حسونة مصباحي
يعتبر بول كلوديل (1868-1955) أحد أكبر الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين. وهو أيضا كاتب مسرحي مرموق. بدأ حياته متأثرا بالرمزية ثم تخلى عن ذلك بعد اكتشافه لكل من رامبو ولوترايامون. وكان لحضوره جلسات الثلاثاء في بيت مالارميه تأثير أيضا على مساره الشعري. وفي ليلة عيد الميلاد 1886 اعتنق الكاثوليكية في كنيسة “نوتردام” بباريس. وسوف يؤثر ذلك على مساره الشعري والفكري، وعلى مسرحياته أيضا مثل: “أحذية ساتان”، و”الرهينة”، و”الخبز الصلب”، و”الأب المُهان”. وقد انتسب بول كلوديل إلى السلك الدبلوماسي ليعمل قنصلا في العديد من البلدان مثل ألمانيا، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية. وبعدها عمل سفيرا لبلاده في طوكيو، وفي واشنطن، وفي بروكسيل. وفي السنوات الأخيرة من حياته، انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية.
وهذه النصوص مأخوذة من “معرفة الشرق” التي استوحاها بول كلوديل من إقامته في الصين، وتتميز بالتكثيف والإيجاز، وفيها يأتي الوصف في غاية الدقة سواء للمدن أو للجبال أو للحدائق أو للمعابد الدينية أو للأشجار والمطر والضوء في مختلف أوقات النهار أو الليل. لكن علينا أن نشير إلى أن كل البلدان التي أقام فيها بول كلوديل، أثارت فيه الكثير من المشاعر ومن الأفكار ومن الانفعالات. مُعرفًا نفسه، كتب يقول: “هأنذا أحمق، جاهل/ إنسان جديد أمام الأشياء المجهولة/ أتلفّتُ صوب أيام السنة والقنطرة الممطرة، وقلبي مُتْرَع بالسأم/ أنا لست شيئا وأعجز عن أيّ شيء. ماذا أقول؟ ماذا أفعل؟ وبما أشغلُ اليدين المتدليتين؟ وهاتين القدمين اللتين تقودانني كالأحلام؟”. وفي “الرأس الذهبي”، كتب يقول: “انبشوا قلبي/ وإذا ما وجدتم فيه شيئا غير الرغبة/ ارموا به في المزبلة واجعلوه طعاما لديدان الأرض”.
فكرة في البحر
السفينة تواصل إبحارها بين الجزر. البحر جدّ هادئ إلى درجة أننا نخال أنه غير موجود أصلا. الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، ونحن لا ندري إن كانت ستمطر أم لا.
فكرة المسافر تعود إلى السنة التي مضت. هو يستعيدُ ذكرى سفرته في المحيط في الليل والعاصفة الهوجاء، الأبواب، القطارات، قدوم الأحد السابق للصوم الكبير، الدّرَجَان نحو البيت، في حين كان يرى بعين باردة عبر البلور المُلطّخ بالطين احتفالات الجموع القبيحة. سوف يُعيدونه إلى والديه، وإلى الأصدقاء، وإلى الأماكن، ثم ينطلق من جديد. يا لها من مواجهة مرّة. فكما لو أنه سُمح لأحدهم باحتضان ماضيه بقوة.
وهذا ما يجعل العودة أشدّ حزنا من المغادرة. المسافر يعود إلى البيت العائلي كما لو أنه ضيف. خادمة تُعلّقُ فقط معطف السفر ولا تحمله أبدا. من جديد، لا بدّ من الانطلاق. حول طاولة العائلة، ها هو يجلس مُجدّدا، ضيفا مؤقتا ومرتابا في أمره. أما الوالدان فلا. هذا العابر الذي قمتم باستقباله وقد امتلأت أذناه بضجيج القطارات وبصخب البحر، مثل رجل يحلم، من عمق الحركة التي لا يزال يشعر بها تحت قدميه، والتي سيحملها، ليس نفس الرجل الذي أخذتموه إلى الميناء المحتوم.
هونغ كونغ
هونغ كونغ والجزر المحيطة بالمدخل، كل هذا صغير جدا الآن خلفنا، إلى درجة أنه بإمكاننا وضعه في جيبنا.
لكن ما يزال بمقدورنا أن نرى كلّ التفاصيل بشكل جيد عندما ننظر إليها بالمنظار المقرّب.
الأشياء لا تكفّ عن الوجود لأننا تركناها خلفنا،
و”لاموك” يدور دائما في الليل وراءنا في حين أننا ندخل مُحيط “الأخوة”.
هناك سبعون ألفا من “أوكسن” في شبيل أيسلاند” ، هكذا تُسمّى بسبب شكل تلعتها.
اللمعان الثلاثي لـ”دودس أيسلاند” يمنحنا نظرة طويلة إلى “تونابور”،
وهو مُنخفض جدّا إلى درجة أننا لا نفرق بينه وبين تلك النجوم النحسة التي تنام في العاشرة صباحا،
رأيت من جديد في لحظة ما، على يساري، وبانقباض في القلب، ظهورَ نار “الكلاب”.
لنذهب للنوم بنوم مع البحر مُنسجم مع العمل الهادئ للآلة.
هذه الليلة ، وللمرة الأخيرة حتى الصباح سوف أنام مع الصين.
الأشياء لم تكفّ عن الوجود خلفنا لأننا انطلقنا إلى أماكن أخرى.
هذا العالم القديم شيء واحد بكل تلك القرون المظلمة، الصين بمقاطعاتها الثماني عشرة، وبتبعاتها الأربع الكبيرة، شيء واحد تحت آخر إمبراطور،
الساحة الكبيرة الليّنة من الجنوب إلى الشمال والحصاد الفسيح والريح الزرقاء التي تعصف على “التارتاري”.
الصين القديمة لأتباع الطاوية ولكراسي الحمل ، مليئة بالأوساخ، وبالفوانيس وبالأشياء الشيطانية،
وهذا الطوْف شيء واحد مع الماضي الهائل الذي لازمتُ حافّتَه لبعض الوقت والذي أنا جزء منه،
لأنه انغرس في الخلف ولا يمكن أن أظن أنه انتهى.
أنتظر فارسا من دون وجه ومن دون صوت، مُقدّما الأمر العالي غير الواضح،
الذي سيأخذني، وأجتاز ماسكا بقربوس سرجه، المياه الصفراء.
آه اتركوني ألتحقُ للمرة الأخيرة بهذه البلاد التي خلفي المفعمة بالملذات وبالمرارة.
أتركوني أتأكّدُ مرة أخرى من “فو -تشيو”* بزيارة استعاديّة بعد الوفاة.
هناك أشياء كثيرة تشير لي ، أشعر بذلك، وكنت قد أهملتها
اتركوني أعثر مرة أخرى على ينبوع تلك الدموع الكبيرة المنسيّة.
الوقت متأخر جدا، وظلام الليل، غير أني على يقين أني سأهتدي إلى بيتي،
بالعكاز سأضرب ضربات قوية على الباب، وهناك واحد يتململ بطريقة غامضة في القبو ويُجيب،
وبينما هو يعالج القُفْلَ بمشقّة ويجذب الباب الشحيح،
هناك تواطؤ في قلبي مع هذا الوجه الغريب الذي ينْمحي ومع هذه الفتحة المظلمة.
(باريس 26 حزيران -يونيو-1927 )
جوْز الهند
كلّ شجرة عندنا تنتصب مثل رجل، لكن ساكنة. غارسة جذورها في الأرض، وتظل مبسوطة الذراعين. هنا، جذعُ الشحرة المقدس لا يرتفع وحيدا أبدا. خيوط تتدلّى منه ليعود للبحث عن حضن الأرض، شبيه بمعبد يتشكّل بنفسه. إلاّ أنني أريد أن أتحدث عن شجرة جوز الهند فقط.
هي بلا أغصان. في قمة جذعها، تُنْشأ خصلة من الجريد.
الجريد علامة الانتصار، هو الهوائي، المضخّمُ للقمة، مُنطلقا، ومتوسّعا في الضوء حيث يلعب، ثم ينهار تحت ثقل الحرية.
في اليوم الحار، وفي منتصف النهار الطويل، تفتح شجرة جوز الهند خصلة جريدها، وتوسّعها، بنشوة عارمة، وعندما تنفصل الخصلات عن بعضها البعض، وتتباعد مثل قحْف الأطفال تجدّ الرؤوس الضخمة الخضراء لجوزات الهند. وهكذا تقوم شجرة جوز الهند بما يُظهر قلبها. ذلك أن خصلات الجريد السفلى تمكث مُنخفضة ومُتدلية بينما هي تنفتح حتى العمق، وتلك التي في الوسط، تبتعدُ عن بعضها البعض بقدر ما تستطيع، وتلك التي في الأعلى، تنهض مثل ذاك الذي لا يعرف ماذا سيفعل بيديه أو مثل رجل يُظهر أنه استسلم، وشيئا فشيئا تقوم بإشارة. والشمراخ ليس معمولا أبدا من الخشب الصّلب، وإنما من خشب حَلَقيّ ، ومثل عُشبة طريّة وطويلة، هو طيّع لحلم الأرض، وسواء أكان باتجاه الشمس، أم على الأنهار السريعة والمُتْرَبَة، أو فوق البحر والسماء، هو يَحْني خصلته الضخمة.
في الليل، عائدا على طول الشاطئ المطْرُوق بزبد خارق من كتلة مُدويّة من هذا المحيط الهندي الذي تدفعه الرياح الموسمية التي تهبّ من الجنوب-الغربي إلى الأمام ، وبينما كنت أتّبعُ تلك الضفة المُغطّاة بالجريد الشبيه بهياكل مراكب أو حيوانات، رأيت على يساري، سائرة عبر تلك الغابة الفارغة تحت سقف مُعْتم، ما يشبه العناكب الضخمة، تتسلق بانحراف على السماء الآفلة. فينوس، كمثل قمر بللته أكثر الأشعة صفاء، رسمت على المياه انعكاسا كبيرا. وشجرة جوز الهند، منحنية على البحر والنجمة، مثل كائن أثقله الحب، تقوم بحركة تُقرّبُ قلبها من النار السماوية. سوف أتذكر تلك الليلة وأنا أغادر، ثم استدرت. وقد رأيت خصلات كبيرة تتدلى، وعبر عمود الغابة العالي، السماء حيث كانت العاصفة المطرية واضعة أقدامها على البحر، ترتفع مثل جبل، وعند الخط الأسفل للأرض، اللون الشاحب للمحيط.
سوف أتذكرك يا سيلان، وسوف أتذكر أوراقك وثمارك، وأهاليك ذوي العيون الوديعة الذين يمضون عراة عبر الطرق التي لها لون ثمرة المانجو، وتلك الزهور الوردية الطويلة التي وضعها الرجل الذي قادني على ركبتي في النهاية، وأنا أسير مثقلا بالحزن، وعيناي دامعتان، تحت سماء ممطرة، ماضغا أوراق الكافور.
(تموز -يوليو1895)
حدائق
الساعة الثالثة والنصف. حداد أبيض: السماء كما لو أنها ممهورة بالأبيض. الهواء رطب وفجّ.
دخلت المدينة، باحثا عن الحدائق.
أمشي في عصير أسود. على حافة الخندق الذي أتّبعُ حافته المنهارة، رائحة جدّ قوية كما لو أنها مُتفجر. رائحة زيت. وثوم، وشحم، وأفيون، وبول، وقذارة، وبراز وأمعاء.
مُنْتَعلا خُفّا خشنا أو صندلا من القشّ ، واضعا على رأسي قلنسوة من “فوماو” أو طاقية من اللّبد، مُرتديا سروالا قصيرا وطاقما من القماش أو من الحرير يحمي الساقين، أمشي وسط الناس بمظهر كائن جذلان وساذج.
الجدار يتعرّج ويتموّج، وقمّته المُرتبة بالقرميد والآجر تُقَلّدُ ظهر وجسد تنّين يزحف. طريقة مّا، في تيار من الدخان يلُفّه، تنهيه عند الرأس -هنا. أصطدم بطريقة غامضة بباب أسود صغير. يَنفتح الباب. تحت سقوف تُنيف عليه، أجتاز سلسلة من الأروقة والممرّات الضيّقة. وها أنا في المكان الغريب.
إنها حديقة من الحجر. -مثل قدماء الرسامين الإيطاليين والفرنسيين، أدرك الصينيون أن الحديقة بسياجها، تكون مُكتفية بذاتها، ومُتكونة من كل أجزائها. وهكذا تتأقلم الطبيعة بطريقة عجيبة مع فكرنا، وباتفاق ذكي، يشعر المُعلّم في أيّ كان يُلقي عليه نظره، أنه في بيته. ومثلما لا يكون المشهد مُكونا من الأعشاب ولا من لون الأغصان، وإنما من انسجام بين خطوطه وحركة فضاءاته، يبني الصينيون بدقة، حدائقهم بالحجارة. وهم ينحتون ولا يُرسمون. ومؤهّلا للارتفاع أو النزول إلى الأعماق، وصالحا للخطوط وللنقوش بسبب تعدّد تصْميماته ومظاهره، يبدو الحجر لهم أكثر طواعية وصلاحيّة من النبات الذي يقتصر دوره على التزيين والزخرفة، لابتكار الموقع الإنساني. والطبيعة نفسها هيّأت الموادّ، بحسب ما تفعله يد الزمن من مطر وجليد، وهي تُنهك، وتفعلُ فعلها في الحجر، وتثْقُبُه، وتُحزّزُه، وفيه تُنقّبُ بإصبع عميق. وجوه، حيوانات، عظام، أياد، صدور من دون رؤوس، أصداف، أشكال مُتحجّرة مثل حشد مُجمّد، مُختلط بالأوراق والأسماك، يلتقطُ الفنّ الصيني كل هذه الأشياء العجيبة، ويُقلّدها، ويُضعها مُرَتّبَة بحسب صناعة حاذقة وذكية.
المكان هنا يُمثّلُ جبلا صغيرا يَشقّهُ جُرْف تفتح له الطريق مُنحدرات شديدة الانحدار. أسفله يسبح في بحيرة صغيرة تُغطي بالنصف جلْدا أخضر يُكمل إطاره المُنْحَرف جسر مُلتو. مُنتصبا على مَوْتَدة من الغرانيت الوردي، يَتَمَرّى بيتُ الشاي في اللون الأخضر-الأسود للمسبح صورَ سقوفه الصاعدة التي مثل أجنحة تنفتحُ، تبدو وكأنها ترفعه من فوق الأرض. هناك، مغروزة في الأرض بشكل مُسْتَقيم، تنتصب أشجار عارية تحْجُبُ السماء، وتشرف على الحديقة بقاماتها الهائلة. أمضي بين الأحجار، وعبر متاهة تُعدّد وتوسّعُ أربطتها، ورجوعها، وصعودها، ومنافذُ انفلاتها، المشهدَ، وتُقلّدُ حول البحيرة وحول الجبل حركةَ الأحلام، أصل إلى ظلّة القمّة. تحت، تبدو الحديقة فارغة مثل واد، مليئة بالمعابد والأجنحة، وفي وسط الأشجار تتجلّى قصيدة السقوف.
هناك مُرتفعات ومُنخفضات، بسيطة ومُتعددة، ممدودة مثل الأقواس، ومُنْتفخة مثل الأجراس، تعلوها أفاريز مُؤرّخة، مُزخرفة بنباتات من السرخس وبأسماك: القمة تُبْرزُ عند تقاطع أضلاعها -أيّلا، لقْلُقا، هيكلا، مزهرية أو رُمّانة مُجَنّحَة، -شعارها. والسّقُوفُ التي ترتفع مثلما من الذراعين يُرفعُ فستان فضفاض جدا، لها بياض الطبشور الدهني، وسواد السّخام المصفرّ والكامد. الهواء أخضر، مثلما نرى من خلال بلّور قديم.
المنحدر الآخر يجعلنا مُباشرة أمام الجناح الكبير. وخطّ النزول الذي يقودني ببطء باتجاه البحيرة عبر مدارج غير منتظمة، يُدَرّجُ مفاجآت أخرى. في نهاية رواق، أرى القرون الخمسة أو الستة للسقف الذي يتخفّى عنّي شكله، تنتصب في فوضى باتجاه السماء. لا شيء يرسمُ هذا الرّشْقَ المُنْتَشي للنتوءات الساحرة، وهذه الأناقة المُتكبّرة لهذه السويقات المُزْهرة التي توجّهُ نحو العراء الكئيب زنبقة. مُزوّدة بهذه الزهرة تنهض الأطرافُ القوية مثل غصن نرمي به.
بلغتُ ضفّة المستنقع الذي تخترق مياهه الراكدة سويقات زهرات اللوتس الميّتة. الصمت عميق مثل مُفْتَرق غابة شتاء.
هذا المكان المُتَناسق شيّد لأعضاء “نقابة تجارة الفاصوليا والرز” الذين من المؤكد أنهم، يأتون إلى هناك في ليلة ربيع لشرب الشاي متأمّلين لمعان الحافة السفلى للقمر.
الحديقة الأخرى أشدّ غرابة.
كان الليل قد هبط تقريبا حينما رأيتها إلى حدود جدرانها وأنا أدخل السياج المُربّع، وقد امتلأت بمشهد شاسع. علينا أن نتخيّل تدحرجَ صخور، فوضى، اختلاط كتل مقلوبة، مُكومة هناك من قبل بحر في حالة تراجع، نظرة إلى منطقة غاضبة، ريف شاحب وممتقع مثل مُخّ مُجزأ بشُقُوق مُتداخلة. الصينيّون يُعدّون لمشهد مسْلُوخ. غامضا كالطبيعة، يبدو هذا الركنُ شاسعا ومُتشعّبا مثلها. من وسط هذه الحجارة، تنتصب شجرة صنوبر مُلْتوية. ضُمُورُ جذعها، ولون قُنْزَعَاتها المُنْتَفشة، وعُنْفُ انخلاع مدارها، وانعدام تناسب هذه الشجرة الوحيدة مع البلاد المُتخيّلَة التي تُشرفُ عليها، -كتنّين يَنْدَفعُ من الأرض مثل دخان، ويُصارع في الريح، وفي السحب، -تجعل هذا المكان خارج كلّ شيء، وتكوّنه خارقا وغريب الشكل. أوراق جنائزية، هنا وهناك، طقسوسات، عفسيّات، بألوانها السوداء الحادة تُحرك هذا التشوّش وهذا الاضطراب. مدهوشا، أتَمَعّنُ في وثيقة السّويداء هذه. ووسط السياج، مثل وحش، صخرة كبيرة الحجم تنتصب في الظل السّفلي للأفول مثل ثمة للحلم والغموض.
(جانفي 1896)
باتجاه الجبل
خارجا تحت الشرفة المغلقة حافي القدمين، أنظر إلى اليمين: على جبهة الجبل الصغير، بين السحب المضطربة، بقعة من الفوسفور تشير إلى الفجر. حركة قناديل البيت، الأكل في النعاس والتخدّر، التزوّد بحاجيات الرحلة، ثم الانطلاق. من الناحية الوعرة، نغرق في الحيّ الأهلي.
إنها الساعة المُلتَبسة التي تستيقظ فيها المدن. وكان الطبّاخون قد أوقدوا النار تحت التنّور. وفي أعماق بعض المحلات الصغيرة يُضيء مصباح شحيح النور أعضاءَ عارية. ورغم الألواح المزودة بالطلائع الموضوعة على الواجهات، أو مُعلّقة على الأفاريز، أو المُرَتّقَة في الزوايا، وفي كل الأماكن الشاغرة، لا يزال الناس ممددين على الأرض نائمين. واحد نصف مُستيقظ، يَحُكّ ضلع بطنه، ينظر إلينا بعين فارغة ومفتوحة وبنوع من الابتهاج. الآخر ينام مضغوطَ الجسد كما لو أنه مُلتصق بالحجرة. واحد جاذبا ساق سرواله إلى حدّ حزامه، مُظهرا البثرة المُثبتة برقعة على الجزء المسطّح من عجيزته، يتبوّل على جداره قرب بابه المفتوح.
عجوز تبدو مُرتدية تلك الجلود التي تتشكّلُ على المياه الراكدة تمْشُطُ بيدين قبّعَةَ رأسها شبه الجرباء. وفي النهاية سوف أتذكر هذا الشحاذ الذي له رأس آكل لحم البشر، خصْلَةُ شعره المُنْتَفشة مثل غيْضَة سوداء، والذي رافعا فخذا جافا بشكل مستقيم، ممدد بطوله في ضوء النهار الطالع.
ليس هناك ما هو أغرب من مدينة في ساعة ما يزال فيها الناس نائمين. هذه الشوارع تبدو مثل أزقة مقابر كبيرة، وهذه المنازل التي تأوي النوم، بما أنها مُوصَدة الأبواب، فإن كل شيء يبدو مهيبا وضخما. وهذا التحوّل الغريب الذي يلوح على وجوه الموتى، كل واحد يتلقّاه في النوم الذي كان فيه مُستغرقا. مثل طفل صغير بلا حدقة في العينين، يئنّ وبيده الضعيفة يعجنُ حنجرة مُرضعته، ذاك الرجل الذي ينام على الأرض العميقة بحسْرَة ندم كبيرة. كل شيء صامت، إذ إنها الساعة التي تَهبُ فيها الأرض الماء للشراب ولا أحد من أبنائها يعود عبثا إلى حضنها. الفقير والغني، الطفل والعجوز، العادل والمُذنب، والقاضي مع السجين، والإنسان مثل الحيوانات، جميعا، مثل الإخوة الصغار، يشربون. كل شيء غريب، إنها الساعة التي فيها يتصل الإنسان بأمه، والنائم ينام ولا يمكنه أن يستيقظ، وهو يتمسّكُ بما هو أسوأ ولا يتخلى أبدا عن تلك الجرعة التي ما تزال له.
ما تزال رائحة القذارة والشعر تغْمرُ الشارع. إلاّ أن عدد المنازل يتضاءل شيئا فشيئا. نلتقي مجموعة من أشجار البانيان، وفي المستنقع الذي يُظلله جاموس ضخم لا نُميّزُ سوى الجزء الأعلى من ظهره والرأس المغطى بهلال هائل الحجم لقرون يوجّهُ نحونا عينيه بدهشة واستغراب. نمضي بموازاة صفوف النساء الذاهبات إلى الحقول. وعندما يضحك أحدهم، ينتشر ضحكه مُتضائلا على الجوانب الأربعة التي يتّبعنها، ثم ينمحي تماما في الرابع. وفي اللحظة التي يخترق فيها خيْطُ الشمس الهواء البكر، نصل نحن إلى الفضاء الواسع والفارغ، تاركين خلفنا الطريقَ المُتعرّجَ ، ثم نمضي باتجاه الجبل عبر حقول الرزّ والتبغ، والفاصوليا، والخيار واليقطينة وقصب السكر.
البحر الأعلى
صاعدا ذات يوم، بلغت المستوى، وفي حوض جباله حيث تنبثقُ جزر سوداء، رأيت هناك بعيدا البحر الأعلى.
بالتأكيد، عبر طريق محفوفة بالمخاطر، يُسَوّغ لي بلوغ الضفاف، لكن سواء اتّبعْتُ الحافة أو عنّ لي الإبحار، فإن هذا السطح يظلّ عصيّا عن النظر.
أو، إذن، سأعزف القيثارة: سأضرب “التام التام”، والنوتيّة “التي”، واقفة على ساق واحدة مثل طائر اللقلق، وبالركبة الأخرى تُمسك بصبيّها المشدود إلى ثديها، تقود زورقها الصينيّ عبر المياه المُسطّحَة، سوف تعتقد أن الآلهة خلف الستار المسحوب من السماء تستخفّ في الباحة بهيكلها.
أو فاتحا خيوط حذائي، سوف أرمي به عبر البحيرة. أينما سقط، يركع المار، ومُتقبّلا إيّاه كفأل خير، يُكرّمُهُ بأربعة أعواد من البخور.
أو قالبا يديّ حول فمي، أصيح بأسماء: الكلمة تموت أولا، ثم الصوت. والمعنى وحده وقد بلغ سَمْعَ أحدهم، يدور إلى هذه الناحية وتلك، مثل ذاك الذي يسمع صوتا يناديه في الحلم، ويُجهد نفسه لقطع الرباط.
(يونيو-حزيران 1896)
هيكل الوعي
على سفح الصخرة السوداء حيث وُضعَ، لم أحتجْ إلى يوم لكي أكتشفه وحدي ، ولم أنطلق في الدرب المؤكد إلاّ في نهاية ظهيرة.
من فوق القمة المُدوّخة التي عليها أسير، يبدو حقل الرزّ الفسيح مرسوما كأنه خارطة، والحافة التي أنا عليها جدّ دقيقة حتى أن قدمي اليمنى حين أرفعها تبدو، كما على البساط، وكأنها توضع على الامتداد الأصفر للحقول التي زُرعت فوقها القرى.
صمت. عبر مدرج مُغطّى ببَهَق الحجر الشائب، أنزل إلى الظلّ المُرّ للدفلى، والدرب في هذا المُنْعطف يُقطع فجأة بجدار لأجد نفسي أمام باب مُغلق.
أنصت. لا شيء يتكلم، لا صوت، لا طبل. عبثا أرجّ بعنف مَقْبَضا من خشب وأصدمه.
خلال ذلك من دون أن يزقزق طائر، أشرع في الصعود. هذا المكان بعد كل شيء، مسكون، وبينما أنا جالس على الدرابزين الذي عليه يتجفّفُ غسيل الخدم، غارسا السنّ والإصبع في لحاء ليمونة هندية اختلستْ من القرابين، كان الكاهن العجوز يُعدّ لي في الداخل كأس شاي.
لا الكتابة على أعلى الباب، ولا الأصنام المُبَدّدة التي في عمق هذه المغارة يُكرّمُها دخان بخور نحيل تبدو لي مؤسسة لدين هذا المكان، ولا هذه الثمرة الحامضة التي أعضّها. لكن هنا، على هذه المصطبة الواطئة المحاطة بالنسيج الموْصلي، هذه الحصير المُدوّرَة التي سوف يأتي إليها بعد قليل الـ”بهيكو” ليُقرفص للتأمل أو للنوم ولكل شيء.
هل سأقارن هذا المشهد الواسع الذي ينفتح أمامي ويمتد حتى السور المُضاعف للجبال والسحب بزهرة يكون هذا المعبد قلبها الرمزي؟
أليس هو النقطة الهندسية حيث المكان مُكوّنا في انسجامه، يتخذ وجوده كما يُقال، ومثل وعي بذاته، والذي فيه يُوحّد ساكنه في تأمل فكره خيطا وخيطا آخر؟
تغرب الشمس. أصعد المدارج التي من المخمل الأبيض عليها ينتشر ثمر الصنوبر مفتوحا مثل ورود.
الهوامش
* فو-تشيو: مدينة ساحلية صينية، وتسمّى «المدينة الغنية».