إكرام عبدي
تظل مدينة طنجة المغربية ماسةً في عنق الأبدية؛ فردوسًا ينهل من ينابيع الهويتين التاريخية والحضارية، غيابًا شفيفًا أكثر حضورا من وقائع اللحظة، زمنًا أسطوريًا خالدًا نحيا مرارا على أثيره، ذاكرة أشبه بتميمة تحمينا من المبتذل والدخيل والمتطرف ومن كل أعداء الجمال والفن، طنجة هي مكان الماضي والحاضر في آن معًا كما يقول الكاتب الأمريكي بول بولز.
هي “طنجة العالية” كما يطربنا الفنان المغربي “الحسين السلاوي”؛ شامخة في لا نهائيتها في امتدادها في غموضها في صمتها في إيمائها في كبريائها في أسطوريتها في “لعنتها الأبدية”، وبين ثنائيات البحر الأبيض المتوسط شمالا والمحيط الأطلسي غربا، ونهاية قارة أفريقية وبداية قارة أوروبية، وثقافة الغرب وسحر الشرق، تقيم طنجة في برزخ سحري في نشيد صوفي بلّوري ملغز مستعص، أذابت فيه كل الثنائيات لتنصهر في أحاديات التعدد والتعايش والاختلاف والانفتاح.
هي جزء من ذاكرة الأندلس الباقية؛ معمار بروح الطراز الموريسكي الأندلسي، وبيوت أشبه بالقصور الغرناطية والقرطبية، وبأعمدته الرخامية، وأقواسه الملونة، وفضاء “باتيو-البهو” الإسباني المفتوح إخلاصا لتقاليد العمارة الإسلامية الإسبانية، وبألسنة تلهج بالإسباني في شارع “البوليفار” أو “محج باستور”، في عبور مسائي مضيء متجدد منعش لا يمل المعاودة.
حضارات وثقافات كبرى عبرت هذه المدينة؛ ولكل منها حكاياتها وأسرارها، وكلها تتحين فرصة الانقضاض على سبْق تسميتها بدءا من الفينيقيين وأساطير الإغريق وكتابات الرومان وكل القادمين من البحر، وحكايات الأمازيغ وكتب العرب المدونة في الأسفار والرحلات وكل المنبعثين من الصحراء، اللهم القاموس العربي الأكثر تعففا، لا يدعي توفره سوى على مادة قليلة من أصل “ط ن ج”، حيث يتضمن لسان العرب كلمة “الطنوج” التي تعني الأسفار، وفعل “طنّج” الذي يعني تفنن في الكلام.
كلّهم “يدّعون” سبق تسميتها؛ لكن طنجة تبتسم ابتسامة الجوكندا، وتمضي غير آبهة، فهي عبق التكوين الأول، وجودها أسبق من وجودهم، اختلست من الآلهة شعلة النار، ومن مغارة “هرقل” بطولات وحكايات وسكينة الأغوار، ومن “منارة كاب سبارطيل” شرفات ضوء، ومن “القصبة” عتاقة وسطوعا أبيض، ومن الضفاف العناق والتلاقي، ومن “الجبل الكبير” الشموخ والتهادي، ومن غابة”الرميلات” التجدر والامتداد، ومن ” مقهى الحافة” الأزرق اللانهائي.
وظلّت المدينة عبر الأزمنة، متباهية تعتد بفنانين ومبدعين ورحّالة تعاقبوا على حبها؛ وأراقوا من ضوئهم ووهجهم وفكرهم بين أزقتها ودروبها وعند أسوارها وأبراجها وأبوابها العتيقة، لم يسترفدوا المدينة فحسب، بل استرفدوا أساطيرها، وتشرّبوا رموزها، وسعوا إلى كتابة تاريخها الروحي العميق، وكانت المدينة هي القرطاس المرئي والقريب الذي سجلوا عليه ثقافتهم وفكرهم وفنونهم ومخاوفهم وآمالهم وأسرارهم، كانوا أكثر تعفّفا كما عودونا دائما، بحب لامشروط، اللهم أعمال فنية وثقافية، ظلت شاهدة على شغفهم بمدينة أوحت لهم بسفر في دهاليز النفس وأروقتها المظلمة.
هنا ولد ابن بطوطة عام 1304م ودفن هنا أيضا عام 1377م ، وقام برحلة شهيرة دامت ثلاثين عاما، زار خلالها شمال أفريقيا وبلدان المشرق العربي وفارس وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى، والهند والصين، وكتب أسفاره في كتاب “رحلات ابن بطوطة”.
وفي شرَك طنجة وحبالها السرية وضوئيها الخفي والظاهر، وقع الفنانان دولاكروا وماتيس، بل كانت المدينة الرحم الخصب الذي تحدرت منها أغلب لوحاتهما، وتظل الغرفة 35 بفندق “فيلا دو فرونس” العريقة شاهدة على عبور ماتيس الخالد بالمدينة.
كما مارست طنجة إغراءها على ثلة من شعراء وكتاب عالميين كآلان غينسبرغ، وليام بروز، تينيسي وليامز، فضلا عن الكاتب الفرنسي جان جيني والإسباني خوان غويتسولو، والأمريكي بول بولز، وغيرهم من الكتاب والفنانين الذين أمضوا فيها سنوات من أعمارهم، أو كانوا يترددون إليها من حين لآخر.
ومع مدينة طنجة “مدينته اليوتوبيا”، أمْضى الكاتب المغربي محمد شكري عقد “زواج كاثوليكي”، استغور بواطن هذه المدينة الأسطورة، مبديا حنقه الدائم “من كتّاب محطات السفر”، أو عابري المدينة الذين يبصرون المدينة بعين فولكلورية سطحية، بينما سحر مدينة طنجة يكمن في أسرارها تلك التي لم تبح بها إلا لمن عشقها حقّا وتولّه بها.