منير الإدريسي
شاعر مغربي
النّغم
إنّي أسمع التشيلُّو.
التشيلُّو ذاته، داخل الورقة البيضاءْ.
النّغم الدافئ
الذي يُرصِّفُ الكلمات
والجُمل.
!
غطاءُ الإبريق يهتزّ
والماء يتحوّل إلى بُخار..
لماذا وحده الشّاعر، من بقي ينظر إلى ذلك كمعجزة؟!.
من يعنيهِ النّظرُ بالقصيدة؟!
مثل نظارة طبيّة تُلقى
إلى كومة قطن
تُتركُ كلمات الشّاعر
هنا،
في بياض الورقة.
الشّاعر
كطائرة شِراعية تلحّنُ أجنحتُها الهواء
الذي يرفعُها
ولا يسمعها فيه أحد.
حنينٌ إلى المنزل
لا أحد يفهمني.
لستُ
من هذا العالم.
أخطأتُ كونًا آخر
أتلمّسه الآن كأعمى
في إنصاتي لموسيقى يوهانس برامس.
أبعد، وأكثر
أتمنى أن أقرأ فلسفة
ترسُم.
رواية تَعزِفُ كجوق سيمفوني.
وشِعرًا كالسكّين
في يد شاعر يقطع خبزًا منتفخًا طازجًا
خرج لتوّه من فرن الوجود.
تاجُ الشّعر
تاج الشِّعر لا يُرى
بينما تاج الملوك ماديٌّ وملموسٌ كالحجر
تاج الملوك أرضيٌّ
بينما تاج الشّعراء سماويٌّ
بقوّة وحشيّة تُنزع تيجان الملوك
لكنّ تاج الشّعر
ينزل
بهدوء
إلى رأس
لا تدّعي شيئا.
في وجه الحياة
في وجه الحياة
كنتُ الشّاعر.
فلسي الصّغير الذي في الجيب
لا يلمعُ أكثر من حذوة حصان في كلمة..
أفتح نافذتي على الشّمس
مُفلسًا، بعينين حالمتين جدًّا.
ظلمة
وحدي في هذا الليل
أشعل عود ثقاب
إثر آخر
لأناور الظلمة
كما لو كانت ثورًا هائجًا.
الكآبة
عدوى كلب أسود
رضع من خيبات مسعورة لها ألف ثدي
تشلُّ الجسد
بنباح في الرُّوح، كلَّ الوقت.
الفراغ
هو كلّ ما هنالك،
ذبابة تائهة منحته أزيزًا ليتكلّم.
بحجر رميتُ النّهر
بحجر رميتُ النّهر
فسمعتُ ذاك الصوت
“صوت ارتطام الحجر بالماء”
للماء فمٌ كلّمني، وبلع الحجر.
أعجوبة
أريد أن أفهم
أريد أن تتوقف الأرض عن الدوران لأفهم
كيف يحدث ذلك
السُّرعة الكبيرة للزّمن
إن تأملنا فيها شعرنا بالبطء.
والبطء الشّديد
إن حدّقنا فيه
داهمتنا الشّيخوخة.
تفسيرٌ غير لغوي
حين أدعسُ نملة سهوًا
يسري في جسدي
نملٌ كثيرٌ
من أسفٍ!.
حادثة
لحظة الاصطدام العنيف
تناوب الكونُ معي
مقود السيّارة.
في فسحة الليل
دارت الأضواء والسّنواتُ حولي
…..
انزلقتُ
إلى عُمق المجرّة.
الجبل
يبدو واقفًا أبدًا
لقد نهضَ قبل حقبٍ عديدة
ونسيَ كيف يمشي.
ضد الجاذبية
الزّمن
خطف منّي
كلّ شيء
إلآّ الصوت، والنّظرة..
بالمقابل منحني تذكارات تبرّرُ العدمية.
الألم ذاك الشّيء العرضي
من هذه الكينونة.
أما الشِّعر فقد كان ضروريًّا
مثل النّبيذ
لتخفّ القدمان
وأتحرّر من جاذبية أرض كهذه
تُنهي سريعًا نزهة مظليّين.
ذهب النجوم
في السّهل المنبسط
كأبعد نقطة من هذا العالم أستلقي، حرًّا…
مُواجهاً السُّحب.
عند رأسي صفصافة وحيدة
وقبعتي حذاء كاحلي مَرميّة على العُشبِ في الشّمس.
أغمض عينيّ.
النّهارُ صيفيٌّ؛ يُبقي الدّيمومة تحت جفنيّ
أسترخي فتدهشني خفّتي.
ثم فجأة، ها هي الأرض تصعدُ بي
لتهبط الشّمس الباردة
إلى مستوى قدميّ؛
تهبطُ
فأصعد، مع الصّفصافةِ وقبعتي
نحو النّجوم.
عند الحافّة
أقف عند حافّة الجرف الصّخري
فاتحا ذراعيّ لريّاح البحر
للدلافين والحيتان التي كثّفها حولي الهواء المالح
وهي تخبط بزعانفها القويّة
فيما تخفق ياقتي، ويجري القميصُ
بهبوب ضحكات قراصنة
شرّيرة.
عند حافّة الجرف، أقفُ.
مُهتاجًا بهذا العلوّ، أحتجُّ بصفيري ضدّ أُمَمٍ وذهبِ قبابٍ عظيمة تحت الشّمس..
أصفّرُ، وأصفّرُ..
ولا أسمع غير جواب أزليٍّ يلطمُ
بصوتِ
الرِّيح.
هذا الآخرُ
أكتبُ: مكعّب ثلج
فينزلق عن بياض الورقة
بحرارة الشّمس.
أكتبُ: أشجارًا
فتُبعثرني ريحٌ.
وقبل أن أرفع يدي
تَدهس فكرتي المتردِّدَةُ
جُملةٌ مُتعجِّلةٌ، بأنفٍ طويلٍ للكذبِ
آتية على عجلة سِرْكْ.
من أرسلها
ببيجامة وطاقية نوم طويلة؟!
مُسرنمةً، فاردة ذراعيها كسلك غسيل بعصافير مزقزقة؟!.
أحملق في النّص وأتعجّبُ.
أنهض، قبالة النّافذةِ مشدوهًا
أطقطق أصابعي غير مصدِّق،
من كتب بيدي للتوّ
واضعًا ساعده المموّهَ كساعدي، على الورقة؟!.
العودة بعد قراءة برنار نويل
يا له من فحش!، أمسى الغروب ذهبًا على طاولة غابة هيلتون
قليلا يُبرّدها، ويعتِّمُها اللّيل.
صفحاتٌ هنا قلّبتُ، مسحتِ الزّمن كممحاة.
مذعنًا أنهضُ
طاويًا الكتاب.
وأنا أخطو عائدًا إلى البيت بين أشجار سامقة تحت قبة النُّجوم المتزحزحةِ فوق،
لم أكن الشّخص نفسه…
كنت آخر
أطول بالسّنوات الضوئيّة
وأخفّ من جملة.
تعيد خلقنا الكتب
على صورة الله.
ضوء النافذة
أستيقظُ
ملء الضوء الذي يسقط على ملاءة السّرير كقذيفة نهار مُشمس
لا تكسر الزّجاج، ولا تحدث صوتًا.
أيضا،
جهة طاولة الكتابة
بُعيد الظهيرة
يندلق إبريق الضوء فجأة
على ورقتي ويديّ
قبل أن يكتمل النّص.
نافذة واحدة فقط، تكفي
لتقفز الغبطة
بحبل الضوء كالطّفلة..
في هذه الغرفة.
في السُّكون
في السُّكون
يمكن سماع اللون اﻷبيض للجدار.
لمسُ الصمت
صلدًا في حصاة ملساء.
في السُّكون فقط،
يحلُّ المساء كابتسامة الموناليزا
توشوشُ الشجرة
بمعرفة سهلة.
في السُّكون
يمكن لملائكة مرشدة أن تشتدّ كالضوء حولنا
إذ لا شيء يطفئها
سوى الضَّجيج.
المستحمّان في النّهر
رقرقة ميّاه
عند عتبة الفصل الكبير.
رقرقة
بشفاه عديدة
تروي أزهارًا صفراء.
أتى الرّبيع مع طاسات صينية الصُّنع
ونسج الغروب بسقف شجيرات التِّين قبعةَ نُورٍ في خشونةِ ريشة فان خوخ.
تحتها، وضع الأصدقاء كراسيهم
ليلعبوا الداما.
رقرقة مياه مُلهمة
ظللنا نسبح فيها كلّ الوقت
غاطسين أسفل حتى الحصى
حيث تلمسُ يدي يدكِ في البرد.
البرد الذي يسكن العظام
وورق الكتابة.
قذائف
هناك، عند تلك الهضبة
حيث أرسلت قذائف مدفعيّة قبل مائتي سنة أو يزيد
في اتجاه العدوّ
ثمة بيتٌ ريفيّ
محاط بسياج من الزّهور
أطرافُ سقفه من القرميد الأحمر
تحطُّ فوقه العصافير أنّى شاءت
وتطير..
بيتٌ مُتواضع جدًّا
في الرّبيع يُطلِق بتلات الهندباء البيضاء
كالقذائف الخفيفة..
وفي الخريف، في ظلِّ الأشجار يمكن رؤية كل هذه الأوراق السّاقطة
دونَ أسفٍ على شيء.
وهدة في الرّبيع
من مرتفع قلعة رصّت بحجر عتيق، كنا ننظر إلى تلك الوهْدة
عصر ذلك اليوم.
التّاريخ دوّن معركة وقعت هناك.
أسعفتني المخيّلة حولها بالقتلى
ومدافع البارود وهي تطلق سحبًا كثيفة متقطّعة.
الصوتُ المفرقعُ، وصياحُ الرّجال
الخيول واقفة بفرسانها أنيقيِّي الزَيِّ، وفي أحشائها علفُ الرّبيع
المدافع ملتهبة في الشّمس
استخدمت أكثر من مرّة لتقريب ما وراء الجبال، حيث يستلقي المحيط مثل حوت كبير طبعت صورته على معلبات المستعمرين.
البنادق مُسحت بالزّيت، لُمّعت جيّدًا كالأحذية
العشب كان يُقتلعُ بالقذائف
والحوافر
ويتلهّبُ بالشّظايا الطائشة.
والخيول، تلك الأرواح الخيّرة في خيلاء
بحجم كبير، وقوّة عضلات
وجمال يتبرّزُ سماد الحرث..
تحصد وهي مذعورة بمناجل الموت
ثم تُترك خارج التاريخ عظامًا وجماجم مسلوخة بالشّمس..
من مرتفع قلعة كنا نطلُّ مع مدافع بلا وزن وفي ثقل الحديد
إلى تلك الوهدة.
هناك أسفل، حيث هي، منبسطة خضراء، كصدق جملة إنجيليّة..
تتذكّر فقط، مداومة، ودون أن تنسى..
أزهار الرّبيع.
شبحي على الزُّجاج
أرى انعكاسي على زجاج النّافذة البارد.
ربما يحدث هذا دون انتباه من أحد:
كون مواز آخر يمرُّ بهدوء
لا يجلّيه سوى الزّجاج.
يمرُّ كما لو كان الزّجاج سكّته
دون أن يحطّم شيئًا
دون رعب، ولا كوارث.
في امتياز الزّجاج
أبدو أأمن من هذه الضّفة الخطرة
حيث تثبت قدماي
أبدو
شبحًا من ضوء، منيعًا لا يُلمس
بسترة مزرّرة، جبهة باردة
وعينين مفتوحتين لا تنظران.
بلا برد الوحدة، ودون تنفّس..
بصدر يتّسع لسماء في عمقِ الليل، ولزقاق مُعتم دحرج فيه سكِّير قنينته الفارغة.
حين أتنحى جانبًا، يدخل الجدارَ الشّبحُ
يتجوّل فيه، جلّ الوقت..
ثم، ومرة أخرى، ما إن أضع الكأس الشفّافة أمامي على مفرش المائدة
حتى يُبدي الزَّيفُ في تسلية الزُّجاج
وزن بُعدٍ متواز آخر، لا يُمانع حسب السّائل في الضوء
من الاصفرار.
في سماء أخرى
في سماء أخرى
حلمتُ أنّي أقودُ طائرةً في الجوِّ.
حين استفقتُ
شعورٌ بالفرح كان ما يزال يجري في دمي كالكحول المُخفّفِ.
كنتُ أرتجفُ..
من أين لي بهذه الأحاسيس المثيرة
كيف أمكنها أن تُشكّلَ طائرة أيرباص
بمعدن لامع، معدن من البرد
انعكس عليه ضوء الشّمس بصدقٍ عجيب!.
كنت والطائرة والشّمس والبرد
أحاسيس فحسب.
ليت الوجود نشوة كهذه
من حُلمِ إله، ذهب إلى النّوم سعيدًا..!.
انخطاف
أيتها الدرّاجة النّارية الكبيرة
أيتها الخوذة اللاّمعة.
أيها السّهل الذي أخترق سريره
وأشقّه إلى نصفين،
أيها المطر الذي يسيل على زجاج خوذتي
ثمّ أيتها السُّرعة؛
امنحيني النِّسيان.
مخاطرة
سأمرُّ
في المسار الملتفِّ
سأرفعُ نفسي بالدرّاجة الكبيرة
مخاطرًا بالحياة
مُسرّعًا الزّمنَ والمسافة مُصيّرهما بُخارًا
سأمرُّ كالبرق
كي يتّسعَ في نفسي وهجُ هذا النّهار الخطر
إني أمرُّ
مُنخطفًا إلى الخفّةِ في اللحظة
لا ماض ولا مستقبل ولا ضغط على المكابح.
ملقيًّا بخوذتي في النّهايةِ
كنقطة
من هذه القصيدة
أو،
مُنْهيًا هذه القصيدة
بخوذة.
سنت
عثرتُ على سنت صغير
في طريقي؛
التقطتُه.
لا يشتري السِّنت البلجيكيُّ خبزًا لأنّه يعود إلى مائة عام
وضعت الرّأس الملكيّة الخفيفة
في جيبي، ومضيت.
السنونوات كانت تحلّق في تلك الساحة الفارغة
بصوت حاد
في مساء أحد خفيفٍ كهذا السِّنت.
عند مسلكٍ مُظلّلٍ بشجر غامق
حيث تهوي البلاطات في عتمةٍ واسعةٍ
لوى نظري فجأة، ضوء أحمر لسيارة إسعاف تسرعُ
فانتبهتُ:
ألم تمُرّ، -مثل نفخة ساكسفون في عظامي-
سنوات العمر، خفيفة بلا وزن
كهذا السِّنت أيضا؟!.
ضدّ الموسيقى!
من أجل التنزّه، ربطتُ إبزيميَّ.
عند بوابة الظلال
اعترضتني موسيقى مزعجة من حفلة Mawazine الصّاخبة.
جمهورٌ كفَوَران الشامبانيا
وفتياتٌ مستعدات ليخلعنَ ملابسهن للصوتِ الأجش.
موسيقى صلدة على أوتار قيثارات من الجحيم
لا فنّ في لسانها المشتعل.
قلتُ أمشي، أكملُ طريقة عيش فنّي الصامت
أمشي، إلى أن يهدأ ما حولي في طريق بين شجرٍ
يلطّف المزاج ويحتفي بالظلِّ.
مُفلسٌ وقابض على وهمي المحفّز
أمشي…
في متعةِ صندلي الجلديِّ الخفيف.
ممسكًا علبة مشروب غازيّ
أضغط عليها –حين تَفرغُ- بأصابعي التي تكتب
يُعجبني صوتُ انبعاجها
لا يُحدِثُ ضجيجا فارغا أبدًا..
مُطَمئنٌ جدًّا كطقطقة الحطب في النّار
أو كخشخشة الورقِ السّاقط في هذا المسلك المؤدّي إلى زوبعة أشجار.
ذبابة
ثمة ذبابة مزعجةٌ جدًّا
حين أقرأ المسودّة تطنُّ في أذني
تحط على أنفي
جبهتي، ساعدي
ويدي.
أحيانًا تؤرق ليلي..
بعد تفكير مجهد
أفتح لها في الجملةِ نافذةً على تيّار الهواء..
لأيّامٍ أزّت محتجزة في الورقة.
وفي كل مرّة، كانت تنفذ عبر القراءة
لتلوث ذهني
باللّعنة.
هزل الأرق
يأخذني الأرق
في متاهة الذِّهن
أرقٌ مُداوِمٌ.
في كلّ مرّةٍ تتركّبُ وساوسي في نفس الصورةِ:
رجل بلباس من صفائح
ودرع حديدي
ورمح
بلا معركة وشيكة
أو نهاية معركة
فقط هكذا، عليه أن يسوق درّاجة هوائية إلى أعلى الهضبة
وبكلّ هذا الثقل على صابونة الرّكبة المتوعكة
تحرّكُ القدمان الدوّاستين
والعينان بالكاد تريان
من خلال الخوذة، عدوًّا وهميًّا.
أخيرًا،
تُسدّدُ نحوهُ الضربةُ التي –حتّى الفجر- لن تصل.