سمير اليوسف
شهد العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين وقوع كوارث عديدة، متباينة الأسباب والطبيعة، منها سياسية تمثّلت في عمليات إرهاب وحروب دولية وأهلية، ومنها اقتصادية كانهيار بنوك، وأخرى صحيّة كتفشي وباء كورونا، ورابعة طبيعية، كوقوع زلازل وفيضانات.
ألفى الكُتّاب، من مثقفين ومفكرين وأدباء، أنفسهم، بفعل كارثة ما أو أكثر، أمام مهمة طارئة: الكتابة في ظل الكارثة. مثل هذا الضرب من الكتابة يعني مواجهة الواقع، وقد تقلّص هذا الواقع إلى جملةِ حقائق خطيرة تُطاول الحياة اليومية في أبسط تفاصيلها، على سبيل المثال، مغادرة البيت في حالة الوباء، أو البقاء في البيت في حالة وقوع زلزال.
ولكن كيف نتكلم عن “مهمة الكتابة في ظل الكارثة” بعد أن كنّا قد سلّمنا بأن لا مهمة للكاتب هناك، بعد أن سلّمنا بـ”موت المؤلف” و”نهاية التاريخ” ؟ هل الكوارث التي وقعت منذ مطلع القرن الجاري كانت كافية بقيامة المؤلف من الموت وبعودة التاريخ إلى سابق عهده ومسيرته؟
موت المؤلف وموت الإنسان
منذ عهد غير بعيد بات الأديب يضيق ذرعًا بالسؤال حول إذا ما كان النصّ الأدبي، قصيدة أو قصة أو مسرحية، يُغيّر الواقع، فيسارع إلى الردّ بالنفي: “الأدب ليس نشاطًا سياسيًا أو عسكريًا أو قضائيًا قانونيًا أو اقتصاديًا أو.. أي نشاط آخر يمكن أن نرى أثره الواضح على الواقع والحياة.”
والحق فإن أثر النص الأدبي لا يمكن أن يكون ملموسًا وواضحًا بحيث يمكن الإشارة إليه بطريقة مباشرة. وهذا سببٌ من ثلاثة أسباب مهمة جعلت العديد من الكُتّاب يُسارع إلى نفي إمكانية أن يُغيّر الأدب الواقع. السبب الثاني هو أن الأطروحة القائلة بضرورة التزام المؤلف بالقضايا السياسية والاجتماعية، أو بأية قضية أخرى، أمست منبوذة ومثار سخرية خاصة بعد أن تبنّتها وزارات ثقافة رسمية وأحزاب سياسية بما أدى إلى الاحتفاء بكتابات تفتقر إلى أدنى مقومات النص الأدبي، فقط لأنها تتكلم عن “الوطن” و”الثورة” و”الجماهير” و”العدل الاجتماعي” و”الحرية”.. والسبب الثالث، وربما الأهم، هيمنة النظريات والمناهج الأدبية، شأن “النقد الجديد” و”البنيوية”، التي تحرّم إحالة النص على ما يقع خارج النصّ: حياة مؤلفه أو المجتمع الذي ينتمي إليه أو الواقع الذي يصوّره النص.
لهذا الموقف جذوره الفكرية التي أفضت في النهاية إلى القول بـ”موت المؤلف” و”ولادة البنية”. القصة تعود الى مفكّرَيْن ظهرا في نهاية القرن التاسع عشر وإلى أطروحتين حاسمتين قالا بها. الأول هو نيتشه وأطروحة “موت الله وموت الإنسان”.
نيتشه كما نعلم ما كان ليكتفي بمحاربة عدوٍ واحد في الوقت نفسه، وأطروحة “موت الله وموت الإنسان” هي سهم برأسين، واحد موجّه الى الكنيسة ورجال الدين والآخر إلى العلمانيين من جماعة “عصر الأنوار” الذين بشّروا بولادة الإنسان العاقل العقلاني صاحب الإرادة الحرة.
الثاني هو عالم اللغة السويسري فرديناند دو سوسير صاحب أطروحة أن اللغة لا تكتسب معناها من خلال الإحالة إلى العالم أو الواقع. إذا قرأ المرء قصة عن كلب وقطة فإنه لا يُميّز ما بينهما باعتبارهما مخلوقين مختلفين ليس من خلال الإحالة إلى وجود القطط والكلاب في الواقع والفارق الواضح بينهما. لا! وإنما لأن كلمة “كلب” هي بمثابة علامة تختلف عن كلمة “قطة” التي هي علامة مختلفة عن الأولى. كل علامة لها دال ومدلول يميّزها عن علامة أخرى ذات دال ومدلول مختلفين. الخلاصة أن النص هو بنية لغوية – من هنا اسم “البنيوية” ذائعة الصيت- يتألف من علامات مختلفة ومن خلال هذا الاختلاف يُستمد المعنى.
إذا أضفنا هذه الأطروحة إلى أطروحة نيتشه بموت الله والإنسان، يصير من اللازم القول بأن قراءة النص لا بد وأن تكون قراءة بنية لغوية وليس كمجموعة معانٍ تعود إلى المؤلف، نواياه ومقاصده. بل ولا حتى إلى المجتمع الذي ينتمي إليه ومؤسساته وتمثيلات هذه المؤسسات.
سنعود إلى هذه الأطروحة لاحقا حينما نتكلم عن فشل البنيوية في التعاطي مع النص المقدس خاصة في ما يتعلق بمسألة المؤلف. يكفي أن نخلص الآن إلى أنه ولردحٍ من الزمن بدا وأن هذه الأطروحة هي النظرية “العلمية” الوحيدة التي يمكن في ضوئها قراءة النص الأدبي قراءة غير منحازة، قراءة موضوعية موضوعية العلم نفسه. بيد أن هذه النظرية لا تستقيم من دون التسليم المُسبق بالتجانس الكوني لكافة الثقافات وما دون الثقافات أيضًا، أي من دون إغفال حقيقة “الآخر” الكيان المُهمّش أو المُستبعد أو حتى المكبوت في سياق الثقافة “الكونية” أو “الموضوعية” الادعاء. ولكن من هو “الآخر” بمن يتمثل؟ وماذا عن المقولة الأخرى التي تعنينا هنا: “نهاية التاريخ”؟
نهاية أم بداية التاريخ؟
جاءت مقولة “نهاية التاريخ” وكأنها استكمال طبيعي لمقولة “موت المؤلف” و”موت الإنسان”. لا إنسان هناك ولا مؤلف، أي لا مؤرخ، فمن الطبيعي ألا يكون تاريخٌ هناك. وكانت نهاية الحرب الباردة في بداية العقد الأخير من القرن العشرين بمثابة بشارة حاسمة بانتصار الرأسمالية والنظام الليبرالي الغربي على الاشتراكية والنظام الاشتراكي الشرقي. مثل هذا الانتصار المزعوم حض البعض على الكلام عن “نهاية التاريخ”، وعن وصول قطار التاريخ إلى محطته الأخيرة التي هي الليبرالية الغربية.
كانت هذه هي الأطروحة التي تقدم بها المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما في كتاب “نهاية التاريخ والرجل الأخير”. ولكن كانت هناك أطروحة أخرى مضادة تمامًا، أطروحة تزعم بداية لتاريخ أو بداية جديدة للتاريخ. وبحسب صمويل هنتنغتون، كاتب ومفكر أكاديمي أميركي أيضًا، فإن نهاية الحرب الباردة لا تعني نهاية الصراع والتاريخ وإنما بداية تاريخ جديد من صراع، أو “صدام الحضارات”. العالم الذي كان طوال عقود الحرب الباردة منقسمًا إلى قسمين متحاربين سينقسم إلى ستة، وفقًا لهويات إثنية متباينة، تنتهي في حالة صدام حضاري ومن ثم صراع مديد.
بيد أن ما جرى في العقدين الأولين من القرن الواحد العشرين برهن على بطلان نبوءة المفكرَيْن الأمريكيّين. لا السلام النهائي حلَّ ولا التاريخ انتهى ولا الصدام المزعوم بين الحضارات بدأ على النحو الذي صوّره هنتنغتون. مثلًا، الهجوم الإرهابي الذي شنته منظمة القاعدة على برجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بقوته الصادمة وأثره المادي والمعنوي الهائل ودلالاته الرمزية الخطيرة، كان دليلًا مبكرًا صارخًا على أن الليبرالية الغربية أبعد ما تكون عن الانتصار النهائي. ورغم إصرار البعض على تصوير الهجوم بمثابة لحظة صدام حضارية (الإسلام ضد الغرب)، من جانب آخر، إلا أنه لم يكن تحققًا لنبوءة هنتنغتون حول صدام الحضارات. ولا كانت كذلك كافة الحروب الدولية والأهلية التي حصلت منذ بداية القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم. ليس فقط لأن البعض منها اقتصادي وطبيعي، شأن انهيار البنوك أو انتشار وباء كورونا أو الزلازل والفيضانات، وإنما أيضًا لأن العنف المسلّح وشى بأن العالم أمسى مقسومًا ما بين عالمين، عالم الدبلوماسية والسلام وعالم القوة المسلحة والصراع والحرب. على الأقل هذه هي الأطروحة الثالثة التي جاءت كبديل لأطروحتي “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات” خاصة بعد الاعتداء الإرهابي على نيويورك وما أعقبه من غزو انتقامي لأفغانستان والعراق.
في كتيّب بعنوان “الفردوس والقوة” جادل المفكر الأمريكي روبرت كاغان بأنه لم تعد هناك سياسة خارجية غربية واحدة رغم أن الدول الغربية ما انفكت منضوية في حلف واحد (حلف شمال الأطلسي)، توصل المفكر الأمريكي من اختلاف الدول الغربية حول غزو العراق، ما بين مؤيد ومعارض، إلى الخلوص بأن هناك من الدول الغربية من باتت تفكر وتقرر من خلال التسليم بنهاية الصراع ونهاية التاريخ، وأن لا حاجة هناك لاستخدام القوة والعنف في مواجهة التحديات السياسية والأمنية. وهناك من الدول، تحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية، ما انفك يعيش في عالم القوة وحيث الحرب والعنف المسلح منهج لا بد من توسله في سبيل التصدي للمخاطر التي تواجهها هذه الدول. ولكن ما جرى بعد غزو العراق من حروب ومواجهات دولية وأهلية برهن على أن هذه الأطروحة باطلة أيضًا. العالم سواء على مستوى الأمن السياسي والعسكري أو الاقتصادي والصحي والبيئي، أمسى مكانًا للكارثة.
القراءة النسوية للنصّ الذكوري
في الكلام على “موت المؤلف” انتهينا إلى السؤال عن ماهية الآخر: من أو ما الآخر؟ الإجابة إجابة شاملة وافية على سؤال كهذا ستتطلب مجلدًا كاملًا. لهذا سأحصر كلامي في مثاليْن: الأول، الآخر في المدار الجغرافي للثقافة نفسها وهو في سياق اهتمامنا المرأة، كما تناولتها النظرية النقدية النسوية، تحديدًا كتاب الناشطة والكاتبة الأمريكية كيت مِلِت “سياسات جنسية”. والثاني، الآخر من خارج المدار الجغرافي للثقافة التي تدّعي تمثيل المركز الكوني. مساهمات إدوارد سعيد الفكرية النقدية تغطي هذا الجانب من اهتمامنا هنا. إدوارد سعيد، وكيت مِلت من قبله، لعبا دورًا حاسمًا في احضار الآخر المستبعد إلى قلب الثقافة وبالتالي إلى إحياء “المؤلف” في مجال قراءة النص الأدبي.
القول بأن لا أثر للنصّ الأدبي، قصيدة كان أو رواية أو قصة قصيرة أو مسرحية أو ترجمة أدبية، على الواقع، إنما يقصد بأن أثر النص ليس من طبيعة أثر الأنشطة الأخرى ذات الأثر الملموس. هناك أثر للنصّ على الحياة والواقع ولكنه ليس ببساطة التأثير الناجم عن إضافة ملعقة سكر إلى فنجان قهوة. ولكن الكثير من القُراء لم يتمتع بما يكفي من الشجاعة، وربما بالوعي الكافي، لكي يشتغل على ربط النص بالواقع أو النص بالقارئ، إلى أن ظهرت النظرية النقدية النسوية وتحديدًا، كتاب “سياسات جنسية” في عام 1970.
كيت مِلت تنتمي إلى “الآخر”، أي المرأة بما هي “الجنس الآخر” أو “النصف الآخر”، المُهمّش والمقموع في داخل الثقافة التي تزعم الكونية والموضوعية. وعلى ما اكتشفت مِلِت، وكشفت، فإنه بعد كل تلك الاحتفالات بإنجازات المرأة، من حصولها على حقّ التصويت وحتى ما يُسمى بـ”الثورة الجنسية” في عقد الستينيات من القرن الماضي، في سياق المجتمع والثقافة الغربية، فإن المرأة ما انفكت ضحية العنف الذكوري المُمنهج والثقافة الذكورية.
كانت مِلت في الرابعة والثلاثين من العمر، أكاديمية حادة الذكاء، فنانة، راديكالية التفكير والسياسة، ناشطة في الحركة النسوية، تجدها دائمًا في طليعة التظاهرات، ومثل الصاعقة هبطت على المشهد الثقافي والسياسي مسلحة بكتابها “سياسات جنسية”. أول كتاب في النقد الأدبي النسوي وأحد كلاسيكيات الفكر التحرري للمرأة. وضع حدًا لهيمنة المناهج النقدية التي ترفض الربط ما بين النص الأدبي وما خارج النص.
وكما أسلفنا القول، لردحٍ من الزمن بدا أن إنكار الصلة ما بين النصّ والواقع هو القرار الحاسم في شأن قراءة العمل الفني والنص الأدبي تحديدًا. ولكنه كان قرارًا مريحًا لمن يتمتعون بالراحة والأمن والاستقرار. أما “الآخر”، أو من ينتمي للآخر، المعدوم الرفاهية أو الإحساس بالأمان، فكان لا بد وأن يدحض مثل هذا القرار جُملةً وتفصيلًا. هكذا أقبلت الكاتبة والناشطة الأمريكية كيت مِلِت على قراءة عدد كبير من أعمال كتّاب وأدباء غربيين خاصّة أولئك الذين طُوبوا كمتمردين على المجتمع وثقافة المجتمع المحافظة المهيمنة.
أقرّت مِلِت من حيث المبدأ بأن النص الأدبي ليس مقالة، أو بيانًا سياسيًا، ويا ليته كان كذلك لكان أذاه محدودًا جدًا. النص الأدبي أعمق أذىً من أية مقال متحاملٍ على المرأة. وهو أيضًا أخطر بكثير من أن نكتفي بمعاملته كمجرد عمل فني أو بنية لغوية. ليس فقط نقرأه من منطلق علاقته بالمجتمع والسياسة وإنما أيضًا نحاكمه من موقع المرأة الجديدة، الثائرة النسوية. وكيت مِلِت انتمت الى ما يُعرف بـ”الموجة الثانية” من الحركة النسوية. تبيعات هذه الموجة اشتهرن بتبني شعار: “الشخصي هو سياسي”. المرأة التي تنجب أطفالًا وتقوم بالأعمال المنزلية ليست مجرد أم وسيدة منزل، لا، هي موجودة في موقعها خضوعًا لما يُمليه النظام البطريركي الذي يحدد موقع الرجل والمرأة في المجتمع والدولة. في النص الأدبي كما في المجتمع، الرجل هو الفاعل والمرأة هي المفعول به.
هذا طبعًا لا يعني الاكتفاء بالتحريض ضد النصّ، وإدانة مؤلفه من خارج النصّ، وإنما من داخله أيضًا. وهذا ما فعلته مِلِت. بمبضع جراح شرّحت النص الأدبي كاشفة عن سموم كراهية الرجال للنساء الكامنة في أحشاء النص. تبنّي المؤلف التام للنظام الذكوري البطريركي ومسلماته التي تعتبر المرأة، في أحسن الأحوال، مواطنة درجة ثانية، وفي أسوأ الحالات، تبرر، إن لم نقل تحرّض على، العنف ضد المرأة.
اختارت مِلِت نصوص مؤلفين شأن د. هـ. لورنس وهنري ميلر ونورمان ومايلر بشكل خاص. أي نصوص كتّاب اشتهروا بأنهم أطاحوا المحرم خاصة في ما يتعلق بالكتابة عن المرأة والجنس. إنهم مؤلفون هاجموا أخلاق المجتمع البالية فصودرت كتبهم من السوق أو حتى مُنعت من النشر أصلًا. روّاد الحرية الجنسية والثورة الجنسية هؤلاء الذين سيكتبون عن الجنس من دون مواربة ويسمون الأعضاء الجنسية بأسمائها الفاضحة. مِلِت برهنت أن نصوص “فرسان الحرية” هؤلاء لا تقل تبنيًا لمسلّمات النظام الذكوري البطريركي عن نصوص أي كاتب رجعي يهاجم المرأة علنًا.
ما الحكاية، مثلًا، في رواية لورنس الشهيرة “عشيق الليدي تشاترلي”؟
كونستانس تشاترلي امرأة وحيدة، شقية في زواجها، خاضعة لمجتمع بالي الأخلاق، عاجزة عن التمرد. فما الحلّ؟ أو من الحّل؟ بحسب المؤلف، د. هـ. لورنس، فإن أوليفر ميلور، حارس الطرائد في الغابة التابعة لقصر زوجها، هو الحلّ. تذهب كونستانس إليه طلبًا للجنس والحرية. ميلور، لا ليس ميلور كله، بل يكفي عضوه التناسلي لكي ينفذ المهمة المطلوبة. قضيب ميلور سيحول كونستانس إلى امرأة جديدة، متمردة وحرةّ.
وبهذه الطريقة ايضًا شرّحت مِلِت أعمال مؤلف “متمرد” آخر شأن هنري ميلر. المرأة في نصوص ميلر ليست سوى للاستخدام الذكوري الجنسي إلى درجة يتم تقليصها إلى عضوها الجنسي. بل إن اسمها لا يُذكر إلا مسبوقًا بصفة الفرج. المرأة فرج مفعول به وصامت دائمًا. إنها صامتة في أعمال لورنس من قبله وفي أعمال نورمان مايلر من بعده. وهي إن تكلمت فلكي تبرهن على سخافة عقلها وتفكيرها أو لكي تنطق كالببغاء بما يريدها الرجل أن تنطق به.
كتاب مِلت أعاد للآخر حقّ الحضور بذاته وصوته ولغته دون رخصة الرجل أو المؤسسة الذكورية.
إدوارد سعيد والنص في العالم
إدوارد سعيد بدوره فضح خرافة القول بـ”براءة النص” وبراءة المكونات الجمالية للنص من الانحياز الأيديولوجي والسياسي بما أتاح المجال لربط النص بالواقع وبثقافة المؤلف ومواقفه السياسية على نحوٍ خاص.
من خلال كتابه المدهش “النص، الناقد والعالم”، ولاحقًا كتاب “الاستشراق” و”الثقافة الإمبريالية”، تكلم إدوارد سعيد على “عالميّة النص”. والمقصود بذلك انتماء النص إلى العالم. لكي نعي أهمية هذا المفهوم لا بد وأن ننوّه إلى مقولة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عن المعرفة الأولية التي تشمل التسليم المُسبق بالعالم باعتباره المكان والزمان.
في مواجهة العزلة الوجودية الذاتية التي انتهت إليها فلسفة ديكارت وفقًا للكوجيتو “أنا أفكّر إذًا أنا موجود”، جادل كانط بأن وجود الذات لا يتوقف على القدرة على التفكير فحسب وإنما على ضرورة توافر العالم، أي مكان وزمان الوجود. وهكذا بدلًا من الاكتفاء بكوجيتو ديكارت صار من المتاح الذهاب أبعد وقول “أنا أفكر فأنا موجود في العالم”.
إذا كان لا بد لوجود الأنا المفكرة أن تكون في العالم، فلا بد للفكرة وللنص أيضًا. ومن ثم لا يمكن فصل النص فصلًا تامًا عن العالم والاكتفاء بما يرد فيه من إشارات وعلامات.
ولكن إذا كان كانط مرجعًا معرفيًا مهمًا لربط النص بالعالم فإن الفلسفة الجمالية التي قال بها الفيلسوف الألماني تقع على الطرف النقيض مما توخاه إدوارد سعيد. ارتأى كانط أن الحكم الجمالي السليم هو الحكم الموضوعي المحايد الذي لا يرى أهميةً للعملِ الفني إلا في ذاته، أي من دون نسب غاية أو قيمة نفعية إليه، خاصةً كانت أو عامة، أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية.
والمتفق عليه أن نظرية كانط في الحكم الجمالي، شأن نظرياته في المعرفة والأخلاق، هي كونية التوجّه. ولكن تفحّص هذا الحكم في ضوء سيرة حياة كانط يدلُّ على أنه موجّه لمن يستمتع بحياة مستقرة آمنة، اقتصاديًا واجتماعيًا، شأن الحياة التي عاشها كانط نفسه. والذين قالوا بالفصل التام ما بين العمل الفني، خاصة النص الأدبي، وما يقع خارجه، سواء حياة المؤلف، أو الواقع الذي ينتمي إليه أو الواقع الذي يصوره باعتباره تصويرًا لواقع قائم فعلًا، إنما تمتعوا بظروف كانط، أو كان مزاجهم كانطيًا بطريقة أو أخرى: ماثيو أرنولد، تي إس إليوت، فلاديمير نابوكوف، جون إبدايك، وغيرهم. وهم بالضرورة من مارسوا النقد الأدبي وفقًا لنظرية ومنهج مدرسة “النقد الجديد” و”البنيوية”، هذا مع أن البنيوية استندت إلى نظرية لغوية وليس إلى حكم جمالي كانطي.
كانط ومن اتبّعه في مسألة الحكم الجمالي تجاهلوا ذاك الذي لا يعيش حياةً مستقرّة آمنة. بكلمات أخرى تجاهلوا “الآخر” سواء أكان الآخر المرأة كما سبق وأشرنا أو الآخر من خارج المدار الجغرافي الثقافي للمركز الأوروبي. فماذا عن “الآخر”؟ ماذا عن ذاك الذي لا يعيش حياة مستقرةً آمنة؟ ماذا عن ناقد وأكاديمي مفكر مثل إدوارد سعيد؟ أو ناقدة وأكاديمية وناشطة نسوية مثل كيت مِلت؟ لاشك وأنه يتوقع الحصول على ما هو أكثر من المتعة الجمالية للعمل الفني بذاته، أي لا بد من نسب قيمة أخلاقية أو نفعية من نوع ما.
في حياتهما الخاصة، لم يعانِ إدوارد سعيد وكيت مِلت من حياة شظف وحرمان ولا من تهميش مهني أو سياسي. على العكس تمامًا. كانا ناجحين أكاديميًا وفي الحياة العامة أيضًا وكتبهما نالت شهرة واسعة وكان لها تأثير حاسم على أجيال لاحقة من الكتّاب والناشطين. ولكنهما انتميا بحكمة صدفة الولادة إلى الجماعات المهمشة والمحرومة. كيت مِلِت امرأة وإدوارد سعيد ابن شعب تعرّض للاقتلاع والطرد من بلاده، أو الخضوع لحكم احتلال عسكري. والأدهى من ذلك أن القوى العُظمى تجاهلت مأساة شعبه ودعمت سلطة الاحتلال، وأن هذا التجاهل طاول العالم الأكاديمي والفكري والإعلام الذي يتفاخر بحريته والتزامه بقضية الحرية. لفترة طويلة حاول إدوارد سعيد نفسه أن يتجاهل هذه الحقيقة ولكن الحقيقة جاءت بنفسها لتطرق باب مكتبه، عشية هزيمة عام 1967، وتعلمه بأنه ينتمي إلى “الآخر”، المقتلع من بلاده والمهمشّ والمهزوم الآن.
ولكن اكتشاف سعيد لحقيقة انتمائه إلى الآخر لم يكن حصيلة تجربة شخصية فحسب وإنما فكرية وثقافية تتعلق بلحظة معرفية خطيرة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر. هذه اللحظة تتمثل في ظهور أعمال تشارلز دارون وكارل ماركس وفردريك نيتشه وسيجموند فرويد. وهي تتمثل في إعادة ما كان يُحلِّق في سامق السماء إلى أصله وجذوره على الأرض وباطن الأرض أيضًا.
اكتشافات دارون للأصول الفزيولوجية للبشر أماطت اللثام عن القرابة الوطيدة ما بين الإنسان وبعض الأجناس الحيوانية الأرقى تطورًا، أو بحسب المعرفة الشائعة أن الإنسان والقرد أبناء عمومة. وهو ما أطاح الزعم القائل بأن الإنسان صورة الله وخليفته. أما كارل ماركس فقد جادل، من جهته بأن كل ما يدور في البنية الفوقية من معارف وعلوم وأفكار وتصورات وسياسات إنما فضلها يعود إلى طبيعة البنية التحتية، الاقتصاد وتحديدًا طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع. نيتشه وفرويد ذهبا خطواتٍ أبعد من دارون وماركس وتكلما على الدوافع النفسية غير المُبجّلة التي تحض الإنسان على حمل أو تبني أفكار سامية وراقية. نيتشه تكلم على قوة اسمها “إرادة القوة-المعرفة” وفرويد تكلم على “اللاوعي”، البئر العميقة التي ندفن فيها أسرارنا الشخصيّة المُعيبة بحسب المعايير الأخلاقية للمجتمع.
واستنادًا إلى مثل هذه المرجعيات الفكرية العلمانية، ظهرت ضروب من القراءة الأدبية رفضت التسليم بأن العمل الفني جمالي الطبيعة فقط، وينتمي إلى ملكوت أسمى من الواقع المشروط بشروط سياسية واجتماعية ونفسية واقتصادية. مفكّرون ونقّاد شأن جورج لوكاش وأنطونيو غرامشي ولوسيان غولدمان وريموند وليامز وثيودور أدورنو وإيرك أورباخ رفضوا مقولة البراءة الجمالية للعمل الفني.
إدوارد سعيد تتلمذ على أعمال أصحاب هذا التوجّه في القراءة. وفي دحضه لمزاعم القائلين بضرورة الفصل الصارم ما بين النص والعالم، أو ما هو داخل النص وخارجه، تقدّم إدوارد سعيد بمقولة “عالمية النص” أو “النصّ في العالم”- أي ضرورة انتماء النص إلى العالم على ما سبق وأوضحنا. والعالم بالمعنى الذي ذهب إليه دارون وماركس ونيتشه وفرويد، وهو العالم العلماني: العالم الذي يخضع للتسمية والتعريف والتحديد بشروط معرفة إنسانية صادرة عن الوعي واللاوعي على السواء. وإنتاج النص الأدبي، بالمعنى المادي أو الفكري، لا يسلم من حقيقة هذا العالم وشروطه.
وعملية إنتاج النص المادية، على صيغة كتاب أو بواسطة مجلة أدبية، بحيث يصير متوافرًا في السوق تخضع لشروط إنتاج اقتصادية وسياسية واجتماعية. وكذلك مكونات النصّ، سواء كبنية لغوية أم كمعانٍ ومضامين معرفية، تنضوي في سياق أداء محكوم بالثقافة الشائعة، بالتقاليد التاريخية والأيديولوجيات المهيمنة والمناهج السائدة واستخدامات اللغة وقواعدها وطموحات المستقبل .. إلخ.
النصوص التي كتبها المستشرقون، على ما انبرى إدوارد سعيد، مبرهنًا في كتابه الشهير والجدالي “الاستشراق”، هي نصوص تنتمي إلى “الخطاب الاستشراقي”. وعلى هدى هذه الخلاصة، مضى في كتابه اللاحق “الثقافة والإمبريالية” إلى البرهان على أن النص الأدبي، شأن رواية الكاتبة البريطانية جين أوستن “منسفيلد بارك”، أو رواية الفرنسي البير كامو “الغريب”، على سبيل المثال لا الحصر، ليس بريئًا من شبهة التواطؤ مع الخطاب الاستعماري، البريطاني في حالة رواية أوستن، والفرنسي في حالة كامو. كل ما يمكن أن تتمتع به رواية أوستن من فضائل جماليّة لا يمكن أن تُلغي الحقيقة المُعيبة بأن الرواية تتعامل مع قضية امتلاك العبيد وكأنها مسألة طبيعية لا تحتاج إلى أن يتوقف عندها القارئ طويلًا. ومهما كانت إنجازات كامو، من خلال رواية “الغريب”، في إرساء أسلوب جديد في السرد القصصي، لا يمكن للقارئ أن يتجاهل حقيقة أن الرواية تُصادق ضمنًا على عنصرية السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر.
قيامة المؤلف
إلى هنا ونحن نناقش السؤال في سياق علماني. لكن هناك ما هو ديني وأسطوري في القول بالنهايات الكبرى -كالقول بموت الإنسان ونهاية التاريخ والعالم- حتى وإن كانت المنهجية المُستخدمة في الخلوص إلى هكذا قول علمانية الطابع. وهناك ما هو ديني أيضا في الكلام على الحوادث ككوارث، وفي الكلام على مهمة الكاتب إزاء الكارثة، وفي التوكيد على ضرورة الخلاص ورسالة الكاتب في سبيل الخلاص.
القراءة التي قدمها إدوارد سعيد وكيت مِلت للنص الأدبي بيّنت أن النصَّ غير بريء لأن المؤلف، من حيث يقصد ويدري أم لا، غير بريء أصلًا، هي علمانية من دون شك. لكن الخلاصة تنصّ على القول بمسؤولية أخلاقية تعود أصولها إلى النصّ الديني. القول بأن كيفية تعامل المؤلف مع الآخر -سواء المرأة أو أبناء وبنات الثقافات الأخرى المختلفة من خلال تصويره للآخر وتعريفه- بما بيّن تواطؤه مع ثقافة النظام السائد حتى حينما كان على خلاف معه ومتمردًا عليه، يكشف تقاعس المؤلف عن القيام بواجبه الأخلاقي.
وهكذا فإن النقد العلماني الذي انتهجته كيت مِلِت وإدوارد سعيد أعاد المؤلف إلى قلب النص من خلال التشديد على أهمية الوكالة الإنسانية في إنتاج النص، على التشديد بأن الكاتب فردٌ عاقل وصاحب إرادة حرةّ مستقلة، مسؤول عن أفعاله وعما يرد في سياق نصه.
ولكن هناك في هذا النهج العلماني من القراءة ما يذكّرنا بقصة، أو أسطورة دينية، قصة يسوع المسيح مع الميت لعازر. هذه القصة غالبًا ما تُستخدم كمثال للمعجزة الإلهية التي أتى بها يسوع برهانًا على أنه من لدن الله. ولكن للقصة دلالة أخرى، دلالة أخلاقية: يسوع المسيح أحيا لعازر فأعاده إلى كنف المسؤولية الإنسانية بعد أن كان لعازر قد استغنى عنها واستراح.
وبهذا المعنى فإن البنيوية حينما أعلنت موت المؤلف كانت قد أراحت المؤلف من مسؤولية ما يرد في النص. وكما سبق الإشارة، فمنذ اكتمال فلسفة نيتشه عند نهاية القرن التاسع عشر، وظهور نظرية اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير، أمسى الكلام على العمل الأدبي باعتباره مجموعة من الأفكار والمعاني مُثيرًا للاستخفاف والسخرية. لقد أماط الفيلسوف الألماني الكبير اللثام عن القوة الميتافيزيقية التي تحكم أفكار وسلوك الإنسان، “إرادة القوة”، بما أدى إلى الخلوص بأن الإنسان -وفقًا لتعريف “عصر الأنوار”، أي العقلاني صاحب الإرادة الحرة- لم يعد له وجود. إننا ببساطة دخلنا عصر “موت الإنسان”. وهذه الخلاصة كانت أشبه بتمهيد لظهور نظرية سوسير بأن اللغة ليست أداة وصف للعالم الخارجي ولا واسطة تعبير الإنسان. اللغة بمثابة بنية، نسيج من العلامات، مستقلة وسابقة على الإرادة الإنسانية، تقرر بفضيلة حضورها وحده المعاني الواردة في النصّ.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اكتسبت هذه النظرة، الفلسفية-اللغوية، رصيدًا استثنائيًا. فالإبادات الجماعية والدمار الشامل الذي ألمَّ بكافة الأطراف المتورطة في الحرب أملى ضرورة إعادة النظر في مشروع “عصر الأنوار”، خاصة في ما يتصل ببعض أركانه الأساسية ومزاعمه، وأبرزها مقولة أن الإنسان كائن عقلاني وصاحب إرادة حرة. وبدا وكأن نبوءة نيتشه حول موت الإنسان قد تحققت. أما الظن السابق بأن اللغة هي بمثابة أداة للتعبير عن ذات الإنسان، وعالمه ورغباته وإرادته، فهو مجرد وهم. وهذا ما قالت به البنيوية التي اعتبرت أن النصَّ الأدبي ليس تعبيرًا عن نية أو حياة أو عالم مولفه، وإنما هو جملة علامات تحيل معانيها على نفسها في داخل النص وليس على كيان أو واقع خارج النص. هناك قصيدة، نعم! ولكن لا شاعر هناك. ومن هنا “موت الإنسان”، بحسب نيتشه، انقلب إلى “موت المؤلف”، بحسب الناقد الفرنسي رولان بارط.
البنيوية كانت من سعة وقوة التأثير بحيث لم يسلم حقلٌ من حقول العلوم الإنسانية -هذا ناهيك عن النقد الأدبي والفلسفة- من سلطان منهجها. ولكن رغم نجاحها بكافةِ أشكالها ومشتقاتها إلا أن قارئ النصِّ لم يكفّ عن ربط النص بالمؤلف وبالواقع خارج النص وأن يعتبر المعنى بمثابة قولٍ يعبّر عن نية وإرادة المؤلف. حتى الذين تأثروا بالبنيوية لم يقاوموا الرغبة في الكلام عن داخل النصِّ وخارجه في الوقت نفسه.
لماذا؟
لأنه يمكنك أن تُقنع القارئ أن يقرأ القصيدة بمعزلٍ عن مؤلفها الشاعر والواقع الذي ينتمي إليه، أو يُحيلنا عليه، ولكنك لا يمكن أن تُقنع قارئ التوراة أو الإنجيل أو القرآن بقراءة هذه الكتب من دون ربطها بالله، أي بالمؤلف الأكبر الذي -تعريفًا- لا يمكن أن يموت بأي شكلٍ من الأشكال، ومن ثم بالواقع التاريخي والمجتمعي الذي يحيلنا عليه النص المقدّس.
البنيوية منهج علماني في القراءة حتى في أرحب استخداماته وأشدّها مرونة، فإنه لا يعترف إلا بما هو في متناول المعرفة الحسيّة والمعرفة العقلية التي تعتمد على شروط استوائها. ما هو معلوم وقابل لأن يكون معلومًا في ضوء الدلائل المتوافرة داخل النصّ. مستسلمة لدوجمائيتها العلمانية هذه، استبعدت البنيوية المقدّس من حساباتها الضيّقة، وفي أحسن الأحوال تعاملت معه من منظور علماني محدود وعقيم في أغلب الأحيان.
البنيوية واجهت حقيقة غير علمانية، ولا تخضع لمعايير القراءة العلمانية، النصّ المقدّس والمؤلف المتعالي الأكبر والصوت المقدّس. أمام حقيقة الله وقفت البنيوية متواضعة عاجزة عن أن تدّعي حق أن تقول الكلمة الحاسمة الأخيرة. وهكذا قام المؤلف من الموت قيامة لعازر وقيامة المسيح نفسه.
عودة التاريخ
كذلك الأمر بالنسبة لمقولة “نهاية التاريخ”!
لم تظهر هذه المقولة في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين فحسب وإنما أيضًا في العقد الأخير من نهاية الألفية الثانية. وهذا ما جعلها -وهي المقولة الفلسفية العلمانية الطابع- تبدو وكأنها نبوءة دينية قريبة الشبه من النبوءة التي تزعم بأن يوم اكتمال الألف الثاني هو يوم القيامة نفسه.
“نهاية التاريخ” هي حصيلة تأويل فوكوياما لفلسفة هيغل حول نهاية الصراع وإتمام الروح لرحلتها. فوكوياما لم يعتمد على نص الفيلسوف الألماني نفسه، “فينومينولوجيا الروح”، وإنما على كتاب المفكر الماركسي الروسي الكسندر كوجوف “مقدمة إلى قراءة هيغل” وهو مجموعة محاضرات كان كوجوف ألقاها في باريس وتركت أثرًا مهمًا على عدد كبير من المثقفين الفرنسيين. لاحقًا ومن خلال التعاون ما بين الكاتب الفرنسي ريمون كينوا والمفكر الأمريكي ألن بلوم تم جمع المحاضرات في الكتاب المذكور. فوكوياما كان تلميذًا لبلوم في جامعة شيكاغو وقد تأثر بأفكاره وتراثه الفكري.
ولكن التحدي الفكري الصارم لقراءة فوكوياما لهيغل جاء من حيث لم يكن متوقعًا، من جاك دريدا الذي أحيا ماركس، أو شبح ماركس، في قراءة تدحض مقولة “نهاية التاريخ” لمصلحة القول بـ”توقف التاريخ”- أي خروج القطار عن السكة ليس أكثر من ذلك.
“الزمن خارج المفصل” هي العبارة التي يستخدمها هاملت المُحبط الغاضب في وصف ما جرى نتيجة اكتشافه للغدر والخيانة التي أودت بحياة والده في مسرحية شكسبير الشهيرة. وهذه هي العبارة التي استخدمها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لكي يصف ما حدث عشية انهيار جدار برلين وانهيار النظام الاشتراكي في روسيا ودول شرق أوروبا.
غاضبًا وواضحًا، على غير عادته، جادل دريدا في كتابه المُفاجئ “أطياف ماركس” ضد الإعلان الاحتفالي عن وصول قطار التاريخ “الهيغلي” إلى المحطة الأخيرة بانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية النسخة. دريدا الذي كان لقرابة عقدين ونصف من الأعوام قد اتّبع منهجًا في القراءة والنقد مُرهِقًا لذهن أشدّ الراغبين إخلاصًا للفهم، فجأة توقف عن استخدام لغته المُحيّرة لينطق بما يشبه الخطبة المنبرية لإمام مسجدٍ في صلاة الجمعة:
“يجب أن يُقال صراخًا إنه في الوقت حينما يمتلك البعض الوقاحة لأن يبشّروا تبشيرًا جديدًا باسم مثال الديمقراطية الليبرالية الذي حقق أخيرًا نفسه باعتباره مثال التاريخ الكوني: يجب أن يُقال أنه لم يحدث أن كان العنف وانعدام المساواة والإقصاء والمجاعة، وعليه القمع الاقتصادي، أشدّ أثرًا على حياة هذا العدد من البشر في تاريخ كوكب الأرض والبشرية على ما هو عليه الآن.. عوضًا عن التغنّي بتقدم مثال الديمقراطية الليبرالية والسوق الرأسمالية في يوفوريا نهاية التاريخ، وعوضاً عن الاحتفال بـ(نهاية الأيديولوجيات) ونهاية خطابات التحرر الكبرى، دعونا لا نهمل هذه الحقيقة المُكبَّرة، المصنوعة من مواقع لا تُحصى من مواقع المعاناة: لا درجة من التقدم تبيح لنا أن نتجاهل حقيقة أنه لم يحدث أبداً، تبعًا لمطلق الأرقام وحدها، بأن هذا العدد العديد من الرجال والنساء والأطفال قد تعرضوا للخضوع والجوع والإبادة على وجه الأرض من قبل.”
صارخًا نطق صاحب منهج “التفكيك” الذي نادرًا ما كنّا على يقين تام عن معنى ما يقوله أو ما يريد أن يقوله. وقد اختار الفيلسوف الفرنسي أن يلعب دور شخصية مسرحية شهيرة (هاملت) تَنعى اغتيال والدها غدرًا وخيانة، وتدين احتفاء الخائنين القتلة. لا مناص، والحالة هذه، من التماس العبارة الواضحة المباشرة للتعبير عن الشعور، خاصة شعور الغضب، إذا أردنا أن يفهم الناس بأننا غاضبون وأننا على حقٍ بأن نكون كذلك.
ولكن العبارة الواضحة المباشرة عامة لا تستوي دون التسليم بجملة فرضيات وثنائيات ميتافيزيقية يعمل منهج التفكيك أصلًا على اماطة اللثام عنها وإبطالها. لذا اضطر صاحب هذا المنهج للابتعاد عن طاولة مكتبه، وعن لعب دور القارئ-الناقد للنص، الذي ولعقدين ونصف حرم نفسه من حق استخدام عبارة “يقول المؤلف”، ولو مجازًا مخافة أن يبدو وكأنه يُحيل النص إلى ما هو خارج النص فيقترف خطيئة التسليم الميتافيزيقي بما لا برهان صارم على حضوره أو وجوده تبعًا لمقومات المنهج المتّبع. لكي يتمكن من أن يُعبّر عن مشاعره اضطر دريدا أن يتخلى عن لعب دور القارئ التفكيكي للنص وعوضًا عن ذلك أن يخرج إلى الشارع السياسي غاضبًا مُحتجًا ضد الاحتفال بالانتصار المزعوم للحرية. لكنه بخلاف جان بول سارتر، مثلًا، لم يكن واهمًا بحيث يُسلّم بوجود “شارع سياسي” يمكن للمثقف الملتزم سياسيًا الخروج إليه والانضواء في خضمه، وإنما فقط خشبة مسرح يمكن أن يؤدي عليها دورًا كممثل يستلهم شخصية مسرحية كبرى. دريدا قرر أن يؤدي دور شخصية هاملت وإن لعرضٍ مسرحيّ واحد فقط.
استحضار الآخر المُستبعد
أحيا المسيح لعازر فأعاده إلى عالم الحقيقة والقيم والمعايير. وأحيا شكسبير والد هاملت المغدور على شكل شبحٍ يُفشي الحقيقة المُظلمة لابنه. وأحيا ماركس شبح الشيوعية، وها هو دريدا يمضي في الطريق نفسها فيُحيي كارل ماركس.
الأب المغدور في مسرحية شكسبير هو والد هاملت والأب المغدور عند دريدا -عشية انهيار المعسكر الإشتراكي والقول بنهاية التاريخ- هو كارل ماركس، بما أثار حيرة قُرّاء دريدا، غني عن القول. حتى ظهور كتابه “أطياف ماركس” ما كان لمطّلعٍ عاقل على تاريخ الفكر الغربي أن يُقيم ربطًا مباشرًا ما بين دريدا وماركس. ولكن عشية احتفال دعاة السوق الاقتصادية الحرة بانهيار النظام الاشتراكي وإعلان نهاية التاريخ بانتصار “الليبرالية الغربية” جاهر دريدا بكونه ابن ماركس المفجوع بموت والده غدرًا. فمنذ متى كان ماركس أبًا لصاحب منهج التفكيك؟ هل كان يومًا؟
في بداية مسرحية شكسبير الشهيرة يظهر شبح والد هاملت لكي يُفشي لابنه سرّ اغتياله. ومع إفشاء السرَّ الرهيب يتوقف الزمن بالنسبة لهاملت: “الزمن خارج المفصل!” كل ما سيجري أو يجب أن يجري، بعد لحظة الاكتشاف الصادمة هذه، لن يكون في السياق الزمني المألوف للعالم. وكذلك الأمر بالنسبة لدريدا. طيف ماركس ظهر له، ظهر لأوروبا كلها، ليُفشي الحقيقة بأن القطار لم يصل الى المحطة النهائية، بحسب مجاز صاحب “نهاية التاريخ”، وإنما فقط خرج عن السكة وتوقف لوقتٍ وجيز. والإحالة إلى طيف ماركس كإحالة إلى طيف والد هاملت المغدور تنطوي على إحالة إلى طيف آخر، طيف يسكن أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، “طيف الشيوعية”، التي بشرّ بها ماركس. اللعبة من دون شك شكسبيرية الأداء وعلى مسرح شكسبيري ولكن بشروط ولغة كارل ماركس في أفصح ما كتبه بمعية رفيقه فردريك أنجلز، “البيان الشيوعي”: “ثمة طيف يسكن أوروبا- طيف الشيوعية. وكل قوى أوروبا القديمة قد دخلت في تحالف مقدّس لأجل طرد هذا الطيف.”
في داخل مسرحية “هاملت” هناك مسرحية أخرى، يكتبها ويخرجها هاملت نفسه. هذه المسرحية الداخلية هي المرآة التي ستجعل المشاهدين، تحديدًا الملك القاتل وزوجته المتواطئة معه في القتل، أرملة القتيل ووالدة هاملت، يريان حقيقة نفسيهما، خائنيْن قاتليْن. المرآة الشكسبيرية ليست هي نفسها المرآة في الرواية التي تنتمي إلى ما يعرف بـ”الأدب الواقعي”، أي ليست المرآة التي تعكس الواقع كما هو عليه. مرآة شكسبير لا تكتفي بأن تعكس ما هو هناك وإنما تستخرج الحقيقة من صدور الخونة القتلة والمتواطئين معهم. مرآة شكسبير هي مرآة ماركس ومرآة هاملت هي مرآة دريدا.
في مرآة هاملت يظهر الملك الجديد على حقيقته، قاتلًا، بل وقاتلًا لشقيقه. الملك القاتل هو شقيق الملك المقتول، الشقيق يقتل الشقيق ويستولي على تاجه وأرملته أيضًا. شكسبير يستخدم قصة قابيل وهابيل في النص الديني لكي يستحضر الضحية في صورتها الأرسخ في الوعي العام، هابيل الأخ المقتول. هاملت يستحضر الضحية، والده الملك المقتول غدرًا، والمستبعد عن السلطة والاحتفال الراهن. ودريدا يستحضر ماركس والشبح الذي كان ماركس قد استحضره من قبل.
استحضار المُستبعد -وإن على صورة شبح- هو استحضار للآخر المُستبعد أو المكبوت. والكارثة بطبيعتها هي المناسبة الأقوى لاستحضار المهمّش والمستبعد والمكبوت. الكارثة هي لحظة يتوقف فيها الزمن، “الزمن خارج المفصل” على حد تعبير هاملت ومن بعده دريدا. الزمن لا ينتهي. ولا ينتهي التاريخ أو يُتمّ مسيرته مع حصول الكارثة: اغتيال والد هاملت كان كارثة توقف فيها الزمن. انتصار السوق الاقتصادية الحرة، غداة انهيار المعسكر الاشتراكي، كان كارثة توقف فيها الزمن. انتشار وباء كورونا كان أيضًا كارثة توقف معها الزمن.. إلخ. في ظل توقف الزمن هناك حاجة إلى الفعل الذي يُفضي إلى الخلاص. مهمة الكاتب في ظل الكارثة، وتوقف الزمن، هي استحضار الآخر المغيّب حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن القيام بعمله المعهود. وبدلًا من أن يكون قارئًا للنص يحارب الثنائيات الميتافيزيقية يخرج إلى الشارع ويؤدي دور شخصية مسرحية غاضبة!