عبدالرحيم العلام
باحث مغربي
ما فتئ الخطاب الأوتوبيوغرافي والإثنوغرافي، في المغرب، يغتني بمزيد من الكتابات النقدية والتحليلية والببليوغرافيا الموازية، في أبعادها المحلية والمترجمة. وتكمن أهمية بعض الكتب والدراسات والترجمات المنشورة، في كونها قد اشتغلت أساسا على المتن الأوتوبيوغرافي، بشكل نالت معه عديد من النصوص الأوتوبيوغرافية، المغربية والعربية، نصيبها من الدراسة والقراءة، سواء على المستوى الأكاديمي أو خارجه. ونشطت، في المقابل، حركة البحث والترجمات الإثنوغرافية في المغرب، من خلال ما يوليه بعض الباحثين، في هذا المجال، رغم قلتهم، من اهتمام خاص بالحفر الإثنوغرافي، بحثا وترجمة، وذلك بالنظر لمستوى التراكم الحاصل في الكتابات الإثنوغرافية الأجنبية حول المغرب، وخصوصا تلك الكتابات الاستعمارية، التي ما زالت تستلزم من الباحثين المغاربة ومن المؤسسات ذات الصلة، مزيدا من الاهتمام بها، ونفض الغبار عنها، وإخراجها من عتمة رفوفها إلى الضوء.
وفي هذين الجانبين معا، برز الباحث والأكاديمي حسن بحراوي، كأحد الباحثين والنقاد السباقين إلى قراءة المتن الأوتوبيوغرافي في المغرب، من ناحية، والاهتمام، تأليفا وترجمة، بالكتابات الإثنوغرافية حول المغرب، من ناحية ثانية، ما جعلنا نتخذه نموذجا، في هذا الباب، من خلال مؤلَّفَين اثنين من مؤلفاته العاكسة لطبيعة اهتماماته الأوتوبيوغرافية والإثنوغرافية.
هكذا، يتوسل حسن بحراوي، على مستوى دراساته للسيرة الذاتية، بمرجعيات نظرية ومنهجية حديثة، ويعتبر، في هذا المجال، من بين الباحثين المغاربة والعرب الأوائل، إن لم يكن “أولهم”، في تفاعله، مع “نظريات الأوتوبيوغرافيا”، كما بلورها المنظر والباحث الفرنسي فيليب لوجون تحديدا، في كتبه النظرية والتحليلية الأساسية، وتحديدا في كتابة الشهير “الميثاق الأوتوبيوغرافي”، وذلك قبل أن يتعرف النقاد والباحثون، في المغرب والمشرق، على لوجون، ويقبلوا على استثمار نظرياته ومفاهيمه في قراءتهم للسير الذاتية العربية، القديمة والحديثة.
فمن المعروف أيضا عن الأستاذ حسن بحراوي، أنه يراهن دائما على المغامرة في البحث والحفر في الظواهر السوسيوثقافية والفنية. ومن شأن المتتبع لكتبه ولدراساته ومقالاته المنشورة، أن يكتشف مدى مغامرات بحراوي في اختيار الموضوعات الجديدة وغير المطروقة سلفا، وهو ما يشكل أفق السؤال الفكري والتحليلي في كتاباته وحفرياته، عدا كونه ناقدا وباحثا بامتياز في مجال الثقافة، العالمة والشعبية.
وفي هذا الصدد، يبرز حسن بحراوي، دارسا متمكنا لبعض الظواهر ورموز الثقافة والأدب والفن في المغرب: عبدالصمد الكنفاوي، وبزيز وباز، وناس الغيوان، وصولا إلى كتابه المهم “جدل الذات والوطن”، عن سير عبدالكريم غلاب الذاتية، مرورا بدراساته للسيرة السجنية، والرواية البوليسية، والسينما بالمغرب، وغيرها كثير. وبذلك يكون حسن بحراوي قد حدد لنفسه توجها مغايرا واستثنائيا في البحث والدراسة والتنقيب والحفر في الأصول والجذور، وفي الذاكرة والمفاهيم والرموز، من منظور فكري ونقدي وتحليلي، يكاد ينفرد به هذا الباحث الرصين، وخاصة من زاوية انتباهه اللافت والذكي إلى مثل هذه الأسئلة والموضوعات، غير المفكر فيها سلفا بشكل واسع، في حقلنا الثقافي والنقدي المغربي والعربي، وهو ما يجعل منه باحثا سباقا إلى تناول قضايا وظواهر وحالات ثقافية غير مطروقة من قبل، ما يعني، هنا، أن حسن بحراوي ما فتئ يشتغل بتأن وروية، في إطار مشروع فكري ونقدي يكمل بعضه البعض.
وفي هذا الإطار، ينضاف كتاب حسن بحراوي الجديد “جدل الذات والوطن: بصدد السيرة الذاتية عند عبدالكريم غلاب” إلى سلسلة الكتب النقدية والتحليلية التي تناولت التجربة السير ذاتية لكاتب- شخصية بعينها. لكن، وخلافا لما جرت به العادة في كون السيرة الذاتية تكتب عادة دفعة واحدة، ضمن مجلد واحد، يلملم بين دفتيه تجربة هذا الكاتب أو ذاك، في الحياة والكتابة، في بعض محطاتها البيوغرافية المنتقاة أو في مجموعها، نجد أن السير الذاتية في المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لتجارب أخرى في العالم العربي، قد اتخذت لنفسها منحى آخر في الكتابة ضمن أجزاء متفرقة، تحقق في مجملها من الترابط والامتداد أكثر مما تحققه من انفصال ومسافة؛ نشير، هنا، على سبيل المثال، إلى التجارب السيرذاتية لكل من عبدالكريم غلاب (في أربعة أجزاء)، ومحمد شكري (في ثلاثة أجزاء)، وليلى أبوزيد وعبدالقادر الشاوي وربيعة السالمي وعبداللطيف البياتي ومحمد العمري والعربي باطما (في جزأين).
على هذا النحو، إذن، يتناول حسن بحراوي كتابة السيرة الذاتية، من خلال تجربة أتوبيوغرافية رائدة، كما تمثلتها نصوص عبدالكريم غلاب، من خلال أربعة أجزاء أساسية، هي: سبعة أبواب- سفر التكوين- الشيخوخة الظالمة- القاهرة تبوح بأسرارها، انطلاقا من سؤال أساسي يهم جدل الذات والوطن، اعتبارا، كما يقول الباحث، لذلك التواشج القائم بين ذاتية الكاتب وتربة الوطن التي أنجبته، ومن ثم اكتشاف صورة الذات الكاتبة في مرآة الوطن، وتأمل حضور الوطن عبر قناة تلك الذات (ص7).
وتتوخى هذه الدراسة “تتبع المنحى الذي سارت فيه هذه الطينة من النصوص المنتسبة إلى الكاتب، وبالنظر فيها، خاصة من جهة القضايا الإشكالية التي تطرحها، والأسئلة الوجودية والفكرية التي تبتعثها” (ص20)، فيما تكمن، أيضا، أهمية هذا الكتاب في تمكنه من إعادة تمثل التجربة السيرذاتية لعبدالكريم غلاب، وإعادة قراءتها وكتابتها، بشكل نحس معه وكأن خطًا إبداعيا ثانيا يوازي الخط الأول كما قدمته لنا تجربة غلاب السيرذاتية. فالباحث، هنا، يعيد ترتيب هذه السيرة وكتابتها، في تعدد نصوصها، وفي امتداداتها أيضا، وفق نظام جديد، كرونولوجي وطبيعي هذه المرة، بدءا بمرحلة الطفولة واليفاعة والشباب، فالشيخوخة، وهو ما يشير إليه الباحث نفسه، في قوله: “على أن نتخذ من مؤلفاته الأطوبيوغرافية ما يشبه دليل الطريق الذي يقود إلى تشكيل صورة لحياة الكاتب في مظاهرها المذكورة، الحميمية والعلمية والسياسية، بعيدا عن الاستنساخ الحرفي لما صدع به في كتاباته تلك، ولكن على مقربة منظوره من سياقها العام الذي نأمل أن يسعفنا مع استجماع صورة الكاتب بأكثر ما يمكن من الأمانة والواقعية” (ص21)…
وكأن بحراوي، هنا، يراهن على إعادة تأمل هذه السيرة الذاتية في تكاملها و”اكتمالها”، وليس في انفصال أجزائها، بشكل يجعل من كتابه “كتابة على كتابة”، أي كتابة عاشقة عن عشق الحياة والوطن، وذلك في كونها “حياة لها معنى وقيمة”، على حد تعبير ج.كيسدورف، في تعدد أبعادها الذاتية ومكوناتها الثقافية والوطنية الموازية، وخصوصا في فاس والقاهرة، كما يجعل من هذا الكتاب إضاءة أخرى لهذه السيرة الذاتية، في امتداد نصوصها، وفي تقاطعها وتكاملها، اعتبارا لما تحققه هذه النصوص من جديد -على الأقل في هذا الكتاب- من امتدادات تخييلية ودلالية في المستقبل، بما هو مستقبل الأجيال والوطن.
وهو المنحى نفسه في القراءة الذي سبق للباحث أن سلكه بمنظور مغاير، في بعض كتبه الأخرى، وخصوصا ما يتعلق بإعادة تمثله لسير بعض الشخصيات الأدبية والفنية المغربية، كما هو الحال بالنسبة لسير كل من: عبدالصمد الكنفاوي، في كتابه “عبدالصمد كنفاوي: سيرة إنسان ومسار فنان”، وبزيز وباز، في كتابه “ذاكرة المغرب الساخر: حالة بزيز وباز”، وبول بولز والعربي العياشي ومحمد المرابط، في كتابه “حلقة رواة طنجة”، وبوشعيب البيضاوي وفاطنة بنت الحسين والراحل محمد بوحميد، في كتابه “فن العيطة بالمغرب”…
وإذا كان هدف الباحث من وراء تأليف كتاب “حلقة رواة طنجة”، هو الكشف عن مظاهر العبقرية الخبيئة في تلك الفئة النابغة من أبناء شعبنا الذين قاوموا الأمية والرعونة والمساس بالكرامة وآفاق أخرى، فيبدو أن غايته من تأليفه كتاب “جدل الذات والوطن”، كان هو الكشف عن عبقرية أخرى، وعن معنى مغاير للنبوغ المغربي، من خلال انصهار ذات بوطن، باعتبار الذات، هنا، كيانا شخصيا ووجوديا، ومسارا حياتيا وفكريا وذهنيا متحولا في الزمن، وأيضا بالنظر لطبيعة الوعي بالعمل والنضال السياسي والعمل الوطني، وبقضايا الاستعمار الذي اكتسبته هذه الذات، في إطار سؤال الهوية الشخصية والجماعية على حد سواء.
وفي مستوى آخر، برز حسن بحراوي باحثا مهتما بالكتابات الإثنوغرافية حول المغرب تحديدا، حيث صدرت له، في هذا الباب، بعض الدراسات والترجمات الرصينة، من بينها كتابه الأخير “موسوعة الكتّاب الكولونياليين في المغرب”، وترجمته لبعض الكتب ذات الصلة، من قبيل: كتاب “الرباط أو الأوقات المغربية” للأخوين طارو، وكتاب “الرحالون الفرنسيون في المغرب” لرولان لوبيل، وكتاب بيير لوتي “في المغرب”، فضلا عن ترجمات أخرى، شملت الرواية والمسرح المغربي، وصورة المرأة في الإذاعة والتلفزة المغاربية، فهو المتمرس بالترجمة، بحثا ودراسة، وله في هذا الباب، أيضا، بعض الكتب الأساسية، ككتابه “أبراج بابل: شعرية الترجمة”، و”مدارات المستحيل: دراسات في ترجمة الشعر”…
يشير حسن بحراوي، في توطئة كتابه “موسوعة الكولونياليين في المغرب”، وهي توطئة مركزة ومهمة وشاملة ومضيئة لموضوعه، إلى أن المشروع الأصلي لعمله، كان يقتصر على التعريف الموجز بالإثنوغرافيين الفرنسيين، وإلى حد ما بأهل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا من الباحثين الكولونياليين… غير أن استغراق بحراوي في العمل، واتساع مجال الذين كتبوا حول الأرض المغربية خلال حقبة الحماية، جعله يلجأ إلى استقصاء أكبر قدر مما جرى تأليفه حول المغرب، من طرف طائفة الكتاب الكولونياليين خلال الحقبة المذكورة.
من هنا، الأهمية الخاصة لهذا الكتاب الفريد من نوعه، من حيث كون اهتمام مؤلفه بكتابة الكولونياليين، على حد تعبيره، قد امتد ليشمل أغلب ما خاضوا فيه من موضوعات وتناولوه من قضايا وإشكالات، هي من صميم الأرض المغربية والإنسان المغربي خلال الحقبة المذكورة، ويتمدد مجالها الزمني، ليغطي عقودا قبل عهد الحماية (1912) وسنوات بعد الاستقلال (1956).
وهكذا، يمكننا هذا الكتاب، بما يحويه من جرد بيوغرافي لعديد من الإثنوغرافيين، وغيرهم ممن كتبوا عن المغرب خلال حقبة الحماية، من إدراك للحاجة الموضوعية التي تستلزم الاستفادة من ذلك التراكم التوثيقي، والتي تقتضي، أيضا، الوقوف مليا عند منجزاته العلمية والمعرفية، التي لها أهميتها ووجاهتها الفكرية التي لا غبار عليها، على حد تعبير الدكتور محمد الفران، مدير المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، في تقديمه لهذا الكتاب…
وجدير بالإشارة -يضيف حسن بحراوي في توطئته المضيئة- إلى أن الكثرة الكاثرة من الكتاب الكولونياليين، هم من مواليد الجزائر، التي كانت مستعمرة منذ 1930، ومن أشهرهم دوفوكو وموليراس ودوتي ودوسيغونزاك، واللائحة طويلة، وإذا أردنا الدقة، فإن الجنرال ليوطي الذي كان على معرفة سابقة بمعظمهم ويثق في خبرتهم ويرتاح لجديتهم هو الذي ظل يستقدمهم للمغرب، الواحد في إثر الآخر، بعد أن تقلد منصب المقيم العام للحماية وصارت له الكلمة الأولى (ص8).
ولم يتوقف حسن بحراوي، عند حدود إعداد موسوعة للكتّاب الكولونياليين في المغرب، عبر إدراج تعريفات بهؤلاء الكتاب وبمسيرهم العملي والبحثي، وجرد مؤلفاتهم ودراساتهم، ونشر صورهم وأغلفة كتبهم، وعددهم في الكتاب ستة وثمانون اسما، بل إن الباحث قد أرفق موسوعته، بأرضية مركزة مضيئة لها، ضمت مباحث قصيرة ومضيئة للموضوع، ارتكزت بالأساس على توضيح نقاط ذات صلة بالاهتمام الإثنوغرافي، على مستوى الأبحاث والمؤسسات المهتمة بالموضوع في المغرب: “من الحماية إلى الاستعمار”، و”الجهود الكولونيالية في صيانة التراث المغربي”، و”الجهود الاستكشافية الأولى”، و”البعثة العلمية للمغرب”، و”المعهد العالي للدراسات المغربية”، و”موقف الحركة الوطنية من الجهود الكولونيالية”، فضلا عن استحضاره لما سماه بـ”الأجنحة الوسطى”، نقلا للمصطلح عن الطيب تزيني، لفئة من الوطنيين لم تكن في الحسبان، منهم عالمان موسوعيان من أقطاب الحركة الوطنية في المغرب، قدّما مساهمة لا تقدر بثمن على طريق إنقاذ وصيانة قطاع أساسي وعريض من الثقافة الشعبية المغربية (محمد الفاسي والمختار السوسي)، في مقابل أقطاب أخرى، مناهضة للإثنوغرافيا الكولونيالية، ومن ورائها لعموم التراث الشعبي، من بينهم، كما يسوقهم الكتاب: عبدالله العروي، وعبدالله حمودي، ويختم بحراوي توطئته لهذه الموسوعة المهمة، بالتعرض لموضوع “التراث الشعبي من منظور العولمة”، من زاوية أن العولمة، في واجهتها الإيجابية، حسب المؤلف، تجعل من احترام الاختلاف الثقافي مقياسا للعدالة الإنسانية وسبيلا إلى تبديد الصراع المصطنع القائم حول امتياز الهويات أو أسبقية الحضارات، ثم يدعو بحراوي، في نهاية مقدمته، إلى قراءة الإرث الكولونيالي بما يستحق من تدقيق وفحص…
وإذا كانت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، هي من تولت نشر هذا الكتاب، فاعتبارا لقيمته التوثيقية ولذاكرته المعرفية، أخذا بعين الاعتبار للفترة التاريخية التي يرصدها، من خلال كتّاب كولونياليين يقدمهم لنا الباحث بشكل حفري جذاب، وعبر النبش في تركة ثقافية وأكاديمية ذات منشأ كولونيالي، وميراث أجنبي، أهمله أسلافنا، وفوتوا على أنفسهم فرصة التعرف على وجهة نظر هؤلاء الغرباء بصدد بلادهم وأناسهم، بمثل ما تلح أجيال الاستقلال المتتالية على مواصلة إغماض العين عن ذلك التراكم الكولونيالي، ما جعل الباحث يطرح مجموعة من التساؤلات عن السبب الكامن وراء إحجام النخبة الوطنية عن التعامل مع التركة الثقافية والأكاديمية ذات المنشأ الكولونيالي…