منير عربش
باحث سوري
أغنت الاكتشافات الأثرية في سلطنة عُمان في العقدين الأخيرين معارفنا حول عصور ما قبل التاريخ وخاصة العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي، والتي تميزت بظهور مواقع الاستيطان والمدافن ذوات الأبراج في بواكير العصر البرونزي في الألف الخامس-الرابع قبل الميلاد تقريبًا، وقد رافق هذا العصر نمو العلاقات التجارية بين بلاد الرافدين والهند وفارس وشبه جزيرة عُمان المعروفة في النصوص الأكادية باسم مجان، التي كانت المصدِّر الأول للنحاس حينذاك، وتعرضت مجان لحملات عسكرية أرسلها ملوك أكاد في الهلال الخصيب خلال الألف الثالث ق.م. وذلك بهدف السيطرة على مناجم النحاس والطريق التجاري الذي يربط جنوب بلاد الرافدين بشبه جزيرة عُمان، وتحسنت العلاقات في نهاية الألف الثالث حيث أرسل ملك مجان –لم يذكر اسمه– بهدايا إلى ملك أكاد وصلت إلى ميناء أور بمراكب تم تصنيعها في مجان (كلوزيو وتوزي 2007 –Cleuziou & Tosi 2018). استمرت العلاقات التجارية بين شبه جزيرة عُمان والهلال الخصيب في الألف الأول قبل الميلاد المعروف بالعصر الحديدي (1300-300 ق.م). فمن عهد آشور بانيبال (668-627 ق.م) لدينا لوح طيني بالخط المسماري يذكر “…ملك قادي الذي يقيم في إزكي” (Lombardi 2015 : 21-34)، وهي في أكثر الاحتمالات منطقة إزكي حاليا، والتي لا يستبعد أن تكون مدينة سلوت القديمة في بسيا بالقرب من إزكي، المتميزة بأسوارها المنمقة وبحصنها وأبنيتها العديدة المتناثرة والفسيحة وبأدواتها الفخارية والبرونزية المنزلية (Avanzini & Esposti 2018).
ونعرف اليوم أنه خلال سيطرة الفرس على الشرق الأدنى (القرن السادس-الرابع ق.م.)، ورد ذكر مجان بين أسماء الأمم المتحالفة مع الفرس أو ضمن قوقعتها، في نقش مكتوب بثلاث لغات (فارسية- عيلامية- آشورية قديمة) في قاعدة تمثال داريوس الأول (522-468 ق.م.)، حيث تم نسخ اسم مجان باللغة الفارسية مكا/مزون (Maka/Mazun) وفي الهيروغليفية مجا (Maga). يظهر من هذا النص دخول شبه جزيرة عُمان في القوقعة الفارسية، على الأقل ضمن تحالفات الإمبراطورية الفارسية.
وأثمرت أيضًا التنقيبات الأثرية في شبه جزيرة عُمان إلى تحديد التسلسل الزمني لنهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي في حوالي 1300 ق.م. – بفضل التنقيبات في سلوت ودبا وسمد ومليحة والدور، إلخ، (الجهوري 2021، ص 51-59) ويشكل هذا العصر فترة انتقالية نوعية وخاصة في النظام المعماري والفني –المدن بأسوارها ومبانيها الرسمية والخاصة– واستخدام الفخاريات والأدوات المنزلية المعدنية من البرونز والنحاس والأسلحة كالسيوف والخناجر، وتميز هذا العصر الانتقالي في بواكير الألف الأول قبل الميلاد بتدجين الجمل وظهور نظام الأفلاج وانتشار الأبجديات في الشرق الأدنى وفي شبه جزيرة العرب، الذي رافقه ظهور الكيانات السياسية ومدن القوافل في الواحات وعلى ضفاف الأودية، كما هو الحال في شمال غربي جزيرة العرب –تيماء وأدوماتو والعلا- وفي جنوب جزيرة العرب، حيث نشأت ممالك سبأ ومعين وقتبان وحضرموت التي ازدهرت بفضل تجارة اللبان والبخور مع الشرق الأدنى والهند وسواحل شرق البحر الأبيض المتوسط واليونان.
تزداد اليوم معارفنا الأثرية غنىً بظهور نتائج التنقيبات الأثرية السنوية التي تؤكد ما ذكرته المصادر الأكادية والآشورية على دور شبه جزيرة عُمان في العلاقات التجارية مع بلاد الرافدين والهند وفارس.
بالرغم من هذه الاكتشافات الأثرية المهمة فإن معارفنا التاريخية المباشرة ما زالت حتى اليوم نادرة جدًا ولا يعرفها إلا المختصون، وهي عبارة عن عدد محدود من النقوش –المصدر الرئيس لكتابة تاريخ عُمان قبل الإسلام- التي تذكر شخصيات وأحداثًا تاريخية، ومن ضمن المصادر التاريخية النقود التي تحتوي على أسماء ملوك ورموز آلهة.
بسبب شح هذه المصادر التاريخية المباشرة ما زالت القصص وكتب الأخبار المرجع الرئيس والوحيد في تقديم عرض ملحمي لتاريخ عُمان قبل الإسلام يدور بشكل رئيس حول شخصية مالك بن فهم الأزدي البطولية وقبيلة الأزد، التي بحسب كتب الأخبار وصلت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، والتي بفضلها استقر العرب في عُمان وانحدرت منها عائلات وشخصيات معروفة كالجلندى، التي حكمت عُمان قبيل الإسلام (العوتبي، ج2، ص 719-723، السيابي، إسعاف الأعيان، 109، 118 – البرطمانية 2015: 22-23، 30-36).
إنّ اكتشاف شاهد قبر بالخطين العربي الجنوبي “المسند” والآرامي خلال التنقيبات الأثرية في موقع المليحة في الشارقة عام 2016 صاحبه “مفتش/جابي لدى ملك عُمان” يعود إلى الربع الأخير من القرن الثالث ق.م. (222-221 ق.م.) (Overlaet et al. 2016 : 127-142) (الشكل 1)، بالإضافة إلى ذلك العثور على مجموعة عملات في أكثر الاحتمالات عليها أسماء ملوك عُمان حكموا ما بين القرن الثالث ق.م. والثالث الميلادي (Macdonald 2010 : 409-417)، يدعونا إلى تقديم قراءات تاريخية جديدة وموثقة لتاريخ عُمان قبل الإسلام بعيدة عن الروح القصصي والملحمي الذي من الصعب إثباته تاريخيا وأثريًا. من ناحية أخرى، يمكننا اليوم بفضل عدد من النقوش العربية الجنوبية التي وصلتنا من مملكة سبأ بتتبع نشوء قبيلة الأزد/الأسد ومنازلها منذ ظهورها في حوالي القرن الأول الميلادي وحتى اندثار ذكرها في المصادر النقشية في القرن الرابع الميلادي (Schiettecatte & Arbach 2016 : 179-181) .
وأما شخصية مالك بن فهم الأزدي وقصة وصوله إلى عُمان وطرده الفرس وإشكالية تحري أحداثها تاريخيا، فاكتشاف نقش نبطي جنوب سوريا صاحبه “جذيمة ملك تنوخ” من القرن الثالث الميلادي تقريبا، يدعونا أيضا إلى قراءة جديدة للمصادر العربية التي كانت تخيم عليها الشكوك حول موضوع شجرة أنساب القبائل العربية قبل الإسلام والهجرات العربية وخصوصا الأزد وغسان من اليمن إلى بلاد الشام والعراق وعُمان (Ulrich 2019)
موضوع هذه المقالة هو تقديم عرض وتحليل المصادر التاريخية المباشرة حول تاريخ عُمان قبل الإسلام منذ نشوء مملكة عُمان في القرن الثالث ق.م. وحتى اندثارها في القرن الثالث- الرابع الميلادي، وذلك في محاولة تقديم تسلسل زمني للأحداث وعلاقتها مع جيرانها اي الإمبراطوريتين اليونانية والفارسية ومملكة حِميَر (القرن الرابع-السادس الميلادي)، وأيضًا الرجوع إلى المصادر التاريخية لقبيلة الأزد التي ارتبطت بها ارتباطا وثيقًا ملحمة مالك بن فهم الأزدي.
الإطار السياسي في شبه جزيرة عُمان في القرن الثالث ق.م.
كما ذكرنا أعلاه سيطر الفرس على الشرق الأدنى خلال قرنين (السادس-الرابع ق.م.)، وفي أكثر الاحتمالات دخلت منطقة شرق جزيرة العرب تحت المظلة الفارسية وذلك من خلال سيطرتها على الخط التجاري (Avanzini 2010). كانت شبه جزيرة عُمان حينذاك تشكل مملكة مركزها الإداري منطقة إزكي المعروفة حتى يومنا هذا، وهي مذكورة تحت الاسم مملكة “مكا” “مجان” في النصوص الأكادية ضمن الأمم الصديقة للفرس في نقش على قاعدة تمثال داريوس. وهذا هو النص الوحيد الذي يذكر فيه شبه جزيرة عُمان في عصر السيطرة الفارسية على بلاد الرافدين والشام ومصر (Lombardi 2015)
رحلت فارس من الشرق الأدنى وحل محلها اليونان في عصر الإسكندر المقدوني الأكبر الملقب في المصادر العربية بـ”الإسكندر ذي القرنين” والذي ختم حملاته العسكرية بالسيطرة على فارس عام 330 وبابل 323 ق.م. قبل وفاته في نفس العام، وقد أرسل الإسكندر الأكبر إلى بحر العرب (إلى جزيرة سقطرى) حملة استطلاع بهدف السيطرة على طريق البخور ومناطق إنتاجه، ويذكر بليني الأكبر في كتابه التاريخ الطبيعي بأنّ أنطيوخس الأول (281-260 ق.م.) أرسل أسطولًا إلى الخليج العربي وصل إلى رأس مسندم (Asabon Pom) وذلك بهدف أخذ نصيب من التجارة المثمرة من البخور واللبان والمرّ والأحجار الكريمة. وأما أنطيوخس الثالث (223-187 ق.م.) فقام بحملة عسكرية عام 205 ق.م. على حاضرة الجرهاء محاولة لزعزعتها لأنها أصبحت محطة تجارية مهمة وانتهت الحملة بدفع إتاوة كبيرة من البخور والفضة والمر واللبان الذي كان يصل من ظفار عُمان وحضرموت.
تأثرت جزيرة العرب بهذه التغيرات السياسية وخصوصًا في شرق جزيرة العرب وفي شبه جزيرة عُمان، حيث تم تفعيل الخط التجاري الذي كان يربط شرقي جزيرة العرب بجنوبها مع جزيرة مصيرة وظفار وحضرموت، وظهرت مدن ممالك جديدة كالجرهاء في الهفوف/الإحساء وتيلوس في البحرين ومملكة عُمان التي كانت مراكزها في مليحة وميناؤها في دبا والدور (الشارقة اليوم). ومن ناحية أخرى، نعرف اليوم بأن مدينة سلوت القديمة الواقعة بالقرب من إزكي قد هجرت في حوالي 300 ق.م. ويمكننا ربط هذا الحدث بانتقال المركز الإداري لشبه جزيرة عُمان إلى المنطقة الشمالية عند مدخل الخليج العربي حيث نشأ الخط التجاري الجديد الذي يربط بحر العرب –عبر خور روري (ظفار) وقانا (حضرموت) (Avanzini 2019)- مع بلاد الرافدين وفارس والهند. ونعرف أيضا بفضل التنقيبات الأثرية في موقع خور روري في محافظة ظفار (سمهرم قديما) بأنه تم إنشاء هذا الميناء في حوالي القرن الثالث ق.م. من قبل تجار حضارمة وإلى هذه المرحلة يمكننا تأريخ وصول خط المسند إلى ظفار، وأيضا إلى شرق جزيرة العرب بفضل التجار السبئيين الذين أقاموا علاقات تجارية مع جنوب بلاد الرافدين “السلوقيين” ومع مملكة الجرهاء بشكل خاص، مرورًا بواحة نجران وقرية الفاو، التي نشأت أيضا في حوالي القرن الثالث ق.م.
ليس من المستبعد أن تجار جنوب شبه جزيرة العرب وأواسطها -السبئيين والمعينيين ونجران وقرية الفاو والأنباط فيما بعد- قد لعبوا دورا مهما في القرن الثالث-الأول ق.م. بإدخال خط المسند، وأيضا من خلال احتكاك تجار من شرق جزيرة العرب بقبائل عربية أخرى من جزيرة العرب لاحظ علماء الآثار ظهور ثقافة معمارية جديدة خاصة في شكل المدافن كما هو الحال في مليحة والدور التي نجدها أيضًا في قرية الفاو والبتراء، وهي تختلف عن أخواتها في مواقع عُمان الداخلية –سمد، سلوت، إلخ- ، مكونة بذلك أوائل الهجرات العربية إلى شرق جزيرة العرب وشبه جزيرة عُمان في القرون الأولى التي سبقت العهد الميلادي (Mouton & Schiettecatte 2014 : 87-88، 97-99) .
أول نقش يذكر مملكة عُمان
حتى وقت قريب كانت معارفنا التاريخية نادرة جدا حول تاريخ شبه جزيرة عُمان في النصف الثاني من الألف الأول ق.م. فكانت عبارة عن بعض النقوش القبورية بخط المسند بلغة شرقي جزيرة العرب أي الحسائية –منطقة الإحساء شرقي المملكة العربية السعودية– وبالآرامية التي كانت اللغة الدبلوماسية في الشرق الأدنى خلال سيطرة الإمبراطورية الفارسية، ونعرف أيضا من خلال هذه النقوش بأن المعبودة العربية (اللات) كانت على ما يبدو إلهة رئيسة إلى جانب شمس في مملكة عُمان قديمًا. وكانت تعتمد أيضا على مجموعة من النقود اليونانية التقليد والتي يمكن تاريخها إلى القرون الثلاثة قبل الميلاد ولكن مع أسماء ملوك وآلهة عربية –أبي إيل، أبي يثع والمعبودة شمس (Macdonald 2010 : 409-413)
وفي عام 2016 قام الفريق البلجيكي للآثار في موقع مليحة (إمارة الشارقة) باكتشاف نقش على قبر صاحبه “عمود بن جرّ بن علي مفتش لدى ملك عُمان، شيّد له ابنه عمود بن عمود مفتش (ملك عُمان…)” والنقش بالخط الآرامي مؤرخ سنة 90 أو 97 تقويم سلوقي أي 215/214 ق.م. أو 222/221 ق.م. ومن الصعب معرفة ما إذا كان موقع المليحة مكان العثور على النقش عاصمة مملكة عُمان قديما أو أن صاحب النقش عمود بن علي كان بمهمة في المدينة حيث تم دفنه أو أنه كان في مقر وجود الملك. ومن الدلائل التي تدعونا إلى اعتبار مليحة المركز السياسي لشبه جزيرة عُمان قديما هو العثور على قالب لصك العملات، ونعرف أن صك العملات هو رمز من رموز السلطة السياسية لمملكة ما ولا يتم ذلك إلا بإشراف ملكي، فالعثور على هذا القالب في مبنى كبير شيّد من اللبِن مكون من عدة غرف وساحة مبلطة بالمرمر، اعتبره علماء الآثار بأنه قصر ملكي، يدعونا أيضا إلى اعتبار مليحة المركز السياسي لمملكة عُمان أو على الأقل أحد مراكزها الاستراتيجية بالإضافة إلى ميناءي دبا والدور (Mouton & Schiettecatte 2014 : 47-65).
يوجد لدينا اليوم دليل تاريخي آخر لوجود مملكة عُمان وعلاقاتها مع جنوب-غربي جزيرة العرب بفضل نقش آخر غير منشور من القرن الثالث ق.م. عثرت عليه البعثة الفرنسية عام 2017 في مواقع آبار حمى في واحة نجران (المملكة العربية السعودية)، يشير النقش إلى أن مملكة عُمان كانت تقيم علاقات تجارية/دبلوماسية مع مملكة نجران التي كانت تحت سيطرة قبيلة أمير العربية. ها هو مضمون النقش الجديد “نحاس ذو آل عُمان زار وحلّ عند أبي يثع غيلان وقبيلته”. الجدير بالذكر هنا أن (أبي يثع) المذكور هنا هو معروف جيدا في النقوش العربية الجنوبية التي وصلتنا من وادي الشظيف (اليمن) (Kortler 6a، 6b) ومن نجران (Ja 1012m، 1013j) ومن قرية الفاو (F/4923) حيث حكم ابنه في حوالي القرن الثاني ق.م. (Said 2018 : 404-411)، وهو مذكور أيضا على عملات عثر عليها في قرية الفاو (F1/466، F9/114) والجرهاء ومليحة (Macdonald 2010 : 409-413).
يمكننا اليوم ربط زيارة أحد أعيان عُمان إلى ملك نجران أبي يثع بوجود عملات تحمل نفس الاسم في مليحة وقرية الفاو وشرقي جزيرة العرب خاصة في موقع الجرهاء في الهفوف التي وصلنا منها عشرات النقوش باللغة العربية الحسائية (Said 2019) ومجموعة غنية من النقود التي يحتوي بعضها على الاسم أبي يثع، من ناحية أخرى نعرف بأن (وهب ذو سماوي) ابن أبي يثع حكم في الفاو على رأس مملكة تضم قبيلتي نجران الرئيستين وهما أمير ومهأمر وقبيلة ذكير التي كانت على ما يبدو في قرية الفاو في حوالي القرن الثاني ق.م. (Said 2018 : 11-20).
بعد هزيمة السلالة السلوقية على يد الرومان عام 188 ق.م.، سيطر الرومان تدريجيا على الشرق الأدنى ومصر ولم يتوانوا بمتابعة نفس سياسة اليونان بالسيطرة على طرق التجارة البرية والبحرية وخاصة طريق القوافل الذي يربط أرض اللبان في جنوب جزيرة العرب (ظفار وحضرموت) مع الهند والبحر الأحمر وسواحل شرق المتوسط ومصر. وضمن هذه السياسة التوسعية أرسل أغسطس حاكم مصر حملة عسكرية بقيادة أليوس جالوس وبالتعاون مع دليل نبطي وبمشاركة جنود أنباط ويهود (26-25 ق.م.) إلى ممالك جنوب جزيرة العرب المعروفة بالعربية السعيدة وذلك للسيطرة على طريق قوافل البخور (عربش وشيتيكات 2020). بالرغم من وصول الحملة إلى أراضي ممالك معين وسبأ وقتبان دون النجاح بالوصول إلى أرض اللبان في حضرموت، ولكنها لم تنجح عسكريا، فلقي عدد كبير من الجنود حتفهم بسبب الحر والعطش والمرض بالإضافة إلى صمود مأرب عاصمة سبأ أمام الحملة الرومانية التي تم حصارها مدة ستة أيام وفكه بسبب فقدان مياه الشرب. ولكن بفضل هذه الحملة التي نقل تفاصيلها الكتاب اليونان والرومان -سترابو وبليني الأكبر وكتاب الطواف وبطليموس، إلخ – بدأت التجارة البحرية في البحر الأحمر تحل تدريجيا محل القوافل التي كانت تعبر جزيرة العرب محملة باللبان والبخور والمرّ.
الجدير بالذكر هنا أن مؤلفات الجغرافيين الكلاسيكيين لهذه الفترة (القرن الأول-الثالث الميلادي) مصدر مهم أيضا في كتابة تاريخ جزيرة العرب وشرقها بشكل خاص من خلال ذكر أسماء الأماكن والملوك وأيضا الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها وخاصة تجارة اللبان. فيذكر مثلا بليني الأكبر مناطق وجود شجرة البخور وكيفية استخراجه واستخداماته في حضرموت (وميناؤها قانا)، وظفار في عُمان التي تذكر لأول مرة في المصادر اليونانية (وميناؤها Moscha) موسكا (خور روري حاليا، سمهرم قديمًا). كما يصف كتاب الطواف حول البحر الأريتري أيضا أرض ظفار منتجة اللبان وكيف كان ينقل عن طريق ميناء قانا إلى أرض “عُمانا” عبر خليج عُمان ومينائه Moscha (خور روري حاليًا). ويذكر كتاب الطواف أيضًا جزيرة مصيرة (Sarapis) بأنّ سكانها كانوا عربا، ثم ينتقل إلى شمال شبه جزيرة عُمان عند مدخل الخليج العربي حيث يوجد سوق “عُمانا” (كتاب الطواف، ص 51-54)، وإلى خليج “عُمانا” يشير بطليموس في القرن الثاني للميلاد بأنه كان موطن العُمانيين.
كانت العلاقات بين فارس الفارثية والسلوقيين في نزاع دائم في بلاد الرافدين حيث انفصلت سلالة أرساكيس عن السلطة الفارثية عام 250 ق.م. وفي أواسط القرن الأول ق.م. أصبحت ستيفون على ضفة نهر دجلة الغربي عاصمة الفارثيين وأدت الحروب الرومانية المتتالية ضد السلوقيين والفارثيين في بلاد الشام والرافدين إلى إضعاف السلوقيين مما دفع أردشير الأول (224-241 م) إلى قتل الملك الفارثي أرتبانوس الرابع وصعود السلالة الساسانية للحكم في فارس واتخاذ ستيفون عاصمة لها في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي.
شرق جزيرة العرب وعُمان خلال العصر الساساني (224-651 م)
زعزع وصول السلالة الساسانية الكيانات السياسية في شرق جزيرة العرب وفي شبه جزيرة عُمان بشكل خاص. إذ شنّ أردشير الأول حملة على إقليم البحرين وعُمان وعين ابنه شابور حاكما على البحرين وبنى الخط، وتابع ابنه شابور نفس السياسة التوسعية فقام بحملة عسكرية على جنوب الخليج العربي وبنى الحيرة جنوب العراق التي أصبحت عاصمة اللخميين (المناذرة) وأول ملوكها عمر بن عدي حليف الفرس، فكان بنو لخم أوصياء على قبائل شرق جزيرة العرب يدفعون الضرائب كما هو الحال عند الغساسنة حلفاء بيزنطة. وفي عام 309 م تزعزت السلطة الفارسية عند وفاة هرمز الثاني وفراغ العرش بانتظار شابور الملقب بذي الأكتاف الذي كان طفلًا، طمح امرؤ القيس بتوحيد العرب وإنشاء دولة عربية فشجع قبائل شرقي جزيرة العرب في إقليم البحرين -عبدالقيس وبني بكر بن وائل من ربيعة وتميم- للهجوم على سواحل فارس فعبروا الخليج بالسفن إلى سواحل أردشير وغلبوا على أهل فارس. ولما ترعرع ذو الأكتاف وبلغ ١٦ عاما شرع إلى استرجاع حدود إمبراطورية أسلافه فأرسل جيوشه إلى البحرين يقتل أهلها ثم ورد مدينة هجر فيها أعراب تميم وبكر بن وائل وعبدالقيس وسفك دماءهم، ثم عطف إلى بلاد عبدالقيس فأباد أهلها، ثم أتى اليمامة فقتل من وجد فيها من العرب (تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير). من ناحية أخرى، أظهرت الحفريات في مواقع في شبه جزيرة عُمان في مليحة طبقات الرماد نتيجة حرق المدينة ودمارها وأيضًا موقع الدور الذي تعرّض للدمار في القرن الثالث الميلادي في عهد أردشير الأول (Mouton & Schiettecatte 2014 : 98)، وإلى هذا العصر يعود تاريخ هجران عدد من المواقع الرئيسة في شرق جزيرة العرب التي كانت مراكز ممالك كالجرهاء ومليحة والدور والبحرين (القرن الثالث-الرابع الميلادي) (صراي 2005). وإلى هذه الفترة أيضًا يعود أفول دور ميناء خور روري/ ظفار في تجارة اللبان تدريجيا كما هو الحال في موقع قرية الفاو التي هجرت أيضًا في حوالي القرن الرابع للميلاد .
وهكذا أصبحت قبائل شرق جزيرة العرب وأبرزها عبدالقيس تحت سلطة ملوك لخم (مملكة تنوخ) التي كانت حليفة فارس حتى ظهور الإسلام. وهذا ما يؤكده اليوم نقش جديد مؤرخ عام 474 م تم العثور عليه في موقع مأسل الجمح شرقي الرياض من عهد الملك الحِميَري شرحبيل يكف (474 م) يذكر حملة عسكرية في ارض فارس ضد ملك تنوخ عمر بن الأسود وحلفائه قبائل عبدالقيس وإياد في مدن الخط في أرض فارس (Prioletta & Arbach 2016). بمعنى آخر تنافست إمبراطوريتا فارس وبيزنطة على جذب القبائل العربية المحاذية لحدودها غسان في بلاد الشام ولخم في العراق، وأما مملكة حِميَر فكانت مسيطرة على قبائل أواسط جزيرة العرب عندما قام ملوكها في القرن الرابع الميلادي بإضافتهم اللقب الملكي “ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعراب طود وتهامة”، فأوصت ملوك كندة على قبائل أواسط جزيرة العرب أهمها معد وطيئ، إلخ.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن حول حوادث القرنين الثالث والرابع عند وصول ساسان الفرس للعرش وحملاتهم العسكرية ضد مدن وإمارات شرق جزيرة العرب: أين قبيلة الأزد الغائبة تمامًا في المصادر العربية والنقشية في هذه الأحداث التاريخية المهمة وما هي ماهية وحقيقة الدور الذي أعطي إليها في طرد الفرس من شبه جزيرة عُمان؟ وفي أي عصر بالتحديد؟
إذا اعتمدنا على المصادر المباشرة كالنقوش الآرامية والعربية الحسائية من الجرهاء أو الفارسية والمنقولة إلى العربية التي بين أيدينا اليوم (الطبري بشكل خاص)، فلا يوجد أي ذكر لقبيلة الأزد/ الأسد في أحداث الإمبراطورية الساسانية ودورها في شرقي جزيرة العرب (القرن الثالث- السادس م)، وكما ذكرنا أعلاه كان شرق جزيرة العرب تحت المظلة الفارسية وبوصاية المناذرة وذلك حتى ظهور الإسلام وسقوط فارس عام 651 م على يد الفاتحين المسلمين.
تتفق المصادر العربية وبشكل خاص المصادر العُمانية على أنه في القرن السادس الميلادي كانت فارس مسيطرة على سواحل شبه جزيرة عُمان وأما المناطق الداخلية فكانت تحت حكم آل الجلندى الذين ينحدرون من الأزد (البرطمانية 2015)، ونفس الأمر فإن الفرس تدخلوا في اليمن في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي عند انهيار مملكة حِميَر تحت حكم أبرهة الحبشي حوالي 565 م.
تبقى لدينا فرضية طرد الفارثيين أي الفرس من شرق جزيرة العرب وقت ضعفهم في القرنين الأول والثاني للميلاد بسبب صراعاتهم مع السلوقيين في بلاد الرافدين والسكوثيين في الشمال وملوك الطوائف التي زعزعت فارس قبيل وصول السلالة الساسانية في عهد أردشير الأول (224-241 م). من المعروف بأن تأثير الفارثيين في شرق جزيرة العرب في العصر الهلستيني السلوقي كان شبه معدوم. وأما تأثيرهم خلال سيطرتهم على الشرق الأدنى (القرن السادس- الرابع ق.م.) فكل ما نعرفه بأن مجان/ مكا (عُمان حاليًا) كانت ضمن الأمم التي دخلت تحت المظلة الفارسية ولا يوجد أي دليل نصي لوجود الفرس في شبه جزيرة عُمان في هذه الفترة، وبدون شك لم تتوقف العلاقات التجارية بين شطي مضيق هرمز طوال هذه العصور، وتوجد تأثيرات مادية وصلت من غرب إيران والبحرين في العصر الحديدي منها أنواع من الفخار ورؤوس السهام (الجهوري 2021، ص 51-54).
لكل هذه الأسباب مجتمعة، من الصعب اليوم القبول بفكرة طرد الفرس من عُمان في الوقت الذي وصل فيه الفرس الساسانيون إلى شرق جزيرة العرب وثبتوا سيطرتهم من خلال الحملات العسكرية المتتالية التي أنهت وجود ممالك عُمان والجرهاء والبحرين وغيرت خريطة الخليج العربي في القرنين الثالث والرابع للميلاد.
وإذا تتبعنا في المصادر العربية في تاريخ ملوك بنو لخم في الحيرة فإن جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم الأزدي الشخصية التاريخية (180-267 م) – ورد اسمه في نقش أم الجمال حيث يذكر “هذا شاهد قبر فهر بن ساري قائد جذيمة ملك تنوخ” من القرن الثالث الميلادي تقريبا- كان على ما يظهر من أوائل ملوك الحيرة (العوتبي، ج2، ص 724-729)، وكما ذكرنا أعلاه فإن ملوك الحيرة كانوا حلفاء فارس وأوصياء على قبائل العرب خاصة في شرقي جزيرة العرب، وتذكر نفس المصادر بأن مالك بن فهم (120-207 م) قد حكم أيضا في بادية العراق وسورية (ابن الكلبي، الطبري، المسعودي، إلخ). ولكن المصادر العُمانية وأقدمها العوتبي في كتابه الأنساب (440-512 هـ/ 1049-1119 م) تعطي رواية أخرى لقصة مالك بن فهم الأزدي ووصوله إلى عُمان من اليمن وطرده الفرس (العوتبي، الأنساب، ج2، ص 678-693)، وقد تبعه في ذلك كل الإخباريين والمؤرخين العُمانيين (السالمي، السيابي، الهنائي، الإزكوي، إلخ).
لن نتطرق بالتفصيل لهذه الملحمة فقد قام الباحث حمد صراي بدراسة نقدية شاملة حلل فيها المصادر وإشكالات الأحداث وسياقها التاريخي والجغرافي (صراي 2015: 109-162). وكما سنرى لاحقا فإن النقوش التاريخية لقبيلة الأزد/الأسد (القرن الأول-الرابع للميلاد) من الصعب مطابقة مضمونها مع أحداث ملحمة مالك بن فهم التي تناقلتها المصادر العُمانية.
قبيلة الأزد في النقوش
العربية الجنوبية
قبيلة الأزد -في اللغة السبئية “أسدن/ أسد/ الأسد” وفي العربية الأزد/الأسد– غنية عن التعريف فهي مذكورة منذ القرون الأولى الميلادية في النقوش السبئية والحضرمية وفي المصادر العربية. إنّ أقدم ذكر لهذه القبيلة موجود في نقش سبئي (YM 10703) من وادي الشظيف في اليمن –بين وادي الجوف وواحة نجران– صاحبه نفّذ مهمة (غير محددة في النقش) في أرض الأزد. وآخر ذكر لها موجود في النقش السبئي الموسوم (ʿAbadān 1/16) والمؤرخ في 360 الميلادي. يذكر هذا النقش الأخير فصيلتين من الأسد وهما “صديان ورسن” قد هزمهما الملك الحِميَري ثأران ينعم في عسير تهامة.
لدينا اليوم دليل مهم على موطن قبيلة الأسد من خلال النقش السبئي (جام 635) من معبد أوام في مأرب، حيث ورد ذكر الحرب التي قادتها قوات شاعر أوتار ملك سبأ وذو ريدان ضد ملك كندة وقحطان وسكان قرية ذات كهل (قرية الفاو حاليا) (215-220 م). دارت المعركة “على حدود منطقة الأسد، عند نقطة العبور عند بئري ذي الثمال” التي يمكن تحديدها على بعد 51 كم شرقي بيشة، أو في وادي ثمالة، 31 كم جنوب شرقي الطائف، ومن غير المرجح أن تكون قوات السبئيين قد انخرطت في قتال ضد الكنديين وسكان قرية الفاو على هذه المسافة البعيدة من الموقع.
يمكننا اليوم تحديد منازل قبيلة الأسد/الأزد إلى الغرب من بيشة في منطقة عسير، في المرتفعات الجنوبية- الغربية من المملكة العربية السعودية حاليا، على امتداد منطقتي الباحة وعسير حاليا. وربما كانت أراضيهم هي نفسها التي كانت تابعة لقبيلة “أزد سراة” قبيل الإسلام، التي تمتد من بيشة إلى سواحل تهامة وحدودها جنوبا موقع النماص تقريبًا ومن الشمال هو مدينة الباحة حاليا (Strenziok 1960). ومن الجدير بالذكر هنا أن ابن الكلبي قد ذكر أن “ذو الخلاصة” كان أحد آلهة أزد سراة قبل الإسلام ومعبده في تبالة الذي يبعد حوالي 40 كم غرب بيشة و 75 كم جنوب- غرب الثمالة، (انظر كتاب الأصنام).
لقد ظهرت قبيلة الأسد/ الأزد في القرن الثالث الميلادي كمملكة مستقلة يحكمها ملك، ولعبت دورًا مهمًا على الساحة السياسية لممالك جنوب شبه الجزيرة العربية. وقد تم العثور في موقع العقلة بالقرب من شبوة عاصمة مملكة حضرموت قديما، في المكان الذي كان يتم فيه حفل تتويج ملوك حضرموت في القرن الثالث الميلادي، على ثلاثة نقوش تشير إلى وجود الأسديين في حضرموت. ومن بين هذه النقوش يعتبر النقش جام 957 ذا أهمية خاصة لأن صاحبه “عمر بن عوف الأسدي”، ويذكر النقش أيضا يدع إيل بيان ملك حضرموت (حوالي 225 – 255 م) باعتبار أنه “صهره” أو “حليفه بالمصاهرة”. إن التحالف بالمصاهرة بين يدع إيل بيان وإحدى نبيلات قبيلة الأسد، ابنة عمر بن عوف، يكون منطقيًا إذا اعتمدنا على الترجمة التي اقترحتها العالمة الفرنسية جاكلين بيرين لنقش آخر من موقع العقلة يذكر فيه “رب شمس نبيل/من أخيار قبيلة الأسد، ابن يدع إيل بيان ملك حضرموت”. من المحتمل أن يكون هذا النبيل أحد آخر ملوك حضرموت (حوالي 300 م). فالتقارب الوثيق بين قبيلة الأسد العربية وبين القوى الحضرمية واضح ولا شك فيه.
أما فيما يتعلق بالعلاقات بين قبيلة الأسد ومملكة سبأ، فإنها كانت وطيدة، فقد أرسل اليشرح يحضب (الثاني) ملك سبأ وذو ريدان (حوالي 235 – 255م) سفارة “لملوك قبائل غسان والأسد ونزار ومذحج”؛ وبعد ذلك بسنوات قليلة، أرسل نفس الملك اليشرح يحضب وأخوه يأزل بيان بعثة دبلوماسية إلى “ملوك إقليم الشمال، الحارث بن كعب ملك الأسد ومالك بن بدّاء ملك كندة ومذحج والعرب الآخرون”. وفي نفس المرحلة، حوالي 260 للميلاد، أرسل أعيان قبيلة همدان السبئية سفارات إلى الكيانات السياسية المهمة في شبه جزيرة العرب تضم الأسد/الأزد (عربش وشيتيكات 2024).
وفي أوائل القرن الرابع الميلادي أرسل الملك الحميري شمر يهرعش سفارة أخرى إلى مالك بن كعب ملك الأسد (نقش شرف الدين ٣١). وهكذا نعرف اليوم اسم ملكين من قبيلة الأسد وهما: الحارث بن كعب ومالك بن كعب. ومن غير المحتمل أنهما كانا شقيقين لأنه يفصل بين النقشين ما بين 50 و70 سنة.
الجدير بالذكر هنا أن هشام ابن الكلبي في كتابه نسب معد واليمن ذكر نسب مالك بن كعب بن عبد الله بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهنا مالك هو الحفيد الأصغر للحارث بن كعب. إذا كان هذا التسلسل النسبي منطقي ومتناسب زمنيا، ولكن ربطه بمعطيات القرنين الثالث والرابع الميلادي أمر مشكوك فيه.
لقد عززت قبيلة الأسد خلال القرن الثالث الميلادي صداقتها مع مملكة سبأ ومع حليفتها مملكة حضرموت. ولم يدم طويلا هذا التقارب الوثيق بين الأسد/الأزد وسبأ وحضرموت بعد ضم المملكتين الأخيرتين من قبل مملكة حِميَر في عهد شمر يهرعش، إذ أرسل سفارة ناجحة إلى ملك الأسد (٣٠٠-٣١٢ م)، وبعد ستة عقود قام الحميريون واليزنيون حملة عسكرية ضد الفصائل القبلية التابعة إلى قبيلة الأسد عام 360 الميلادي، المذكورة في نقش عبدان (ʿAbadān 1/16). وهذا هو آخر نص تاريخي مباشر لقبيلة الأسد/الأزد . فمنذ هذا التاريخ سكتت النقوش والمصادر التاريخية المباشرة حول قبيلة الأسد/الأزد وغاب ذكرها بشكل كامل. ويرى بعض الباحثين بأنه ليس من المستبعد أن تكون عبارة “سدة عمن” يقصد فيها “أعيان عُمان” مذكورة في نقش حميري مكسور (CIH 596 + 597) من القرن الخامس الميلادي من عهد الملك الحميري مرثد ألان ينف (Gajda 2009 : 213-214).
في الواقع لا نعرف ما إذا كانت قبيلة الأزد/الأسد قد اندمجت ضمن كيانات قبلية عربية أخرى أو هجرت من مكان استيطانها في سراة أزد إلى العراق ثم إلى شبه جزيرة عُمان، ذلك بعد هزيمتها على يد حِميَر في القرن الرابع للميلاد هربا من الخضوع إلى حِميَر، كما هو الحال لقبيلة غسان حيث هجرت من الحجاز إلى بلاد الشام، وهذا ما تسرده كل المصادر العربية ولكن ضمن حوادث نسجها الإخباريون العرب والعُمانيون مرتبطة بانهيار سد مأرب الذي دفع قبيلة الأزد إلى الرحيل من تهامة إلى العراق ثم إلى شبه جزيرة عُمان وذلك بهدف طرد الفرس منها.
نود التذكير هنا بأن هجرة قبيلة الأزد من عسير إلى شرق جزيرة العرب والعراق في وقت ما في القرن الرابع- الخامس الميلادي ليس غريبا ولا مستبعدا، ولكن ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بقصة هجرات القبائل العربية من اليمن ومنها الأزد التي حسب المصادر العربية تبعت انهيار سد مأرب في اليمن القديم، الذي نؤرخه اليوم في أواسط القرن السادس الميلادي، أي قبيل الإسلام، في الوقت الذي كانت فيه حمير تتنازع مع فارس للسيطرة على شرق جزيرة العرب، وكما ذكرنا أعلاه لم تكن منازل قبيلة الأزد في اليمن بل في عسير تهامة وكان لها علاقات متينة مع مملكتي سبأ وحضرموت في القرن الثالث للميلاد. من ناحية أخرى، أظهرت الحفريات الأثرية في موقع قلهات، المدينة الساحلية التي خيم فيها مالك بن فهم الأزدي مع قواته تأهبًا لمواجهة جيوش فارس (العوتبي، ج2، ص 678-693 — Amaldi 2015 : 11-20 ; 2017)، بأن هذه المدينة الإسلامية لا يوجد لها أي أثر قبل الإسلام، فأقدم ذكر لها في المصادر العربية يعود إلى القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي (Rougeulle 2023)، وهذا يزيد الغموض والشك حول مصداقية أحداث ملحمة مالك بن فهم وطرده الفرس من عُمان.
خاتمة
بالرغم من وجود نقوش عربية جنوبية مؤرخة تسدل الستار عن تاريخ قبيلة الأزد وعن منازلها في عسير تهامة (القرن الأول- الرابع الميلادي)، وبالرغم من فقدان الأدلة التاريخية لما تناقلته كتب الأخبار حول ملحمة مالك بن فهم البطولية في طرد الفرس من عُمان، يبقى اليوم اسم مالك بن فهم الأزدي راسخًا في ذاكرة تاريخ عُمان قبل الإسلام ورمزًا من رموز الهوية الثقافية والتاريخية في سلطنة عُمان (الخروصي، 2006).