خالد اليماني
تسارعت نبضات قلب نعمان، فيما حطّت الطائرة، لترتطم، وتتدحرج بمدرج مطار كينيدي في نيويورك، صبيحة ذلك اليوم الربيعي الخالد، ذلك اليوم الفارق في حياة الشاب اليافع الذي مرت ذكرى ميلاده الخامسة عشرة خلال الأسابيع الماضية، بينما أحياها كعادته مسطحا على مرج العشب الأخضر الممتد على ربوة قبة المبروك، بين أحضان الطبيعة فوق قمة الجبل المطل على قريته في منطقة الشَّعِر اليمنية. ويقول أهل القرية إن جدهم الأكبر هو من بنى تلك القبة التي باتت اليوم خربة، ونسبت ليس إلى اسمه، ولكن لصفته “المبروك”، فقد كان رجلًا صالحًا، جاء إلى هذه الأنحاء كما يقول الأهالي، قبل مئات السنين من نواحي جبل ريدان، حيث بقايا القصر الملكي في العاصمة الحميرية ظفار. ويمكن رؤية آثار قصر ريدان الملكي جليّة من تلك الربوة باتجاه الشمال الشرقي من قريتهم الحالية “اللكيمة”.
وبينما كان يهيم بنظره في الخارج من خلال كوّة الطائرة البيضاوية، ظل شريط الذكريات الحميمة الباقية من قريته يُعْرَض أمامه في حلقات غير منتظمة، وفي تتالٍ عجيب. بينما الطائرة تسير في المدرج المزدحم بالطائرات الواصلة والمغادرة، قبل أن تصل مبنى المسافرين لتخرج ركابها، فلوهلة تعود به الذاكرة إلى المرج فوق قمة الجبل، ملاذه الآمن، وخلوته الحميمة، التي يرى منها العالم كما لم يره غيره، وقبة المبروك التي لطالما ظل أبوه القاضي مصلح يذكّره بأنه في كل مرة يضّيع فيها البوصلة أو يصيبه اليأس، ويريد أن يعيد تعريف من يكون، فما عليه إلاّ الارتقاء إلى المرج حيث القبة التي بناها جده الأكبر، ليطل منها إلى جبل ريدان الخالد، حيث بدأ كل شيء، وتناسل أبناء المنطقة ليستوطنوا كل هذه المساحات الشاسعة من الجبال والتلال.
كما داهمته ذكريات أحاديث جدته صوفية، التي، إلى حين قضت أجلها حينما بلغ هو التاسعة من عمره، كانت خادمة لأهل القرية، فهي القابلة، والمعالجة، والناصحة، وصديقة الجميع. وكل ما يتذكره منها، هي أنها تلك العجوز، شديدة الباس، وئيدة الخطوة، بملامحها الجبلية الجميلة، ووجهها الحميم، القمحي الفاتح والذي يتوسطه أنف صقر عربي أصيل، وقوامها الدقيق، وأحاديثها الغنية المشوقة عن أهل المنطقة، وأساطيرهم، وأزمنتهم المختلفة. ولطالما كررت جدته صوفيه على مسامعه بعد كل حكاية من حكاياتها، أن أجمل الأيام تلك التي ولت، وأن الأيام لم تعد تأتي إلا بالمزيد من الخراب، وضيق النفوس.
وينتهي شريط الذكريات بصور ومضية تحضر فيها فاطمة، ابنة أسرةٍ جُل أبنائها من المهاجرين في أمريكا. شعاع ضوء تتكرر فيه تلك الصبية بنت قرية العقري المجاورة كأنها ملاك يمشي على الأرض. فقد كان يراها تقريبًا في كل يوم، كما في كل المناسبات الاجتماعية؛ لأنه اعتاد زيارة القرية المجاورة لقريته لتدريس الصِّبْية، مؤملا في كل يوم رؤية طيفها، أو اختلاس نظرة تشفي روحه ليوم آخر. جمال ملائكي يرفرف بأجنحة من نور. وعلى الرغم من أن فكرة الوصل من طرف واحد أعيت نعمان، فإن رمقته فاطمة بنظرة منها، لا تسعه الدنيا، ويرتبك هاربًا من حبه المكبوت كي لا يفضحه. ومع مرور السنوات انتقل شغف فاطمة إلى مكان حميم قصي في كيانه، وتحقق مع الوقت أن الفارق الكبير بين أسرة العلم المعدمة، وأسرة المهاجرين الميسورة، تجعله قنوعا بأنها كانت وستبقى طيفًا جميلًا، قصيًا، ليس إلّا، خاصة حين علم ذات يوم أن أباها قد ربط مستقبلها بابن عمها المغترب في أمريكا.
كانت تلك الربوة الواقعة فوق القمة طريقه الإلزامي الأقصر في ترحاله اليومي بين قريته اللكيمة، الواقعة على منحدر صخري، وبين قرية العقري المجاورة والواقعة في أسفل المنحدر من الجهة الأخرى من الجبل. ويمر الطريق المحبب إلى قلبه من خلال قبة المبروك، وقد كان يسلكه كل صباح طوال العامين الماضيين إلى قرية العقري لتعليم أبنائها، وأبناء القرى المجاورة، في ساحة جامعها الصغير، القرآن، وأصول الحساب، بعد أن اختاره قاضي الناحية وزكّاه رغم صغر سنه، لما التمس فيه من نضج، ونباهة، وتفتق قريحة، وميل للعلم. ولم لا فهو ابن المغفور له القاضي مصلح النهاري الذي كانت أصداء علمه تبلغ كل قرى المنطقة وصولا لبلدة الرضائي مركز المديرية، حيث كان الأهالي يلجؤون إليه التماسا للفتوى والرأي السديد.
كان القاضي مصلح اسمًا يشار إليه بالبنان لعلمه وفطرته النقية، ولم يكن ممن يتسولون على أبواب السلاطين، وكانت له لمحات مشهودة في رفض التعاون مع السلطات القمعية، وتحريض الفلاحين على التمسك بحريتهم، باعتبارها أعظم سنن الله في خلقة. كذلك كان حالة مع الإمامة والجمهورية على السواء، سندًا للناس، حتى اتهمته السلطات خلال حروب التخريب في المناطق الوسطى في نهاية سبعينيات القرن الماضي، واعتبرته “قاضي شيوعي”، وهو لم يكن يوما يقف في صف أي من الأطراف المتحاربة، سواء الجبهة الوطنية الديمقراطية التابعة لنظام الجنوب الاشتراكي، والتي حكمت مناطق الشَّعِر لبعض الوقت خلال تلك السنوات، أو نظام علي عبد الله صالح القبلي العسكري. بقي القاضي مصلح نصير الفلاحين، سكان المنطقة، ودافع بشراسة على كل من تعرض للظلم من قبل الطرفين. ويقول أهالي المنطقة أن القاضي مصلح ورث روح المقاتل المدافع عن الأرض والإنسان من أبيه القاضي صالح النهاري، رحمه الله.
حين مات القاضي مصلح، ترك أرملته العجوز، ونعمان الصبي الذي خلفه عن كبر، تركهما وحيدين، وكان نعمان قد بلغ الثانية عشرة من عمره، لم يورثه الشيء الكثير، سوى قطعة أرض صغيرة، لا تشبع ولا تغني من جوع، وبيتا متهالكا أعلى القرية عند مدخل الممر الجبلي الوحيد المؤدي إلى قمة الجبل، حيث قبة المبروك، وكأنه حارس الممر، وحامي عظام جده المؤسس. ولكن القاضي مصلح ترك ولده نعمان وقد نال قسطا معقولا من العلم، لم يتوفر عليه أقرانه من صبية القرى، فقد حفظ القرآن، وبعض التفسير، والحديث، حتى إن أباه كان يحتفظ بصندوق ورثه أبًا عن جد فيه الكثير من نفائس الكتب اليمنية المندثرة، مثل سيرة الملك الحميري سيف بن ذي يزن، وكتب يهودية مثل كتاب مخطوطة من سفر التوراة مكتوبة باليهودية اليمنية وبالحرف العربي و”الديوان الفريد” للعلامة الحبر الشبزي، ظل نعمان يعود إلى مطالعتها مرارا بعد غياب أبيه وكانت ميراثه الحقيقي.
أصر نعمان على اتباع منهج أبيه وأجداده في تعليم أبناء الفلاحين، فكان فقيرًا ومع هذا لم يقبل يوما الريالات إلا من أبناء الميسورين والمغتربين، بل وقليلها، وكان يعلم بؤس الحال العام، فقد أورثه أبوه إن تعليم الناس حق من حقوقهم، وواجب يقع على من يعلم، وشرف لا يضاهيه شرف، فواقع الحال في المنطقة مؤلم بعد أن طحنت الصراعات، والثارات القرى، وأحالت أرضها بورًا، وماءها غورًا.
حمد الله على سلامة الوصول، ها هو الآن في سيارة الأجرة برفقة أحد أصدقاء عمه إبراهيم، الذي انتظره في صالة الواصلين في المطار وهو يرفع لافتة كتب عليها “نعمان اليمني”، حتى يستدل عليه نعمان فور الخروج. بعد إتمام إجراءات الجوازات، ختم ضابط الهجرة تاريخ الدخول 23 أبريل 1984 ليخرج نعمان إلى صالة الاستقبال ويختلط بالقادمين قبل أن يتعرف على اسمه المكتوب في اللوحة.
بينما كانت سيارة الأجرة تنهب الطريق مسرعة، وفيما تركز انشغال صديق عمه بتسقط أخبار اليمن، والقرية، والأهل، والزراعة، ومواسم الأمطار، كان بؤبؤ نعمان يتحرك يمنة ويسرة داخل مقلتيه، وكأنه يلتقط راصدًا صور كل شيء من حوله، في لحظة فريدة بدت كالحلم وهو يحتضن أمريكا للوهلة الأولى، بعد أن سمع عنها الكثير في أحاديث أهل القرية المغتربين خلال زياراتهم السنوية للبلد، عن أرض الذهب والفرص التي تشبع نهم الساكنين والقادمين على حد سواء. واصل نعمان توثيقه لذاكرة المكان النيويوركي، تفاصيله الحميمة، عجائبيته السحرية، ناسه بألوانهم ومشاربهم المختلفة، زنوج، خلاسيين، صينيين، كاريبيين، لاتينيين، أوروبيين؛ نساء سافرات، ومحتشمات.. متبرجات، ومحجبات وما بينهما.
يسأل صديق عمه، هل هؤلاء أمريكيون، ويأتيه الرد “ما فيش أمريكيين هنا“، كل هؤلاء مثلنا، قادمون من كل مكان بحثًا عن الرزق والفرص. أما الأمريكيون البيض فهم من يسكنون في أعلى الأبراج في منهاتن، وفي أرقي الأحياء والمدن في أمريكا، ولكن نعمان خلص بفطنته إلى أن الأمريكيين البيض، أو من أسماهم صديق عمه بالأغنياء، لا بد أن يكونوا على سعة صدر وتسامح وإلّا ما فتحوا أبواب بلدهم مشرعة لأمثالنا، للمجيء، والعيش بين ظهرانيهم، بل والحصول على جنسية هذه البلاد في مساواة كاملة معهم، مثلما هو حال عمه إبراهيم. وحينما سأله عما سمعه من الرزق الوفير والذهب الغزير، أجابه بأن هذا كلام مرسل، وأن الرزق في أمريكا يحتاج إلى عمل وكد متواصل على مدار الساعة، وإلّا فسيموت الإنسان ولن يلتفت إليه أحد، مؤكدًا أنها بلد الفرص، ولكن لمن يجيد اقتناصها.
أبلغه صديق عمه، أنهم يقتربون من حي وليامزبيرغ. تذكر عمه إبراهيم الذي سيراه بعد قليل. لم يكن إبراهيم ليهتم كثيرًا لحال أرملة أخيه، ولا بابنها الوحيد، وخلال زياراته النادرة إلى قرية اللكيمة كان يلحظ حال البيت ومعيشة الأرملة وابنها، ولكنه أيضا كان يلحظ نباهة نعمان. وحدها مناشدات أرملة أخيه في كل لقاء جمع بينهما قبل ان ينقضي أجلها، كانت ترن في ذاكرته، فقد ركزت أم نعمان على ضرورة رعاية إبراهيم لابن أخيه، لإنها تخشى عليه بعد موتها، وإنها ستكون مطمئنة إن هو تفضل وسهل انتقاله إلى أمريكا للعمل معه ومساعدته، بعيدا عن هذه الأرض التي لم تعد مكانا للفرص، ولا للعيش الكريم.
رنين كلمات أرملة القاضي مصلح على آذان إبراهيم، كان له فعل السحر، مع أنه لم يكن يوما ليرغب في إدخال أحد من أسرته إلى أمريكا وتحديدًا نعمان، ومع مرور الوقت قال إبراهيم في قرارة نفسه، لم لا، وفكر بالاستفادة من مقدم نعمان إلى أمريكا لمساعدته في عمل المتجر، وربما الاستفادة من فطنته في ضبط حساباته، وتحسين المبيعات، وزيادة إيراداته إلى ما كان عليه المتجر قبل سنوات الإهمال والتيه التي يعيشها، فسيكون له الابن والسند دون شك، وسيكون عينه على المتجر وعلى شريكيه اللذين الذين كان ينظر إليهما بعين الريبة، لأنهما انتزعا جزءًا من ملكيته، هذا على الرغم من أنه وافق على شراكتهما، وكان يدرك أن ما باليد حيلة، وإلا لضاع المال والمتجر معا. وحينما فاتح إبراهيم ابن أخيه بقبوله الأمر، أصر على استعادة كل دولار سيصرفه عليه أولًا، من مداخيله التي سيجنيها أسبوعيا لقاء عمله في المتجر، وأنه سيتوجب عليه حفظ لسانه وأسرار عمه.
جواز السفر الذي استخرجه نعمان، نسبه إلى عمه، فصار اسمه نعمان إبراهيم، ولم يعد نعمان مصلح، أو بالأصح صار اسمه نعمان أبراهام، كما ورد في تأشيرة دخوله أمريكا، في أول تحوير لهويته ستليها تحويرات أخرى في حياته النيويوركية القادمة. وبعد أن أنجز معاملات السفارة الأمريكية، ها هو يحلق الآن في شوارع نيويورك، وكأنه يراها من فوق قبة المبروك، كعادته كما كان يحلق كنسر في فضاءات جغرافية مفترضة فيما تقترب سيارة الأجرة من جادة بيدفورد في حي وليامزبيرغ المطل على النهر الشرقي الفاصل بين مدينتي بروكلين ومنهاتن.
على مقربة من متجر عمه في جادة بيدفورد، تبدت له صورة أبراج منهاتن مهولة وهي ترتفع على الشاطئ المقابل لحي وليامزبيرغ، كأنها في متناول يده، أو على بعد خطوات منه وهي تعانق السحب، وتحجب رؤية ما بعدها، يتطاول بعضها ليصل إلى عنان السماء. لوهلة رآها وكأنها بيوت القرى البعيدة الملتصقة بشواهق الجبال المحيطة بقريته، والتي كان يستمتع برؤيتها من قبة المبروك، وكأنها أعشاش نسور وليست بيوتًا لناس. بعد أن مرت سيارة الأجرة تحت الجسر الشاهق المعلق المسمى باسم الحي، والرابط للجزء الشرقي الأدنى من منهاتن بوليامزبيرغ، والذي بنى مطلع القرن الماضي في صورة من صور الإبهار الأمريكي، وقف العالم مشدوها حيالها، فما بالك بذلك الفلاح الجبلي البسيط ابن الشَّعِر.
فرك نعمان عينية بكلتا يديه ليتحقق ساعتها أنه انتقل من قرية اللكيمة البسيطة التي لا يزيد عدد دورها عن الخمسين، إلى أكبر مدينة في العالم، مدينة مكتظة بالعمران، والأبراج، وبالناس من مختلف الملل، والأعراق، والألسنة، والمشارب، يجمعهم البحث عن فرص أفضل في الحياة، لم يجدوها حتما في الأرض التي تركوها. تمتم نعمان بقلبه، داعيا المولى عز وجل أن يكتب له حياة كريمة في هذه الأرض، وأن يرزقه فيها بذرية صالحة من صلبه، الآن بعد أن انقطع نسل أجداده في الشّعِر، وفي إب واليمن مع موت أمه وهجرته إلى أمريكا الوطن الجديد، أما قبة المبروك فقد قرر نقلها بوجدانه إلى موطنه الجديد، وكيف له أن يتركها حيث هي، وكيف له أن يتنسم عليل المروج بدونها، ويعيد الالتحام بذاته الحميرية الأصيلة.
دخل نعمان متجر عمه ليكتشف لاحقا، أن ملكيته لا تعود لعمه، وأنه كان طوال هذه السنين يعتقد أن عمه في وضع مالي مريح، فخلال زياراته المتباعدة للقرية كان إبراهيم يمعن في إبراز مظاهر الترف في ملبسه ومأكله ومشربه، ويتعمد استئجار سيارات فاخرة، ومرافقين مسلحين يتبعونه في كل روحاته وجياته. علم نعمان أن المتجر كان يومًا ما لعمه قبل أن يشاركه في ملكيته شخصان آخران من نفس منطقتهم، أي من القرى المجاورة لـ “اللكيمة”.
بعد السلام والاطمئنان، رافقه عمه إلى داخل المتجر المكون من مخزن طويل نسبيا، ينقسم إلى جزءين، خصص الأمامي منه للمواد المعروضة للبيع، وأما الجزء الخلفي فكان مخصصا لتخزين البضائع، بالإضافة إلى الحمّام، وغرفة علوية منخفضة السقف لا يمكن الوقوف فيها، ويكون التحرك في داخلها حبوا، أي باليدين والركبتين، وهي مكان للنوم وتنتشر فيها فُرش متفرقة بعدد ساكني المتجر، وقد يتسع للمزيد في حال تلقي أحدهم زيارة من الاقرباء أو المعارف من مناطق أخرى.
وضع إبراهيم ابن أخيه في صورة القوانين المنظمة للحياة اليومية في المتجر، حيث سيتوجب عليه تقاسم نوبات العمل مع شخص آخر، على أن يكون هناك اثنان في بداية النهار، واثنان في نهايته، كما يتم تقاسم مهام إعداد وجبات الطعام. وأعاد تذكيره بحجم الديون التي ترتبت عليه لقدومه إلى أمريكا، وأنه بحاجة إلى استيفائها. وعليه سيقوم نعمان بالعمل ساعات إضافية لصالح عمه حينما يكون الأخير خارج المتجر لقضاء بعض حوائجه. وختم إبراهيم حديثه بالتأكيد على نعمان بألّا ينصت إلى كلام شريكيه في المتجر أحمد وعلي، وأن يحفظ لسانه، وأن يكون عين عمه في كل ما يجري ويدور، مفضيا له بمكنون صدره بأنهما لا يضمران له إلاّ كل شر، ويريدان سرقة ما تبقى من ماله.
وفي تلك الليلة بينما كان الاثنان مستلقيين على فراشيهما في سقيفة النوم، واصل إبراهيم الحديث عن طبيعة سكان المنطقة، وزبائن المتجر، منوها لنعمان إلى أنه سيلاحظ كثرة المعروض في المتجر من المنتجات “الكوشر”، وهي تعني المنتجات الحلال في الشرع اليهودي، نظرًا لأن غالبية سكان الأحياء المجاورة للمتجر هم من الأمريكيين اليهود الأرثوذوكس وبعضهم من اتباع الحسيديم الذين جاؤوا من شرق أوروبا إلى نيويورك هربا من النازية، منذ أربعينيات القرن الماضي، وهم أناس مسالمون، أو كما قال “في حالهم”. ويقع كنيس اليهود في ناصية الشارع، وهناك أيضا يقع “الشاباد”، المدرسة الدينية الخاصة لأبناء الطائفة اليهودية، يدرسون فيها بعد انتهاء دراستهم في المدارس الحكومية.
وذكر إبراهيم أن المنطقة ليست حكرًا على اليهود، على الرغم من تواجدهم الملفت فيها، فهناك الكثير من السكان من أصول أمريكية جنوبية، مثل الدومينيكان، والكوبيين، والمكسيكيين، ويطلق عليهم من باب التعميم أمريكيين لاتينيين، وهم يقطنون مناطق متفرقة، أو يفدون إليها كل يوم للعمل في الخدمات والمحال التجارية، والخدمات الأخرى. كما أن هناك السكان الأمريكيين من أصول أفريقية أو الزنوج القادمين من الولايات الجنوبية الذين يقطنون الأحياء الجنوبية في منطقة بيدفورد ستيوفيسنت المجاورة إلى الجنوب من بروكلين. أما العرب فقد اختاروا العيش في حي وسط بروكلين الواقع في الجهة الأخرى من وليامزبيرغ على ضفاف النهر الشرقي المقابل لمدينة منهاتن، وفي منطقة بيريدج الواقعة إلى الجنوب من بروكلين على مشارف مطار جون كينيدي الدولي. وهذه الأحياء التي ذكرها لا تساوي إلا عُشر مساحة بروكلين التي هي أكبر من مساحة صنعاء وإب مجتمعتين.
وفيما كان إبراهيم يلقي على نعمان هذه المعلومات، كان يؤشر بيديه صوب اتجاهات مختلفة في الغرفة، ولم يكن نعمان يعرفها، ولكن المعلومات التي أدلى بها عمه كانت غنية، ومثلت زاده الأول لمعرفة فضائه الجديد، حيث سيعمل خلال الأيام، والأسابيع، والأشهر، والسنين القادمة على السير في أرصفته شبرًا شبرًا، حتى يتشرب أبعاده، تماما مثلما صنع من علو قبة المبروك لمعرفة تفاصيل قرية اللكيمة والقرى المجاورة، حتى تلك البعيدة، هناك عند خط الأفق البعيد عند جبل ريدان.
لم يعر نعمان أهمية تذكر لتفاصيل العمل، والالتزامات، وقضاء الدين، فهو لم يكترث يومًا للمال، ولم يكن له معنى محوري في حياته، ولكنه سيدرك مع الأيام أنه يحمل عبئًا ثقيلًا، وأنه هو السند الإلزامي لعمه وليس العكس.
جلبت له الأيام التالية المزيد من التفاصيل عن المتجر وعمه. وعلى الرغم من إصرار إبراهيم بأن يشترك مع نعمان في المناوبات اليومية وترك أحمد وعلي للمناوبات الأخرى إلاّ أنه اتضح بأن نعمان بات يعمل وحيدا، فيما واصل إبراهيم توسل الأعذار يوميًا للتواجد بعيدًا. لم يشتك نعمان رغم استحالة الجمع بين مباشرة العمل في المحل وحيدًا، والخروج لشراء مواد البقالة، والعودة لتحضير الوجبات.
كان أحمد منذ الوهلة الأولى أقرب شركاء عمه إليه، كان في الثلاثين من عمره بينما كان علي، الشريك الآخر، قد تجاوز الأربعين. وإليه لجأ نعمان لإعانته في إدارة المحل، حينما كان يضطر للذهاب لشراء حاجيات البقالة لإعداد الطعام. من أحاديثه الجانبية مع أحمد علم أن الأخير سبقه إلى أمريكا بعشر سنوات، اشتغل خلالها أجيرًا لدى أحد أبناء قريته، وجمع بعض المال الذي مكنه من عرض موضوع الشراكة على إبراهيم، حينما علم ذات يوم من زيارة قام بها الأخير للمتجر الذي كان يعمل فيه في حي بيدفورد ستيوفيسنت القريب، بأنه متورط بديون يحتاج لسدادها، وأنه طلب من أحد شركاء المحل إقراضه ذلك المبلغ.
حينها عرف نعمان لماذا أصر عليه عمه بألّا يتحدث وألّا يثق بشريكيه أحمد وعلي، حيث اتضح له من أحاديثه الجانبية مع أحمد أن عمه أضاع الكثير من الأموال، وكاد يخسر المتجر لولا شراكته مع علي ومعه لاحقا، وأن وضعه زاد ترديًا بعد أن تعرف على امرأة إيطالية أسرت لبه، وافرغت جيبه. ولولا وقوف الأقرباء لكان اليوم في وضع أسوأ. فكر نعمان كيف سيكون بمقدوره تصويب الوضع، فهو بحاجة للمتجر، وبحاجة للعمل فيه، وإلّا وجد نفسه مرميًّا على قارعة الطريق، وتساءل في قرارة نفسه من تكون تلك الإيطالية التي أغوت إبراهيم، وأية غواية هذه التي أفقدته رشده؟
لم يتزوج إبراهيم من بنات منطقته في الشَّعِر اسوة بجميع أبناء بلاده الذين قدموا إلى أمريكا، صحيح أنهم لم يكونوا يسعون لجلب أسرهم إلى أمريكا ويفضلون الذهاب في إجازات سنوية إلى قراهم، لرعاية أسرهم، والتزاوج، ومتابعة بقية مصالحهم من أرض، ومحصول وغيرها من أمور الحياة، في تأكيد عبر السنين على الانتماء رغم أن مصالحهم لم تعد مرتبطة بالقرية، ولكن بمتاجرهم في أمريكا، إلا أن إبراهيم كان من بين الاستثناءات القليلة، فقد كانت زياراته للمنطقة متباعدة، ولم يبن بيتا فيها، وكان خلال زياراته المتباعدة ينزل ضيفًا على مسكن أحد أصدقائه الذي يظل مغلقًا، إلا حينما تعود أسرة ذلك الصديق لقضاء الإجازة في المنطقة. كان ينظر إلى إبراهيم بين أبناء المنطقة الساكنين في نيويورك بـاعتباره “ضائع”، وهو اصطلاح يطلقه أبناء المهجر اليمنيين على أي من أبناء جلدتهم الذين ينسلخون عن عادتهم، ولا يتزوجون من قراهم، ويقطعون ارتباطهم بأصلهم، ويندمجون بشكل أو بآخر في المجتمع الأمريكي عبر التزاوج من الأقليات الأخرى، والابتعاد عن مراكز استيطان الجالية اليمنية.
تسارعت الأشهر ليرى نعمان بدايات الخريف النيويوركي وهو يشبه موسم الرياح في القرية مع فارق الألوان الصارخة للخريف في أمريكا الشمالية، كان يرى وهو يقف مندهشًا عند بوابة المتجر، أوراق الأشجار الصفراء يطيّرها الريح في دوامات، وتسقط من السماء فوق قبعة الشيخ المنتظر في محطة الحافلات في الشارع المقابل للمتجر، أو تحت أقدام الأطفال الذين كانوا يقذفون بعضهم البعض بأكوامها في حديقة الأطفال القريبة، لينتهي بها المطاف متراكمة في زوايا الشوارع وعند الأبواب كنوزًا من الذهب الشفاف تدوس عليها أقدام المارة فتهشمها.
وفيما كان نعمان منشغلا بشؤون المتجر، حيث وجد نفسه يدير مشروعًا متهالكًا، فمن جهة لم يكن بحوزته أي قدر من المال، فكل عوائد المتجر كانت تذهب مقاسمة بين الشركاء، حتى ثمن عرقه كان يذهب إلى جيب إبراهيم الغائب الذي لم يعد يشارك كثيرًا في عمل المتجر، إنما انصب جل همه على زيارات خاطفة لجمع الدخل، والعودة إلى حياته الخاصة. لم يسأله نعمان عن ماهية تلك الحياة الخاصة التي تأخذه بعيدًا عن متجره وأهله، ولم يسأله قط عن تلك الإيطالية التي سلبت لبه، وتلاشى مع الأيام الإحساس بينهما بصلة القربي، وبقي القلق يستولي على نعمان وهو يتطلع إلى المجهول وما تحمله له الأيام.
لم تكن لحظات المتعة في حياة نعمان النيويوركية خلال سنواته الأولى كثيرة، ويمكن تلخيصها في استمتاعه برؤية زبائن المتجر والتفاعل الإيجابي معهم، فصار مع مرور الوقت يحفظ صور وأسماء بعضهم عن ظهر قلب، وبات وجهًا ودودًا في المتجر الواقع عند ناصية جادة بيدفورد، وشمال الشارع الثامن. ولطالما أحبّ نعمان تسجيل انطباعاته فيما يشبه تدوين مذكرات يكتبها أحيانا مع تأريخ الأيام، وأحيانا انطباعات مستقلة، حول المكان وناسه وتفاعله معهم.
بدأ نعمان مبكرًا قول بعض الكلمات، كما تعلمها من الكتاب الذي أعطاه إياه أحمد، خاصة بعد أن أخفق الأخير وفقد الأمل في تعلم الإنكليزية بعد سنوات طويلة من المحاولة، واكتفى بلغة الشارع، وما هو ضروري من العبارات الإنكليزية المشوهة، ما يفي بحاجة حياته وعمله في المتجر. إلاّ أنه ظل يردد بفخر على مسامع نعمان، كيف أنه تجاوز مؤخرًا امتحان المواطنة، وكيف أن القائمين على الامتحان باركوا له النجاح المبهر في حفظ معلومات التاريخ الأمريكي، والفوز بالجنسية الأمريكية، وتلقي العلم الأمريكي الصغير الذي مازال يحتفظ به مع شهادة الجنسية.
ومع هذا كان أحمد معلمًا، ورفيقًا ودودًا، وبمثابة الأخ الأكبر لنعمان، فعلمه أولًا نطق الكلمات المتعلقة بمنتجات المتجر والتي اتضح لنعمان لاحقا أن ما تعلمه من أحمد لم يكن إلا صوتًا أقرب إلى حقيقة الكلمة الإنكليزية، ولكنها كانت بدايته لتعلم الإنكليزية على يد معلمه الأول في أمريكا. كتاب أحمد كان رفيق نعمان في كامل يومه، حتى إذا جاء المساء وداهمه النوم وضعه على وجهه مفتوحا على الصفحة التي كان يدرسها وكأنه كان يبتغي مواصلة حفظ نصوصه وهو في منامه. بقي نعمان يتعلم من زبائن المتجر ويقارن الأصوات، وحقق تحسنا ملحوظا في تعلم اللغة بعد عام من الجهد الفردي، إلاّ أنه تحقق من حاجته للذهاب إلى مدرسة متخصصة، ولكن كيف يكون ذلك ممكنا وهو ما يزال يقضي ديون عمه التي لا تنتهي.
سيكون على نعمان قضاء الأشهر الستة القادمة في سداد الديون ليتحرر أخيرًا، ويبدأ في جمع المال، ما لم يختلق إبراهيم سببا لاستمرار هذا الابتزاز المذل.
أما متعة نعمان الكبرى في حياتية الجديدة، فقد تمثلت في استراق ساعة زمن يأذن له فيها أحمد بين يوم وآخر، يتسكع فيها في شوارع حي وليامزبيرغ المجاورة وصولا إلى حديقة مارشا جونسون العمومية على ضفاف النهر الشرقي، ليقضي دقائق من الاسترخاء، ممتدا على العشب عند حافة النهر، تماما مثلما كان يصنع في قبة المبروك في قريته البعيدة، يرقب الأبراج الشاهقة في المدينة الكبيرة الواقعة في الضفة المقابلة، ويطلق العنان لأفكاره، بل ويطلق الصقر الذي بداخله ليحوم في الأجواء، ويسرح بأحلامه، وتصوراته حول مستقبل مزدهر ينتظره في أمريكا، وهو يرى أهل هذه البلاد الذين يشبهونه بتعدديتهم وتنوعهم، ورغد عيش بعضهم، خاصة القاطنين في أعلى تلك البروج المشيدة، كما قال صديق عمه إبراهيم، وتطلعه لرؤيتهم المباشرة يوما ما. ولم يعده من تحليقه وشروده إلا أصوات العَبّارات النهرية وهي ترتطم بقوة بمياه النهر العاتية في تنقلها بين محطاتها في بروكلين والأرصفة البحرية المقابلة في منهاتن.
يشرد مجددًا وهو يتطلع في صفحة ماء النهر العظيم، إلى قرية اللكيمة حيث حاجز الماء الوحيد الذي بناه أهل القرية عبر السنين، ويقع أسفل القرية في الوادي الذي تغذيه السيول خلال موسم الأمطار، ويبقى مصدر الماء الوحيد لأهالي القرية، تأتي إليه الصبايا كل صباح حاملات صفائح الألمنيوم لملء الماء، ورفعه فوق رؤوسهن إلى القرية، والقرى المتاخمة عبر الممرات الجبلية. كان ذلك الحاجز المائي أيضا بركة السباحة ومتنفس اللعب والسعادة الوحيد لأطفال القرية في موسم الأمطار الصيفية.
رغم أن عشب المرج عند حافة النهر في حديقة مارشا جونسون البلدية لم يكن شبيها بـ”قبة المبروك” من حيث إطلالتها العلوية البانورامية المترامية على بلاد الشعر الحميرية، إلا أنه كان المكان المختار لقبة المبروك النيويوركية ليرى منهاتن في أجمل صورة أبدعها البشر، شريط مستطيل من الشواهق الإنشائية يكتظ بالحياة، والتفاعل الإنساني والنجاح. هناك طالما أطلق نعمان العنان لنسره ليطوف الأرجاء ويأتيه بقصص الحالمين من أمثاله. كانت قبته النيويوركية الأحب إليه في قادم الأيام.
جلبت الأيام والأشهر القادمة المزيد من الأخبار المقلقة لنعمان. زارهم اثنان من أبناء قرية أحمد، وبقيا في الغرفة العلوية لمضغ أوراق القات التي جلبوها معهما، وهي عادة يمنية يطلق عليها تخزين القات في جلسات اجتماعية. تناول الجميع وجبة ساخنة من عصيد طحين القمح والذرة مع بعض مرقة اللحم الحامضة ومخضوض الحلبة، من إعداد نعمان. استغل نعمان فترة استراحته ليجلس إلى الضيوف للتعرف وسماع أخبار اليمنيين في الأحياء المجاورة. بدأ الحديث باستعراض آخر حوادث المحال التجارية لليمنيين، وهي في الغالب حوادث اشتباك مع العصابات والأفراد من الأمريكيين السود، خاصة وأن اليمنيين منذ أول مقدمهم إلى المدينة، فتحوا محالهم التجارية في الأحياء الفقيرة التي يقطنها الأمريكيون السود محدودو الدخل، القادمون في الغالب من الولايات الأمريكية الجنوبية حيث انتشرت في الماضي العبودية والرق. ولم يكن بمقدور اليمنيين المنافسة بفتح متاجر البقالة أو ما يعرف بمتاجر الناصية في أحياء البيض سواء الأيرلنديين أو الإيطاليين، لأن هؤلاء كانوا يفتحون متاجرهم الخاصة بهم.
وفي العادة يداهم الزنوج في مجموعات صغيرة متاجر اليمنيين لسرقة السيولة النقدية، وتنتهي بعض تلك الحوادث بموت محتوم أو جرح بليغ بفعل طلق ناري يتلقاه الشخص المناوب في المتجر، أو أحد المعتدين. وفي الأحياء الإشكالية، حيث تنتشر التوترات الأمنية، في الغالب يقوم ملاك المتاجر اليمنيون بوضع شخص مسلح إلى جانب الشخص المناوب كعنصر ردع لحماية المال من أي هجمات محتملة. وتنتهي هذه الأحداث بمشاركة بقية أبناء الجالية في العزاء ومراسم الدفن، أو بالاحتفاء إذا ما تمكن أحدهم من الدفاع عن متجره، وأخاف أفراد العصابة أو حتى أصاب أحدهم، فيما يلوذ البقية بالفرار، فيتحول بنظر بقية اليمنيين إلى “رجل” لأنه عرف كيف يدافع عن حقه، خاصة وأن الشرطة في مثل هذه الحالات لا تقوم إلا بالإجراءات الرسمية الشكلية لتقييد الحالة. ولحسن حظ نعمان أن متجرهم يقع في حي يقطنه غالبية من اليهود المسالمين، والمنشغلين بأمورهم الخاصة والمجتمعية، فلم يكونوا مضطرين لحمل السلاح ولا للدفاع عن المتجر من هجمات اللصوص.
انتقلت أحاديث الضيوف إلى عمليات اقتحام وسرقة أجهزة الصراف الآلي من متاجر اليمنيين، فخلال تلك الفترة تزايدت هذه الاعتداءات، وآخرها اقتحام عصابة متجر صغير لمواطن من أبناء القرى المجاورة بعد ساعات العمل في وقت متأخر بعد منتصف الليل، واقتلعت آلة الصراف الآلي التي كانت بداخله، وأحدثت خرابًا كبيرًا في بوابته الرئيسة التي انهارت بفعل صدمة الشاحنة التي استخدمها أفراد العصابة في الاقتحام. ولم يكن في المتجر سيولة تذكر، ولكنهم لاذوا بالهرب مع الآلة وبداخلها خمسة آلاف دولار. تصاعد صوت نعمان ابتهالا بسلامة الأبدان، “الحمد لله، في المال ولا في الأبدان”، فشرح له أحدهم أن المال المسروق هو مؤمن عليه من قبل شركة الصراف الآلي، ولن يضيع، ولكن المؤسف هو الخراب الكبير الذي حل بالمكان فقط.
انتقل الحديث بعدها عمن يطلقون عليهم هنا بالمافيا الإيطالية، أو الكوسانوسترا، وهي عصابات انتقلت مع هجرات الإيطاليين إلى أمريكا ، وتحديدا من صقلية في جنوب إيطاليا، بعد الحرب العالمية الثانية، وهم في الغالب محدودو التعليم، والدخل، وجلبوا معهم عاداتهم الإجرامية من ابتزاز تحت مسمى توفير الحماية، وإتجار بالمخدرات، والسرقة، والتهريب، وغيرها من السلوكيات الخارجة عن القانون، ولطالما كان اليمنيون ضحية لتواجدهم في أحياء قريبة من تواجد التجمعات الإيطالية، وبالتالي كان لزاما عليهم تأدية فروض الولاء والطاعة، عبر دفع الاتاوات، فيما تورط البعض القليل منهم في جمع الإتاوات نيابة عن مسؤولي العصابات الإيطالية، أو في بيع المخدرات، وغيرها من الأنشطة التي ترفضها أخلاقيات الجاليات اليمنية.
آخر تلك الأحداث قصة ذلك الشاب اليمني الوسيم المدلل عبدول ابن العائلة المرفهة، والذي ابتلي بحياة الليل والسهر والغواني ولعب القمار في أندية الإيطاليين، وتزايدت احتياجاته المالية التي فاقت قدرة أسرته، فتورط في استدانة مبالغ كبيرة من المافيا بفوائد تصاعدية، وخلال الأسابيع الأخيرة وجد مضرجا بدمائه، مرميًا في أحد الشوارع الجانبية أمام سيارته، وقُيّدت الجريمة ضد مجهول.
وحينما أبدى نعمان اندهاشه وقلقه من أفعال المافيا الإيطالية في أمريكا وبعد أن علم الضيوف أن “أبراهام” يكون عم نعمان، انتقل الحديث بصيغة النصائح حول خطورة الورطة التي وقع بها أبراهام مع تلك المرأة الإيطالية التي يعشقها، والتي يحكي اليمنيون في مجالسهم، أنه تعرف عليها في إحدى الحانات الواقعة في جادة أتلنتيك منذ أكثر من عام وما زال يغرق في ورطته مع تلك الإيطالية وصلاتها المشبوهة مع المافيا والتي ورطت أبراهام للعمل في خدمتهم، ومخاطر فقده لصلته وبشكل متزايد مع حياته البسيطة التي ألفها في المتجر، وارتباطه بتجمعات اليمنيين والتفاعل القليل الذي كان يجمعه معهم، حينها كان بإمكان جميع أبناء منطقته أن يمدوا له يد العون إن هو طلب ذلك، وينتشلوه من الخوض في وحل الجريمة والمجرمين، محذرين من أن ابتعاده، وتغريده خارج السرب سيضر به كثيرًا، عاجلًا أم آجلًا.
مرت الشهور وغابت أخبار أبراهام. قرر نعمان أن يبحث عن عمه، فهو لم يعد يأتي فيها إلى المتجر حتى ولو لوهلة لأخذ مستحقاته المالية، كما كان يفعل عادة. تنقل نعمان في الشوارع المجاورة لجادة أتلانتيك، سائلا أصحاب المحال التجارية والمطاعم اليمنيين، حتى استدل بعد عناء إلى المنزل الذي كانت تعيش فيه تلك الإيطالية، بدت له بعد أن فتحت الباب، امرأة قد تجاوزت الخمسين من عمرها، أو هكذا بدت، تجعدت بشرة وجهها الأبيض المائل للحمرة، فيما تدلت خصلات شعرها المبعثر الأشقر المحمر على جبينها، وارتدت سروالًا قصيرًا ضاغطًا، وقميصًا مفتوحًا عند صدرها بطريقة ملفتة لا تتفق مع سنها المفترض. كانت تدخن سيجارة، ورمقت نعمان بنظرة متفحصة من رأسه حتى أخمص قدميه، وعيناها تتساءل من يكون؟
قدم نعمان نفسه، وأفصح عن سبب زيارته بالبحث عن أبيه، بينما بقيت تلك المرأة تحملق متفحصة أجزاء جسمه بطريقه ملفتة. بعدها قالت: “أنت إذًا ابن أبراهام، أتمنى ألّا تكون بقدر خيبته؟ فهو شخص عاجز في كل شيء وعالة، ولكن لا تقلق عليه هو بخير، ولكنني لا أعلم أين يكون الساعة، تراه يهيم متسولًا في الشوارع على غير هدى، لا فائدة ترجى منه، فهو رجل فاشل، قليل الرجولة، لا يحسن صنع شيء، ولا أراك خائبا مثله، أليس كذلك؟”.
شكرها نعمان على تطمينه لحال أبراهام، وأمعن في التلطف معها، حتى لا يصيبه المزيد من قرف لسعاتها الكلامية وإطلاق المزيد من البذاءات من فمها الذي كانت تنبعث منه روائح كريهة، انطلاقا من حكمة تعلمها من أبيه القاضي، “أكرم نفسك من كل دنيء”، استأذنها للبقاء خارج البيت بانتظار عودة أبراهام، فبادرته المرأة بالسؤال إن كان يحمل لأبراهام مالًا، فيمكنه أن يتركه لديها، فهي رفيقته ومخزن أسراره، وهي بدورها ستطلب من أبراهام أن يمر على المتجر في اليوم التالي لزيارة الولد. قالتها في تغير واضح في نبرة صوتها التقطها نعمان الفطن، فبعد سلاطة اللسان والغطرسة في توصيفها لأبراهام صارت الآن مغالية في اللطف والوداعة. أنهت المرأة حديثها مع نعمان بقولها إنها ما قالت ذلك إلا لأنها تشك أنه سيعود الليلة إلى المنزل.
اكتفى نعمان بتجديد الشكر، وانسحب إلى خارج المبنى، وبقي بعيدًا عن المنزل الذي كان عبارة عن شقق سكنية عائلية جماعية وزعت غرفه للإيجار كمساكن منفصلة مع حمام ومنافع مشتركة. كانت الغرفة التي وقف على بابها تنبعث منها عفونة لزجة، اختلطت فيها الروائح النتنة مع دخان السجائر، وبقايا الأكل المتعفن، ورائحة الخمور النافذة، حتى بدت له غرفة النوم العلوية القذرة في المتجر مكانًا مثاليًا في فندق خمسة نجوم.
في ساعة متأخرة من الليل ظهر شبح عمه يترنح في الطريق. تحقق نعمان من أنه أبراهام، وما إن اقترب بادره بالسلام، إلا أن رد أبراهام كان مفاجئا وسليطا، “ما أتى بك إلى هنا يا ابن …، من قال لك أنى أسكن هنا؟ ألم أقل لك ألا تبحث عني، وأني سآتي إلى المتجر حينما أريد، اتركوني في حال سبيلي يا…”. أدرك نعمان أن أبراهام ليس في وعيه، وانه ثمل للغاية. حاول تطمينه بأنه ما كان ليأتي بحثا عنه لولا انشغاله عليه بعد أشهر من الغياب. بادره أبراهام: “هل رأيت ماريا، لا تقل لأحد بأنك رأيتها. هل أعطيتها نقودًا؟ آه لو تجرأت وفعلت ذلك لكنت دست عليك الآن بجزمتي هذه يا …، هي امرأة سارقة و …”. حاول نعمان تطمينه، وتهدئة خواطره، ووعده بأن حياته الخاصة ستبقى سرًا لديه لن يعرف به أحد، أليس هو أباه أو في مقام الوالد، والأهم من كل ذلك فهو كل ما بقي لديه من أسرة، وأهل، ووطن. أخذ أبراهام النقود من نعمان، وأشار إليه بكلتا يديه مترنحًا ليغادر من فوره، وأكد عليه أنه سيمر على المتجر الأسبوع القادم لتحصيل المستحقات المالية.
في صباح يوم الأحد التالي الذي أعقب اللقاء في جادة أتلانتيك، اجتمع الاثنان في جلسة مصارحة مدوية، وكان أبراهام غير ذلك المخمور الذي رآه نعمان قبل أسبوع، بل شخص آخر ضعيف، منكسر، ومحتاج. أكد أبراهام أهمية ألّا يعرف أي يمني بأن نعمان التقى ماريا، ولا مكان السكن، ولا الحال التي وجده عليها، وذكره بالنصائح الرئيسة التي قدمها له في اليوم الأول لولوجه المتجر عقب وصوله من المطار. وأنهى أبراهام حديثه بالتأكيد على أن نعمان هو ابنه وكل ما لديه في هذه الدنيا.
أفشى أبراهام لولده سرًا مخيفًا وهو أنه متورط بضياع مبالغ تعود لشخص إيطالي، وأنه كان يجمعها نيابة عنه من محال التجار اليمنيين والعرب في حي بيدفورد ستيوفيسنت المجاور، وأنه مع الأسف لا يستطيع سداد هذه الديون لأن “الكافر المرابي” الإيطالي يزيد فيها كلما تأخر عن سدادها، وهو بطاش لا يرحم. أبلغ أبراهام نعمان بقراره بيع حصته الأخيرة في المتجر، وسداد بعض الدين الذي عليه في محاولة لتفادي غضب المجرم الإيطالي، وأنه سيحاول تخليص نفسه من الورطة التي أوقع نفسه بها مع هؤلاء الإيطاليين، ويعود إلى سابق حياته، وإلى أهله، وربما بمساعدة نعمان سيتمكن يوما ما من استعادة متجره الذي بدا واضحا لنعمان أنه أضاعه إلى غير رجعة.
ما ضر نعمان إن باع أبراهام حصته أو أبقى عليها، فقد سدد كامل ديونه لعمه خلال العامين الماضيين، ومثلما كان أجيرا سيبقى أجيرًا، فقط شعر بالحزن لوضع أبراهام، لكن ما باليد حيله. فاتح نعمان لاحقا صديقه أحمد بهول الوضع الذي يعيشه أبراهام، وتورطه مع الإيطالي، وأكد أحمد أن الرجل أحد مجرمي المافيا الإيطالية في نيويورك المعروفين بالقيام بالمهام القذرة لأسر المافيا الكبيرة، مثل القتل والابتزاز والسرقة وغيرها، وخلص الاثنان بعدم جدوى القيام بشيء خاصة وأنهما إن قررا الحديث مع بعض أبناء المنطقة، فإن ذلك قد يثير غضب أبراهام، وربما اشتكاهما للإيطاليين أو اشتكى للجالية اليمنية، كما أن اللجوء إلى الشرطة لا نفع قد يرجى منه. أغلق الأمر عند تلك النقطة. بقي نعمان أجيرًا وتعمق التباعد بينه وبين عمه، بعد أن انسحب الأخير من المتجر، ولم يعد يقوم حتى بزياراته المتباعدة. أدرك نعمان أن عمه سلك طريق اللاعودة.
بعد أشهر عديدة من الترقب، وتصيد أخبار أبراهام عن بعد، جاءت نهاية الشتاء الثالث في حياة نعمان النيويوركية بالأخبار المفزعة التي تناقلها اليمنيون، عن عثور الشرطة على جثة تم انتشالها من مكب قمامة عمومي في حي بيدفورد ستيوفيسنت المجاور، حيث اتضح أنها لشخص خمسيني، تلقى طلقا ناريا في منتصف جبهته، وبعد التحقيق اتضح أن الجثة تعود إلى أبراهام. قيدت حادثة القتل ضد مجهول. انتهت بذلك حكاية أبراهام، وانتهت معها حكاية اللكيمة، وآل المبروك وقبتهم، وديارهم البعيدة هناك عند جبل ريدان، في بلاد الشعر، انتهت في مكب قمامة قذر لإحدى بلديات حي من أحياء بروكلين. وبعد مرور سنتين أخريين من ذلك الحادث الأليم، جاء اليمنيون بخبر أن قاتل أبراهام ذلك الأمريكي الإيطالي المتوحش، وجد مقتولًا مع شخص آخر في خانة سيارة رُكنت في مرآب قديم، بعد تلقيهما طلقًا ناريًا في الجزء الخلفي من الرأس. كانت تلك بداية تسعينيات القرن الماضي حينما بدأت ظاهرة المافيا الإيطالية بالانحسار من الحياة النيويوركية.
لا يعرف نعمان سببا، لذلك الإحباط الذي سيطر على أيامه، فقد مضّى وقتًا طويلًا منغلقًا على نفسه خلال ساعات استراحته في الغرفة العلوية في الجزء الخلفي من المتجر والمخصصة للنوم والمقيل، متسطحا على فراشه، هائما دون هدى. كان يكتفي بمطالعة القصص الإنكليزية الكلاسيكية والتي اشتراها من مكتبه قريبة، وتصفح بعض المجلات اليمنية والعربية التي كان يجلبها أحمد، وينجز قدر مستطاعه مهمة الأجير العامل في المتجر، ويداوم على إنجاز دوره في إعداد الطعام، أو رحلاته المكوكية إلى شاطئ النهر عند مرج الحديقة البلدية حيث قبة المبروك خاصته في نيويورك، لرؤية منهاتن والتدقيق في تفاصيلها، وكأنه على متن طائرة بدون طيار تحلق فوق الجادات الرئيسة، وتُعرِّج على الشوارع الجانبية المرقمة جنوبا مما بعد الحي المالي، والمتجهة شمالا وصولا إلى شارع ١٩٠ الواقع في حي فورت جورج عند منتهى حدود مانهاتن وبداية حي البرونكس. وما دون هذه الرحلة كان الفراش والضجر رفيقيه. وما إن يغمض عينيه حتى تحضر تلك الصور الومضية، فتعود اللكيمة، وقبة المبروك، وجبل ريدان البعيد، لكن تفاصيلها لم تعد بذلك الوضوح كما كان يراها فيما مضى، فقد بات ومض لحظات بلاد الشعر أقل ضوءًا وتفصيلًا، فيما تتلألأ منهاتن متقدة في ذاكرته.
بينما تسترسل الذاكرة في بث إشارات أكبر وأكثر دقة، كتفاصيل وصوله إلى نيويورك، طوابير القادمين لإتمام إجراءات الجوازات، أرضية المطار، وضابط الهجرة وهو يبتسم في وجهه المتعب، وتلك الريح الطيبة التي أسعدته بنفحاتها، وهو يغادر صالة الاستقبال في المطار إلى الفضاء النيويوركي المفتوح، وصوت جهوري لزنجي أمريكي يقف أمام سيارة الأجرة وهو ينادي بأعلى صوته “مرحبا بكم في نيويورك”، ويردد كلمات أغنية تعلمها نعمان في سنواته النيويوركية الأولى للأسطورة فرانك سيناترا، بعنوان “نيويورك.. نيويورك”، والتي تقول في نهايتها “إذا استطعت النجاح هناك، ستنجح في أي مكان، الأمر متروك لك. نيويورك، نيويورك”.
«مقطع من نص طويل»