دينيس تود
في يومه الأول على الجزيرة المعزولة، خرج كروزو إلى قمة تل يستكشف، وهناك رأى “ويا لهول ما رأيت، أنني على جزيرة يحيط بها البحر من كل جانب” وكان كلما نظر حوله، بدا له الأمر أسوأ:
” وجدت أن الجزيرة التي أنا عليها قاحلة، وكان هناك ما يؤكد اعتقادي بأنها غير مأهولة، اللهم إلا بوحوش برية، لم أر أيًّا منها. ومع ذلك رأيت وفرة من الطيور، صوبت بندقيتي نحو طائر كبير يجلس على شجرة في ركن من غابة كبيرة، وأعتقد أن هذه كانت أول طلقة هناك منذ بدء الخليقة. لم أطلق بعدها أية نيران، ولكن من كل أركان الغابة هبَّ عددٌ لا حصر له من الطيور مختلفة الأنواع، تصدر عنها صيحاتٌ مضطربة، يصرخ كلٌّ منها بلكنته المعتادة، لكنني لم أكن أعرف أي لكنة منها. أما بالنسبة للمخلوق الذي قتلته، فلابد أنه نوع من الصقور، لأن لونه ومنقاره يشبهان الصقر، غير أنه لا يملك مخالب أو أنيابًا أكثر من المعتاد، وكان لحمه نتنًا لا يصلح لشيء.وقانعًا بهذا الاكتشاف 1…”
هذه إحدى لحظات الفكاهة المقصودة في روبنسون كروزو؛ ذلك أن تناقضًا غامضًا يكمن في عبارة “عدد لا حصر له”، وهو تناقض يستثير تناقضات أخرى. كروزو يعتقد أن الجزيرة غير مأهولة، اللهم إلا بوحوش برية”، لكنه يعترف بأنه “لم ير أيًّا منها”، وحين يطلق نيران بندقيته، يسمع الطيور “يصرخ كل منها بلكنته المعتادة” رغم أنه قد لا يستطيع تمييز لكناتها “المعتادة”؛ فقد جاء إلى الجزيرة منذ يوم واحد فقط. والطائر الذي قتله “لابد أنه نوع من الصقور”، ولكن لأنه “بلا مخالب أو أنياب” معتادة، وهي الخصائص المميزة للصقر، فلابد أنه نوع آخر من الطيور.
ومع كل ذلك، وبرغم أنه يعتقد أنه وحيد على جزيرة قاحلة، مع طعام “لا يصلح لشيء”، يشعر كروزو بأنه “قانع…” قانع لأنه يؤمن بأنه تعلم شيئًا ما عن الجزيرة، شيئًا يسمح له بأن يبدأ في تجربة السيطرة عليها. ومن ثم فإن هذه القطعة تنبني على صورتين شائعتين في أدب الاستعمار: مسح المنطقة من مكان مرتفع، وإطلاق النار من البندقية، وهما صورتان تدلان على تقييم يقوم به المستعمر، ثم تملُّك الأرض وتأكيد السيادة عليها. إن إحساس كروزو بالسيادة هنا إحساس مضلل على كل حال؛ فقد فرض نظامًا ذاتيًّا على الجزيرة بدلا من أن يراها على حقيقتها. العالم الجديد -على كل حال- عالم جديد، وما يهم ديفو هو البقاء فيه، وسيكون على كروزو أن ينظر فيه عن قرب أكثر، وبعيون جديدة.
وقد أضفى كاتب الرواية دانيال ديفو على هذه النقطة طابعًا دراميًّا مرة تلو أخرى؛ فحين يسبح كروزو في اتجاه السفينة لم يكن يرى أمامه “شيئًا يمكنني العثور عليه”، ولكنه حين يدور حول السفينة “مرة ثانية” يرى “قطعة صغيرة من حبل، تعجبت أنني لم أرها في المرة الأولى”(ص40). وبعد خمس أو ست رحلات إضافية إلى السفينة، يعتقد أنه “ليس متوقعًا أن يعثر على شيء آخر في السفينة يستحق التدخُّل”، ومع ذلك يجد برميلا كبيرا من الخبز، وبرميلا من الخمر، وبرميلا من الدقيق. “وقد أدهشني هذا لأنني كنت قد سلمت أمري وتوقعت عدم العثور على المزيد” (ص 46). وحتى في رحلته الثانية عشرة، ورغم أنه كان يعتقد أنه “قتل الكابينة تفتيشًا، بحيث لم يعد من الممكن العثور على شيء”، يجد أشياء أخرى: أمواس، ومقصات، وعددًا من السكاكين والشوك، وأموالا قيمتها 36 جنيهًا” (ص47).
وخلال الأعوام الثمانية والعشرين التي قضاها على الجزيرة، كان على كروزو أن يتجنب باستمرار المواقف والفرضيات التي جاء بها، وأن يرى العالم بعيون جديدة: إيقاع الفصول، وتتابع الوقائع، والقيمة النسبية للمال وللأشياء المستخدمة، وأهمية العلاقات الإنسانية، ومعظم الآراء الدينية. وتجسد العالم الجديد في آثار الأقدام الغامضة، وهي علامة غامضة في مرجعيتها؛ فقد تكون آثار أقدام آكلي لحوم بشر، أو شياطين، أو آثار أقدامه هو، علامة لم تعط معناها بسهولة، وإنما كان يجب النظر فيها وتأملها أكثر من مرة. إنها إشارة إلى نجاح كروزو إلى الدرجة التي مكنته بعد أعوام كثيرة أن يقول أخيرًا: “تمتعت بتصورات مختلفة للأشياء”(ص102).
أن ينظر ديفو بشيء من الشك إلى فرض كروزو للنظام على جزيرته، فإن ذلك قد يبدو على عكس المتوقع. من المؤكد أن من أولى استجاباتنا إلى “روبنسون كروزو”-خصوصًا حين ننظر إليها بصفتها رواية استعمارية “صُمِّمَت بحيث تخدم الفكرة الإمبريالية”2 أن نرى أنها تحتفي بفكرة الفرض هذه. إن فرض كروزو للنظام هو فعل يقوم به مستعمر نمطي، التجسيد الخالص للذكر، الذي يملك غريزة إمبريالية للخروج في اتجاه العالم والسيطرة عليه. تبدو الرواية وكأنها -ضمنًا وصراحة- تصادق على طموحات بريطانيا وراء البحار؛ إذ ترى في خيالها أراضي وأماكن يمكن أن تقتنصها وتستعمرها وتصنعها على صورتها. يمكن أن نقرأ تقدم كروزو على الجزيرة كأنه نشرة للنشاط والتوسع الاستعماري البريطاني؛ فكروزو يستوطن، ويبني، ويزرع المحاصيل، ويربي قطعان الماشية، ويواجه اعتداءات السكان المحليين حين يصبح في الجزيرة سكان، ويستبدل أنظمة المجتمع المحلي وتراتبيته. وتمامًا كما كان العالم الجديد بالنسبة للمستعمرين البريطانيين، لم تكن الجزيرة بالنسبة لكروزو جزيرته فقط لكي يأخذها، وإنما كانت بالنسبة له أرضًا فارغة عليها يستطيع أن يعيد خلق العالم الذي أتى منه. يقول: “كنت ملكًا وسيدًا لا يقاوم على هذا البلد كله، ولي الحق في امتلاكه”(ص80). ويشرع في تحويل كل شيء إلى ملكيته الخاصة. “جزيرتي”، و”قلعتي”، و”بيتي الريفي”.
وبالطبع “الهمجي” الذي أملكه. لم يكن لدى كروزو شكوك حول حقه في إخضاع فرايداي، وفرض القيم الإنجليزية عليه، والثقافة، واللغة، والدين الإنجليزي؛ ذلك أن الهمج في عيون الإنجليز كانوا في مرتبة أدنى ثقافيًّا، وتكنولوجيًّا، وأخلاقيًّا، ودينيًّا. ويبدو أنه لا كروزو، ولا ديفو، كانا معنيين ولا حتى واعيين، بالثمن الباهظ الذي فرضته الطموحات الإمبريالية البريطانية على السكان الأصليين في العالم الجديد، وهي لا مبالاة جسدتها صورة تقشعر لها الأبدان رسمها جي. إم. كويتزي، حين أعاد في روايته “فو” Foe حكي قصة كروزو من منظور ما بعد استعماري. لقد جرى قطع لسان فرايداي، وحرمانه المقدرة على حكي قصته الخاصة، أو الإفصاح عن هويته هو، أو الدفاع عن ثقافته.
كان ديفو متحمسًا لتوسعات بريطانيا التجارية، وللاستعمار، وشجع ذلك في أعماله الاقتصادية والصحفية، وكتب بتفاؤل عن القضايا الاستعمارية، ليس فقط في الجزء الأول The Life and Strange Surprising Adventures of Robinson Crusoe، بل كذلك في الجزء الثاني Farther Adventures والثالث Serious Reflections من رواية روبنسون كروزو، وفي أربعة من رواياته المتأخرة كابتن سينجلتون Captain Singleton ، والكولونيل جاك Colonel Jack ، ومول فلاندرز Moll Flanders ، ورحلة جديدة حول العالم New Voyage round the World. كان لديه ما يبرر حماسه تماما. وفي سنوات تكوينه كانت بريطانيا مشغولة بإضافة ممتلكات استعمارية جديدة في أمريكا الشمالية وجزر الكاريبي، وكانت تضع الأساس لإمبراطوريتها الأولى، ووسعت بقوة من تجارتها على الساحل الأفريقي، وفي بلاد الشام، وروسيا، والمحيط الهندي. التوابل والمنسوجات والشاي من تجارة شركة شرقي الهند في آسيا، والعبيد من أفريقيا، والسكر من الكاريبي، والدخان والجلود والفراء والصباغة من أمريكا الشمالية. وكانت كل خطوط الملاحة في هذه التجارة مجبرة على المرور من بريطانيا، فنما اقتصادها على نحو كبير. وفي خمسينيات القرن الثامن عشر كانت كل الزيادة في صادرات بريطانيا، تأتي من الصادرات إلى المستعمرات، ومن إعادة تصدير البضائع الكولونيالية التي تشكل تقريبا نصف الصادرات الكلية لبريطانيا، إعادة تصديرها إلى الموانئ الأجنبية. صارت لندن مركز التجارة العالمية.
ومع ذلك كله، ورغم حماسة ديفو، ورغم أن الرواية تبدو بشكل متكرر وكأنها تمتدح ولا تنتقد الأيديولوجية والممارسة الإمبريالية البريطانية، فإن من الصعب غالبًا أن نرى كيف تقدم رواية روبنسون كروزو دفاعًا صريحًا ومباشرًا عن المشاريع الاستعمارية لبلده. ثم إن جزيرة كروزو بعد هذا كله، ليست مستعمرة في الحقيقة.”أنا لم أدّع قط أنني أزرع باسم أي حكومة أو أمة… ولم أنسب مشاريع شعبي إلى أمة دون أخرى”، ويعترف ديفو في الجزء الثاني “أنا لم أحدد اسم المكان قط، بل تركته كما وجدته منسوبًا إلى لا أحد”. وينتهي هذا الجزء بالفشل التام، فآخر ما سمعناه منه جاء في رسالة أرسلها المستعمرون يتوسلون فيها إلى كروزو أن يأخذهم إلى بعيد، فربما يرون بلدهم مرة أخرى قبل الموت3″.
ورغم أن الرواية تفسر غالبًا وكأنها تبرير لحق الأوروبيين في استصلاح الأراضي الأصلية -على أساس أن الأرض تصبح ملكًا لمن يستصلحها ويزرعها-، رغم ذلك فإن ديفو قد أعلن أنه لا يعتقد بأن “أي شخص له الحق في إزاحة أبناء البلد الأصليين”4.
الأهم من هذا أن ديفو لم يناقش في روبنسون كروزو مسائل كان يعتقد بأنها محورية بالنسبة لأغراض الاستعمار الحقيقية: التجارة والتبادل التجاري. ولأن البريطانيين جاءوا إلى العالم الجديد متأخرين، فإنهم قد خسروا في السباق على الأراضي الغنية بالفضة والذهب، لكنهم “بقوة الممارسة المستمرة، زرعوا واستعمروا وطوروا… في مناخ لا يرحب بهم” وهذا أدى بهم إلى “أن يكونوا المستعمرات الأغنى، والأكثر تطورًا وازدهارًا في كل ذلك الجزء من العالم”. استوطنت بريطانيا في العالم الجديد، ولم تستغل موارده كما فعلت إسبانيا، ومن خلال استيطانهم “طوروا عوالم جديدة للتجارة”؛ “ذلك أن الاستيطان في أرض جديدة كما يؤكد ديفو، نتجت عنه الثروة بسبب التوسع السكاني والإنتاجي وازدياد الطلب؛ وهذا بدوره أدى إلى توسع حركة التبادل التجاري، مما خلق الظروف كي تستمر الدورة القوية في التجارة، وكل هذا نتج عنه “زيادة في ثروات إنجلترا، وقوتها، وازدهارها”5.
“من دون التجارة ما قيمة أية مستعمرة؟”. هكذا يصل ديفو إلى النتيجة6. ومع كل ذلك لا يوجد على جزيرة كروزو تجارة أو تبادل تجاري؛ ولهذا نحن بحاجة إلى السؤال: أي نوع من الرواية الاستعمارية يكتب ديفو إذا كان يكتب رواية تتجاهل بوضوح ما عدَّه هو نفسه التبرير الجوهري للاستعمار البريطاني؟ ما لم يقلل ديفو تمامًا من رواية روبنسون كروزو، فليس بإمكاننا نحن أن نفترض أنه لم يقصد إلى مصارعة هذه القضايا الأساسية للاستعمار البريطاني في الرواية، وأن تركيزه اتجه إلى شيء آخر، ربما يكون محدودًا أكثر.
لقد لاحظ جي. أيه. دوني J. A. Downie أن “طابع الرؤية الاستعمارية عند ديفو، أقرب إلى الموقف العادي منه إلى الأيديولوجي”7. إن رواياته تركز بشكل نمطي على سياسات أو مشاكل محددة في الإمبراطورية، أكثر مما تتوجه إلى إضفاء شرعية -وبعبارات أيديولوجية كبيرة- على الطموحات الإمبراطورية لبريطانيا. وبطبيعة الحال، فإن رواية روبنسون كروزو تغذيها بعمق أيديولوجيا استعمارية؛ إذ يشير بيتر هولم Peter Hulme إلى أن في قلب الكتاب “حكاية نموذجية” عن “المحتويات الأساسية للأيديولوجيا الاستعمارية”، عن”اللقاء بين الحضارة والهمجية”8. غير أن الأمر الملحوظ هو الكيفية التي اخترق بها ديفو هذه الثنائية الأساسية في الفكر الإمبريالي البريطاني، إلى الدرجة التي مكنته من التركيز على مسائل أكثر “دنيوية” في الواقع وفي الممارسة الاستعمارية، وهو بعمله هذا كان يطلب من قرائه أن يعيدوا النظر في الافتراضات والتحاملات المستقرة من زمن. وهكذا، فإن موتيفة اضطرار كروزو إلى النظر مرتين وإعادة التفكير في افتراضاته المسبقة، و”التمتع بالمفاهيم المختلفة للأشياء”، ومن خلال إضفاء طابع درامي على ذكريات كروزو المطولة، كان ديفو يدفع قراءه إلى إعادة التفكير مع كروزو، في بعض المعتقدات والمواقف الأساسية حول المشاريع الاستعمارية لبريطانيا.
إن بعض أطول الوقائع المتتابعة في الرواية، كانت مخصصة لهوس كروزو بإعادة التفكير في مسألة أكل لحوم البشر؛ فهو ينظر من البداية إلى آكلي لحوم البشر بصفتهم همجيين ينزل بهم إلى مستوى “الوحشية نفسها”(ص156). لكنه بمرور الوقت، غطى أعوامًا كثيرة من حياته وصفحات كثيرة من الرواية، أخذ يعيد النظر في ماهية لحوم البشر، والكيفية التي يجب أن يستجيب بها لهم؛ إن أكل لحوم البشر من وجهة نظرهم ليس جريمة، وحتى لو كان أكل لحوم البشر جريمة، فإن هذا لا يعنيه، وأن ذبحهم سيكون عملا لا حكمة فيه ولا أخلاق. وحين يأتي فرايداي إلى الجزيرة، تخضع مواقف كروزو لتحولات أشدّ؛ ذلك أن فرايداي لا يبدو همجيًّا على الإطلاق، بل يبدو طيبًا ومواليًا، وولدًا طيبًا (بخلاف كروزو نفسه) “وكان أنسب باحث وجده حتى ذلك الوقت” (ص166). إن الفاصل بين المتحضر والهمجي، بين المستعمر والآخر، يصبح باطّراد أقل وضوحًا. وقد توصل كروزو إلى أن آكلي لحوم البشر ليسوا الوحوش الذين تصورهم في البداية؛ فهم يملكون “القدرات نفسها، والعقل نفسه، والعواطف نفسها، ومشاعر الطيبة والاضطرار نفسها… لديهم نفس الإحساس بالامتنان والإخلاص واللذة، وكل القدرات على فعل الخير، التي يمتلكها الإنجليز المتحضرون” (ص165). في البداية كان كروزو يرغب في “دفع عشرين منهم أو ثلاثين مقابل السيف”(ص134)، وفي النهاية كانت لديه الرغبة في أن ينقل فرايداي إلى التحضر والمسيحية.
ويلقي ديفو الضوء على العملية الطويلة التي يعيد فيها كروزو تقييم آكلي لحوم البشر، ذلك أن العلاقات الهندية الإنجليزية في المستعمرات، على مدار العقود الثلاثة السابقة على نشر رواية روبنسون كروزو، كانت قد بلغت حدًّا من التدهور عرَّض الإمبراطورية البريطانية في الأمريكتين للخطر. ومثل كروزو تمامًا، كان المراقبون الواعون للقضايا الاستعمارية، يجدون أنفسهم مضطرين أن يعيدوا التفكير سريعًا في علاقاتهم مع الشعوب الهمجية.
كان كثير من الإنجليز في السنوات الأولى لعملية الاستعمار يبررون مشاريعهم، من خلال الوعد بنقل التحضر والمسيحية للشعوب الهمجية، والوعد بمعاملتهم معاملة إنسانية وأن يتابعوا “عملية تعليم لطيفة دون قسوة أو استبداد”9. الأهم من هذا كله، وحيث إن الشعوب الأصلية قد خلقها الإله نفسه الذي خلق الأوروبيين، فإن لهم “نفوسًا تعقل وملكات تفكر”، ومن ثم فإنهم كانوا “جاهزين… لتعلم عبادة الإله الحق (بالإنجليزية)” وأن ينتقلوا “إلى حالة التحضر في وقت قصير”10. غير أن مشاعر كهذه لم تكن عامة، ولم تبق إلى السنوات الأولى من عملية الاستعمار؛ فبعد حمام الدم في 1622، حين ذبح السكان الأصليون البوهاتانيون Powhatans ربع السكان من الإنجليز في مدينة جيمستاون، حضت شركة فيرجينيا المستوطنين على استئصال السكان الأصليين بحيث لا تقوم لهم قائمة كشعب، فهم أمة ملعونة… وغير قادرة على فعل الخير… فلتكن الحرب المستمرة بلا هوادة ولا هدنة… وبلا رحمة أيضًا”11. في نيو إنجلاند، وبعد إيماءات متفرقة من التبشير، خلال الأعوام الأولى من الاتصال، أخذت العلاقة بين الهنود والإنجليز تتدهور بقوة، وضمن النتائج الكارثية للانتفاضة الهندية التي قادها وامبانوج Wampanoag رئيس ميتاكوم Metacom (حرب الملك فيليب 1675- 1678) والانحدار إلى ما يكاد يكون حربًا مستمرة مع قبائل أخرى معادية بعد 1689، شعر معظم المستعمرين بأن الهنود يجب إبادتهم لا استيعابهم. وسرعان ما أفسدت شراسة الشعوب الأصلية في الكاريبي، وتوحشهم المفترض، أية رغبة في نقل التحضر والمسيحية إليهم. وبنهاية القرن السابع عشر كاد يتلاشى تمامًا التعاطف الإنساني وطموحات التبشير، التي سوغت في البداية عملية الاستعمار . وصار الهنود آخرين همجًا وغير قابلين للإصلاح. صاروا “ملحدين، متكبرين، متوحشين، قساة، بربر، بهائم. صاروا (بكلمة واحدة) مخلوقات شيطانية”12.
إن نتائج الفشل في العلاقات الأنجلو-هندية حلت بالوطن في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، عبر أربعة حروب متتابعة أثارت عداء الإنجليز للفرنسيين والهنود، حروب في عهد الملك وليم والملكة آن ( حروب تحالف أوجسبرج 1689- 1697، وحرب الخلافة الإسبانية 1702-1713) ثم الحرب بين إنجلترا وفرنسا التي بدأت في القارة الأوروبية وانتقلت إلى الأمريكتين. ولترعب المستعمرين البريطانيين، قامت فرنسا بدعم الهنود في اتحاد واباناكي Wabanaki ، ليشنوا هجومًا دمويًّا على الحدود بين منطقتي نيو يورك ونيو إنجلاند. ولم تصل حرب الملكة آن رسميًّا إلى نهاية، حين نشب صراعان بين مؤيدي الهنود في المستعمرات الجنوبية: حرب توسكارورا Tuscarora (1711-1715) وهي انتفاضة هندية قادها الرئيس هانكوك Hancock ، وقد دمرت حدود كارولينا الشمالية، وحرب ياماسيي Yamasee التي كانت أشد تدميرًا (1715- 1717) وهي حرب تحالف فيها عدد كبير من القبائل للهجوم على المستعمرات الإنجليزية، ونجحت تقريبًا في إبادة مستعمرة كارولينا الجنوبية.
كانت فرنسا قد توسعت بسرعة من كندا إلى الداخل في قارة أمريكا الشمالية، وقيل إن ذلك كان بغرض محاصرة المستعمرات البريطانية وتدميرها. لم يكن لدى الفرنسيين قوات كافية لشن هجوم ناجح على الإنجليز أنفسهم، ولكنهم استطاعوا بسهولة أن يستخدموا السكان الأصليين كمخالب قطط للمضي قدمًا في مخططاتهم الإمبريالية الخاصة. لقد حذر ديفو فقال: “إنهم يؤلبون الهنود للقيام بأعمال سلب ونهب” في المستعمرات13.
حين نشبت حربا توسكارورا وياماسيي أصيب المستعمرون والمسؤولون عن إدارة المستعمرات بالشلل، خوفًا من أن يكون الفرنسيون قد تمكنوا أخيرًا من تشكيل اتحاد هندي حقيقي يضم كل المستعمرات البريطانية. و”أنت أيتها الإمبراطورية الإنجليزية كلها، بدينها واسمها، سيجري استئصالهما في أمريكا”14.
إن الزعم سيئ السمعة للمؤرخ الفيكتوري جي. آر. سيلي J. R. Seeley ، بأن الإمبراطورية البريطانية كانت “في حالة تصالح مع غياب العقل”15، هو مبالغة واضحة، غير أنه يشير إلى حقيقة جوهرية؛ فالإمبراطورية البريطانية الأولى نمت عشوائيًا ومن أطرافها، وفيما عدا المزارعين الأوائل والتجار المستعمرين ومديري المستعمرات، كان معظم من في السلطة، خصوصًا في العاصمة، في حالة عدم مبالاة وجاهلين بالمسائل الاستعمارية. ولكن نتيجة لهذه الحروب الأربعة، صار المزيد والمزيد من السلطات في إنجلترا على وعي بأن هناك إمبراطورية بالفعل، وأن المستعمرات كانت جزءًا من شبكة للمصالح العالمية تتزايد أهميتها، وأنهم كانوا تحت تهديد وشيك من عدوهم التجاري الأول: فرنسا.
وبحلول عام 1717، كانت إدارة التبادل التجاري -وقد استفزتها الحالة المؤسفة للعلاقات الأنجلو هندية، وإدراكها الحاد أن “الهنود.. كانوا قادرين..على تحويل المصالح الأوروبية في هذه الأجزاء في اتجاه الطرف الذي يميلون إليه”16- كانت قد بدأت تؤلف فيما بينها سياسة إمبريالية متماسكة. وقد اعترفت السلطات -سواء داخل المستعمرات أو في لندن، وبدرجة مدهشة من الإجماع- بأن على البريطانيين ألا يلوموا إلا أنفسهم. لقد سرقوا أراضي الهنود، وحطموا ما بينهم من روابط، ودخلوا معهم في حروب متواصلة، وخانوهم بانتظام في معاملاتهم التجارية. وكان على هذه الإدارة، لكي تدافع عن مصالحها التجارية والاستعمارية، أن تصل إلى خلاصة مفادها: أنه لا وقت ليضيعوه في ترميم علاقاتهم مع السكان الأصليين من خلال معاملتهم بإنسانية وعدالة.
وقد فهم ديفو التهديد الفرنسي مبكرًا، قبل معظم مواطنيه، وأصرّ على ربط نجاح المستقبل الإمبريالي لبريطانيا بمتانة العلاقات مع الهنود:
“ليس على شعب إنجلترا أن يفعل، إلا أن يحضِّر ويعلِّم الهمج والسكان الأصليين في تلك البلدان، أينما زرعوا، بحيث يجذبونهم بأنعم الطرق وألطفها، ليخضعوا للجمارك والاستخدام الخاص ببلدهم، ولينسجموا مع شعبنا في أمة واحدة”17.
“أن ينسجموا مع شعبنا في أمة واحدة”. إن تركيز ديفو هنا على استيعاب السكان الأصليين داخل الدولة البريطانية، يمثل دعوة لإعادة التفكير بجدية في السلوك البريطاني إزاء السكان الأصليين للعالم الجديد. كان السلوك الأساسي قبلها بالنسبة لمعظم البلد، هو إحكام السيطرة لونًا من العداء، والإقصاء، والإبادة، وكل هذا لم يؤد إلا إلى كراهية متبادلة وإراقة دماء. لقد لاحظ ديفو -واضعًا في ذهنه مشاعر وبلاغة المروجين الأصليين للاستعمار- “أن عمليات إقصاء كل الأمم الهمجية من الطبيعة” كان يمكن أن تكون “مخلصة جدًّا” لو جرى “استخدامهم بإنسانية وحكمة”، ولو فكرنا أن بريطانيا بإمكانها أن تربح ما في الهنود من رغبات خيرة، من خلال سياسة تقوم على “العدل والسلوك الكريم إزاء السكان الأصليين”18. وتلك هي السياسة التي رسم صورتها في رواية روبنسون كروزو؛ فكروزو يفطم (فرايداي) بلطف عن طرقه الهمجية، ويعلمه الفنون المتحضرة في الرعي والزراعة، ونقله بذلك من حياة قائمة على النهب إلى حياة قائمة على الاستقرار (وهذا في نظر الإنجليزي تحقيق للانتقال الأساسي من كونك همجيًّا إلى كونك إنسانًا متحضرًا) ودعاه أن يسكن داخل حدود محصّنة. إنه ينقل فرايداي إلى التحضر والمسيحية، كما أنه في الجزء الثاني Farther Adventures سينقل آخرين من آكلي لحوم البشر إلى التحضر “عبر نوع من الاستخدام والمجادلة اللطيفة”19. وما إن انخرط فرايداي بقوة في هذه الثقافة، جرى استيعابه في الاقتصاد المحلي الخاص بكروزو، وأخذ يدافع بحماس عن الحضارة ضد الهمج الذين لم يتعلموا، وحارب كتفًا بكتف إلى جوار كروزو، حين هبط آكلو لحوم البشر إلى الجزيرة20.
إن محو ثنائية المتحضر/ الهمجي في صورة فرايداي -فهو “في الأصل من آكلي لحوم البشر”، ومع ذلك فهو “خادم أمين ومحب ومخلص” ص 164-165- هو تناقض قد يكون راجعًا بصورة ما إلى ثنائية أراواك Arawak المسالم وكاريب Carib العدواني، وهي الثنائية التي احتلت الذهنية الأوروبية للأبد منذ رحلة كولومبوس الأولى إلى الكاريبي. غير أن صورة الهمجي الخير، صديق البِيض، صورة شائعة في التاريخ الاستعماري، واكتسبت فيما بعد طابعًا أسطوريًّا، عبر جيمس فينيمور كوبر James Fenimore Cooper في حكاياته عن ناتي بامبو Natty Bumppo وشينجاشوك Chingachgook ، وكانت قد صارت أسطورة قبل ذلك من خلال المستعمرين أنفسهم، عبر ما حكوه من قصص عن أشخاص مثل لا مالينشي عند كورتيز Cortez’s La Malinche، وبوكاهونتاس عند جون سميث John Smith’s Pocahontas، وكذلك في نيو إنجلاند New England، وسكوانتو Squanto، وهوبوموك Hobbomock، وأنكاس Uncas. هؤلاء “الأصدقاء الخاصون”، كما يسميهم مستعمرو نيو إنجلاند، لعبوا أدوارًا أساسية في الحكايات الاستعمارية الأولى، لأن الهندي الخير كان شخصًا دعت إليه الحاجة الماسَّة، حاجة المستعمرين أن يساعدوهم، بأن يلعبوا دور الوسطاء، والمفاوضين، ورفاق السلاح ضد السكان الأصليين الذين رفضوا هدايا الحضارة والدين الحقيقي. وحين يصور لنا الأدب التجربة الاستعمارية بشكل مخالف لما يقول لنا التاريخ إنه حقيقي، يزعم كثير من النقد ما بعد الاستعماري أن المؤلف متورط -بوعي أو بدون وعي- في عملية تغطية على الحقيقة. أما ديفو فيبتعد -من خلال رسمه لمثل هذه الصورة الإيجابية للعلاقة بين كروزو وفرايداي- عن تبرير التاريخ القذر للاستعمار. وبدلا من ذلك، يعود ديفو إلى لون أقدم ومنقرض من الخطاب الاستعماري، حول “الاستخدام الطيب” للسكان الأصليين، وقدرتهم أن يصيروا مسيحيين متحضرين، فيطلبوا من البريطانيين أن يعيدوا النظر -تماما كما صور كروزو وهو يعيد النظر- في سياسة للتعامل معهم قائمة على السلامة الأخلاقية وتكون أكثر عملية؛ ذلك أن البريطانيين عام 1719 كانوا في حاجة ماسة إلى “أصدقاء خاصِّين”.
لقد كان لحربي توسكارورا وياماسيي أسباب كثيرة، لكن أهمها سببان: الأول هو تعدي التجار البريطانيين الذين خانوا الهنود، وسرقوا جلودهم وفراءهم، وتحرشوا بزوجاتهم، وقتلوا شجعانهم. لقد عمل التجار على كسب أموال طائلة من تجارة الجلود والفراء، لكن أكثر الأموال جاء من تجارة العبيد، التجارة التي طورها وأدارها البريطانيون، وكان ذلك هو السبب الثاني الأكبر في نشوب الحربين. فيما بين عامي 1670 – 1717 ألقي البريطانيون وحلفاؤهم القبض على عدد من 30 إلى 50 ألفًا من الهنود الأمريكيين كعبيد، وجرى ترحيل الكثيرين منهم إلى خارج جنوب كارولينا، بحيث تجاوز عددهم عدد العبيد الأفارقة الذين تم جلبهم إلى المستوطنة. كان كروزو مثل البريطانيين مدفوعًا بالجشع، وباع خوري Xury عبدًا، ولكن على جزيرته -بعد إعادة التفكير، سواء في سلوكه السابق أو في الطريقة التي يجب التعامل بها مع الهمج- تعامل كروزو مع فرايداي -قرين خوري- بطريقة مختلفة تمامًا. فرايداي يضع رأسه تحت قدم كروزو. إنه يبدو كما يقول كروزو “وكأنه يقسم بأن يكون عبدي إلى الأبد”(ص 161) لكن كروزو نفسه لا يسميه أبدًا بالعبد، ويشير إليه بدلا من ذلك باسم “الخادم” و”الصاحب” و”المساعد” و”الصديق المعترف بالجميل” (ص160-177) ورغم أنه يتعامل معه بصفته تابعًا له، فإنه لم يتعامل معه قط بصفته متاعًا.
رواية روبنسون كروزو ليست نصًّا مكافحًا للرق، ورغم أن ديفو روَّعته قسوة تجار العبيد وإحجامهم عن تنصير عبيدهم، فإنه لم يتساءل قط في العلن عن مشروعية المؤسسة نفسها، ولو ساورته أي شكوك لأدرك أن العبودية (على الأقل عبودية الأفارقة) صارت من التشابك مع الاقتصاد البريطاني بحيث لو قضي عليها ستكون النتيجة هي “القضاء المبرم على تجارتنا”21. لا يزال مسار النضج الذي مر به كروزو، من التعامل مع خوري بصفته مرتزقًا، إلى التعامل الأكثر كرمًا مع فرايداي- لا يزال هذا المسار يشير إلى أن ديفو في مقابل السياسة السائدة، كان يعتقد أن طريقة تعامل البريطانيين مع السكان الأصليين الذين شاركوهم المستعمرات، كانت سياسة في حاجة إلى المراجعة. رواية روبنسون كروز -عن وعي أو غير وعي- هي نسخة من قصة إنكيل وياريكو، التي تتحطم فيها سفينة تاجر بريطاني هو إنكيل في جزر الهند الغربية، ويبقى على قيد الحياة بمساعدة عذراء هندية هي ياريكو التي تقع في حبه. ولكنه حين يجد سفينة تعيده إلى انجلترا، يبيعها كجارية. هذه الحكاية النموذج تكررت في مقالات وقصائد ومسرحيات كثيرة على مدار القرن الثامن عشر، ممثلة لسوء التعامل وللعبودية التي لقيها السكان الأصليون للعالم الجديد (والأفارقة فيما بعد) على يد مستعمرين وتجار بريطانيين جشعين.
المسألة الشائعة الثانية التي يناقشها ديفو في رواية روبنسون كروزو، هي مسألة الهجرة إلى المستعمرات، وهنا أيضًا تلعب عملية محو الخط الفاصل بين المتحضر والهمجي، دورًا أساسيًّا؛ فبمحو هذا الخط يربك ديفو تصور القراء، ليس فقط عن فرايداي، بل عن كروزو نفسه. إن خطأ كروزو الكبير هو “ميله إلى الترحال”(ص 5)، وإذا وضعنا في اعتبارنا السياق الاستعماري للرواية، فإن اختيار هذا ليكون خطأ كروزو لم يكن اختيارًا مجانيًّا من قبل ديفو؛ ذلك أن الترحال، في الفكر الإمبريالي البريطاني، كان علامة واضحة جدًا على الهمجية، فالشعوب المتحضرة تستقر، وتبني مساكن دائمة، وتطور المحاصيل، وتربي الحيوانات، أما الشعوب الهمجية مثل الهنود، فهم همج لأنهم بصفتهم صيادين وبدوًا، كانوا “شعبًا متنقلًا” لا يفعل شيئًا سوى “المشي على الحشائش مثلما تفعل النمور والوحوش البرية”22. وإذا كان محو الخط الفاصل بين المتحضر والهمجي يعني أن همجًا مثل فرايداي بإمكانه أن يصير متحضرًا، فإنه يشي أيضًا بأن شعوبًا متحضرة مثل كروزو قد تصير همجًا. صحيح فعلا أن كروزو يبني مساكن دائمة، ويزرع محاصيل، ويستأنس الحيوانات، ولكن هذه أشياء لم يحققها إلا بالنضال ضد ما فيه هو من طاقات وحشية، أعني دافعيته الذاتية، وتمركزه حول ذاته، ورغبته في السلطة، ورفضه الرضوخ للحكمة الجماعية لمجتمعه، أو الرضوخ لأبيه، أو لرغباته الخاصة، أو لربه.
لقد تحضر كروزو نفسه من خلال النظر عن قرب إلى تطورات حياته، فأعاد التفكير في الدور الذي لعبه تأكيده العقلاني لذاته ولعبته دوافعه في جعله منبوذًا، وسأل نفسه عما يجب أن يفعله مع نفسه الآن، وهو أن يفهم أنه بالخضوع لطاقاته الوحشية صار “الوكيل المعتمد لكل مآسيَّ الخاصة”(ص32). وتمامًا كما كانت إعادة تقييم كروزو لآكلي لحوم البشر نماذج يعيد القارئ من خلالها النظر في العلاقات الأنجلو هندية، كانت تأملاته التي لا تنتهي حول قدره وما ينتظره في العالم الجديد، تسمح لديفو بأن يقود القارئ إلى إعادة تأمل مسألة الهجرة وقيمة التجربة الاستعمارية.
إن قضايا سياسات الهجرة، مثل الأزمة الملحة الخاصة بالعلاقات الأنجلو هندية، احتلت الصدارة في السنوات التي سبقت مباشرة صدور رواية روبنسون كروزو؛ ففي عام 1718 فعّل البرلمان قانون النقل، ومن أحكامه أن من يرتكبون جرائم معينة عقوبتها الإعدام، كانوا يعاقبون بالترحيل إلى المستعمرات بصفة خدم لمدة معينة. وهؤلاء المدانون التحقوا حتى بالرتب الأكبر الخاصة بأولئك الذين هاجروا تطوُّعًا، وألزموا أنفسهم بالعمل في الحقول مقابل تكلفة رحلتهم إلى العالم الجديد. بين عامي 1700 و 1780 كان أكثر من نصف الـ 270 ألف بريطاني الذين هاجروا إلى مستعمرات أمريكا الشمالية قد ذهبوا إلى هناك بصفة خادم بعقد. وبين 1718 و1775 كان ما يزيد على 48 ألف مدان قد جرى ترحيلهم.
كان ديفو منبهرًا بفكرة الترحيل، وبفكرة الخدمة بعقد. وبعد صدور رواية روبنسون كروزو بثلاث سنوات، كتب رواية الكولونيل جاك، وبطلها خادم بعقد في ماريلاند، ثم كتب رواية مول فلاندرز، وبطلتها مجرمة يجري ترحيلها إلى فرجينيا. وقد لعبت فكرة الترحيل والخدمة دورًا دالًّا -وإن كان مغمورًا- في رواية روبنسون كروزو أيضًا. ولأن نموذج حياة كروزو على المستوى التصوري، هو نموذج المجرم المرحّل، فإنه يؤمن بأنه جرى إبعاده إلى أرض قاحلة في العالم الجديد مقابل جريمته، وهي ليست جريمة مدنية بالطبع، بل جريمة أخلاقية وروحية خاصة بالعصيان، الجريمة التي عوقب عليها “بحكم من السماء” (ص72). كان الترحيل عقابًا، ولكن لأنه عقاب مقابل الإعفاء من عقوبة الإعدام، كان ينظر إليه أيضًا بصفته تأجيلا رحيما لتنفيذ العقوبة. وقد توصل كروزو بطريقة مشابهة إلى فهم حياته على الجزيرة؛ فهو يؤمن بأنه جرى إبعاده كـ”عقوبة على خطاياي”، لكنها أيضًا عقوبة “مؤجلة” و”رحيمة”، ذلك أنه جرى “تركه وحيدًا… لينجو من الموت” وأعطيت له الفرصة لكي يصلح ما أفسده (ص105-118-106-54). وهكذا، وبرغم أنه يبدأ حياته على الجزيرة في “عبودية” كأنه خادم بعقد، يكدح “بعمل يديه” (ص81-30) فإن كروزو بعد سنوات كثيرة، مثل المستوطنين والخدم الاستعماريين عند ديفو، مول وجاك، يجد كروزو أن بإمكانه في الأمريكتين أن “يبدأ العالم على أساس جديد”23، ويبني حياة يكون فيها ناجحًا من الناحية الاقتصادية، ومؤهلا من الناحيتين الأخلاقية والدينية.
كان ديفو مؤيدًا بقوة للهجرة إلى المستعمرات، وفكر في أنها كانت تقدم فرصًا حقيقية للفقراء، وفرصة ثانية للمهاجرين. قال: “إنهم يذهبون إلى هناك فقراء، ويعودون أغنياء. هناك يزرعون، ويتاجرون، ويزدهرون، ويتزايدون. حتى مجرموكم المرحلون، بعد أن حولوا أيديهم إلى الصناعة والتنمية، صاروا مزارعين وتجارًا أغنياء… (Plan of English Commerce ص318). بيد أن المستعمرات لم تكن تحظى بشعبية لدى الذين أفادوا أكبر إفادة من الذهاب إليها. لقد بدأت الفرص تنضب منذ ثمانينيات القرن السابع عشر، ومعظم الأرض الجيدة سيطر عليها الأغنياء، وواجه القادمون الجدد ركودًا كبيرًا في تجارة الدخان، وأدى الركود في تجارة العبيد الأفارقة إلى كثرة الطلب على الخدم البيض بعقود، خاصة ممن لا يملكون موهبة، وكثرت القصص عمن واجهوا صعوبات جمة في المعيشة والعمل في المستعمرات. أما أولئك الذين هاجروا بالفعل فكانوا عادة مدفوعين للمغادرة لا منجذبين للبقاء.
وأدرك ديفو أن من سيفيدون من الهجرة أعظم إفادة، كانوا يقاومونها بشكل كبير؛ لقد فكر جيمي -زوج مول- أن الأسهل بالنسبة له هو الشنق أكثر من الهجرة، أما الكولونيل جاك، فيتذكر عبوديته هو “البائسة” في المستعمرات، كلها لون من “العمل الشاق… وشظف العيش، والمعاناة”24. أما ديفو فيقوم بتسجيل هذه المحن بدلا من إخفائها. والحقيقة أن معظم الصعوبات التي يواجهها كروزو، لم تكن قائمة على روايات حكيت عن مبعدين عاشوا الوحدة، بل على الظروف النمطية التي كان المهاجرون يواجهونها في المستعمرات. لقد عاش معظم المستعمرين الحالة البدائية نفسها التي عاشها كروزو؛ فحتى مساكن المزارعين الناجحين في شيسابيك Chesapeake على سبيل المثال، كانت تتكون من غرفة واحدة في الطابق الأرضي، فيها مائدة، وأوان قليلة للتخزين، لم تكن لديهم حتى رفاهية وجود كرسي. كان الأقل ثراء -أي الخدم بعقود وصغار المزارعين والفلاحين الذين شكلوا الغالبية العظمى من سكان المستعمرات- يعيشون في حالة من الفقر، ويلبسون أسوأ الثياب. لقد عملوا مثل كروزو في الحقول أعمالا شاقة ومملة؛ فكل البضائع ووسائل الراحة التي كانت جاهزة للتسليم في إنجلترا، كانت بالغة الندرة في العالم الجديد، لدرجة أن المستعمرين كانوا مضطرين -مثل كروزو- أن يطوروا مهاراتهم، وأن يصيروا مستقلين بأنفسهم عن كل ألوان التجارة. وقد أمكن لصمويل جونسون Samuel Johnson حتى سبعينيات القرن الثامن عشر، أن يسجل “كم من ألوان التجارة كان على كل رجل في المستعمرات أن يمارسها، وبأي قدر من الجهد كانت منتجات الطبيعة تصبح صالحة للاستخدام الآدمي، وكم من الوقت كان ينفق لإصلاح عيب أو خسارة في إناء مشترك، وكم من الوسائل كان يجب توفيرها”25. والأهم من هذا كله أن المستعمرين كانوا يشعرون بالوحدة؛ فبعيدًا عن منطقة باربادوس Barbados كثيفة السكان، ومدن قليلة أوسع في نيو إنجلاند، كان هناك عدد كبير من المستوطنات الصغيرة في العالم الجديد، وكان غالبية المستوطنين في حالة عزلة، يعيشون على مبعدة من أقرب جيرانهم، كانت شكواهم أنهم “وحيدون جدًّا”، ويشعرون شعور “الناسك الفقير”، “مدفونين بالحياة” في “هذا البلد الصامت26”. كان شعورهم بالوحدة أعمق من شعور المحروم من الصحبة الإنسانية. إذ حين نزل وليم بريدفورد William Bradford ورفاقه في سفينة ماي فلاور Mayflower، على أرض منطقة كيب كود Cape Cod، كان أول رد فعل لهم هو “ماذا يمكنهم أن يروا، إلا أرضًا قفرًا بشعة، مليئة بالوحوش الضارية والبشر المتوحشين، وما الجموع التي يمكن أن يجدوها هناك ولم يعرفوها من قبل.. إنهم لو نظروا وراءهم لرأوا المحيط الواسع، الذي يبدو لهم الآن كأنه شريط واسع وخليج يعزلهم عن كل الأجزاء المعمورة في العالم”27. “شريط، وخليج”.. يستخدم كروزو كلتا الكلمتين لوصف حال جزيرته. وشعور الوحدة الذي يستحضرونه، ليس شعورًا بفقدان الرفقة، وإنما شعور بأنهم مستبعدون من الوجود، مقطوعون نهائيًّا عن كل ما هو معروف، ومتروكون تمامًا لآلاتهم الخاصة بهم.
ورغم أن ديفو كان متعاطفًا مع أولئك الذين تعرضوا لضغوط الفقر والمحنة، فإنه كان يفكر أيضًا في أنهم كانوا مسؤولين جزئيًّا على الأقل عن شكل حياتهم. وهو يصور الظروف الاستعمارية الصارخة جدًّا، فقط لأنه كان يؤمن بأن خشونة الحياة الاستعمارية، كانت مدرسة للفقراء والمجرمين، وأجبرتهم أن يأخذوا زمام حياتهم بأيديهم، ذلك أنها جعلتهم يدركون كيف أن فشلهم الخاص حفظهم من الفقر، أو من الانقياد للجريمة، وكذلك بأن علمهم الدرس المطلوب للانضباط الذاتي. إن كروزو والمستعمرَين الخياليَّين الآخرَين عند ديفو، أعني مول وجاك، كانت تقودهم جميعًا مشاعر لا تخضع للمنطق، مشاعر الطموح والجشع والأنانية، ولأنهم غير قادرين على ضبط هذه الطاقات، فرضوا أنفسهم على العالم، وطالبوه بأن يستجيب لرغباتهم. ونتيجة لهذا صاروا وكلاء معتمدين لمآسيهم هم، وإحدى هذه المآسي هي منفاهم في العالم الجديد. هناك كان البرنامج التوجيهي الطويل للتجربة الاستعمارية، يعلم الأبطال الثلاثة جميعًا، بأن السيادة الحقيقية هي فقط السيادة على الذات.
ولكن إذا كانت التجربة الاستعمارية قد علمت كروزو أن يكبح جماح نفسه، ويمنعها من فرض إرادته على العالم، فإنها لم تعلمه أن يكون سلبيًّا في مواجهة قوى هذا العالم. كان روبنسون كروزو مثل الاستعمار نفسه، قصة سيادة قبل كل شيء، والفارق بين السيادة على العالم وفرض النفس على هذا العالم، يمكن بلورته في واحد من آخر الأمثلة التي حاول فيها كروزو أن ينظر إلى الأمر مرتين، وأن يتمتع بتصورات مختلفة عن الأشياء. فهو حين يقرر أن يبحر في زورقه المبني حديثًا، يقفز مباشرة على تل ليدرس تيارات البحر (ص110). ورغم أنه ينظر إلى هذه التيارات بحرص، فإنه يسيء فهم ما يراه، ويكاد ينجرف إلى البحر حتى الموت. بعدها بأعوام، وبعد أن تتحطم سفينة بالقرب من الجزيرة، يقفز مرة أخرى إلى التل وينظر إلى تيارات الماء مرة ثانية، ويكتشف أنه لم يكن قد أخذ في حسبانه المد والجزر، ويعيد التفكير في حساباته السابقة، فينجح هذه المرة في الحركة بين التيارات.
بينما لم يفرض كروزو إرادته على هذه التيارات ويأخذها إلى حيث يريد هو أن يتوجه، فإنه أيضًا لم يسلم نفسه لهذه التيارات لتأخذه إلى حيث تريد هي أن تتوجه. وبدلا من ذلك يكيف رغباته هو مع القوى، ليصير -وهو يحصل على ما يريد- وكما قال جون ريخيتي John Richetti مراقبًا لـ”تدفق الأحداث نحو بداية ما”، ثم “متعاونًا مع الأحداث في اللحظة التي تخدمه هذه الأحداث”28. ورغم أن رغبة كروزو قد أدت به إلى أن يصير مبعدًا، فإنه لا يحصر نفسه في هذه الرغبة حتى النهاية، بل إنه يبقى حيًّا بسبب رغبته هذه. والفارق هنا هو ما يلي: أنه حين كان شابًّا فرض إرادته على العالم، محاولا أن يطوعه لرغباته، أما حين صار عجوزًا، معاقبًا بالتجربة الاستعمارية، فقد تعلم أن يتحكم في رغباته لا أن يستأصلها، ففتح لها قنوات وأشكالا تستجيب بها لمتطلبات عالم رآه عن قرب. إن الدافع الإمبريالي الذي جاء كروزو ليمثله إذن، هو دافع ذكوري غريب، لكن ذكوري بالمعنى الذي كان في أوائل القرن الثامن عشر،: معنى العقلانية وضبط الذات. وديفو حين يعتني بالقضايا الاستعمارية في رواية روبنسون كروزو، فإنما هو يركز على العقلانية وضبط الذات، محتفيًا بهذه القيم، على اعتبار أن هذه هي قيم التمكين التي تعلمها المهاجرون في المستعمرات، وهو يرشح هذه القيم لتكون المبادئ التي لابد ستقود البريطانيين، عند إعادة التفكير في سياستهم إزاء الآخرين “الهمج”.
الهوامش
الدراسة منشورة ضمن كتاب:
The Cambridge companion to “Robinson Crusoe” / edited by John Richetti. Cambridge; New York: Cambridge University Press, 2018, pp: 142- 156
Robinson Crusoe, ed. John Richetti (London: Penguin, 2001), 43– 4. All further page references in the text are to this edition.
– John McVeagh , “ Defoe and Far Travel ,” in All before Them: Attitudes toward Abroad in English Literature, 1660– 1780, ed. John McVeagh (Atlantic Highlands, NJ: Ashfield, 1989), 124.
– The Farther Adventures of Robinson Crusoe, ed. W. R. Owens, vol. 2 of The Novels of Daniel Defoe, ed. W. R. Owen and P. N. Furbank (London: Pickering & Chatto, 2008– 9), 125– 6.
– A General History of Discoveries and Improvements, ed. P. N. Furbank, vol. 4 of Writings on Travel, Discovery and History by Daniel Defoe, ed. W. R. Owen and P. N. Furbank (London: Pickering & Chatto, 2001), 217.
– A Plan of the English Commerce, ed. John McVeagh, vol. 7 of Political and Economic Writing of Daniel Defoe, ed. W. R. Owens and P. N. Furbank (London: Pickering & Chatto, 2000), 285, 122, 319.
– General History of Discoveries, 214.
– J. A. Downie, “Defoe, Imperialism, and Travel Books Reconsidered,” in Critical Essays on Daniel Defoe, ed. Roger D. Lund (New York, NY: G. K. Hall, 1997), 85.
– Peter Hulme, Colonial Encounters: Europe and the Native Caribbean, 1492– 1797 (London: Methuen, 1986), 186– 7.
ورغم أن الشعوب الأصلية التي يكتب ديفو عن لقائها ببريطانيا كانوا من ذوي البشرة السوداء، فإن مسألة العرق في ذلك الزمان كانت في أحسن الأحوال مفهومًا أخذ يظهر للتو، ولم يكن يبدو أن هذا المفهوم يلعب دورًا ذا بال في رواية روبنسون كروزو. وقد أظهر روكسان وييلر Roxann Wheeler أن مقولات الاختلاف الأساسية التي أعلنت بريطانيا من خلالها تفوقها، وأقامت عليها الكثير من سياساتها، كانت التحضر والمسيحية في مقابل الهمجية والوثنية.
The Complexion of Race: Categories of Difference in Eighteenth- Century British Culture (Philadelphia, PA: University of Pennsylvania Press, 2000).
– Richard Hakluyt, Pamphlet for the Virginia Enterprise (1585), in The Original Writings and Correspondence of the Two Richard Hakluyts, ed. E. G. R. Taylor, 2 vols. (London: Hakluyt Society, 1935), 2: 334.
– Alexander Whitaker, Good News from Virginia (London, 1613), 24; Robert Johnson, Nova Britannia (London, 1609), sig. D3v.
– Treasurer and Council for Virginia to Governor and Council in Virginia, August 1, 1622, vol. 3 of The Records of the Virginia Company of London, ed. Susan M. Kingbury (Washington, DC: Government Printing Office, 1933), 668.
– Increase Mather? “Preface” to Mary Rowlandson, The Sovereignty and Goodness of God, in American Captivity Narratives, ed. Gordon M. Sayre (New York, NY: Houghton Miffl in , 2000 ), 136 .
– A Review of the Affairs of France, ed. John McVeagh, 9 vols. (London: Pickering & Chatto, 2003– 11), 1:197.
– Abel Kettleby and other planters to the Council of Trade and Plantations, July 18, 1715, Calendar of State Papers, Colonial Series, America, and West Indies, ed. W. N. Sainsbury and others, 44 vols. (London: HM Stationery Office, 1860– 1969), 28: 236.
– J. R. Seeley, The Expansion of England (London , 1883 ), 8 .
– Council of Trade and Plantations to Secretary Stanhope, November 18, 1715, Calendar of State Papers, 28:345.
– Plan of the English Commerce, 305.
– A New Voyage round the World, ed. John McVeagh, vol. 10 of Novels of Defoe, 145; Serious Reflections during the Life and Surprising Adventures of Robinson. Crusoe, ed. G. A. Starr, vol. 3 of Novels of Defoe, 217.
– Farther Adventures, 44.
– رغم قرار كروزو بعدم استخدام القوة ضد آكلي لحوم البشر، فإنه قتلهم في اعتداءين اثنين، ويجري تفسير هاتين الحادثتين عادة بأن ديفو أقر موقفًا عامًّا من العنف ضد الهنود، ولكن ربما كان الأكثر معقولية هو تفسيرها بأنها تحديد للظروف الاستثنائية التي لا تنطبق عليها سياسة “العدل والسلوك الكريم إزاء السكان الأصليين”. المرة الأولى التي هاجم فيها كروزو آكلي لحوم البشر كانت لأن “العناية الإلهية استدعته” لإنقاذ فرايداي (ص 160) وكانت المرة الثانية حين تصرف لإنقاذ حياة مسيحي أوروبي.
– Review 9:172.
– John Lawson, A New Voyage to Carolina, ed. Hugh Talmage Lefler (Chapel Hill, NC: University of North Carolina Press, 1984), 175; Robert Cushman, Reasons and Considerations Touching the Lawfulness of Removing out of England, in Chronicles of the Pilgrim Fathers, from 1602 to 1625, ed. Alexander Young (Boston, MA, 1884 ), 243 .
– The Fortunes and Misfortunes of the Famous Moll Flanders, ed. Liz Bellamy, vol. 6 of Novels of Defoe, 246.
– Moll Flanders, 244. The History and Remarkable Life of the Truly Honourable Col. Jacque, ed. Maurice Hindle, vol. 8 of Novels of Defoe, 121, 149.
– Samuel Johnson, The Adventurer, #67, in The Idler and the Adventurer, ed. W. J. Bate, John M. Bullitt, and L. F. Powell, vol. 2 of The Yale Edition of the Works of Samuel Johnson (New Haven, CT: Yale University Press , 1963 ), 387 .
– William Byrd to John Boyle, July 28, 1730, and February 12, 1727/ 8, and to Charles Boyle, Earl of Orrery, July 5, 1726, in The Correspondence of the Three William Byrds of Westover, ed. Marion Tinling, 2 vols. (Charlottesville, VA: University of Virginia Press, 1977), 1:432, 372, 355.
– William Bradford, Of Plymouth Plantation, 1620– 1647 (New York, NY: Random House, 1981), 70.
– John Richetti, Defoe’s Narratives: Situations and Structures (Oxford: Clarendon Press, 1975), 45, 53.