ترجمة: محمد قنور
كاتب مغربي
من كينيا، صعد قمر نغوغي منذ ما يزيد على نصف قرن من الكتابة، وما زال يسطع في أمريكا. يكتب عن الحياة ما بعد الاستعمار وأهوال السجون والأصولية وقمع الفقراء والعنصرية والطبقة العاملة والآثار السلبية لليبرالية الجديدة والمنفى، فتلهمه جذوره، لينتقد ويُنظّر ويعالج القضايا الإنسانية الشائكة، خصوصا تلك التي خلّفها الاستعمار، بالكتابة الإبداعية المتأنية، قائلا: “القصص مثل طعام يفقِدُ نكهته عند طهيه بسرعة”. وُلد جيمس نغوغي وا ثيونغو سنة 1938 في كاميريتو بكينيا، وبدأ مسيرته الدراسية في بلدة كيكويو المجاورة. حصل على منحة دراسية في جامعة ماكيريري في كمبالا عاصمة أوغندا سنة 1959. ثم درَس في جامعة ليدز، بريطانيا (1964-1967). وعاد إلى بلده، ليصير أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة نيروبي، وفي جعبته مسرحيات وروايات ومقالات صحفية منشورة. وهناك واصل مسيرته، إلى أن تعرض للسجن بسبب تحوله للكتابة بلغته الأصلية (الكيكويو)، ثم التهديد بالسلاح والمنفى في بريطانيا وأمريكا. حيث سيحمل لقب (صاحب الحرب الورقية)، الذي صار مادة مهمة في مناهج أدب ما بعد الاستعمار، وهو الذي يقول “لا يمكن فصل الفن عن السياسة”. هنا آخر حوار لنغوغي، الذي احتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين في 05 يناير الماضي، مع الكاتبة الزامبية الأمريكية نموالي سيربل.
* هل تهتم بوضع عناوين لرواياتك؟
– المضحك أني أميل لوضع العنوان نفسه لرواياتي في البداية (مصارعة مع إلهٍ)، وخلال الكتابة، أجده غير لائق.
* لماذا هذا العنوان؟
– نشأتُ في وسط يسود فيه كِتاب (العهد القديم)؛ كان الوحيد المتاح والمترجم إلى لغة (الكيكويو). مكنتني مطالعته من رواية تلك القصص الواقعية السحرية لنفسي كلما أردت. وكان امتدادًا لجلسات الحكي التي جرت بين أفراد عشيرتي كل مساء بعد الانتهاء من العمل. تصور يونس في بطن حوت! أو دانيال في جُب الأُسُود، أو صوت مزمار داوود ليهوّن على طالوت اكتئابه، ويعقوب يصارع ملاكا، استحوذت كل هذه المشاهد على ذهني. مؤخرا، أعدتُ قراءة كتاب وليام بليك “زواج الجنة والجحيم”. ولطالما أثارت اهتمامي فكرة الصراع البشري ضد قوة عظمى. وقد غُرست بداخلي أكثر، عندما قرأت ماركس وإنجلز.
* إن مسألة حمل السلاح من عدمها بسبب الصراع على السلطة تتداخل في رواياتك.
– عليكِ الأخذ بعين الاعتبار أن نشأتي كانت في بيئة صراع. وأنا طفلٌ، كنت محاطا بجنود بريطانيين وأفارقة وأسرى حرب. كانت بريطانيا الدولة المستوطِنة المستعمرة قوية جدًا، فسيطرت على الجيش والنظام وكل شيء. وكانت انتفاضة (ماو ماو)، التي قادها فلاحون وعمال، وحملت أيضا اسم (جيش الأرض والحرية)، في ذروتها؛ ورفعتْ السلاح ضد المستعمِر سنة 1952، وكان أحدهم أخي، إذ كنا عائلة كبيرة متعددة الزوجات. عشنا مع أربع أمهات وأب واحد، وقد أحببنا بعضنا البعض كثيرًا، لكننا تمزقنا سياسيًا. كان (غود والاس) أخي الأكبر في الجبال يقاتل المستعمِر، واشتغل أخي غير الشقيق (تومبو) مع البريطانيين. في أحد المساءات، قرّرا بالصدفة زيارة شقيق آخر يعملُ في مصنع للأحذية، وحالما التقيا عند الباب، هربا في اتجاهين مختلفين. هرب الأول من الجندي الاستعماري، وفرَّ الآخر معتقدا أن الماو ماو سيقتلونه! كنت محاطًا بهذه القوى المتصارعة، وربما هذا سبب آخر لإعجابي بفكرة المصارعة.
* غالبًا ما تُدخل سيرتك الذاتية وعائلتك في أعمالك. هل هذا أمرٌ تشعر به كمسؤولية؟
– ليس عن قصد. الرواية الثانية التي كتبتها، “لا تبكِ أيها الطفل” مثلا هي سيرة ذاتية وليست كذلك. فللبطل (نغوروج) والدتان فقط بدلًا من أربع. يشبه افتتاح الرواية مشهدًا في مذكراتي الثانية “أحلام في حقبة حرب”، والتي تصفُ والدتي (وانجيكو)، الزوجة الثالثة لأبي. كانت ترسلني إلى المدرسة، وكان حلمها أن أنجح في مدرستي قبل أن يصبح حلمي. أشرفتْ على واجباتي المنزلية، وأدركتُ لاحقًا أنها لا تستطيع القراءة أو الكتابة؛ كانت تلاحظ ما كنت أفعله من خلال طرح الأسئلة. وعندما وقعتُ في مشاكل مع الحكومة، كانت الوحيدة التي لم تحاول إقناعي بالتخلي عن مبادئي، بل كانت تهتم بدوافعي، وظلت داعمة معنوية لي.
* غالبًا ما يظهر إخوتك كذلك في كتبك.
– نعم، لقد كتبت عن أخي غير الشقيق (جيتوغو). كان شابًا قويًا ووسيمًا. لم يكن يسمع ولم يتكلم، بل يستعمل يديه فقط. استشهدَ على أيدي القوات البريطانية عندما داهمت قريتنا. لما عدت إلى البيت من المدرسة، التي كانت تبعد ستة أميال سيرًا، لم أجد طعاما. وكنت خارجا من البيت، عندما سمعت أنا وإحدى أخواتي إطلاقا للنار. ولأن جيتوغو لا يسمع، استمرّ في الجري، عندما أمره البريطانيون بالتوقف، وأطلقوا عليه النار. كما ظهرت أختي (وابيا) في أعمالي بأشكال مختلفة. لم تستطع الرؤية، واستخدمت العصِي للمشي. لم نتوفر على كراسٍ متحركة، فكانت ترتجف، كما لو أنها بلا عظام. كانت تحكي لنا قصصًا قبل النوم معتمدة على ذاكرتها القوية، لذلك عندما يحاول أشقائي تذكُّر أناشيد الكنيسة، كانت لديها الإجابة دائمًا. لقد كانت فنانة ومغنية؛ إنها هوميروس العائلة.
* تكتب في “في بيت المترجم” و”أحلام في حقبة حرب” حول تجربة العنف على أيدي القوات الاستعمارية في كينيا. صفعَكَ جندي شاب على وجهك ذات مرة في المدرسة. ولاحقًا، أُخرِجتَ من الحافلة بالزّي المدرسي واحتُجزت. ما تأثير تلك الوقائع عليك؟
– إنها أحداث لم تبرح ذاكرتي. تلك الصّفعة من شخص، ربما كان في عمري، يحملُ بندقية ويمتلك القوة. وذلك الاعتقال اللّاحق، عندما كنتُ في طريقي إلى جامعة ماكيريري، كان غير عادل. أجرت الشرطة فحصًا للهوية في الحافلة وزعمتْ أني تهرّبتُ من دفع الضرائب، لكني كنت مجرّد طالب، وكانت معي أوراقي الثبوتية. مررتُ من أول تجربة في المحكمة، ووجب علي الدفاع عن نفسي. وأنت صغير، تعتقد أن الكبار لا يكذبون، لكن عندما أدلت الشرطة بإفادتها، كانت افتراء. فحرصتُ على تصحيح السّجل لما طُلب مني الإدلاء بشهادتي، لدرجة أني أردت الصراخ. تذكرت أسلوب النقاش الذي تعلمته في المدرسة الثانوية، وهدأت الأمور قليلا. فأدركت أنه يمكنني الدفاع عن نفسي من خلال طرح الأسئلة على الشرطي، الذي كان يُناقضُ نفسه مرارًا وتكرارًا في الرد، وهكذا تم إطلاق سراحي. لقد أعطتني الحقيقة القوة دائمًا.
* كتبتَ الرواية والمذكرات، أي نوع تفضل لقول الحقيقة؟
– أحب أن أفكر بشكل قصصي أكثر من أي شكل آخر، سواء في الروايات أو المذكرات.
* ماذا عن الدراما؟
– مسرحياتي في الأساس قصص، وأنا لم أكتب مسرحية من فراغ. عندما بدأت في كتابة المسرحيات وأنا طالب، كان ذلك فقط بسبب وجود منافسة بين طلاب أروقة السكن الجامعي. “النهر الفاصل” أول رواية كتبتها خارج تلك المنافسة؛ وقد فعلت ذلك بسبب المال. كانت فكرة تلقي ألف شلن كيني يوميا، ما يعادل خمس دولارات أمريكية، جذّابة للغاية لدرجة أنني اعتقدت أنه يمكنني إنهاء الرواية على الفور. بالطبع، أصبحت أكثر اهتماما بالقصة مع الوقت. لهذا السبب أقول للكاتب الشاب دائمًا، لا تقلق بشأن ما يحفزك على الإبداع. فبمجرد أن تبدأ الكتابة، ستشدُّك إليها.
* كيف تبدأ الرواية بالنسبة إليك؟ هل تخطط لها؟
– لا أخطط. تتشكل الرواية مع مسايرتي لها. عموما، لدي مشاكل مع الافتتاح، ولكن عندما يأتي، فهو يشبه خارطة الطريق. في بعض الأحيان أنطلق من صورة لشخص يمشي، وأحيانا من ذكريات. جاء السطر الأول من “لا تبك أيها الطفل” من حديث عن التعليم لعالم الاجتماع الغاني ك.أ. بوسيا. وكانت بداية “شيطان على الصليب” من خلال “خمسة لصوص”، وهي قصيدة للشاعر الكوري كيم شيها. صادفتُ نصه عندما زرت طوكيو، وسمعت أنه مسجون بسبب كتاباته. قرأت القصيدة التي تصف حزبًا يتفاخر فيه مجموعة من السياسيين الفاسدين بحياتهم الباذخة، واحتفظت بها. لاحقا، قدمت عمله إلى مناهج الأدب في جامعة نيروبي، وتلقيت زيارة من دبلوماسي كوري. جاء إلى مكتبي ليخبرني عن مدى فظاعة كيم شيها. قلت له نحن في كينيا لا نزج بالكُتاب في السجن. بعد فترة وجيزة، صرت سجينا، منهمكا في كتابة “شيطان على الصليب”.
* هل تُظهر مسوداتك لأي شخص؟
– غالبا أقرأ الفقرات بصوت عالٍ. وعموما، لا أشارك الأعمال قيد الإنجاز. ولكن سنة 1962، عرضت على تشينوا أتشيبي مسودة “لا تبك أيها الطفل”. التقيتُ به في مؤتمر الجامعة للكتّاب الأفارقة الأنغلوفونيين. قرأ بعض الصفحات، وأجرى تعديلات. أتذكر استخدامه عبارة “لا تجلد الحصان الميت”، مما يعني أني كنت أميل إلى تفصيل وجهة نظري، وكان ذلك مفيدًا للغاية. لاحقًا، عرض مخطوطتي على ناشر، فقام بنشرها.
* كتبت عن استنباطك لوضعية السود وقمعهم من طرف مؤسسات البِيض من خلال المطالعة. من هم بعض الكتاب الذين أفادوك في هذا الصدد؟
– قرأتُ “النهوض من العبودية” لبوكر واشنطن. لكني، اكتشفت الأدب الأمريكوأفريقي وأدب الكاريبي عندما ذهبت إلى الجامعة. لا أحد ذكرَ هؤلاء الكتاب في قسم اللغة الإنجليزية، باستثناء مدرس مادة التاريخ، دلّني على مفكرين أمثال الترينيدادي سيريل جيمس والبربادوسي جورج لامينغ. لقد وجدت، ومازلت، رواية لامينغ “في معقل بشرتي” متقنة الإبداع، وقد ألهمتني لكتابة روايتي “لا تبك أيها الطفل”. في ليدز، كتبت أطروحتي حول لامينغ، (في سياق السياسة والعبودية والثورة)، حيث كانت مكانا مثيرا للدراسة ومنافِسة قوية لجامعتَي أكسفورد وكامبريدج. كان السكن الجامعي مملوءا بالتجمعات الماركسية، وأتذكر طالبًا كينيًا ذهب إلى فرنسا في عطلة، وعاد بنسخة مهترئة من كتاب “معذبو الأرض”؛ هكذا اكتشفت فرانز فانون. كانت النسخة تنتقل من يد إلى يد بين الطلاب. فتح فانون أعيننا لاستكشاف الطبقية، وجعلنا ندرك الوضع الأفريقي. وتعكس روايتاي “بتلات الدم” و”حبة قمح” أفكاره.
* من حيث البناء، تعتبر “حبة قمح” و”بتلات الدم”، روايتين أساسهما بطل واحد، وهما من أكثر أعمالك المتقنة إبداعيا. لماذا هذا الأسلوب؟
– كانت هاتان الروايتان المبكرتان نتاج تجربتي الدراسية. كنت أقرأ روايات القرن التاسع عشر الواقعية. وكان كل ما قرأته بالإنجليزية، وإن كتبه لامينغ أو أتشيبي. لكن، درستُ كونراد في أطروحة التخرج عند نهاية السنوات الأربع. إنه راوي قصص تقليدي، والطريقة التي كتب بها الروايات من خلال شخص يروي قصة تؤدي إلى آخر، ذكّرتني بشفهية ثقافتي. إذ تتشكلُ العديد من القصص من زمن وأماكن مختلفة انطلاقا من السارد الرئيس.
* هل أدى تأثير كونراد إلى ظهور “حبة قمح”؟ تمتد هذه الرواية لأيام قليلة، لكن تمنحها الارتجاعات الفنية نطاقًا أسطوريًا.
– هذا ممكن، لأني قرأت كتاب كونراد “تحت عيون غربية” وتأثرت به. لم يكن الأمر مقصودا، لكن كان مثيرا اكتشاف كيفية تجميع الإعدادات والأوقات والأصوات المختلفة معًا. عندما تجد طريقة للقيام بذلك، فيمكنك نقل القصة إلى أقاصي الأرض. في “بتلات الدم”، حاولت أن أتقدم بهذه التقنية أكثر؛ فتغطي أربع شخصيات قروية تاريخ كينيا بأكمله. وعندما بدأت أكتب “شيطان على الصليب” في السجن، كنت أستخدم بنيةً أبسط.
* هل كانت بساطة “شيطان على الصليب” و”ماتيغاري” نتاج قرارك بالكتابة بلغة (الكيكويو)؟ بمعنى، أُلزِمتَ ببدء مسارك الأدبي من جديد.
– كانت “ماتيغاري” أكثر متعة، لكن بدا كل شيء في “شيطان على الصليب” صعبًا؛ لأني حاولت أن أتخلص من اعتمادي على الإنجليزية. كانت المشكلة التي واجهتها في السجن: شيطان صغير يرتدي زيا إنجليزيًا، يطلب مني التوقف. لا يوجد قاموس مكتوب في “الكيكويو”، لذلك عانيتُ كثيرا من أجل المفردات؛ فالإمبريالية مثلا لا يوجد لها مقابل. ولهذا، كنت أشعر دائما بإغراء الاستسلام. لكن تحدث معي صوت آخر بلغة الكيكويو ودعاني إلى الاستمرار.
* كيف توصلت إلى قرار كتابة رواية بلغة الكيكويو وأنت في السجن؟
– سُجنتُ بسبب مسرحية كتبتها بالكيكويو مع (نغوغي واميري) سنة 1977، بعنوان “سأتزوج عندما أقرر”. لقد أدهشني حقيقةً استجوابُ الشرطة لي عندما كتبت مسرحيات بالإنجليزية، إلا أني لم أجرب لحظة شديدة القسوة مثل اعتقالي. فأصبحت مسألة اللغة محورية للغاية في تفكيري، حالما سألت نفسي لماذا سجنت؟ آنذاك، كانت هناك حكومة أفريقية، وكان الرئيس متحدثًا كفؤًا بالكيكويو. دار كل هذا في ذهني، وأنا أكتب “شيطان على الصليب”.
* هل شعرت بأن لغة المسرحية أغضبت الحكومة وليس محتواها؟
– في البدء، توقعت الاحتفاء بنا لأننا عرضنا المسرح في القرية، لتصير لكاميروتو مركزا ثقافيا مبتكرا للتربية، يعمل فيه الجميع. فكان الممثلون أعضاء من القرية، وكانت مساهماتهم مهمة في مراجعة المشاهد. لقد سعينا إلى التصدي للاستعمار بالمعرفة والخبرة، وإبراز الأداء نتيجة عمل شاق باتحاد الجميع. وللنجاح، ألزمنا باستعمال لغتنا. صرت في حيرة من أمري بسبب سجني؛ لأني كتبت مسرحيات أخرى كانت تنتقد نظام ما بعد الاستعمار بشكل صريح، ناهيك عن روايات مثل “بتلات الدم”، التي اعتقدت أنها أكثر صرامة. وبالتالي، فكتابة “شيطان على الصليب” بالكيكويو بمثابة مقاومة مقصودة. كما لو أني أقول لنفسي، في هذا السجن سأفعل الشيء نفسه الذي أوصلني إلى هنا، بالرغم من الحراسة الشديدة. وفعلت ذلك باستخدام أقلام وأوراق زودني بها المراقبون! كان معظمهم في حيرة من أمري لدرجة أني أُرسلتُ إلى السجن بسبب الكتابة، وهم افترضوا سببا آخر. كنت أعلم أنهم ممنوعون من إخبارنا بأي شيء عن الخارج، لذلك كنت أستفسرهم عن كلمات لغة الكيكويو فقط. ومن المفارقات أن بعضهم صار معلما لي.
* لطالما كنت مهتمًا بإنهاء استعمار منهج الجامعة. لقد كنت جزءًا من النقاش في جامعة نيروبي سنة 1968، والذي دعا إلى إلغاء اللغة الإنجليزية.
– بدأت نظرية ما بعد الاستعمار وتصفية الاستعمار في نيروبي سنة 1968. كنت أنا وزملائي نستمد تجربة المؤرخ النيجيري (كينيث دايك) والمؤرخ الكيني (بيثويل أوغوت) الذي كان مدرسي في الرياضيات. وكان احتجاجنا: إذا كنت كينيًا، ألا ينبغي أن تكون نيروبي مركز تجربتك عوضا عن لندن؟ غضب بعض الناس لأننا شككنا في أولوية المنهج الإنجليزي. واعتبر البرلمان الكيني أننا نحاول إلغاء شكسبير، وجلْب الشيوعيين من الكاريبي؛ وكانت فكرة ف.س. نايبول شيوعيًا مضحكة! إن الأفكار التي كانت تراودني حول اللغة وأنا سجين بدأت فعليا قبل ذلك. عندما حضرت مؤتمر (بان) الدولي في نيويورك سنة 1966، كانت هناك لجنة برئاسة آرثر ميلر، شارك فيها بابلو نيرودا وإينياتسيو سيلونه. وأتذكر شكوى سيلونه من ندرة الروايات الإيطالية المترجمة إلى الإنجليزية. قائلا: الإيطالية ليست كإحدى لغات (البانتو) بكلمة أو كلمتين فقط في التعبير. كان كلامه لاذعًا. أتذكر وقوفي لتصحيح مغالطته أمام الجمهور؛ كنت مشكاسا جدًا. وحالما عدت إلى ليدز، حيث كنت أكتب “حبة قمح” باللغة الإنجليزية، شعرت أني صرت أثبت أحقية سيلونه؛ فقد أسس ذلك جدالا في ذهني.
* اكتسبت حركة تصفية الاستعمار اعترافا هائلًا في الغرب؛ في هوليوود وفي الصحافة وفي دور النشر وفي الجامعات.
– أتذكر شعوري بالاشمئزاز من أحد كبار المفكرين الأفارقة عندما ظهر “تصفية استعمار العقل”. قال شيئًا مثل: يطلبُ نغوغي من الناس القيادة أثناء النظر في المرآة الخلفية. أتذكر خيانته لرأيه عن غير قصد حول تخلف اللغات الأفريقية. وهو في عمله باللغة الإنجليزية، كان تقدميًا للغاية! مرة أخرى، كنت أدافع عن الكِتاب في مؤتمر لندن، وطرح علي شخص آخر سؤالا بلغة (الزولو)، كان يحاول جعل فكرة التحدث باللغات الأفريقية أمرا سخيفا. لاحقًا، ألهمتني عبارة بليك “أرى العالم في حبة رمل”. فعندما تفكر في تجربتك الخاصة على أنها حبة رمل، يمكنك حينئذٍ رؤية العالم من خلال تلك الحبة، عبر تاريخك أو لغتك الخاصة، سواء أكانت الإنجليزية أو السواحلية. إنه النظام الهرمي الذي أكرهه؛ فلا يتعينُ علينا جعل لغة أعلى مرتبة من الأخرى.
* لماذا تكتب مذكراتك بالإنجليزية ورواياتك بالكيكويو؟
– اعتقدت أن “تصفية استعمار العقل” سيكون آخر أعمالي باللغة الإنجليزية، وبعدها سأكتب بالكيكويو فقط. لكن، شعرت أني أترك النقاش للآخرين، وأسمح لهم بتحديد من أنا؟ كنت أعلم أن الروايات في الكيكويو ستصل إلى المزيد من المتحدثين بها، لكني كنت أيضًا أستاذًا للغة الإنجليزية، وكان علي إثبات أني جزء من النقاش، ومازلت مُنتِجا في اللغة التي أدرِّسها، ولو أني أكتب المذكرات لأولادي ولأحفادي الذين يعيشون في كل أنحاء العالم.
* لقد سمعتك تقول: “إن الاتصال الثقافي مثل الأكسجين”.
– تأتي العبارة من كتاب “خطاب حول الاستعمار” لإيمي سيزير. إنها تدفعني إلى التفكير في تقييمي لشكسبير في اللحظة التي احتضنت فيها جذوري بلغة الكيكويو. عندها أدركت مدى العمق الذي أحدثه شكسبير في تغيير الإنجليزية، وقبل ذلك، لم أكن استوعب إلى أي مدى قد استمتع بنفسه أولا. هكذا أشعر وأنا أكتب بالكيكويو.
* لم تُترجِم “ماتيغاري”، ولكن ترجمها (وانغي واغورو). لماذا؟
– لا أعلم. أعتقد عندما تقوم بترجمة نفسك، تصير كسولًا إلى حد ما. كانت ترجمة واغورو جيدة جدًا.
* هل تعتقد أنك ثنائي اللسان؟
– لا. الكيكويو هي اللغة التي أشعر بها أكثر. أما الإنجليزية فقد اعتدت عليها فقط. وإن كنت لا أستخدم الإنجليزية بالطريقة التي يستخدمها أطفالي، الذين نشأوا هنا (أميركا).
* كيف تعمل مع محرر نصوص الكيكويو؟
– هناك عدد قليل من المتخصصين في الكيكويو، لذا فأنا عادةً الكاتب والمترجم والمحرر في آن واحد. باستثناء عندما كنت أكتب “ساحر الغراب”. أعطيت الترجمة الإنجليزية لإرول ماكدونالد. إنه أفضل محرر عرفته، بالرغم من بطئه في إنهاء العمل، إلا أنه كان دقيقا بشكل مذهل. لقد جعلني أدرك صعوبة الرواية، فقد وضع خطوطا حمراء على صفحات كاملة. وقمت بتطبيق توجيهاته على نسخة الكيكويو الأصلية.
* عِشتَ هنا لمدة ثلاثة عقود.. الآن، هل أنت مواطنٌ أمريكي؟
– لا. لن أتخلى عن جنسيتي الكينية. أحب أمريكا، ويروق لي أن أغلب مجتمعات وأديان العالم تتمثل هنا، أنا معجب بانفتاحها وضوابطها وتوازناتها. لكني لا أحب الإمبريالية الأمريكية، والدور الذي تلعبه في العالم. فمعاملة الأمريكيين من أصل أفريقي هنا والسود ككل تزعجني.
(باريس ريفيو -عدد 240 صيف 2022)