الناصر ظاهري
ما تزالُ مدوّنةُ الشعرِ العربيّ القديم مَجالًا رحبًا لِلْبَحْثِ تشدّ نُصُوصُهَا الدَّارِسَ، فيفتنه البيانُ السّاحرُ. إذّاكَ، ينقِّبُ طيّها عن أسرارِ الصناعةِ الخطابيةِ وعن جملةِ القوانينِ المتحكّمةِ في الإبداعِ وفي آثارها في المخاطَبِ وفي وظائفها، وقد استقرّ الشعر صياغةً لغويّةً جمَالِيَةً آسِرَةً مُخيّلةً مُمتعةً ومفيدةً ومقنعةً. وهكذا، لمّا كانت بواعثُ الشعرِ مُتَبَايِنَةً بين الشعراءِ فإنَّ المقاصدَ بدورها مختلفةٌ سواء في إيرادها بطريقةٍ جليّةٍ أم خفيّةً قد يدفعُ المخَاطَبُ إلى تمثّلها، فيتخطّى حِينئذ القولُ الخطابيُّ بما يحدثهُ من آثارٍ محضَ الإمتاعِ إلى شأنِ الإقناعِ بما تمتلِكُهُ الأقاويلُ المُخيّلةُ من قدرةٍ على الدهشةِ وعلى قلبِ المُحالِ المُمْتَنِعِ مُمْكِنًا، فالشعرُ إلاّ أقلّهُ له طاقةُ السّحرِ، فتتراءى الذَّاتُ المتكلّمةُ ساحرةً بِمَا تُنْشِئُ من أَخْيِلَةٍ وبما تبتدعُ من معاني أبكارٍ فضلا عمّا يمتلكُه الخطيبُ من مهاراتِ الحَمْلِ على إِقْناعِ الآخرِ برؤيتهِ بما يحوزُ من وسائلَ. ومن ثمّة، يمتلكُ الشاعرُ العربيّ القديمُ بما أنشأ من نصوصٍ مختلفةِ الأغراضِ قدراتٍ على فهْمِ الانفعالاتِ يسميها ويصفها وقد يعرفُ أسبابها. وَوَحْدَهُ، ينتبِهُ إلى الطرقِ التي بها تُسْتَثَارُ حتّى يُحْسِنَ استثمارها في مشروعه الحجاجيّ.
وعليه، تتراءى أغراض الشعرِ العربيّ القديمِ عامةً وشعر الرثاء خاصةً طرقَ محاجةٍ، وتسلك فيها الأقاويلُ مسالكَ حجاجٍ عامةً وإن تباينتْ قواعدُ نظمها، ومنها أنّه على الجزعِ يُبْنى الرثاءِ، إذ يفزعُ الرّاثي من مذاقِ المنونِ، فيهرعُ إلى مغالبةِ الحدثِ، فيكونُ الانفعالُ الأليمُ القادحَ المُثيرَ للنّظمِ، وقد ينجحُ في مغالبة الراهنِ الواهنِ عندما يوجّهُ مرثيته وجهةً أخرى لِتجري مجرى المُحاجة تتجاوزُ بوتقة الذَّاتيّ ليضحي الحدثُ حدثُ الانفصَالِ جلَلًا يدْحَرُ وطأة الموتِ ويخفّف لذعتَهُ، وتُثيرُ الفاجعةُ أحْزانَ الآخرِ حتى يشاركَ الموجوعَ حُرقَةَ المنايا ويُسلِّمَ بحتميةِ رَحِيلِهِ الآجلِ. وهكذا، تصنعُ المرثيةُ حُجَجَها ومَوَادَّ بُرْهَانِهَا صُنْعًا باهرًا، فتستوي قولًا جميلًا عن حَدثِ جليلٍ، قدرُهَا إنْ صدرتْ عن بُؤْرَةٍ أهوائيةٍ أن تُحرّكَ عواطفَ شتّى في المستمعِ من قبيلِ مشاعر الرّأْفَة والشَّفقةِ أو السّخَطِ والنِّقمةِ في آنٍ.
ونؤثرُ في هذه المحاولةِ مقاربةَ مسألةِ حجاجية الانفعالاتِ الشعريةِ من منظور تداوليّ من خلالِ استقراء مرثية ابن الأنباريّ التائية للوزير ابنِ بقيّةَ الذي قُتِل صلبًا. نبحثُ طيّ المرثيةِ تلبّسَ الحجاجيِّ الأقاويلَ الشّاجيةَ، ونستجلي حضور حجج العواطفِ والباتوس عموما وقد أُشْرِبت المعاني الأول في قسمِ التَّأْبِينِ من القصيدةِ دلالاتِ الحجاجِ، واستثمرَ الرّاثي كلّ ممكناتِ اللغةِ. ونستضيءُ بجملةِ من الأسئلةِ للنّظر على وجه الخصوصِ في مبحثِ الحججِ من حيثُ أنواعها ووجوه ترتبيها وسُلَّمِيَّة العواطفِ وأثرَها في البناء الحجاجيّ وما يستتبعُ ذلكَ من قيمٍ جَمالِيّةٍ حولَ مآلٍ مُحْتَمَلٍ للاستدلالِ بالعواطفِ في أمرِ نَجَاحِ الرّاثي في إقناعِ مخاطبِه أو إخفاقهِ. فلنا أن نتساءل ها هنا بقولنا كيف نجح أبو الحسن بن الأنباري في مرثيته التّائية الموسومةِ بـ»مرثية مصلوب» في أن يحملَ المُخَاطَبَ على الاقتناعِ بعِظمِ الفقدِ ووطأةَ حدثِ موتِ الوزير أبي طاهرٍ بن بَقيّةَ صلبًا؟ وكيف أثارَ خطابهُ الشفقةَ والنقمةَ في آن؟ وإلى أيّ حدّ كانت المحاجةُ بحجج العواطفِ عنده بوتقةً تجتمِعُ فيها المُتنافِراتُ، يحسّنُ القبيحُ ويُجمّلهُ وبالمقابلِ يُقبّحُ الحسنُ؟ وما المعنى الجديدُ الذي يُعِيدُ الشّاعرُ بناءه وصياغته في نظرتهِ إلى الموتِ في نظامٍ معرفيّ عربيّ إسلاميّ يزاوج بين البيانِ والعرفانِ؟.
1 – المتن الشعريّ:
يقول أبو الحسن الأنباريّ في مرثيته التائية التي يرثي فيها ابن بقيّة حين ظفر به عضد الدولة فرماه تحت أرجل الفِيَلَةِ، ثمّ صُلبَ[ الوافر]1:
عُلُوٌّ في الحَيَاةِ وَفِي المَمَاتِ
بِحقٍّ أَنْتَ إِحْدَى المُعْجِزَاتِ
كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا
وُفُودُ نَداكَ أَيَّامَ الصِّلاَتِ
كَأَنّكَ قَائِمٌ فِيهم خطِيبًا
وَكُلُّهُمْ قِيَامٌ لِلصّلاَةِ
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحَوَهُمُ اِحْتِفَاءً
كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ بِالْهِبَاتِ
وَلَمّا ضَاقَ بَطْنُ الأَرْضِ عَنْ أنْ
يَضُمَّ عُلاَكَ مِنْ بَعْدِ المَمَاتِ
أَصَارُوا الجوَّ قَبْرَكَ وَاِسْتَنَابُوا
عَنِ الأَكْفَانِ ثَوْبَ السَّافِيَاتِ
لِعُظْمِكَ فِي النُّفُوسِ تَبِيتُ تُرْعَى
بِحُرّاسٍ وَحُفَّاظٍ ثِقَاتٍ
وَتُشْعَلُ عِنْدَكَ النِّيرانُ لَيْلًا
كَذَلِكَ كُنْتَ أَيَّامَ الحَيَاةِ
رَكِبْتَ مَطِيّةً، مِنْ قَبْلُ زَيْدٌ
عَلَاهَا فِي السِّنِينِ المَاضِيَاتِ
وَتِلْكَ فَضِيلَةٌ فِيهَا تَأَسٍّ
تُبَاعِدُ عَنْكَ تعْيِيرَ العُدَاةِ
أَسَأْتَ إِلَى الحَوادِثِ فَاسْتَثَارتْ
فَأَنْتَ قَتِيلُ ثَأْرِ النَّائِباتِ
وَلَوْ أَنِّي قَدَرْتُ عَلَى قِيَامِي
بِفَرْضِكَ وَالحُقُوقِ الوَاجِبَاتِ
مَلأْتُ الأَرْضَ مِنْ نَظْمِ القَوَافِي
وَنُحْتُ بِهَا خِلاَلَ النَّائِحَات
وَلَكِنّي أُصَبِّرُ عَنْكَ نَفْسِي
مَخَافةَ أَنْ أُعَدَّ مِنَ الجُنَاةِ
وَمَا لَكَ تُرْبَةٌ فَأَقُولُ تُسْقَى
لأَنَّكَ نُصْبُ هَطْلِ الهَاطِلاتِ
عَلَيْكَ تَحِيَّةُ الرّحْمَانِ تَتْرى
بِرَحْمَاتٍ غَوَادٍ رَائِحاتٍ
حريّ بنا هاهنا أن نشيرَ إلى حقيقة الشعرِ بوصفِهِ فنّا مخيّلا خطابيّا مادتهُ اللغةُ، فقد استقرَّ في مصنّفاتِ البلاغيينِ والنّقّادِ العربِ القدماء والمحدثينَ شرقا وغربًا بكونه مُنْجَزًا لغويّا وضربا من أضربِ النّسجِ قوامهُ التّصويرُ والتعبيرُ، تتعدّد بواعثهُ من ناظمٍ إلى آخرَ، كلٌّ يُجري أقاويله مجرى مُفارقا إنْ وُفِّقَ في الظّفرِ بالحجّةِ على حدّ تعبير الجاحظ، ويُخرجُها على غيرِ مُخرجِ العادةِ قصدِ التأثيرِ في الآخرِ واستمالتهِ، فيصوغُ من ممكناتِ المجازِ وممّا تتيحهُ اللغةُ حقائقَ شعريةً حول الذات والوجودِ، بِنِسْبِيتِها، تجري في باب المُحتمَلِ، ولهَا من أثرِ الوقْعِ ما يجعلها تُضارعُ الحقائقَ التجريبيةَ الطبيعيةَ المطلقةَ. ولا يخفى أنّ الشعرَ عند العربِ هو علمٌ لأنّ المادة اللغويةَ للجذرِ (ش،ع،ر) ترتبط بالعلمِ، فالشاعرُ عالمٌ، وسميّ الشاعر شاعرا لأنّه يعرفُ ما لا نعرف ويرى ما لا نرى(2). فيجري كلامه مفرّقا بين الحسن والمذموم وبين الإساءة والإحسان، فيخرجه بذلك من محال الهذيان إلى كمال البيانِ. وتستوقفنا المحاورُ الدلالية في المرثية التائية بمعانيها، إذ نظمت هذه القصيدة على بحر الوافر، رويّها صوت التّاءِ ومجراه الكسرةُ ( تِ )، وهو صوت مهموس قد يحمل دلالة الانكسار، بيد أنّ نظام الإيقاع في هذه المرثية نلفيه يتجاوز قيود وزن البحر والتقفية والتكرار وغيرها إلى كونه ناشئا من حركة تطال كامل الخطاب مبتدأ ومنتهى، فيسري على وتيرة قد تضارع تجوّزا النواح وتحاكي البكاء في حدّته وانقطاعه. ومهما يكن من شأن الإيقاعِ الذي تصنعه الذاتُ المتلفّظةُ فإنّ هذه القصيدة تجري في غرض الرثاء، وهو فنّ من فنون القول الشعريّ يساسُ فيه البيانُ على معالمَ مألوفةٍ، منها النعيُ فالتأبين فقسم التعزية والاصطبار والدعاء بالسقيا. والناظرُ في تائية ابن الأنباري يتبيّن أنّها بنيت بنية ثلاثية استهلها بوحدة النعي ثم خصّ وحدة التأبين وذكر خصال الميت من الوجهة الكمّية بقسم أهمّ من أبياتِ الشعر ثم انغلقت القصيدة على شأن الدعاء. وبالجملة، لم تشذّ عن معمار المراثي في مدونة أشعار العربِ القدماء. ومن جهة أخرى، قد يكون جنسُ الرثاءِ أقربَ الأغراضِ وآكدها حتى يتمحض القول فيه إلى الحجاج عامة، وإلى الحجاج بالعواطفِ عامة لأنّ الذات المتلفظة تحمّلُ خطابها المخيّل لبوسًا انفعاليّا وتنسجُ من الأخيلةِ ما يكشفُ مزيجا من الانفعالات المتناقضة التي تكابدها الذاتُ متقلّبةً بين الفزعِ والجزعِ والهلعِ، فتكون المرثيةُ نسجا آخرَ يحملُ من طاقةِ المحاجةِ بما يستشعرهُ السامعُ من عواطفَ شتى تنفعل له نفسه، فيضحي محجوجا منفعلاً، يذعنُ إلى دعوى الراثي، مشفقا حينا وناقما حينا آخر.
2 – بؤرُ الأهواءِ، أو بلاغة الأضداد:
تشدُّ هذه المرثيةُ باعتبارها خطابًا مُخيلًا إلى سجلّ مخصوصٍ من خلال استدعاءِ ابن الأنباريّ إلى العاطفةِ حتّى يحاججَ، فَيَخْفُتُ صوتُ العقلِ وكلّ سبلِ الاستدلالِ (raisonnement)، ولعلّ ذلك مبرّر بطبيعةِ غرضِ الرّثاءِ الشعريّ الموسومِ بالانفعالِ والمشحونِ بكلّ الدلالاتِ الشاجيةِ لأنّه يُبنى على الجزعِ وانكسارِ الذاتِ المتلفّظةِ أمام سطوةِ الموتِ وجبروته. ومن ثمّة، تعدّ العواطفُ مسلكًا في التأثيرِ في النفوسِ وتغييرِ الاعتقاداتِ، وتكون خبرةُ الخطيبِ الرّاثي بنفوسِ مخاطبيهِ هي أساسُ المُحاجّةِ النّاجعةِ عنده لأنّ قدرة الخطيبِ على استمالةِ المخاطبين والتأثيرِ فيهم هي رهنٌ بمدى نجاحه في تحريكِ النفوسِ للفعلِ. وعليه، يَكُونُ للدّليل العاطفيّ قيمةٌ حجيةٌ تنفردُ العاطفةُ لتكونَ من أبرزِ الحججِ عندما تجري في مجرى الرثاءِ وقد شُحِنَ ألما ووعيًا عميقًا بوطأة الفقْدِ، فبالعاطفةِ احتَجّ مُخْرِجًا خطابهُ مُخرجا مُفَارِقًا على غير العادةِ والمألوفِ، وقد زاوج بين الشعر والسحرِ.
وغنيّ عن البيان القولُ إنّ التداخل بين القول الشعريّ المخيّل والانفعالات ليس بِدْعًا من القول جديدًا بقدر ما كان تصوّرا خطابيا انتبه إليه أرسطو، إذ عقد في المقالة الثانية من كتاب الخطابة صلة الانفعالات بالحجاج، وتضحي العواطفُ حجّةً يصنعها الخطيبُ في خطابه حتى يقنع الجمهور بدعواه التي ينافح باللغة عنها فضلا عن حُجَّتيْ الأخلاقِ والخطاب (éthos/ logos ) في حدّ ذاته. وهكذا، يكون الباتوس هو تلك العواطف التي يحرّكها الخطيبُ في جمهوره ويجريها مجرى حجاجيا، فيؤثّر في أحكام المخاطَب إزاء قضية من القضايا إن أدرك سُبُلًا تُعِينُه «على عطف القلوبِ النَّافرةِ وعلى قذف اليقين في النُّفوسِ الشّاكة»(3). ووصلا بما سبق، فإنّ العاطفة في الموروث البلاغي الأرسطي تستقرّ دليلا موجّها إلى السامع لأنّ « التّوجّه إلى العقل لا يكفي لهزّ الإرادة الدّافعة إلى الفعل»(4). ويرى بنفنيست أنّ كلّ خطابٍ هو «تلفّظٌ يفترضُ متكلّما ومستمعا ولدى الأوّل هدف التأثير على الثاني بطريقةٍ ما»(5). ومن ثمة، تنزع البلاغةُ الجديدة إلى استجلاءِ آليات الإقناعِ برصدِ قدرات المتكلّم التي يستثمرها قصد تحقيقِ أهدافه التأثيرية والإقناعية على المتلقّي. فيتراءى الخطيبُ بارعا في تطويع اللغة والتلاعبِ بها لِمَا يخدمُ مصلحتهُ من قبيل «تصوير الحقّ في صورة الباطلِ، والباطلِ في صورة الحقّ»(6).
لعلّه من البداهة القول إنّ الخطابة عند أرسطو هي صناعة مدارها «إنتاج قولٍ تبني به الإقناع في مجال المحتملِ والمسائلِ الخلافيةِ القابلة للنقاشِ بمعنى أنّها علاقةٌ بين طرفيْنِ تتأسّسُ على اللغة والخطابِ، يحاولُ أحدُ الطّرفيْنِ فيها أن يؤثّرَ في الطرفِ المقابلِ جنسًا من التأثيرِ يوجّهُ به فعلهُ أو يثبتُ لديه اعتقادًا أو يُمليه عنه أو يصنعهُ لهُ صُنْعًا»(7). وقد جاء في البلاغةِ الأرسطية أمرٌ قوامهُ أنّ الخطيبَ يحتالُ بالكلامِ لصناعة الحجج التي من شأنها أن تحملَ المخاطبَ على التصديق والاعتقادِ بدعواه. وتكون هذه الحجج أدلّةً تخرجُ اللغةَ من وظيفتها الإخبارية إلى وظيفة الحجاج. وهي عنده حجة اللوغوس الموصولةِ بطبيعة الخطابِ في حدّ ذاته، أمّا الإيتوسُ فيعدُّ في تصنيفه الحجةَ الثانيةَ. وجعلها ترتبطُ بصورة الخطيب الأخلاقيةِ التي ترتسِمُ داخل الخطابِ الذي ينشئهُ، وبها يحملُ مخاطبَهُ على الاقتناعِ لأنّ الخطيبُ قدْ يُقنِعُ بأخلاقهِ الخطابيةِ. أمّا ثالث الحجج عنده فهي «الباتوس» تلك التي تتجه إلى استثارةِ انفعالاتِ المُخاطَبِ وتحريك عواطف الرحمة أو الرأفة والشفقةِ وغيرهما، وملاكها أن تخاطبَ وجدانَ المتلقّي، فينفعلُ بدعوى المتكلّم، فيغيّرُ من حكمهِ على القضيةِ إيجابًا أو سلبًا. وقد ألحّ «كريستيان بلانتان» على قيمته في البناء الحجاجي بقوله إنّه: «مصطلحٌ يسعُ جملة الانفعالات الاجتماعية اللسانية التي يثيرها الخطيبُ ويوجهها صوب السامع حتى يُوجّهه إلى القبول بالنتائج والأعمالِ التي يعرضها»(8). وعليه، فإنّ من الوسائلِ التي تمكّنُ الخطباءَ من بلوغِ أغراضهم وتحقيق مآربهم ما يأتي من انفعالات المستمعِ وعواطفه، فَـ»الخطباءُ بحديثهم عن وجهة المخاطب الفكريةِ الاستدلالية، يلحّون على هذا الجانبِ من الإنسانِ القابلِ للتحريكِ والإثارةِ والانفعالِ. فتذعِنُ له النفسُ، فتنبسِطُ عن أمورٍ وتنقبضُ عن أمورٍ من غيْرِ رويّةٍ واختيارٍ. وبالجملة، تنفعِلُ له انفعالًا نفسانيًّا غير فكريٍّ سواء كان المقولُ مصدّقًا به أو غير مصدّقٍ»(9). أمّا شأنُ الدليلِ العاطفيّ في الموروث البلاغيّ العربيّ القديم فكان حاضرًا في تضاعيفِ المصنّفاتِ، فقد أُثِرَ عن العربِ القدماءِ احتفاؤهم بالشعرِ من خلال الوعيِ الرّاسخ بأثره في المتقبّلِ، فقد نزّلُوا المُنجزَ البيانيّ منزلةَ القولِ الفاتنِ، وقد نبّه الجاحظُ على سبيل المثال لا الحصر إلى ذلك في مقدمة كتابه البيان والتبيين قائلًا: «اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل»(10). ووصلًا بذاتِ السياقِ، يقول حمادي صمود في كتابه» البلاغة العربية في مسالك الدرس وتصاريف الخطاب «منبها إلى الاهتمام بالنصّ وما يعرضهُ من القضايا وما يبنيه من الحجج ويعبّر عنه من الحقائق أو أشباه الحقائق مثبتا حضور مسألة نقد الشعر العربيّ القديم في مدونة البلاغيين وطيّ خطاب علماء الإعجاز، إذ حدّدُوا منزلته، وضبطوا خصائصه: «فالشعرُ وَقْعُهُ من إيقاعهِ وفضلهُ من هيئةِ القولِ فيه. وكان الشاعرُ يبزُّ الشّاعرَ بما يهتدي إليهِ في تصويرِ المعاني وإخراجها للنّاسِ رائقةً عذبةً تفعلُ فيهم فعل الرقى والسّحْرِ»(11 ).
وقد يُؤتى بالعواطف دعما للفعل الحجاجي الذي يُنْشِئُهُ الشاعرُ حينَ تَغيبُ الحجةُ العقليةُ الأصليّةُ، والنّاظرُ في مرثيةِ ابن الأنباريّ عامةً وسياقها النصّي أو التاريخيّ يدركُ بيسرٍ حقيقةً آيتُها أنّ الصداقةَ الجامعةَ بينَ الناظم والمرثيّ قد تكونُ سببا من الأسبابِ القويّةِ التي تجعلهُ يستدرُّ عواطفَ الجمهور حتّى يشاركوه محنة الحدثِ بما يثيره في النفوس من أحزانٍ، فيكون حدث الانفصالِ مثيرا يقدح شرارة انفعالات شتى: الشفقة والرأفة مقابل النقمة على الجاني ممن نهج العنفَ سبيلًا يواجه به الضحية الضعيفَ. وهكذا، تتراءى المرثيةُ خطابا شعريا فنيا نسجهُ الخيالُ والانفعالُ، ومن ثمّة، يسعى إلى أن يشاركه الآخرون أحزانهُ على فقد عزيزٍ. ولعلّ ما يلفت النظر هاهنا أنّ الخطيبَ ينبري نائحا ينوح من غيّبَهُ الموتُ ويصنعُ من اللغةِ وباللغة عالما آخر موازيا يُبْعثُ فيه المرثيّ، فيراه خالدا خلودَ الكِرامِ والجَواد الذي لا تنقطعُ عطاياه، بل ينزّله منزلةَ الأحياءِ الذينَ يرزقونَ ومن حوله حرسٌ يرقبون، فلا يسعه قبرٌ من تُرابٍ بل يُرْفَعُ إلى أعلَى، كَفنُه ثوْبُ السّافياتِ رياحًا تنشُرُ طِيبَهُ أبدًا ولا تحجبُ مآثرهُ. إذّاك، استوى علامةً بل شاهدا قويّا في وجه خصومه، كلّ ذلك جليّ بقوله مؤبّنا:
وَلَوْ أَنِّي قَدَرْتُ عَلَى قِيَامِي
بِفَرْضِكَ وَالحُقُوقِ الوَاجِبَاتِ
مَلأْتُ الأَرْضَ مِنْ نَظْمِ القَوَافِي
وَنُحْتُ بِهَا خِلاَلَ النَّائِحَات
وَلَكِنّي أُصَبِّرُ عَنْكَ نَفْسِي
مَخَافةَ أَنْ أُعَدَّ مِنَ الجُنَاةِ
وَمَا لَكَ تُرْبَةٌ فَأَقُولُ تُسْقَى
لأَنَّكَ نُصْبُ هَطْلِ الهَاطِلاتِ
فنكون إزاء تفاعلاتٍ حجاجية تحضر فيها الأنا المنفعلةُ على نحو مخصوصٍ لمّا أدركت عجزها عن القيام بفروض الصداقة وبكل الحقوق الواجبة أو كبح جماح العواطفِ تستلزم فيها هذه الدلالاتُ من خلال القرينة اللغوية «لوْ» التي تتصدّرُ الجملة الشرطية والتي تحقّق معنى الافتراض الممتنع عند النُّحاةِ، فاستعاضت عن كلّ ذلك بالنظم وأن تصنع باللغة مناحةً وبكائيةً عساها تسعفها حتى تتخفّف من وطأة الفقدِ. ولعلّ في ما يذكره «بلانتان» ما ينتصبُ دليلا يسندُ ما ذهبنا إليه بأنّ الخطيبَ ينازعُ الآخرين ويحملهم على مشاركةٍ انفعاليةٍ، إذ يحتجُّ المتكلّمون لعواطفهم «فيقدّمونَ حججا لتبرير ما يشعرون به، وهم إذ يفعلون ذلك فلأنّ العواطفَ ليستْ من الأشياءِ التي تقعُ على النّاسِ مثلما يسقطُ الكتابُ على الأرضِ بفعلِ قانونٍ فيزيائيّ. فما دامت العواطِفُ كائناتٍ لسانيةً- ثقافيةً، فمن المُمْكِنِ أن تكونَ موضع اعتراضٍ»(12).
وصلا بما سبق بيانهُ، جاز القولُ هاهنا إنّ مثل هذا الخطابِ ينشِئُ بُؤرة أهوائية مادتُها الانفعالاتُ وتَسَعُ من المشاعرِ ما يعزُّ تصنيفها، بيد أنّها تجري مجرى الحجاجِ. وهكذا، يمتلكُ النصُّ الشعريُّ عامة والرّثائي على وجه الخصوص باعتباره خطاب القدرة على تعبئة النفوسِ وتحريك العواطفِ واستمالةِ الوجدانِ بما ينشئه من بُؤرٍ أهوائيةٍ متباينةٍ موزّعة بين الشفقة وضديدها النقمة، فالذاتُ المتلفّظةُ تحسنُ تدبير الكلامِ وتبذل جهدًا أقصى غايةَ الإقناعِ عبر استثمارها لطاقة اللغة وكل التقنيات الخطابية قصدَ استمالة المتلقّين إلى القضايا المعروضة عليهم أو زيادة درجة تلك الاستمالة حتى تنزع المرثية منزعا تأثيريا لا يقين فيه ولا إلزامَ(13). ولعلّ نجاح الخطيب في استمالة المخاطب من خلال تحريك أهوائه وعواطفه يبقى رهنا بمدى فهم انفعالات المخاطب بعد أنْ «يُسمّيها ويصفها ويعرف أسبابها والطّرق التي بها تستثارُ»(14). ويحسن بنا النظر في شأن حجة العاطفة كيف يصرّفها الشاعرُ في هذا الملفوظ، إذ يتاح للناظر في هذه المرثية أن يرصد العاطفة التي يظهرها الشاعر لحظة تفاعله مع حدث موتِ صديقه صلبا. فقد ألفيناه مشفقا من هول المصير ومصرع الوزير ويسعى إلى أن يبرّر ضمنا عاطفته التي يبنيها داخل خطاب المرثية بناء منطقيا بانتقاله من مقدمة عبورا إلى نتيجة موت ابن بقية الصديق، مقدمة تؤدّي نتيجة منطقية حتمية هي حزنه وفزعه. ومن ثمة، كانت وجهة الخطاب وقصده الانفعاليّ أي بضبط النتيجة/ العاطفة التي يريد المحاج أن يبنيها بناء حجاجيا والتي تترك في الخطاب آثارا واضحة أو خفية(15). وحريّ بنا أن نتعقّب من العواطف إلاّ ما حُمّل الخطاب الرثائي في حدّ ذاته بطريقة صريحة أو ضمنية وتأدّى بجملة من الوسائل الخطابية (المفردات، التراكيب، الصور..). وبالتالي، نكونُ في مواجهة كل الانفعالات التي يريد المتكلّم أن يثيرها في مُخاطبه. فنرى كيفية بنائه عاطفة الشفقة في الخطاب والمسار الحجاجي الذي تنخرط فيه. وجليّ القول إنّ ملفوظات العاطفة Les énoncés d’émotion موصولة بانفعال له مواضعه النفسية لأنّ «التعبير عن العاطفة لا يتخذ شكل التعيين المباشر والإشارة الصريحة التي تتمّ باستخدام لفظ من ألفاظ العاطفة وأحيانا يعدل المتلفظ عن التعبير صراحة بطريقة مباشرة عن عواطفه فيلجأ إلى طريقة الإيحاء»(16). وأنّى يكن من أمرٍ، فإنّ الناظم قد استحضر عاطفة الشفقة بطريقة جلية حينا وخفية أحيانا أخرى، فوجّه الملفوظَ الانفعاليَّ كلّهُ نحو عاطفة الشفقة لأنّ صلبَ المرثيّ من «الأمور القاضية المدمّرة وهي أنواع متعددة من الموت وسوء معاملة…»(17). ولعلّ صلبَ ابن بقيّةَ وإبقاءهُ على خشبة الصلبِ كان مدار المرثيةِ والمثير الانفعاليّ الأساسيّ الذي يقدحُ عواطفَ تستثمرُ داخل الخطاب استثمارا حجاجيا استنادا إلى عدّة مواضعَ تحلّ محلّ الحجج المستخدمة لتبرير تلك العاطفة، ولعلّ من أبرز المصادر المولّدة لها:
موضع الشخص المتحدّث عنه، مَنْ: الوزير الكريمُ ابن بقيّة.
الموت صلبًا باعتباره الحدث الذي ينقله الموضوع جوابا عن سؤال ماذا؟.
المكان الذي يجري فيه الحدث، على خشبةِ الصّلْبِ جوابا عن سؤال أين؟
السبب الذي يجري فيه الحدث ترهيب وترويع الأعداء، لماذا؟.
تفادي ذلك السبب، هل يمكن منعُ ما يحصل؟ وتلك مواضع مولّدةٌ للشفقةِ باعتبار الموضع الأوّل، إذ يكفي ذكر اسم الوزير حتّى يثير جملة من المشاعر، شفقة يشوبها إحساس بالحسرة والأسف لعزيز قومٍ ذلّ بعد عزّ. وبذلك، تنزع العاطفة نحو الشفقة التي يعرّفها أرسطو بكونها «نوعا من الألمِ الذي يثيره منظرُ الشرّ القاتل أو الأليم الذي يصيب من لا يستحقّه، الشرّ الذي قد يتوقّع المرءُ وقوعه له أو لواحد من أصدقائه»(18). وبالمقابل، جيء بحجة العاطفة لمقصد المحاجة تصريحا وتلميحا، فذكر العداة في آخر الخطاب من شأنه أن يستحضرَ انفعالا مقابلا، وهو النقمة باعتبارها عند أرسطو «عكس الشفقة لأنّ الشعور بالألم من الحظّ السعيدِ غير المستحقّ يضادّ على نحوٍ ما الشعور بالألمِ من الشقاءِ غير المستحقّ. وينشأ عن نفس الخلق… فينبغي أن ننقم على من يسعدونَ من دون وجه حقٍّ»(19). ولعلّ التصوّر الأرسطي مفيدٌ هاهنا في تبرير الشعور بالنقمة على الجلاد الذي صلب المرثي، إذ يدفعُ الخطيبُ المخاطبَ إلى أن يشاركه النّقمةَ على المرءِ الذي يضعُ نفسهُ ضدّ من هو أعلى منه خصوصا من هو أعلى منه في ناحية معينةٍ»(20). وبناء على ذلك، تكون المرثية قسم التأبين فيها مجمع انفعالاتٍ توظّف فيها المعاني لبناء عاطفة النقمةِ باعتبارها مضادا للشفقةِ.
والحاصلُ ممّا سبق بيانه أنّ الراثي استدعى المجاز، فأخرجَ خطابَه مُخرجَ السَّعَةِ في إنشاءِ المعاني الرثائية من خلالِ التمثيلِ والاستعاراتِ، فجعلَ الموتَ معنى عمدةً يجاوز بصوره المبتدعة دلالة الانفصال والحجبِ ومحض الانقطاع، واستحال حدثا رمزيّا يحملُ معنى الاتّصالِ والذكرِ والاستمرار. وكأنّ موتَ المصلوب إعلانٌ عن ميلادِ معجزةٍ باعتباره انتقالا من حالِ الغفلةِ إلى اليقظةِ بل هو الخروج من ضيق العجزِ إلى سعة القدرةِ بقوله:
عُلوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ
بِحقٍّ أنتَ إحدى المعجزاتِ
كأنّ النّاس حولك حين قاموا
وفودُ نَداك أيّام الصّلاتِ
كأنّك قائم فيهم خطيبا
وكلّهم قيام للصّلاةِ
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحوهُم احتفَاءً
كَمَدِّهِمَا إليهم بالهِباتِ.
ومما يتيحهُ هذا المشهدُ أنّ الكلامَ المُخيّل ههنا قد انتظم بنَاؤُهُ من الإجمالِ إلى التفصيل بمعنى أنّ الخطيبَ آثرَ أن يفصّلَ القول في تجليات المُعْجزة أو دلائلَ الإعجازِ التي تجلّت في المصلوبِ، فالمعجزةُ على صلةِ بالنبوّةِ سمتها أنّها لا تؤتى إلّا لِقلّةٍ من المصطفين الأخيارِ. وكلّ صاحبِ معجزةٍ أن يحاجَّ مَنْ يعترضُ رسالتهُ بما يجريه من أمورٍ خارقةٍ، فيقهرُ خصومهُ. إذّاك، يكونُ المعجمُ مشحونًا بدلالاتٍ حجاجيةٍ لمّا كانَ الخطيبُ يذكرُ بعضًا من أعمالِ المرثيّ التي كانت أقربَ إلى المعجزةِ القاهرة، إنّهُ يحاجّ خصومَ المرثيّ ممن كانوا بموته شامتينَ. فجعله باسطا يديه وهو الميت بالعطايا والهباتِ لوفودٍ قصدوهُ، وزاد في ذلك القول الساحر أن جعله إماما يتقدّم مأمومين لِلصلاةِ. ومثلُ هذه المعاني الموغلةِ في التخييلِ تستوي حجّةً قويّةً ينافِحُ بها الخطيبُ عن دعواه أنّ مَنْ جمعَ مثلَ هذه الخلالِ الكرمَ والرياسةَ حريّ به أن يكرمَ لا أن يُصْلبَ، ومن ثمّةَ، يكونُ التخييلُ موجّها إلى المحاجةِ. ولعلّ ما يلفتُ النّظرَ ههنا أن يجري التعبير الاستعاريّ مجرى عرفانيا. فقد اجترح الراثي صورة شعرية فضائيةً جديدة قوامُها التفضيةُ بمعنى الفضيلةُ عليا وبالمقابلِ، تكون المثلبةُ في منزلة دُنيا: فنكون إزاء استعارة عرفانية مزيتها أن تخرج المعنى المجرّد من دائرة التجريد والأذهان إلى دائرة الحسيّة والأعيان من خلال توظيف أبعاد الفضاء موصولا بموقع الجسدِ (علوّ في الحياة/ قائمٌ/ علاك/ لجوّ/ ركبت/ مطية/ نصب/ هطل الهاطلات/ ما لك تربةٌ). فمن خلال هذه المادة المعجمية، يجيء استشعارُ الشفقةِ بعد أن يعمل السامعُ عقله في الوضعية المعروضة أمام عينيه عرضًا مشهديّا، فتنشأُ في ظنّه جملة من «الاعتقاداتِ والظنون في ضوئها تتحدّد أعماله التقويميةُ وما يصدر من أحكامٍ»(21). وعليه، ينقلبُ الجسدُ المصلوبُ في ذهنِ الشّاعِرِ جسدًا حيّا مفعما بأسباب الحركة والحياة يحيا، أقربَ إلى مشهديةِ البعثِ وإعادة الخلقِ والتشكيل. فهو جسد عُلويّ يخرج من طينه ويصبح علامةَ خلودٍ وأبديةٍ. ومن ثمة، يتاح لنا أن نقولَ إنّ الشاعرَ يعيد صياغة تعريف ماهية الموت باعتباره ليس عطبًا للأجسادِ بقدر ما هو تحرّر الروح من سجنها الطيني، الجسد حتى تعانق معنى المطلقِ في أبديتهِ. فلا غرابة والحال هذه أن تكون التائية أقرب إلى الضراعة منها إلى النياحةِ، وتستثمرُ الانفعالاتُ استثمارا حجاجيا آيتهُ أنّ تجربةَ الموتِ على لذعتها تُحسُّ ولا تُمسُّ كما يخبرنا أهل الصوفية والعرفانِ ممن آثروا سبلَ فناءِ الجسديّ الزائلِ طلبا لبلوغِ الطُّهْرِ الأبديِّ.
الخاتمة:
قادنا النظرُ في شأن انخراط العواطف في عملية البناء الحجاجيّ في هذه المرثية من وجهة نظر تداولية إلى أنّ الانتباه إلى أنّ ابن الأنباري مُحاجٌّ صنعَ باللغة عالمًا وكونا أهوائيّا مزاجهُ جزعٌ مشوبٌ بهَلَعٍ، ظاهرهُ استدرارُ عاطفةِ المخاطَبِ حتّى يشاركهُ محنةِ المصابِ ووطأة قتلهِ صلبًا، وباطنهُ تقبيحٌ لما صنعَ القاتلُ. كلّ ذلك يجلي حقيقةَ قولنا إنّ الشعرَ يفتكُّ من السحرِ قدرته على الغوايةِ والفتنةِ، فيسحرُ المخاطبُ، وتنفعلُ نفسه أيّما انفعال لمّا علمَ النّاظِمُ أنّ الآدميّ كائنٌ أهوائيّ تحكمهُ العواطفُ وتغتالُ فيه ملكةَ العقلِ، وتتنازعُهُ لحظة استقباله هذه المرثيةَ انفعالاتٌ شتّى تصدر عن بؤرةٍ أهوائيةٍ تنجزُ بمفرداتِ اللغة وبسعةِ التخييل عالما آخرَ تنصهرُ طيّه المتناقضاتُ، ويتجاورُ الحدثُ الجليلُ مع القولِ الشعريّ الشاجي الجميلِ مُجاورَةً تخييليّةً آسرةً، فيستحيلُ الموتُ قادحًا للإشادةِ بالمناقبِ أو هو حدثٌ لا يستدرُّ النقمةَ على الجاني للوزيرِ فحسب بل يُنشِئُ بلاغةَ الشفقةِ على الضحيةِ المصلوبِ في آنٍ، فتنقلِبُ، إذّاك، المرثيةُ تجوّزا نفثةً من نَفَثَاتِ السَّحَرَةِ المَهَرَةِ بموادّ بيانها وبما يصنعهُ الخطيبُ من حُجَجٍ إن امتلكَ ناصيةَ البيانِ، ويُخيّلُ إلينا وإلى السّامع أنّى كانَ أنّ الشعراءَ بِسِحْرهِم الخطابيّ وبما يصنعونَ من حججٍ عاطفيةٍ تزاحمُ الحجج العقليةَ أثرًا إنْ جعلوا الانفعالاتِ أدلّةً تنازعُ العقلَ في سطوَتِهِ وتنأى عن صرامةِ البرهانِ لأنّ اللغة سلطة ومجمع رغبات يرمي المتعاملون بها إلى السيطرة والظهور على الخصم وحمله على الفعل.
الهوامش
قائمةُ المصادرِ والمراجعِ:
المصادر:
القرآن الكريم.
الجرجاني عبد القاهر: أسرار البلاغة، تحقيق هـ، ريتز، دار المسيرة للنشر، بيروت، لبنان، ط3، 1403هـ/ 1983م.
المراجع العربية:
أرسطو: فنّ الخطابة، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، بغداد، العراق، ط2، 1986.
باتريك شارودو– دومينيك منغنو: معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، مراجعة صلاح الدين الشريف، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008.
الجاحظ: البيان والتبيين، دار الفكر للجميع، 1968.
الدريدي سامية: الحجاج في الشعر العربي، بنيته وأساليبه، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط2، 2011.
صمّود حمّادي:
* البلاغة العربية في مسالك الدرسِ وتصاريفِ الخطابِ، سلسلة مقالات، المنشورات الجامعية بمنوبة، تونس، ط1، 2015.
* مقدّمة في الخلفية النظرية للمصطلح، ضمن كتاب أهمّ نظريات الحجاج في البلاغة الغربية من أرسطو إلى اليوم، منشورات كلية الآداب بمنوبة، فريق البحث في البلاغة والحجاج، إشراف حمادي صمّود، منّوبة، 1998.
عبيد حاتم:
* منزلة العواطف في نظريات الحجاج، عالم الفكر، المجلد 2، العدد 40، أكتوبر- ديسمبر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2011.
* من الاحتجاج بالعواطف إلى الاحتجاج للعواطف ضمن مصنّف الحجاج مفهومه ومجالاته: دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، إعداد الدكتور حافظ إسماعيل علوي، عالم الكتب الجديدة، إربد، الأردن، الجزء الرابع، 2010.
– علي محمد محمد يونس: علم التخاطب الإسلامي، دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النصّ، دار المدى الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 2006.
العمري محمد: الحجاج مبحث بلاغي، الحجاج مفهومه ومجالاته، دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، الجزء الأوّل، إعداد وتقديم حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتاب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2010.
ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 1990.
المراجع الأجنبيةُ:
Benveniste Emille: Problèmes de linguistique générale; Edition Gallimard; Tome1; 1966.
Plantin.Ch; Arguing émotions; in Van Emeren F. Proceedings of the fourth international conference of the international society for the study of argumentation ( on line); 1999.
Plantin Christien; Dictionnaire de l’argumentation ; Une introduction aux études d’argumentation; ENS éditions 2016.
Ruth Amossy ; L’argumentation dans le discours (Discours politique ; Littérature d’idées ; Fiction), Nathan; Her; Paris ; 2000.
الهوامش
– الجرجاني عبد القاهر: أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه محمود محمد شاكر، دار المدنيّ بجدّة، ص، ص 346، 347. ويحسنُ بنا التذكيرُ بأنّ محقّق الكتابِ محمود شاكر أشار إلى أنّ صاحبَ اليتيمةَ قد ذكرها في ترجمةِ أبي بكر محمد بن أبي القاسمِ المعروف بالأنباري (2/ 344)، وذكر بعضها صاحب الوافي بالوفيات في ترجمة وزير عز الدولة بن بختيار، محمد بن محمد ابن بقية (1/10- 103)، حين ظفر به عضد الدولة فصلبه. [انظر حاشية المحقق ص 346، باب قوّة صنعة الشعر السّاحرة].
– ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 1990، المجلد الرابع، ص 408. فقد ذكر ابن منظور أنّ شعر به يشعر شعرا … كله بمعنى علم. وتقول العرب ليت شعري أي ليت علمي أي ليتني علمت. وفي التنزيل: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون»، أي وما يدريكم. وأشعرته فشعر أي أدريته فدرى……..والشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها والجمع أشعارٌ، وقائله شاعرٌ لأنّه يشعر ما لا يشعر غيره أي يعلم، انظر الصفحة 410 وما تلاها.
– عبيد حاتم: من الاحتجاج بالعواطف إلى الاحتجاج للعواطف ضمن مصنّف الحجاج مفهومه ومجالاته: دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، إعداد الدكتور حافظ إسماعيل علوي، عالم الكتب الجديدة، إربد، الأردن، الجزء الرابع، 2010، ص 65.
– Ruth Amossy ; L’argumentation dans le discours (Discours politique ; Littérature d’idées ; Fiction), Nathan ; Her ; Paris : 2000 ;.P164.
– Emille Benveniste. Problèmes de linguistique générale ; Edition Gallimard ; Tome1 ; 1966 ; P 129-130.
– الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص 113.
– صمّود حمّادي: مقدّمة في الخلفية النظرية للمصطلح، ضمن كتاب أهمّ نظريات الحجاج في البلاغة الغربية من أرسطو إلى اليوم، منشورات كلية الآداب بمنوبة، فريق البحث في البلاغة والحجاج، إشراف حمادي صمّود،منّوبة، 1998، ص 12.
– Plantin Christien; Dictionnaire de l’argumentation ; Une introduction aux études d’argumentation; ENS éditions 2016 ; P 436.
« le mot Pathos est un terme couvrant un ensemble d’émotions socio-langagières que l’orateur exploite pour orienter son auditoire vers les conclusions et l’action qu’il préconise » ; voire p 416 .
– مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح، ص 13.
– الجاحظ: البيان والتبيين، دار الفكر للجميع،1968، ج1، ص 5.
– صمود حمادي: البلاغة العربية في مسالك الدرسِ وتصاريف الخطاب، سلسلة مقاتلات، المنشورات الجامعية بمنوبة، ط1، 2015، ص 21. ويقرّ حمادي صمود بهذه الحقيقة التي تصل بين الشعر والسحرِ طيّ الدرس البلاغي العربي القديم. فقد عولجت قضية علاقة اللغة بالمعنى ورسم المنفعة في صلبِ كلّ إنجازٍ لغويّ مهمِّ مهما كان جنسه ونوعهُ حتى استقرّ عن ذلك في النظرية الأدبيةِ عند العربِ ارتباط الجميلِ بالنّافعِ والحسن بالجدوى. ومن مقتضيات هذه الطريقة في النظر تقديمهم سياسة القول على القول بل واعتبارهم صياغة هذا الأخير تبعا لتلك السياسة التي تراعي السامع في معارفه ومنزلته الاجتماعية ومدى استعداده النفسيّ لقبول الحديث، وتراعي مقام الكلامِ والظروف التي سيتمّ فيها القولُ. فمقام الجدّ غير مقام الهزلِ ومقام الاستنفار غير مقام الوعظِ ومقام إصلاح ذات البيْنِ غير مقام المصاهرة كما تراعى المقاصدُ والأغراضُ التي يريد السامع بلوغها من مخاطبه وخطابه، فـ» سياسة البلاغةِ أشدُّ من البلاغةِ» عند الجاحظ.، ص 22 وما تلاها.
– Plantin.Ch ;Arguing émotions ; in Van Emeren F. Proceedings of the fourth international conference of the international society for the study of argumentation ( on line) ; 1999 ; 2.
– العمري محمد: الحجاج مبحث بلاغي، الحجاج مفهومه ومجالاته، دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، الجزء الأوّل، إعداد وتقديم حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتاب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2010،ويخصص الدارس مبحثا تاريخيا للنظر في قضية نشأة الحجاج وولادة البلاغة الجديدة، ويقرّ أنّ سقراط ومن جاء بعده يستنكرُ بلاغة السفسطائي وأسلوبه الذي يمثّل تهديدا خطيرا للوغوس في أثينا، فسعى إلى إنقاذه من فتنة المغالطاتِ وإنقاذ الشبابِ من غواياتِ التضليلِ والتشكيك وحماية الديمقراطية بتنظيفها من كلّ أشكال التلبيس بالخطاب والتغليط بالقياس الفاسد لإبطال الحجج ونقض الأدلّة وذلك لما في كلام السفسطائي من تأثير في عواطف الشركاء وأحوالهم النفسية وأهوائهم الخاصة وتحويل اقتناعاتهم إلى الوجهة المرادة. وقد حاول سقراط تأسيس منطق بديل يخلص الخطابة مما علق بها من مغالطة ومناورة وتلاعب بعواطف الجمهور وعقله. انظر الصفحة 8 وما يعقبها.
– أرسطو: فنّ الخطابة، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، بغداد، العراق، ط2، 1986، ص 30.
– منزلة العواطف في نظريات الحجاج، ص 241 وما بعدها.
– نفسه، ويسوق حاتم عبيد مثلا أوّل : أنا أشفق عن هذا الرجل ، فكان تعيينا مباشرا لعاطفة الشفقة، والمثال الثاني جاء فيه الأمر إيحاء بالعاطفة بقولنا:» مسكين هذا الرجل»، للتوسع، انظر الصفحة 240 وما عقبها من مقاله منزلة العواطف.
– أرسطو: الخطابة، ص 130.
– أرسطو: الخطابة، ترجمه عن اليونانية وشرحه وقدّم له الدكتور عبد الرحمان بدوي، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، (د، ت،ص 129. وقد خصّ أرسطو مبحث الشفقة بالدرس، فنظر في الأحوال التي تقود الناس إلى الشفقة ودواعيها بقوله:» قد اتضح تماما ما هي الأمور التي تثير ذلك الشعور، إنها جميعا أمور أليمة مرهقة مدمرة مخربة، وكل الشرور سببها البخت… كذلك نستشعر الشفقة على من لم ينالوا خيرا أبدا أو من يعجزون عن التمتّع به إذا نالهم»، ص 130. ثم خصّ النقمة بمبحث فرّعه إلى ذكر ماهيتها وما يثيرها ثم على من ننقم، ص 131 وما بعدها.
– الخطابة، ص 132. يضرب أرسطو مثلا ليعرّف مفهوم النقمة بأن لا رجل خيّرا سيتألّمُ من رؤية قاتلي آبائهم أو القتلة يعاقبون بل ينبغي أن نفرح لما أصابهم كما نفرح لمن نالوا السعادةَ عن استحقاقٍ لأنّ كلا الأمرينِ عدلٌ ويدعو الرجل الفاضل إلى السرور بحسب تعبيره، انظر باب في النقمة، في الحنقِ.
– نفسه، ص 134.
– عبيد حاتم: منزلة العواطف في نظريات الحجاج، مجلة عالم الفكر، المجلد 2، العدد 40، ديسمبر 2011، الكويت، ص 241.