ماهر راعي
ولدت في العتمة.. وأمضيت ما مرّ من عمري في العتمة.. من الصعب بل إنه لأمر غير منصف أن أكمل ما تبقى من العمر في هذه العتمة كذلك، وأي عتمة!! عتمة القلق والترقب والخوف، مهلا هل يوجد عتمة ليست مخيفة؟ هل تعرفون عتمة حانية؟ !!نعم نعم تذكرت.. مرة كان الأستاذ حسان يجلس في باحة المدرسة وحوله بعض المعلمين يشربون الشاي، كان يدخن ويرشف من كأسه بينما يحدثهم بفرح ومعرفة رصينة عن عتمة حلوة قال إنها العتمة الأشهى وأنها الجنة المفقودة، وكأنني فهمت يومها أنه يقصد مكانا ما في قلب المرأة، دهشت، وعندما اقتربت أكثر من كراسيهم انتبه الأستاذ عبدالغفور إلى وجودي فنهرني بصوت مرعب وضرب رأسي بطرف العصا ضربة خاطفة طالبا مني الابتعاد فورا.. فيما بعد عرفت أن الأستاذ حسان كان يقصد الرحم، لماذا كنت أكره الأستاذ حسان!! مع أنه كان الأروع بين جميع المعلمين يرفض استعمال العصا ويمسك كفوفنا الصغيرة يمسحها ويقول هذه الكفوف يجب أن تتعلم الرسم والعزف والكتابة، لا يجوز أن تُرهق بالعمل باكرا أو تضرب، كان الأروع ليس فقط بين معلمي القرية الأجلاف بل حتى أولئك المعلمين الوافدين لابسي الجينز والقمصان الملونة، الوافدين من مكان لا نعرفه… لماذا كنت أكره الأستاذ حسان!! ربما لأن شعره وثيابه نظيفة جدا ولامعة فكانت سعاد وكل الفتيات يعشقنه.. لا لا كنت عاتبا عليه نعم عاتبا.. لماذا لم ينتبه لوجودي لحظة ضربني الأستاذ عبد الغفور، لم يدافع عني، لماذا لم يحتجّ أو يلتفت إليّ حتى.. بل أكمل حديثه عن الجنة المفقودة، ثم صاروا يتهامسون ويقهقهون إلى أن رن الجرس.
قلت إنني قضيت حياتي منذ ولدت في العتمة، لكن الرحيم في الأمر أننا لم نكن نعلم أنها عتمة، نعم كانت جميع أعراض العتمة تصيبنا لكننا لم نكن نعرف أننا في قلبها، كان الخوف يتربى قربنا كأي جار قديم لا يخطر ببالك حتى أن تفكر لماذا هو هنا، كان الحزن مثل الشوارع ومثل الحشرات والدواب، كان أمرا لابد من وجوده، كنت أرى ذلك بوضوح في الشرود الطويل لأبي عند العشية حين يكنس تعب النهار عن جسده، كنت أرى ذلك بوضوح في الدمع الذي يتأخر أحيانا في عيون أمي، وبوضوح في الثياب الرثة لأختي الصبية، في شعرها المهمل بينما أنوثتها تقف مثل مارد وتصرخ أنا هنا أنا هنا فقط اسمعوني، إلى أن هربت مع سائق شاحنة كان يمر أحيانا في دارنا ليغسل وجهه ويشرب الشاي مع أبي، كان بشعا لكن الطرقات الطويلة علمته بعض المفردات الحلوة تلك التي تقال للبنات فتذوب قلوبهن مثل السكر.
.. كانت حلوة وقبل أن تولد كان البيت خشنا، كل شيء في البيت كان قاسيا حتى إسفنج المَضافة، إلى أن صارت أمي تمددها هناك لتراقب السقف وحيدة وتحرك أصابعها، كنت أتسلل وألاعبها، أبتسم وأصنع حركات مضحكة بملامحي، أتلمس أصابعها الجديدة الغضة، كانت تضحك وترفرف بيديها تحاول النهوض بينما أنا أراقب بياض عينيها وأتابع حركة البؤبؤ الفاحم إلى أن أرى وجهي الصغير في قلبه، وعندما تبكي حين تفشل في النهوض كنت أهرب خوف أن يضبطني أبي قربها فيوبخني، لم يحصل أن وبخني على ذلك من قبل!! لكنني كنت أخاف ذلك منذ كنا معا في المشفى ورأيت حزنه وتبرمه قرب جدتي الغاضبة كأن أمي ولدت ضفدعا حتى إنني خفت يومها أن أقترب وأكشف الغطاء الزهري عن وجه الوليد فيكون مسخا حسب ما قالت جدتي، بينما أبي كان مطرقا، يومها تأكدت أن أمي تمثل النوم طوال الوقت حتى عندما وصلنا إلى البيت صارت تنام حين يكون أبي قريبا وما إن يختفي حتى تكشف الغطاء وتبتسم بفرح للمسخ المخيف، تحمله إلى صدرها تشمه بعمق ثم تحرر صدرها من مخبئه وتقدمه بهدوء وحنو إلى المسخ الملفوف بخرقة زهرية، كنت دائما أراقبها دون أن أقترب، ومرة كنت مستندا برأسي وكتفي إلى الباب المواجه لها أنظر بصمت ودهشة إلى كل حركة تقوم بها، حتى انتبهتْ إلى وجودي الصامت فأومأت لي أن أتقدم نحوها، وما إن وصلت حتى أبعدت الكتلة الزهرية عن صدرها وأدارتها صوبي كمن يقدم حفنة سكاكر، وحقا حقا كان المسخ أشهى وأحلى من حفنة سكاكر ملونة، كانت مدهشة وحلوة إلى أبعد حد، لحظتها شيء ما جعلني أشعر أن نهرا مشى في بيتنا ساحبا معه كل الأرائك المتحجرة والطناجر المسودة وأخذ ثيابنا البشعة وسحب الحصر والبطانيات الباردة، يومها صرت أرى ضحكة في صورة جدي على الجدار، بقيت مذهولا أراقب تنفسها السريع كيف يرتفع صدرها الصغير وينخفض، إغماضة عينيها، حتى أنني خفت أن ألمسها، شعرت أنني لو لمستها قد أؤذيها بغير قصد أو قد أعطبها، وقفت مذهولا أتملى بلون بشرتها وبشكل أنفها الناعم، لا أعلم حينها لماذا دمعت عيني، مدت أمي يدها ومسحت شعري وأمسكت ذقني ثم رفعت وجهي لتنظر في عيني الرطبتين وقالت مندهشة بصوت متعب: لماذا تبكي يا حبيبي لماذا؟!! هذه اختك أليست حلوة؟ يااااه كم أشتاق لصوتها المتعب وللعرق البارد على وجهها الحبيب.. لا يوجد أجمل من عيني أمي لا يوجد أرقّ من بريقهما.
كان الحنان واللطف مخجلا، والرقة ليست أكثر من تهمة، من المعيب أن تكون رقيقا، وحدها القسوة والجلافة نيشان يجب أن تتباهى به على الدوام وفي كل المواقف حتى حين تقشر برتقالتك أو تفلق رمانة.
أكثر ما كان يدهشني بكاء الشيخ عزالدين وصوته المتهدج حين كان يحكي لنا قصصا تحشونا بالخوف والقلق، كان مرعبا ومهولا كل ما يصفه الشيخ عن عذاب القبر وكأن القبور تحتاج لمن يصف هولها!! وكأن الخوف يحتاج لمن يكدسه أكثر، لم يكن يمر ليل إلا وأرى الشيخ عزالدين في منامي حيث أكون مقيدا بالسلاسل الحارقة ومرميًا في لجة القبر بينما هو يقف في الأعلى، يقف عند حافة قبري مباعدا بين رجليه يقهقه وينظر إليّ كيف أتلوى في الحفرة المرعبة وأصرخ أصرخ بلا صوت، فجأة يصمت، تصير عيناه مخيفتين وقاسيتين ثم يهيل على وجهي التراب بقدمه.
أليس البكاء علامة الحزن والرقة؟!! مع أنه كذلك لكن لماذا كان يأخذنا البكاء إلى القسوة؟!! ربما للبكاء أنواع!! أتذكر مثلا حين بكيت وحيدا في رصيف أحد شوارع العاصمة حين وصلت إليها باكرا، لحظتها كنت أرتجف من البرد، مسحت دموعي وذهبت أبحث عن وسيلة نقل ما توصلني إلى الجامعة أنا الغريب عن هذه المدينة المخيفة التي سأشعر فيها لاحقا بالوحشة والوحدة رغم اكتظاظها، كل شيء في المدن الكبيرة قاس حتى شعر الفتيات وضحكاتهن، ثيابهن الشهية، كل شيء قاس واجهات المحلات الواسعة والممتلئة بكل ما ترغب، السيارات الفارهة والثياب الفارهة والضحكات الفارهة .
نعم البكاء أنواع.. أتذكر مثلا حين اقتادني بطريقة غريبة شاب بمثل عمري وربما كان زميلا لي في الجامعة، سألته: من أنت وماذا تريد مني، ابتسم وردّ بهدوء واثق: “لا شيء مهم فقط أحتاجك بكلمة على انفراد” وحين ابتعد عن حشد الطلاب باتجاه ممر منعزل كان ينتظرنا في آخره شابان، وما أن ظهرنا حتى أسرعا باتجاهنا ليشاركاه مهمته، خفت كثيرا وسألتهم ما الأمر فكان الجواب لكمة مهولة وعدة رفسات أفقدتني صوابي إلى أن استيقظت في مكان معتم وبارد، استيقظت على صوت لم أميز ملامح صاحبه، كان يسخر من نعومتي ورقتي ويستغرب أن أكون مشتركا في أعمال التخريب والتفجير فبكيت، بكيت بحرقة، وحتى اليوم لا أعلم إن كنت مدانا أم بريئا، ولا أفهم جوابا على ما حصل معي، هل يعقل أن أبقى عاما كاملا في العتمة لو كنت بريئا؟! وهل يعقل أن أخرج إن كنت مدانا؟!
“إنه فرج الله وأنت عبده القوي، إن الله يسدل على عيونهم غشاوة فلا يبصرون”..هذا كان جواب (الشيخ) أبو قتادة حين كنت أسأله أو حتى أستغرب أمامه مما حصل لي، وكان يستغل حادثتي كفرصة للحديث عن الطغاة المستبدين الكفرة الظالمين، الغريب أن الشيخ أبو قتادة لم يكن يبكي حين يذكرنا بعذاب القبر والآخرة بل كان جسورا جلفا، وكنت أخافه رغم أنه كان يعاملني معاملة خاصة ودائما يدعوني بالمهندس العبقري، مرة ورغم الخوف والمهابة قررت أن أصارحه، صادفته يمشي وحيدا في ساحة البناء فأسرعت وألقيت السلام عليه، وضع يده على كتفي وقال أهلا بالمهندس العبقري ابتسمت مرتبكا وقلت له: أنت ياشيخي تحملني أكثر من طاقتي فأنا لا أستحق ما تصفني به، فابتسم وردّ بثقة: بل أنت كذلك تماما، انظر حولك في حال إخوانك من شبابنا، لا يوجد بينهم من يمكن الاعتماد عليه فيما يخص العلم وخفاياه، وكما تعلم فإن نبينا صلوات الله عليه قال: إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولأننا في عصر العلم والتكنولوجيا فالقوة تكمن هنا (أشار إلى رأسي) وليس في العضلات، ثم مر ما مر بنا من قسوة ورعب وموت.
لا أستطيع، لا أستطيع هذه جريمة، لا يمكن أن أفرح أو أعتبره إنجازا، فليس من الدين بشيء أن نزهق أرواحا لا ذنب لها، فصفعني وصرخ بي ليس أنت من يقرر هنا، وأي دين ستعلي كلمته إن رفضت قتال الكفار، ألم يسلبوا حريتك وعمرك، هل نسيت أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله، عندها رددت عليه بكل جرأة حتى اليوم لا أعرف كيف واتتني، فصرخت: ما أعلمه أنه قال القوي ولم يقل القاتل.!! هنا استشاط غضبا ووجه بندقيته نحوي كاد يرميني برصاصة لولا تدخل عمي الذي أخفض سبطانتها بهدوء، صمت واستغفر الله، نظر إلي بحنق مخيف ثم إلى عمي حيث سأله بسخرية: والآن هذا ابن أخيك المهندس العبقري، فما نفعه بيننا؟ صمت عمي قليلا ثم أشار إلي أن أذهب وأستلم مهمتي بحراسة حجرة السجن مشاركا بذلك شابا اتفق على أنه لايصلح للقتال بسبب عاهة في جسده لكن إيمانه القوي أتى به إلى المعسكر.
كان عملا أقل قسوة على الأقل، أنت بعيد عن كل ما يفضح القسوة والجلافة، كنت سعيدا كوني سجينًا برتبة حارس سجن، حيث لا مفر، كان الأمر يسير هكذا ببساطة مقبولة لا ينغصه شيء إلا قسوة شريكي بمعاملة أسيرنا.
في غفلة من شريكي في الحراسة كنت أتقصد مراقبة أسيرنا من شق بسيط في الجدار لأمر غريب في تصرفاته حيث كان يمتنع تماما، عن الطعام أمامنا، كما كان يرفض الكلام وكأنه ميت مهما تعرض للرفس أو أي نوع من التعذيب المفرط، لم يكن ليصرخ ولو مرة مهما كان الألم كبيرا، فقط يكتفي بالأنين، حتى إن شريكي كان يتعجب من أمر عناده و(صلابة كفره) كما كان يصفه، بل صار مع الأيام يظهر لي إعجابا دفينا بأسيرنا، غريب أمر الإنسان، حقا غريب.. فرغم إعجاب شريكي إلا أنه بدل أن يظهر رحمة صار يبالغ في تعذيب السجين وشتمه!!.
أسندت رأسي إلى جدار المراقبة، كان الأسير جنديا لايتجاوز عمره الثلاثين لكن الحرب والقسوة خدعت حواسي فشعرت أنني أراقب عجوزا بعظام وجه ناتئة ولحية مبعثرة، كان عاريا تماما إلا مما يستر أعضاءه الحميمة، صار نحيلا أو ربما كان نحيلا بالأصل مع فارق أنه من غير الممكن أن تكون عظام قفصه الصدري بكل هذا البروز، لو أن لدي بطاقته لكنت قارنت بدقة أفضل.. ماذا يهم بالأمر!! فجأة رأيت شريكي يدخل عليه، فما كان منه إلا أن وضع على عجل في فمه شيئا لم أتبينه، ماذا يكون ياترى؟!! تركه شريكي بعد أن رفسه عدة رفسات صافقا الباب خلفه، وما أن تمالك قدراته وأسند جسده حتى انتشل ذاك الشيء من فمه ومسحه من اللعاب بباطن كفه ثم راح يمسح بعض الدماء التي سالت من أنفه، دقيقتان أو أكثر مرت كان يراقب جهة الباب، وما إن تأكد من عدم وجود أحد حتى بدأ «يفلش» ما يشبه قطعة النايلون ويفردها على فخذه، خطر ببالي أن أسرع واقتحم عليه عزلته داخلا من الباب، لكنني لا أعلم لمَ خجلت فعدلت عن الفكرة !!!
لا.. لا يمكن أن أكون خائنا، هذه ليست خيانة، ما ذنبنا أن نولد بزيين مختلفين، ما ذنبنا أن ننبت في العتمات، أن تتحارب ثيابنا وأغطية رؤوسنا المختلفة فنموت نحن لتبقى هذه الأسمال والخوذ والرايات المختلفة ويبقى معدن بنادقنا وسكاكيننا الحادة؟!
كان فجرا باردا استيقظنا على هول أصوات الطيران الذي أمطر مبنانا بالقذائف، فدب الذعر في كل ما حولنا وصار الموت قريبا مثل أي جدار أو باب، ما كان من شريكي إلا أن أصيب بحالة هستيرية فذهب إلى حجرة الأسير وراح يرفسه ويلكمه بكل تشفي، بينما الشاب يتلقى رفساته ولكماته برأس مهلهل وبعيون مقهورة وعاجزة، كانت رفسات قاتلة حتى لم يعد يحتمل فانهار جذعه وتهاوى ليسقط بكل قسوة، وبرأسه رجّ أرض السجن، دمعت عيناي لكنني أخفيتها عن عيون شريكي الذي حمله الخوف والغضب إلى تركنا وحيدين في الحجرة، اقتربت من الأسير الذي أوشك أن يختنق، سحبت بهدوء من طرف فمه قطعة مستطيلة صغيرة من النايلون، أسندته بحنو ورحت «أفلش» ما اعتقدت أنها تميمة مغلفة، صدمتني الصورة، صدمتني.. خرست لدقائق من هول المفاجأة، الطفلة في الصورة كأنها أختي حين كانت بتلك اللفة الزهرية، نعم كأنني أراها تماما، كل الأطفال يشبهون بعضهم بطريقة غريبة، ورغم سكون الصورة كنت أراها تتنفس بهدوء، هو ذات الأنف الناعم وذات السكينة في غفوتها حتى إنك تنسى أن العالم مكان متوحش.
ليست خيانة.. كل ما فعلته بدل الموت المحتم لكلينا تحت القذائف أقنعته أن ننتظر قليلا ممثلين دور القتلى ريثما نتبين كيف سنهرب من هذا الجحيم المشترك.
لا أعرف، ربما الآن قد وصل إلى بيته، ماذا يفعل الآن .. ربما يأكل.. أو ربما يجلس الآن وبين يديه طفلته يشمها بينما هي تنظر إليه بقلق وتتساءل من يكون هذا الوحش المخيف.. أو لربما لا زال مختبئا مثلي في مكان ما يشبه هذا تحيطه العتمة والترقب!!.