رنا زيد
شاعرة فلسطينية
وأنتَ تزيح ما تركته الأيام على قلبي
تزيح الغائبين والغرباء واللصوص والفخاخ المريرة
تهرب الطيور من بين أصابعك
كأنها الضحك الذي أخفيه لكَ وحدك،
وتلك الأنا التي في داخلي وأتجاهلها
تصير كما الزمان الذي يتوقف
ليجعلني أمشي ببطء،
وأنظر إليكَ ببطء
وأعيد على مسمعك ببطء
أنني أنا التي تأتي إليها الطيور
أنا التي لا تخاف من البحر الفاحم
أنا التي تقسو عليك ببطء ومسرة.
منذ لحظات
وقبل أن ينزاح هذا الركام الذي في رأسي
كنتُ كمن ينتظر أحدًا لن يأتي.
يعلو الآن، وجهكَ من بين هذا الركام
يعلو فوق الطيور والأقفاص
فوق البيوت العابرة التي سكنتها
والتي سأسكنها
كما لو أنه النجاة،
يعلو كما لو كان خفيفًا منقذًا…
فوق ماء
وما وجهكَ إلا السؤال!
وما أنا إلا النطق المتكرر له،
أنتَ يا أنت
أنت يا هذا
أنت يا ذاك
أنت يا كلّ الكلِّ
ويا مجزأ الشغف والذات.
مثل وردة الليل
التي ما فيها غير النار
تحمل في يدكَ شوك الماضي
ثم حين تسهو
أرى من الألم
كم تشتهي أن أراك.
لا أراكَ!
الخطى التي تذهب صوبك
خطى مترددة
فيها لغة منسية من الأسف والبياض
فيها بياض تلال صغيرة
حين البرد والحرب
وشيء لا أذكر بدقة ما هو
لكنْ أستطيع تخمين طعمه في فمي
الخطى الُمرّة كالعلقم…
ليس لأنك جميل حينما تتحدث عن الطيور
ليس لأن الطيور تخرج من صدري كلما فعلتَ
بل لأن يدكَ الخفيفة
التي تشير إلى جهة أول الفجر
لا تهبط كما يجب
بل تهبط بحزن كما خطاي نحوك.
فخمن أننا رأينا غير هذا الذي مرَّ علينا
خمن أننا في الشام
نقص ورق الدالية اليابس
ثم نسهو فنعيد إلى التفاح
الذي كنا سرقناه بالأمس
طعم التعاويذ والنهد.
خمن أن الطائر عاد!
رتب الكلام من جديد
واترك الطائر في سبيله
الليل الطويل بيننا،
في رائحة الشجر.. أنتَ العري
نَسجُ الظهيرة للسكينة على خفة اليد
وأنتَ الكلام المشتهى في مواكب الشعراء
حين الأمس هو انكسار ظلك على يدي
والغد هو غنيمتنا
فتعال من بين الليل والخمر
من بين الخمر والخيل،
أنتَ الأدرى بما يتلوه الرضا
على نفسي،
وأنتَ نفسي.
وصايا المكان الماضي
هي كما الجراح على جسدي
لا أخون الوصايا
لكن أريد فقط لها أن تختفي.
وأنا أردد الوصايا…
أمسكُ بيدي طائرًا جنيًا،
أمسك بيدي يدكَ الباردة
نسمع معًا وقع الخطى…
في اشتداد الحب واللهو،
البحارة لا يعودون إلى هنا،
حيث نحن،
هم لا يعرفون من يُسَيِّرُ الهوى
في مراكب المساء
لنتركهم في أحلامهم
ولنعثر هنا على البحر.
أريد فقط أن أتحرك
من مكان الحنين!
يقول الحنين:
لا تنتظري شيئًا آخر
بعد هذه القصيدة المعلقة كشامة على نهدك
لا تنتظري طيورًا تأتي من وراء الجبال
ولا حريرًا…
ما عليك سوى الإشارة إلى الراعي
هو سيأخذكِ
إلى أول الطريق
الذي اخترته أنتِ…
لكنْ كان يلزمك هذا اليأس
كي لا تنتظري.
أتأتئُ…
لا أعرف كيف تصوغ الكلمات
طريقها في الهدى
لم أتعلم النطق كما ينبغي
غالبًا ما أنطق كلمة أحبُّكَ بالمقلوب
من أقصى الجبال المنحدرة
تلك التي في داخلي
حتى تسقط الكلمة كصخرة
ولأنني كنت أكره أن أكون طرية ومحبوبة
لمّا كنتُ ألعب في الصحراء
بين حقول الذرة وأشباح الجرف
كنتُ أكره أن يبتسم لي أحد
كنت سعيدة في عزلتي
هانئة في وحشتي…
فلا بد أن أضع قلبي
تحت الوسادة قبل النوم
كي لا تتسرب إليه الأغنيات حينما أغفو
فأحبك كما ينبغي أن أحب
أو كما أحب عادةً
بيني وبين قلبي.
الآن،
وأنا أعبر تحت هذه الشمس الباردة
ألمس جلدي الجاف
وكأنني أمضي في درب الآخرين
الذين لم يعبروا
سوى خوفهم بين التلال
خوفهم ممن هم وراءهم
فلم ينتبهوا أن في شجر الزيتون
أنين درب الحزن
ثم لم يألفوا أوراق الربيع الرقيقة، هنا،
الأوراق التي تسقط عليهم
مجردة من رائحة الأنس
الذي كان هناكَ.
من هنا
لا أرى سوى التلاشي
لما كان هناك!
كان هناك، بطّ في حديقة السبكي
قبل سنين بعيدة…
وبطّ في رأسي
وأنا أمضي إلى حديقة السبكي
قبل سنين قريبة
ثم من هنا،
لا أرى إلا الرماد والزنازين.
من هنا
لا أرى سوى المجاز!
ليس علينا أن نقرب المجاز معًا
هو ليس لنا
ليست لنا الطيور على سياج الخوف
لنا فجر آخر
نكون فيه معًا، كما لصوص الأنهر
نبتل ولا نشي بما عليه من مطر
هذا القلب.
اتركْ الخوف إذًا…
وأنتَ تحدثني عن البلاد
عن الجبال وعن اكتمال البرتقال
لا تنسَ أن البلاد حامضة في فمي
لا تنس الملح
ولا تنس أن تترك لي ماء الغواية.
ها نحن هنا.