توفيقة خضور
قاصّة سورية
(1)
قرعت الباب بغضب عكازها، وهي تنادي:
ـ افتح يا سعدان، أين أنت..؟
وقف أمامها وقد سند ظهره نصف الأحدب على خشب الباب المشرع:
ـ ما بك يا خالتي..؟ لماذا تصرخين..؟
ابتلعت ما يمور في فمها من سموم، وسألته بلهجة اتّهام:
ـ أين الحمَل..؟
ارتجّ سكونه بمجداف المفاجأة، قلب شفتيه المسودّتين، وقال بصوت يحاول أن يكون حازمًا:
ـ أيّ حملٍ يا امرأة..؟!
أمسكت بياقة سترته المتسخة، هزته بعنف، وهي تهدر:
ـ غنمتي كانت تحمل توأمين، أتيتني بواحد، فأين الثاني…؟
ضحك ساخرًا، وهو يهمّ بإغلاق الباب في وجهها، دفعته بكلّ قوتها، وزعقت بصوتٍ أجفل عظامه:
ـ أنا داية يا سعدان، ومن نظرة واحدة أعرف ما يخبئه جوف أية حبلى.
ضحك من جديد مستهينًا بمقالتها، حدّقت في عينيه لحظات قبل أن تقول:
ـ سخريتك لن تغير الحقيقة، فغنمتي كانت تحمل اثنين..
قاطعها زاجرًا:
ـ غنمتك لم تلد سوى خروف واحد، ألا يكفي أني حملته لك على يديّ كأنه ابني..؟
تطايرت من عينيها شذرات الغضب، وقالت وهي تهزّ سبابتها الطويلة المتوعدة:
ـ انظر إليّ جيدًا يا سعدان، هذه العجوز الواقفة أمامك تعدك بأن تسحب البساط من تحتك، وترميك في العراء، نعم سأفضحك بين أهل القرية جميعًا، وعندها لن تجد من ترعى أغنامه، وتسرق حملانه..
دفعها خارج الدار، صفق الباب وراءها، وهو يرعد:
ـ روحي بلطي البحر.
وأردف مبربرًا، وهو يتّجه صوب المطبخ:
ـ لو كان في قريتكم اللعينة من يرضى أن يرعى الأغنام، لما احتجتم لي.. ناس أوباش، لا يطمر معهم المعروف.. حتى اسمي استكثروه عليّ، فلا أحد منهم يناديني إلّا سعدان، وكأن سعد سمعان قد مات مذ دخل هذه القرية..
دخل المطبخ، تناول السكين من يد امرأته التي كانت تقطع اللحم، وهو يقول:
ـ دعي اللحم لي، فأنا أستمتع بتقطيعه، وحضّري التبولة فهي خير رفيقةٍ للحم الحملان المشوية.
سألته امرأته:
ـ ماذا تريد تلك العجوز الخرقاء منك..؟
هزّ رأسه يمنة ويسرة، وقال بحسرة تكاد تقلع العين:
ـ تصوّري.. إنها تتهمني بسرقة خروفها..
ويقهقه بضراوة، ويردف:
ـ تقول إنها داية وتعرف أنّ غنمتها تحمل اثنين، تصوّري..!
تعلّقت عيناها على اللحم الغضّ الذي بات جاهزًا للشواء، وهي تقول:
ـ غير معقول.. يا لها من وقحة..
يتابع زوجها: وتناديني سعدان كغيرها من أبناء قريتها، الذين استكثروا عليّ اسمي، ولا أعرف لماذا ألصقوا بي هذا الاسم..
قهقها معًا، بينما عبق المكان برائحة الشواء، واقتحمت بيوت الجيران، فزكمت أنف العجوز هدباء التي ضربت الأرض بعكازها، وزفرت:
ـ اللعين.. يشوي خروفي المسكين، وهو بالكاد فتح عينيه على الحياة، لكنني لن أدعه يهنأ به..
نهضت من فورها، وراحت تخبّ صوب داره بخطوات واثقة، كأنها ما غادرت الثلاثين، رجّت الباب بعنفٍ، رمى اللقمة من فمه، فهرع يستطلع الخبر، فوجئ بها تدفعه بقوة، وتدخل وراءه، وقع بصرها على المائدة التي تلفظ آخر أنفاسها.. رأت خروفها الصغير مبعثرًا أشلاء على المائدة، وكأنها سمعت ثغاءه مستصرخًا، مستنجدًا.. تهدّج صوتها بانكسار، وهي تمسح دمعةً مكابرة، عرّشت على تجاعيدها السمراء بعد تمنّع وعناد..
ـ آه يا صغيري، لم تلحق أن تفرح بالحياة..
وكأنه سمع ندبها، فثغا بصوت طفل غضّ الإهاب، يطلب نجدة أمّه.. تلفّتت حولها بحثًا عن مصدر الصوت، سارت على هديه متتبعةً تردّده كمن يمشي في منامه، وكلما اقتربت من مدار سعدان ازداد الصوت وضوحًا.. وقفت قبالته تمامًا.. أنفاسه الوجلى تلفحها، نظراته القلقة لا تعرف مكانًا تستقر فيه.. أصاخت العجوز السمع لحظاتٍ، صرخت بصوت يقطر دهشةً، استغرابًا، ألمًا:
ـ ربّاه.. الصوت يأتي من بطنه..
وضعت أذنها عليه، تُنصت بكل جوارحها، سمعت حملها يستغيث داخله، جحظ قلبها، ارتعدت جوارحها، بينما سقط الرجل أرضًا يتلوّى من الألم.
(2)
جمعت العجوز أحفادها حولها، وجلست تروي لهم قصة الذئب الذي التهم أولاد العنزة الشهباء، عادت العنزة إلى بيتها فلم تعثر إلّا على واحد من أبنائها، فقد كان مختبئًا في مكان لا يخطر على بال الذئب، وحكى لأمه عمّا حدث في غيابها، هرعت الأم المفجوعة إلى وكر غريمها، وألفته مستلقيًا لا يُطيق حراكًا، شقت بطنه بسكين غضبها، وأخرجت صغارها منه، ثم حشت البطن الكبير بالحجارة وخاطته، ورحلت، استفاق الذئب من غيبوبة التخمة، ودفعه ظمؤه للاقتراب من النهر، فشدّه ثقل بطنه إلى الأسفل، وهوى سريعًا في الماء الهادر..
عرّش الأطفال على صدرها، وكفكفوا بأصابعهم المدهوشة دموعها، بينما سألها كبيرهم:
ـ لقد سمعنا هذه الحكاية منك عشرات المرات يا جدتي، وكنتِ تختمينها بضحكة الفرح، وكأنكِ أنتِ من انتصرتْ على الذئب، واستعادتْ صغارها، فلماذا تبكين اليوم..؟ هل مات أحد الصغار، أو تأذى وهو في بطن الذئب..؟.. أرجوكِ قولي الحقيقة..
شهقت مكلومة:
ـ نعم يا صغاري.. لقد مات أولاد العنزة المسكينة في بطن الذئب، خنقتهم عصاراته الهاضمة المجنونة..
ـ وماذا فعلت أمّهم..؟
ـ عندما رأت أشلاءهم، لطّخت وجهها بدمائهم، ومازال نحيبها يُتوّج أوراق الشجر والزهر بدموع الأسى كلّ صباح..
ـ أتقصدين أنّ قطرات الندى التي تبلّل النبات كل صباح هي بعض دموعها..؟
ـ أجل يا صغاري..
ـ ولماذا كذبتِ علينا إذن في المرّات السابقة..؟
زفر قهرها، وقالت بما يشبه النجوى:
ـ هكذا سمعت الحكاية من جدّتي، وصدّقتها.. لكني اليوم رأيتها بشكل آخر.. نعم.. رأيتها بأمّ عيني وأذني وقلبي، فهل تريدون لي أن أكذب..؟
ـ نعم يا جدتي.. حكايتك اليوم لها طعم مختلف، رغم الأحداث ..