير المتوقع، مستنتجين أن (عنصر الغريب الذي لم يسمع به من قبل) أحد (المكونات الأساسية) للنوفيلا في القرن التاسع عشر. تقول فلانيري أوكونور: (إن القصص القصيرة تقدم تجربة حية لم نعتد على ملاحظتها كل يوم، وقد لا يختبرها الإنسان العادي أبدا في حياته العادية، فالنوعية لهذا الفن تنزع بعيدا عن الأنماط الاجتماعية النموذجية نحو الغامض وغير المتوقع. إن المشكلة الفريدة لكاتب القصة القصيرة -كما تقول أوكونور- تتمثل في جعله للفعل الذي يصفه يكشف أكبر قدر ممكن من لغز الوجود) (40-98).
لاحظ تيري إيجلتون أنه في حين أن الواقعية وهي المنظور النمطي الأكثر شيوعا للرواية شكل معرفي يعنى بتخطيط العمليات السببية الكامنة وراء الأحداث، فالقصة القصيرة -على النقيض من ذلك- يمكن أن تعطينا حدثا واحدا غريبا لظهور الرعب الذي سوف يتضاعف أثره من خلال التوسيع الواقعي المطوّل. كما يلاحظ إيجلتون (بما أن الواقعية صيغة التطبيع الزمني، فمن الصعب عليها أن تتعامل مع ما لا يوصف والمبهم، بالنظر إلى الآليات المتاحة التي تقوم بتحويل كل هذا إلى مألوف بالتأكيد (150).
يعزى تركيز القصة القصيرة على الغامض وغير المألوف جزئيا إلى حقيقة أنها -كما أشار بوريس إيختباوم- شكل جوهري وبسيط) (81). ونتيجة لذلك فالقصة القصيرة تظل أقرب إلى ما وصفه نورثروب فراي الأصل البدائي ونموذج كل السرود، (الكتاب الدنيوي المقدس) للرومانس. يمكن أن نفهم بشكل أفضل (الغريب، أو لم يسمع من قبل) لما لا يوصف أو لا يسبر غوره التي يبدو أن القصة القصيرة تركز عليها غالبا على أنها لحظات الأزمة والوعي التي حددها الفكر الوجودي في القرن العشرين. إن قدرة الحكاية القصيرة على عكس الواقع البشري في لحظات لا يمكن تطبيعها بسهولة وراء التمييز بين القصة، وما تسميه إيزاك دينيسن فن السرد (الجديد) الذي يضحي بالقصة من أجل الواقعية والشخصيات الفردية. ففي حين أن الرواية -كما تقول دينيسن- نتاج بشري، فالفن الإلهي هو القصة. في البداية كانت القصة، وتابعت قائلة: (داخل عالمنا كله، لا تملك القصة سوى سلطة الرد على صرخة قلب شخصياتها، صرخة قلب أي واحد منهم: من أنا؟ (26). ومحاولة إجابة سؤال من أنا -كما يقول هيدجر- من خلال التركيز على وصف الوجود اليومي، لابد أن تكون غير أصيلة (16-113).
لقد كان تركيز القصة القصيرة على غموض الأحلام والمخاوف والقلق بناء على تجارب وتصورات خارج الحياة اليومية العادية، فالحياة اليومية العادية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمطالب الشكلية لهذا النوع. ما يطلق عليه النمط (المصنوع) للقصة القصيرة، ويزيد من شدته، وبالتالي خلق الطبيعة الإهليجية المبهمة لهذا النوع. اسمحوا لي بإيجاز أن أعلق على قصة أليس مونرو(2) (حب امرأة طيبة) بوصفها نموذجا للاختلاف بين التفصيل الروائي، وغموض القصة القصيرة وكثافتها. تبدأ القصة بعثور ثلاثة أولاد على جثة طبيب عيون داخل سيارة مغمورة في النهر. فعلى الرغم من أن المرء يمكن أن يتوقع أن تركز الحبكة فورا على لغز الرجل الغريق، إلا أن مونرو ليست في عجلة من أمرها لإرضاء فضول القارئ، فقد تابعت الأولاد الثلاثة إلى منازلهم الخاصة، لتستكشف على مهل أسرارهم العادية. في بداية الجزء الثاني من القصة تركت مونرو الجسد والأولاد تماما، وركزت على امرأة تحتضر غريبة الأطوار، السيدة كوين، تحت رعاية ممرضة وحيدة تسمى إينيد. أخبرت السيدة كوين إينيد أن زوجها روبرت قتل طبيب العيون عندما حاول أن يلاطفها. عندما ماتت السيدة كوين، قررت إينيد التي تعتني بروبرت أن تخبره بما سمعت، وتحثه على أن يسلّم نفسه. الطريقة التي قررت أن تنتهجها لإخباره خلقت غموضا مفتوحا في القصة. طلبت منه أن يجدف بها في مركب، حيث ستخبره بما تعرفه، وتبلغه أيضا أنها لا تستطيع السباحة. في اللحظة الأخيرة غيرت رأيها، لكنها لم تستطع الهروب من الموقف. تنتهي القصة قبل مغادرتهما الشاطئ، ولهذا فالقارئ لا يعرف ما إذا كانت إينيد ستواجه روبرت أم لا، ولو فعلت ذلك، فهل سيدفعها إلى النهر أم يعيدها إلى الشاطئ.
(حب امرأة طيبة) تبدأ وكأنها رواية، ولكنها بدلا من الاستمرار في التوسع، من حيث تقديم شخصيات وإضافة قصص جديدة، مالت إلى الشدة والإحكام، وارتبطت بما يبدو متباينا في البداية وغير ذي صلة. إنه نموذج كلاسيكي لمونرو وهو الأكثر تميزا في خلق عالم به كل إيهام الواقع الخارجي، في حين أنه في كل لحظة يجذب القارئ أعمق وأعمق إلى أن يصبح عالما للهلاوس والغموض والسرية والخداع. فقصة مونرو -على عكس الرواية التي يجب أن تطوّر نوعا من الخاتمة المرضية- تصل إلى مأزق أخلاقي، نهاية مفتوحة غامضة، يدرك القارئ من خلالها بدلا من العيش في عالم الواقع الظاهر أنه أصبح -هو أو هي- ملتفا في حركة دائرية يتحرك في نقطة مركزية لا تُحتمل من الكثافة، كما لو أن هناك قوة طرد مركزي.
إن إحدى النتائج المهمة المترتبة على الاكتناز الخاص بالقصة القصيرة هى حاجتها إلى تحويل الأشياء والأحداث إلى دلالة. ففي حين أن الخاص يمكن أن يظل مجرد خاص في الرواية، لكنه في القصة كما تشير إليزابيث بوين (إلى أنه يجب إعطاء الخاص دلالة عامة)(259). تكتسب الرواية القبول بواقعية العمل من خلال خلق تفاصيل كافية، لإعطاء القارئ إيهاما بأنه (يعرف) التجربة، بالرغم من أنه لا يستطيع أن يعرفها بالطريقة نفسها التي يعرف بها التجربة الفعلية. تتحول التفاصيل في القصة القصيرة -مع ذلك- إلى قيمة مجازية. فالتفاصيل الشديدة في روبنسون كروز لدانيال ديفو(3) تأتي بوصفها مقاومة لكي يتغلب من خلالها كروز في مواجهته للعالم الخارجي. ولكن في قصة قصيرة مثل (النهر الكبير ذو القلبين) لهمنجواي(4) المملوءة أيضا بالتفاصيل فإن الحقائق المادية تأتي لتجسيد مشكلة نيك النفسية. فنيك -على عكس كروز- لا يهتم بالنجاة من صراع خارجي، ولكن بالنجاة من صراع داخلي. في القصة القصيرة تتحول الخطوط المادية العريضة الصلبة للعالم الخارجي إلى تجسيدات محنة نفسية. وهكذا فإن رفض نيك الذهاب إلى المستنقع في نهاية قصة همنجواي رفض مجازي، وليس له علاقة بالصفات الواقعية للمستنقع.
مشكلة الشخصية
يذكرنا توماس مان في مقالته الشهيرة (فرويد والمستقبل) أن الحياة (مزيج من العناصر الفردية، والمخزون الرسمي المتبادل، مزيج لا يرفع فيه الفرد رأسه -إذا جاز التعبير- فوق العناصر الرسمية وغير الشخصية. الكثير من الشخصي الإضافي أو الكثير من تحديد اللاوعي -كما يؤكد مان- غالبا ما يكون تقليدا وتخطيطا ليس أقل حسما للتجربة، ليس فقط للفنّان، ولكن للإنسان بشكل عام. يقول مان (يكتشف المؤلف بالتالي معرفة بالمخطط الذي وفقا له يعيش الفرد غير مدرك -لإيمانه الساذج بنفسه- أنه فريد من نوعه في الزمان والمكان، وإلى أي مدى ستصبح حياته مجرد صيغة وتكرار (22-421).
إن اهتمامنا بالشخصيات القصصية كما يشير مان -بغض النظر عن الأحداث التي وقعوا فيها في شرك- هو دائما يتجذر في موقع العملية التي يحاولون من خلالها العثور على هويتهم، بالوسائل التي يحاولون من خلالها الإجابة عن سؤال أوديب القديم : من أنا؟. في مثل هذه العملية تصبح قوة الذاتي وقوة التخطيطي حاسمتين. كما وصفها روبرت لانغباوم، عندما تدرك أن الاستبطان لا يؤدي إلا إلى انعكاس لا نهاية له، ستصل إلى أن الطريقة الوحيدة لمعرفة من أنت تتمثل في ارتداء قناع للدخول إلى قصة.
يشير لانغباوم إلى أن النقط المهمة عند هذا المستوى من الخبرة عندما تقع الأحداث في نمط ما (…) فإنها تصبح تجسيدا لإرادتك العميقة، لأنها تجعلك تقوم بأشياء غير التي تقصدها بوعي، لذلك تستجيب في رد فعلك مثل الدمى المتحركة ارتباطا باحتياجات وضرورات القصة، فأنت في الحقيقة ستجد ما تريده، وستدرك من تكون حقا. يقول لانغباوم مرددا بعض أصداء مان (ينتقل الاهتمام النفسي إلى الأسطوري في ذلك العمق النفسي، حيث نرغب في إعادة الأنماط الأسطورية. الحياة في أوجها تكرار) (177).
لا يخبرنا مان أو لانغباوم -مع ذلك- بالطريقة التي تتبعها الشخصية في القص في متابعة رغبته أو رغبتها لتكرار الأنماط الأسطورية، ولا بالكيفية التي يتحول بها شخص حقيقي إلى نموذج نفسي أصلي بدائي بسبب هذه الرغبة. يجب أن نفترض أنه نظرا لأن الشخصية النفسية تفكر وتتحدث وتتصرف مثل شخص في الحياة الواقعية، يحاول الإجابة عن السؤال: من أنا؟ فإنه -هو أو هي- يبدو كأنه يخلق قصته الفردية الخاصة. ونظرا لأن القصة دائما ما تكون تخطيطية تقليدية، يتمّ تحويل الشخصية إلى شخصية شبيهة بالآلة يحكمها مكانه أو مكانها في القصة ذاتها. وبالتالي تبدو الشخصية هي المحدد للمخطط الذي بدوره يحدد الشخصية. تكمن المشكلة بالنسبة للقارئ في عزل الآليات المحددة التي يتحول من خلالها النفسي إلى أسطوري، أي الوسائل التي تتحول بها القصة الفردية إلى تخطيطي. ويتضمن هذا إيجاد طريقة لتتبع الآلية التقليدية للقصة حتى مصدرها في رغبات الشخصية النفسية، ثم الكشف عن الكيفية التي يحوّل من خلالها هذا المخطط التقليدي للشخصية إلى نموذج أصلي أو بدائي للرغبة.
عندما نحلل شخصية في قصة كما لو كانت حقيقية، فإننا نقارب الشخصية من حيث سياق تشابه العالم الحقيقي الذي تقدمه القصة، وعندما نفسر شخصية على أنها نموذج أعلى أو بدائي يجب أن نستكشف البنية الكامنة للحبكة، أي المخطط أو الكود الخاص الشخصية بوصفها نموذجا أعلى بحكم الموقع الذي تشغله الشخصية (هو أو هي) في الحكاية نفسها. الأول يمثل رد فعل على ما هو فردي وذاتي وكنائي، والأخير رد فعل على التقليدي والتخطيطي والاستعاري.
لكي نرى كيفية تفاعل الآليات الكنائية والاستعارية في مزيج خيالي وواقعي ورومانسي ربما يكون من الأفضل أن نبدأ من الشكل المفرط للإطار الاستعاري الرومانسي، أي الحكاية الرمزية. الطريقة الوحيدة لمقاربة الشخصيات في الحكاية الرمزية تتمثل في الإشارة إلى موضعها من خلال رمز أو كود موجود مسبقا. تحليل سياق الكتابة لا يؤدي إلى أي مكان. يقترح أنجوس فليتشر الطبيعة النمطية أو الكودية للشخصية المجازية عندما يقول: (إنه إذا قابلنا شخصية مجازية في الحياة الواقعية، فسوف نعتقد أن الشخص مدفوع ببعض الهوس المركزي) (68). إنه السلوك الشبيه بالوسواس الملح للشخصية نتيجة لأفعاله أو أفعالها التي يتمّ تحديدها من خلال الموقع الذي تشغله أو يشغله في التنميط الكودي الموجود مسبقا. الفارق بين الشخصية المجازية والشخصية في الرومانس هو أن الشخصية في الرومانس لا تتصرف أو تتحرك بسبب كونها مهووسة بالإشارة بسبب موقعها في القصة، ولكنها أيضا مهووسة بالتشابه في محاكاة الحياة الواقعية التي أوجدها أو خلقها العمل نفسه.
يبدو أن هذا المزيج يتحقق بشكل أكثر فاعلية عندما يكون هوس الشخصية الواقعية نفسيا متطرفا لدرجة أنها تسقط هذا الهوس على شخص ما أو شيء خارج الذات متجاهلة أن مصدر الهوس بالداخل، متحركة كما لو كانت بدونه. وهكذا بالرغم من أن هذا السلوك يحدث داخل تشابه العالم الواقعي، فبمجرد أن تسقط الشخصية حالة داخلية على الخارج، ثم تفاعلت مع هذا الإسقاط كما لو كانت خارجه، فإن رد الفعل هذا بالذات يحيل الشخصية إلى مكافئ رمزي بدلا من كونها شخصية واقعية.
من الأمثلة المبكرة الأكثر وضوحا على ذلك هذه القصص التي كتبها (بو)(5) التي تركز على (الأحمق)، حيث السلوك الشبيه بالوسواس الذي يجبر شخصا ما على التصرف بطريقة قد تتعارض مع العقل والفطرة السليمة وحتى مع الاهتمامات الجيدة للبقاء على قيد الحياة. في العديد من قصص (بو) المهمة يقع الهوس بوصفه سلوكا لا يمكن أن يتجلى إلا بطرق مضمرة أو رمزية. في قصة (القلب الواشي) على سبيل المثال لا يمكن فهم رغبة الراوي في قتل الرجل العجوز بسبب عينه إلا عندما ندرك أن (العين) يجب سماعها، وليس رؤيتها، على أنها ضمير المتكلم (أنا).
اثنتان من أشهر قصص (هاوثورن)(6) (حقل اليقظة)، و(الرجل البني الطيب) تظهران الشعور الغامض نفسه بالأفعال الوسواسية التي ليس لها دافع واضح أو منطقي. يتصرف الرجل البني الطيب بالتناوب كما لو كان شخصية مجازية يجب أن يقوم برحلته إلى الغابة بوصفها عملا مقدرا وحتميا للخروج من القصة الأسطورية التي هو جزء منها. وبوصفه شخصية معقدة نفسيا وواقعية وبالرغم من هوسه برحلته قادر على التشكيك في حكمتها وأخلاقياتها. في (حقل اليقظة) لا يهتم هوثورن برجل لديه دافع واقعي لترك أو هجر زوجته، لأنه لم يعد يهتم بها، بل يهتم بشخصية تتورط في عمل مهووس، لدرجة أنها لا تستطيع تفسيره أو الهروب منه.
لا يستطيع (بارتلبي) في قصة هرمان ملفيل أن يفسّر سبب إجباره على التصرف كما يفعل على هذا النحو. يترنم للجدار خارج نافذته، كما لو أنه لم يكن مجرد استعارة للسخافة التي تواجهه، بل العبث نفسه، وبالتالي –مثل كورتز في قلب الظلام لكونراد(7)- يستجيب للخريطة كما لو كانت أرضا واقعية، ويطرد نفسه من الأرض، ويتحول إلى شخصية لم يعد من الممكن تحديدها داخل السياقات الاجتماعية والتاريخية والثقافية. يقع القارئ -نتيجة لذلك- في موقف متناقض، ما إذا كان سيستجيب لبارتلبي على أنه شخصية مهووسة نفسيا أو على أنه رمز استعاري للوسواس. فمن المعتاد في القصة القصيرة عندما ترتكب شخصية مهووسة خطأ مجازيا في تلقيها استعارة على أنها واقع، تتحول -هو أو هي- إلى رمز مكافئ في حكاية من إبداعها.
تحليل استعاري
السمة الأساسية للقصة القصيرة بعد تشيخوف تتمثل في أن القصص القصيرة التي تعتمد على المعنى الاستعاري للأحداث أو الأشياء يمكنها تحقيق الخاتمة أو الإغلاق جماليا وليس ظاهريا فقط، كما في قصص جيمس جويس التي غالبا ما تنتهي بظهور ضمني، على سبيل المثال يفهم العانس العجوز، لكنه لا يفسر أهمية الصلصال، أو أن يفهم الصبي الصغير، لكنه لا يستطيع أن يفسر أهمية العربي. قصته القصيرة الأكثر حضورا وإشادة (الموتى) مثل حالة كتاب مدرسي يحوّل الموضوع الصعب إلى استعارة يتمّ حلها من الناحية الجمالية فقط. وطوال القصة تظل الأشياء الموصوفة بإصرار مجرد تفاصيل كنائية، حتى الثلج الذي يتم تقديمه بشكل عرضي في القصة على أحذية رواد الحفلة هو مجرد مادة بيضاء تغطي الأرض، أي حتى نهاية القصة عندما يحولها اعتراف جبرائيل إلى استعارة تغلق العمل من خلال تغطية كل شيء بطريقة غامضة.
برنارد مالامود أحد أشهر الكتاب المعاصرين في استخدام هذه الآلية في القصص التي تنتهي بحلول جمالية أكثر منها درامية. فقد أشار النقاد إلى أنه بالرغم من أن أسلوب مالامود أسلوب راوي الحكايات فإن تقنيته أو بنيته شعرية رمزية. يقول إيرل روفيت (إنه يبدو وكأنه يبني قصصه بشكل عكسي، حيث يبدأ من صورة الذروة النهائية، ثم يبدأ في التلاعب بشخصياته في الأوضاع الدرامية المناسبة التي تسهم في الدلالة المهمة الكلية المهمة لتلك الصورة. يقود الحدث الدرامي للقصة إلى موقف الصراع الذي يتمّ حله من خلال الثبات الشعري في الغموض النهائي للقوى المتصارعة والمجمدة والمتحدة في معارضاتها لنفسها. يشير روفيت إلى أن الشكل الجمالي لقصة مالامود يدور حول نفسه، وأن معنى القصة -التقييم الدقيق للقوى المتصارعة- متروك للقارئ. وبهذه الطريقة يتمّ حل القوى المتصارعة من الناحية الجمالية.
اقترح جوناثان كولر أن السرود نفسها تشكك في أولوية القصة بالنسبة للخطاب (بوضع أولوية الأحداث بالنسبة للخطاب الذي يقدمها أو يشكلها يؤسس السرد تسلسلا هرميا غالبا ما يفسد عمل ووظيفة السرود، من خلال تقديم الأحداث ليس كمعطيات، ولكن كمنتجات لقوى أو متطلبات منطقية استطرادية).. القصة القصيرة في كثير من الأحيان- أكثر من الرواية- تبرز المتطلبات التي يفرضها الخطاب على قصة موجودة مسبقا. السرد -بطبيعته- لا يمكن أن يروى حتى تكون الأحداث التي يؤسسها بوصفها موضوعه قد حدثت بالفعل. وبالتالي فإن نهاية الأحداث من حيث نهايتها الفعلية، أو من حيث الغرض أو الوظيفة التي تجعل الراوي يوثقها، هي بداية الخطاب، وقد انتهى بالفعل بوصفه حدثا، ولا يتبقى له سوى التحرك نحو نهايته، بطريقة جمالية لا نهاية لها، أي من خلال النبرة والاستعارة، وجميع التقاليد المؤسسة والبحتة للخطاب القصصي. وبالتالي من الحتمي أن تكون الأحداث في السرد مدفوعة أو محددة بمتطلبات الخطاب التي لا تكون لها علاقة تذكر بالدافع النفسي أو بالسبب الفينومينولوجي للأحداث الفعلية.
إن أبسط فرضيات القصة القصيرة هي أن التجربة اليومية تكشف عن الذات بوصفها قناعا من العادات والتوقعات والواجبات والأعراف. ولكن القصة القصيرة تصرّ على أن الذات يجب تحديها بالأزمة أو المواجهة. هذا هو التوتر الأساسي في الشكل، في القصة البدائية يمكن ملاحظة الصراع، من خلال المواجهة بين المدنس الذي يمثله اليومي، والمقدس المتمثل في تلك الانفجارات الغريبة التي اعتبرها الإنسان البدائي بصدق حقيقة. لا يمكن للقصة القصيرة -مع ذلك- إصلاح ذلك التوتر، سواء من الناحية الوجودية أو الأخلاقية، لأن التوتر بين حتمية العالم الكنائي اليومي، والعالم الاستعاري المقدس واحد من تلك التوترات الأساسية التي لا يمكن إلا اقتطاعها فقط. الحل الوحيد الممكن هو الحل الجمالي.
التمنّع عن التفسير
لاحظ والتر بنيامين في مقالته عن الراوي أن نشأة الرواية تمثل إحدى العلامات الأساسية لانحدار (عملية رواية القصص)، لأن الرواية لا تأتي من التقليد الشفهي، ولا تدخل فيه. يقول بنيامين (إن المعلومات أصبحت هي المهيمنة في العالم الحديث. في حين أن (حقيقة) المعلومات مستمدة من جهد تجريدي للوصول إلى معنى استطرادي خالص، فإن حقيقة القصة يتم نقلها من خلال إعادة سرد تجربة نمطية ملموسة بطريقة تجسّد الحقيقة بدلا من شرحها أو تفسيرها). ويجادل بنيامين بأن القصة تحتوي على اكتناز يتحدى التحليل النفسي.
أشكال السرد الواقعية مثل الرواية -وفقا لبنيامين- محددة نسبيا بالتجربة الإنسانية التي يمكن أن تشملها المعلومات بالفعل، ولكن الشخصيات في القصة القصيرة تواجه تلك الألغاز الأساسية للتجربة الإنسانية التي لا يمكن تفسيرها بالوسائل العقلانية. فالقصة القصيرة -كما يقول بنيامين- لا تتطلب المعقولية أو التوافق مع قوانين الواقع الخارجي. ما تفعله القصة القصيرة هو أن توضح لنا كيفية التعامل مع كل ما لا نستطيع فهمه، فالتحرر من المعلومات نصف فن رواية القصص. ونظرا لأنه يسمح لقارئ القصص بتفسير الأشياء، فإن القصة لديها سعة في افتقارها إلى المعلومات (83-109).
يعبر رواة القصص غالبا على نفاد صبرهم مع التفسير، وإحباطهم من المستمعين الذين لا يستطيعون فهم القصة التي يقومون بروايتها. لا يبدو أن راوي بو يفسر لغز رودريك أوشر، ويكافح محامي ملفيل في تفسير لغز بارتلبي، ويأسف شيروود أندرسون أن الأمر يستغرق أن يكون شاعرا ليحكي قصة يدي وينج بيدلباوم، ويشعر إيفان لدى تشيخوف أنه فشل في نقل الحياة السرية لهؤلاء الذين يعانون وراء الكواليس في قصة (عنب الثعلب)، وربما في أشهر نموذج على إحباط راوي القصص في الأدب الغربي الحديث، فمارلو في قصة كونراد يجلس متربعا على سطح السفينة، وهو يأسف: هل ترى القصة؟ هل ترى شيئا؟ يبدو بالنسبة لي أنني أحاول إخبارك بحلم.
كان ريموند كارفر يعرف تراث وتقليد القصة القصيرة المرتبط بالتركيز على ما يمكن سرده، ولا يمكن تفسيره، لقد قبل مقولة تشيخوف الصعبة (في القصص القصيرة من الأفضل أن تقول ما لا يكفي لا أن تقول الكثير، لأنني لا أعرف لماذا). الكاتب الأكثر حداثة التي تعلمت منه طريقته في تجنب التفسير في كتابة القصة القصيرة هي فلانيري أوكونور التي تجادل بأنه نظرا لأن كاتب القصة القصيرة لديه مساحة صغيرة للاشتغال والعمل، ولا يمكنه القيام بمجرد تقديم بيان (فعليه أن يجعل عمله المادي المحدد مضاعفا).
(مأمورية) إحدى قصص كارفر الأخيرة، وهي على ما يبدو تمثل عرضا مباشرا ومفصلا للساعات الأخيرة في حياة تشيخوف. ومع ذلك فإن ما يجعلها أكثر من مجرد تقرير واقعي هو الخادم الشاب الذي طُلب منه إحضار زجاجة الشامبان التي شرب منها تشيخوف قبل وفاته مباشرة، والتعليمات العاجلة التي تقدمها أولجا كنيبر للشاب في نهاية القصة. وبالرغم من أن الشاب رأى جثة تشيخوف في الغرفة المجاورة على السرير، إلا أنه رأى أيضا غطاء الزجاجة الفلين على الأرض بالقرب من إصبع حذائه. هذه لحظة دقيقة لأنه بينما يقف الشاب هناك بشكل محرج يستمع إلى زوجة تشيخوف المشتتة، تطلب منه الذهاب لإحضار متعهد دفن الموتى، فيبدو أن الاثنين موجودان في عالمين مختلفين.
ما يلتقطه كارفر ببراعة في القصة هو جهد أولجا لإرسال الصبي إلى مهمته. بطريقة نموذجية لأسلوب قصص كارفر، سألته مرارا وتكرارا (هل تفهم ما أقوله لك؟) وبينما كان يحاول فهمه، تروي له قصة تصف عمله في أداء المهمة أو المأمورية. فسرد أولجا لما يجب أن يفعله الصبي يوصف كما لو كان يحدث بالفعل، يتحول زمن الفعل في القصة من المستقبل إلى الحاضر: (سيكون متعهد دفن الجثث في الأربعين من عمره… سيكون بسيطا ومتواضعا… وربما يرتدي مريلة، وربما يمسح يديه بمنشفة داكنة). في هذه المرحلة تتحول وجهة النظر إلى زمن المضارع. يأخذ متعهد الدفن إناء الورد… في المرة الوحيدة التي يذكر فيها الشاب اسم المتوفى، يرتفع حاجبا متعهد دفن الموتى قليلا، تشيكوف، تقول؟ دقيقة واحدة وسأكون معك. ومع ذلك بينما تحث أولجا الشاب على القيام بمأموريته المهمة يفكر الشاب في غطاء الفلين عند أصابع حذائه. وقبل مغادرته بقليل يميل دون أن ينظر إلى أسفل ويقرب يده منه، تجسيدا لتلك التفاصيل التي تبدو غير ضارة، لكنها مهمة للغاية، التفاصيل التي تمثل العبقرية الحقيقية لفن تشيخوف. إنه النموذج الأكثر تأثيرا في قصص كارفر في فهمه لوعي تشيخوف (من الممكن في قصيدة أو قصة قصيرة أن تكتب الأشياء المألوفة باستخدام لغة مألوفة شائعة، ولكن دقيقة، لمنح هذه الأشياء الكرسي والنافذة والستارة والشوكة والحجر والقرط النسائي قوة هائلة، بل مذهلة) (كارفر في الكتابة).
خاتمة
إن قصر القصة القصيرة -فضلا عن الأدوات الفنية التي يتطلبها هذا القصر يجبرها على التركيز ليس على التجربة بأكملها (مهما كان ذلك) في كل أشكالها وتصنيفاتها الإدراكية والتصورية، بل على تجربة واحدة مختفية ومعتمة بعيدا عن التدفق اليومي للواقع البشري، والسعي النشط- تجربة يتمّ إخفاؤها وتعتيمها على وجه التحديد، لأنها ليست جزءا من ذلك الواقع، بل هي لحظة يتمّ فيها تحدي الواقع نفسه. الرواية من حيث طولها -بغض النظر عن عدد لحظات الأزمة التي يمكن أن تقدمها- لا يزال يتعين عليها بطريقة ما حلها، وأن تقوم بتغطيتها وإخفائها من خلال الجزء الأكبر من التشابه مع التدفق العادي للتجربة اليومية. القصة القصيرة التي تقف بمفردها دون حياة قبلها أو بعدها، لا يمكن أن تحصل على هذا الاندماج المريح بين العادي وما هو غير عادي. على سبيل المثال قد نفترض أنه بعد توعية الآنسة بريل بشكل لافت بدورها في المتنزه كل يوم أحد أنها ستستمر في حياتها، ولكن قصة (الآنسة بريل) لكاترين مانسفيلد لا تمنحنا مثل هذه الفكرة المطمئنة المستندة إلى ثقتنا بأن (الحياة تستمر)، لأنها تنتهي بالإلهام.
إن مسألة كون شكل القصة القصيرة مخلصا للواقع أو غير مخلص، أو كونها شكلا طبيعيا أو تقليديا للغاية، يتطلب إعادة تقييم لما نعنيه عندما نقول (الواقع)، أو (الطبيعي). إذا افترضنا أن الواقع هو ما نختبره كل يوم، ولو افترضنا أن الواقع هو ذاتنا المستريحة والمسيطر عليها جيدا، فإن القصة القصيرة ليست (واقعية)، ولا طبيعية. وإذا شعرنا -مع ذلك- أن تحت ذلك اليومي أو تحت المتأصل في اليومي، حقيقة أخرى تتهرب منا بطريقة ما، إذا كانت وجهة نظرنا دينية، وبعيدا عن ذلك، أي إذا شعرنا أن شيئا ما ينقصنا، إذا كان لدينا إحساس بالطبيعة المحدودة للوجود، فإن القصة القصيرة أكثر واقعية، مما يمكن أن تكون عليه الرواية، إنها أقرب إلى طبيعة الواقع كما نختبرها في تلك اللحظات عندما ندرك فيها زيف الحياة اليومية، تلك اللحظات التي نشعر فيها بعدم أصالة وكفاية تصنيفات الوعي والإدراك لدينا.
لهذه الأسباب أعتقد أن القصص القصيرة ضرورية، ومع ذلك نادرا ما تُقرأ.
الهوامش
* Charles E. May تشارلز إي ماي أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة كاليفورنيا، من أهمّ مؤلفاته: إدجار ألان بو: دراسة القصة القصيرة، القصة القصيرة دراسة في النوع، ومحرر كتاب نظريات القصة القصيرة، والقصة القصيرة الأوربية في القرن العشرين. نشر أكثر من مائة وخمسين مقالا أكاديميا في عدد كبير من المجلات.
(1) أمبروس بيرس كاتب أمريكي ساخر، ومؤلف قصص قصيرة، ولد في أوهايو عام 1842، وتوفي في عام 1914، شارك في الحرب الأهلية، عرف بقصته (حادثة جسر أوول كريك)، وكتاب (الساحر)، وكتابه الهجائي (قاموس الشيطان). يعتبر واحدا من أهم الصحفيين تأثيرا، ورائدا من رواد القصة الواقعية. من أعماله الأخرى فارس في السماء، والنافذة المنحدرة، وهل يمكن أن توجد هذه الأشياء. تعتبر قصته حادثة جسر أوول كريك من أهم قصصه، حيث يتعلق السرد بالأفكار الأخيرة لمزارع أثناء عملية شنقه من جنود الاتحاد. ففي الفترة القصيرة بين شد المشنقة والارتخاء الفعلي لعنقه يتخيل هروبه.
(2) أليس مونرو كاتبة كندية ولدت في وينجهام أونتاريو 1931، حازت جائزة نوبل في الآداب عام 2013، نشرت أول كتاب لها (رقصة الظلال السعيدة) عام 1968، وبعدها بثلاث سنوات نشرت مجموعتها (حياة الفتيات والنساء)، وهي مجموعة اعتبرها النقاد عملا يركز على التطور الأخلاقي والنفسي للشخصية الرئيسة، وفي عام 1978 نشرت مجموعتها (من تظن نفسك؟)، ونشرت (أقمار المشترى) عام 1982م.
(3) دانيال ديفو كاتب بريطاني ولد عام 1660، وتوفي عام 1731م، روائي وصحفي، أهم أعماله روبنسون كروز، ومول فلاندرز، وروكسانا. تتميز موهبته الروائية ببصيرته وقدرته في تصوير الطبيعة الإنسانية، فجميع شخصياته -الرجال والنساء- التي كتب عنها توضع وتواجه ظروفا غير عادية، فهم بشكل أو بآخر مغتربون ومنفردون، ويكافحون بطرق مختلفة من خلال حياة أقرب إلى الحرب. تكشف كتابته الفنية عن أسلوبه الواقعي المملوء من دقة وكثرة التفاصيل التي يقدمها للقارئ.
(4) إرنست همنجواي كاتب وصحفي أمريكي ولد عام 1899، وتوفي منتحرا في عام 1961، حاز جائزة نوبل في الآداب 1954، وأصدر سبع روايات وست مجموعات قصصية، وأهم أعماله (العجوز والبحر)، و(ثم تشرق الشمس)، و (وداعا للسلاح)، و(موت في الظهيرة). أثر أسلوبه البسيط على الكتابة القصصية في القرن العشرين، وكان لصورته العامة وحياته المملوءة بالمغامرة تأثير كبير على الأجيال اللاحقة.
(5) إدجار ألان بو ناقد وكاتب قصة قصيرة أمريكي، ولد عام 1809، وتوفي عام 1849، بدأ حياته الأدبية شاعرا، وأصدر ديوانا شعريا بعنوان (مواطن من بوسطن)، تخلى بعدها عن الشعر ليحقق وجودا وقيمة حقيقية في الكتابة النثرية القصصية والنقد الأدبي، فقد أصبح واحدا من كتّاب ومنظري القصة القصيرة المهمين، وأصبحت أعماله مثل (القلب الواشي)، و(سقوط منزل آشر) أعمالا كلاسيكية لهذا الفن.
(6) ناثانيال هوثورن روائي وكاتب قصص قصيرة أمريكي، ولد عام 1804، وتوفي عام 1864، يعدّ واحدا من كتّاب القصة العظماء في الأدب الأمريكي، وأهم أعماله (الحرف القرمزي)، و(المنزل ذو الحوائط السبعة)، و(آلهة الحقول الرخامية)، و(صورة الثلج)، و(القصة الكاملة لمقعد الجد). تستكشف قصصه التعقيدات والغموض في خيارات الإنسان بالإضافة إلى بصيرته التي جعلته أكثر الكتّاب حضورا في القصة القصيرة الأمريكية.
(7) جوزيف كونراد أديب بريطاني بولندي الأصل ولد عام 1857، وتوفي في عام 1924، من أهم أعماله (لورد جيم)، و(الوكيل السري)، و(قلب الظلمة). حاز مكانته الأدبية لمقدرته في تصويره للحياة الإنسانية حين تواجه قوة كبرى مثل قوة الطبيعة، بالإضافة إلى تصويره للصراع الداخلي للإنسان بين الخير والشر. في روايته (قلب الظلمة يصور رحلة فعلية له إلى الكونغو، حيث هيمنة رجل أبيض غامض (كورتز) بشخصيته وبلاغته على رجال القبائل من أهل البلد الأصليين.
المراجع
Bakhtin, M. M. and P. N. Medvedev. The Formal Method in Literary Scholarship. Trans. Albert J.Wehrle.
Baltimore: Johns Hopkins UP, 1978
Benjamin, Walter. “The Storyteller: Reflections on the Works of Nikolai Leskov.” Illuminations. Trans.
Harry Zohn. London: Jonathan Cape, 1970. 83-109.
Bowen, Elizabeth. “The Faber Book of Modern Short Stories.” The New Short Story Theories, Ed. Charles E. May.
Athens: Ohio UP, 1994. 256-62.
Brooks, Peter. Reading for the Plot. New York: Knopf, 1984.
Carver, Raymond. “Errand.” Where I’m Calling From. New York: Atlantic Monthly Press, 1988. 381-91.
Carver, Raymond. “On Writing.” The New Short Story Theories, Ed. Charles E. May. Athens: Ohio UP, 1994.
273-77.
Chekhov, Anton. “The Short Story.” The New Short Story Theories, Ed. Charles E. May. Athens: Ohio UP, 1994.
195-98.
Culler, Jonathan. The Pursuit of Signs. Ithaca: Cornell UP, 1981. 14
Eagleton, Terry. Heathcliff and the Great Hunger: Studies in Irish Culture. London: Verso, 1995.
Dinesen, Isak. “The Cardinal’s First Tale.” Last Tales. NY: Random House, 1957. 3-27.
Éjxenbaum, B. M. “O. Henry and the Theory of the Short Story.” The New Short Story Theories, Ed. Charles E.
May. Athens: Ohio UP, 1994. 81-88.
Fletcher, Angus. Allegory. Ithaca: Cornell UP, 1964.
Frye, Northrop. The Secular Scripture: A Study of the Structure of Romance. Cambridge, MA: Harvard UP,
1976.
Halpern, Daniel, ed. The Art of the Tale. New York: Penguin, 1986; The Art of the Story. New York: Viking,
1999.
Heidegger, Martin. Sein und Zeit. Tubingen: Max Neimeyer Verlag, 1957.
Jameson, Frederic. The Political Unconscious: Narrative as A Socially Symbolic Act. Ithaca: Cornell UP, 1981.
Langbaum, Robert. The Modern Spirit. Oxford UP, 1970.
Levi-Strauss, Claude, “The Science of the Concrete.” European Literary Theory and Practice. Ed. Vernon W.
Gras. New York: Dell, 1973. 133-63.
Lewis, C. S. “On Stories.” Essays Presented to Charles Williams. Ed. C. S. Lewis. Grand Rapids: MI:
William B. Eerdmans, 1966. 90-105. 15
Lukács, Georg. The Theory of the Novel. Trans. Anna Bostock. Cambridge: MIT Press, 1971.
Mann, Thomas. Essays of Three Decades. Trans. H. T. Lowe-Porter. New York: Knopf, 1947. 411-28.
May, Charles E. Edgar Allan Poe: A Study of the Short Fiction. Boston: Twayne, 1991.
Munro, Alice. The Love of a Good Woman. New York: Knopf, 1998.
O’Connor, Flannery. Mystery and Manners. Ed. Sally and Robert Fitzgerald. New York: Farrar, Straus &
Giroux, 1969.
Rovit, Earl. “The Jewish Literary Tradition.” Bernard Malamud and the Critics. Eds. Leslie A. Field and
Joyce C. Field. New York UP 1970. 3-10