أغنيس فيرلت
«لا يحدث الخراب بوضعه حادثة لمعلمة كانت البارحة سليمة من الأذى. فى البدء كان الخراب». هذا ما كتبه جاك ديريدا في كتابه «مذكرات أعمى» حيث يعقد مقارنة بين رسم الصورة الشخصية والخراب «[…] الخراب ليس أمامنا، ليس مشهدا فرجويًا وليس موضوعًا للحب. إنه التجربة نفسها: ليس الجزء المهجور ولكنه أيضا الجزء الضخم في مجمله، ليس فقط کما کان يفكر في ذلك بنيامين، موضوعة للثقافة الباروكية1» فمخافة أن أخرب سلامة التفكير فى الخراب، فإنني سأتحدث إذن عن خراب الخراب سعيا مني إلى تحليل، في اللحظتين: ما تاريخ القرن 19، كيف لعلاقة ما مع الخراب أن تؤدي إلى علاقة ما مع الزمن، أو بالأحرى لصيغة ما للتمفصل بين الحاضر والماضي والمستقبل.
بالفعل، فلحظات الأزمة هذه في وعي الزمن، وهذه الانقلابات التي يدعوها فرانسوا هارتوغ «نظام التاريخية2» تنتج علاقة جديدة بالخراب، ومن هذا أيضا، تنتج انحيازات جمالية جديدة، وأشكال أدبية جديدة. شاتوبريان، أساسا، وبودلير ثانيا، سيكونان بمثابة معالم لهذا التحليق الذي سيجعلنا نعبر من فكرة الخراب إلى فكرة الهدم. ومن ذاكرة الخرائب إلى محو الآثار، حتى الانعطافة في أدب القرن 19 والقرن الذي يليه.
خراب الخراب
يتأسس التفكير في الخراب، في أدب القرن 19 على علاقة ما بالزمن. لكن عند شاتوبريان تجربة الزمن، في تعقدها، تبدو لي فريدة وجديرة ونموذجية في بداية هذا القرن ولأنه إذا كان الخراب عند ديدرو وبرناردان دوسان بيير أو فولنيي يوحي بالكآبة، فإن الثورة الفرنسية تؤثر في الإحساس الذي بوسعه أن يمنحنا فجوة: روني يفر من بلد خرب. يهرب شاتوبريان، الذي يبحث في عالم جديد عن مستقبل يخفف حمولة الماضي: باتجاه أرض عذراء لم يطلها أي عنف سياسي. «نياغارا تمحو كل شيء»3 فمن أجل الإفلات من الكارثة ومن الخراب يتجه المسافر نحو قارة جديدة، بلا ثقافة، بلا تاريخ، بلا ماض. لكن كما كتب ذلك ماركم Ange فأديب القرن 19 يسافر في حالة توتر باتجاه المستقبل، الذي سيكون زمن كتابة محكي السفر4. كما أنه يسافر من أجل رؤية العالم كما قرأه في الكتب: العالم بوصفه مكتبة5 .
فما اكتشفه شاتوبريان، لدى عودته من أمريكا، وعند رجوعه من منفاه فى إنجلترا خصوصا في 1880، هو بلد قد أصبح حقل خرائب حيث لا نرى فيه سوى «حطام معابد» و»بقايا كنائس وأديرة تم تقويضها» كما كتب ذلك في مقدمة كتابه «عبقرية المسيحية»6 غير أن ما كان يحدث المتعة الكئيبة الصادمة أثناء تجواله في مشهد الخرائب سيتحول إلى امتحان الزمن، قالبا الوعي بالزمن، حسب فرانسوا هارتوغ، فلحظة الأزمة هاته التي تلت الثورة هي الإعلان عن قدوم نظام جديد للتاريخية، إنه نظام الحداثة. وإن شاتوبريان هو من يعبر عنه بوضوح تام، بالفعل. فالكاتب لديه إحساس بقطيعة جذرية مع العالم القديم حيث الماضي كان يساعد على فهم المستقبل وحيث التاريخ كانت له قيمة نموذجية.
إن هذا الإحساس بالطفو فوق الزمن، الذي يقتسمه جيله، مؤسس على علاقة إشكالية مع الزمنية مادام الحاضر غير أكيد، والماضي قد تولى، والمستقبل غير واضح. إن العلاقة مع الزمن مختلة، وكاتب المذكرات يترجم مجازيا هذه الحيرة والبلبلة، في نهاية مذكراته قائلًا إنه وجد نفسه «بين قرنین کما لو أنه في مجمع النهرين»، مثل سباح بين ضفتين غادر متأسفا الضفة التي ولد فيها لكنه يسبح وكله أمل باتجاه الضفة المقابلة التي يجهلها7 ».
منذ الآن، لم تعد رؤية الخراب فقط رؤية كئيبة: إنها إعادة بناء، واستبطان للمشهد الذي تتعايش فيه أزمنة متعددة، في النطاق الذي تقابل فيه الذاكرة مشهدًا بمشهد، وذكرى بذكرى لدى كاتب مذكرات «ما وراء القبر». لم نعد، إذا، نستطيع الحديث على الخراب. بل سنتحدث، كما كتب منذ 1804 في رسالته إلى Fontanes حول البادية الرومانية، على خراب الخرائب: فکل مشهد خراب هو مجموعة خرائب «متعددة» إذ كل خراب هو نسخة لخراب سابق حيث هو تنويع عليه فقط. أكثر من هذا، فالخراب الروماني مثل خراب فيلا أدريان هو محاكاة أو نسخة لمعالم تاريخية أخرى في الإسكندرية أو في أثينا والتي لم يعد لها وجود. لكن إذا كان الخراب، كما يصوره شاتوبريان، هو صورة تتمفصل فيها علاقة ثلاثية مع الزمن (حاضر ماض، مستقبل) فإنها صورة متناقصة، مثل الكآبة التي توحي بها: فمن بودلير إلى لوتي أو ليريس، يمكننا تعيين أصداء شعرية خراب الخرائب هذه والأشكال الأدبية التي تتخذها.
لأن الخراب صورة ذات هالة، صورة مكانية مخترقة بالزمن، مكان يتقاطع فيه الماضى والحاضر والمستقبل. وتتعايش فيه هذه الأزمنة ويمكن قراءتها بشكل متواقت. إن الذاكرة طرس، فشاتوبريان، وهو يستدعي خرائب روما فإنه يواجه العناصر الحية في صور الموت: في البادية الرومانية، قطيع الماعز، النباتات، ضجيج المدينة، جمال النساء، خرير المياه، رنين الأجراس، كلها تثبت حضور الحي في الخراب، وتواقت الحاضر (وإمكانية مستقبله) و الماضي، والماضي المتعدد.
Catulle، Horace، يؤكد الكاتب على تأثيرات هذا التباين من خلال استدعائه للكتَّاب الرومان وأخيرًا الرسامين الفرنسيين،فرانسوا بوسان وAlfeiri، Tibule، و Virgile وCiceron وأيضا الإيطاليين،Le tasse،le lorrain
كل أولئك الذين، قبله ومثله، عرفوا كيف يرسمون هذا المشهد الكلاسيكى لأنه ظل قديما مثل هذه الخرائب8» حتى ولو أنه يستدعي تفاهة الأثر الذي تتركه ذكرانا في العالم «رماد و غبار» حسب جملة job،، فإنه يدعو كل ذاكرات العالم كي تبرز في أعين Fontaines (وقرائه اللاحقين) الصور الممتزجة «الألف فكرة المختلفة» التي أسست الرؤية. ففي إعادة بناء الخراب هذه، نعثر على الصور الإسكندرانية للأنسجة المزخرفة بالصور9، التي هي برقشة من النصوص، ونسيج مبقع مجموع صنع من عناصر متنافرة: شاتوبريان، فى جمالية التنافر، يمنح الذاكرة صورة الطرس، متخیلا تتابع البقايا الإغريقية، والبربرية والرومانية المسيحية التي تشكل الخراب، حيث فيلا أدريان هي ربما الصورة المثال، أصبحت البنايات الإسكندرية المحاكية للصروح اليونانية، صورًا للصور «لا ترون إذن في نسخ أدريان سوء خرائب الخرائب10».
في روما، الكشف الكبير لشاتوبريان الذي اتخذ له دليلا الأركيولوجي والمفكر Seroux d’agin court، هو أن كاتب المذكرات مثله مثل الاركيولوجي، له القدرة على أن يجعل من الزمن (ومن الحراب) المادة نفسها لعمله. مادام يقود الحياة، وينتشل من النسيان، شذرات وبقايا وخرائب من الماضي، الذي، بدون الكلمات وبدون الصور، يضيع إلى الأبد ويصبح نسيا منسيا. فمواجهة الكاتب مع الموت والزمن (حيث الخراب هو الصورة ) كانت هي مصدر كتابته، التي لا يمكن أن تكون سوى عمل الذاكرة. منذ الآن فالكتابة مثلها مثل بنايات أدريان، هي تملك لذاكرة العالم، استشهاد نسخة، مرآة، ذاكرة المعلمة الأثرية، خراب الخراب. إنه الذعر من الإحساس بالانقذاف في الزمن هو ما جعل الكاتب، منذ 1997، يضطلع بكتابة كتابه «دراسة حول الثورات». تتأسس كتابة المذكرات على معاينة هشاشة الأنا. في حاضر عابر بين ماض خرب ومستقبل غامض. إنه في هذه الثغرة، فى هذه «الفجوة» من الزمن، ونستعيد كلام حنة آرندت، يتموقع شاتوبریان. انه في هذا البين بين يؤسس عمله الذي يمفصل بلا توقف العلاقة الثلاثية بالزمن،حاضر، ماض، مستقبل.
كما حلل ذلك جيدا فرانسوا هارتوغ، فهو يستقر بشكل مفارق، هو وعمله، فى هذا الاضطراب الزمني، في هذا الوعي الضيق لانقلاب الزمنية ويجعل منه أساس كتابته، مُشيدا عمله بوصفه معلمة أثرية، بغية فسح المجال للخراب، أو بالأحرى الإحساس بالخراب، لأن الخراب بالنسبة إلى كاتب المذكرات هو شيء آخر أكثر منه استعارة، فالوعي بالخراب هو وعي بالوجود: «كنت أعرف خرائبي11». أنا الخراب. إنه أكثر من استعارة، إنه تجربة انطولوجية، توصل الكائن إلى أن طبيعته الفانية تخضع بلا هوادة لامتحان الزمن، من ثم وجب عليه أن يصرخ متمردًا كما فعل في VENISSE «وراء هذه الاشياء القديمة فى حياتي! سأصاب بالجنون من جراء الخرائب: لنتحدث عن الحاضر12 » ففي رهان باسكالي، كاتب المذكرات الذي يكشف فى مصر وهم الخلود التي تمنحه الأهرام وتفوق الخرائب على الإنسان، يؤكد، والحالة هذه، كما فعل في VENISSE أن تفوق الإنسان على الخرائب هو وعيه بوضعه الخرب.
هكذا نرى الجمالية التي تنتج عن تجربة الخراب هذه والتي ستؤثر في الأدب الآتي: هوجو، نرفال، بودلیر، میشلي، لوتي، ليريس، بروست، تمثيلا لا حصرًا.
خراب الخرائب:
لكن هناك تجربة أخرى مع الخراب، أكثر جذرية، ستظهر مع بودلير، ويظهر أنها تنتج تأثيرات أخرى على الجمالية، وتوحي بأشكال أدبية أخرى، وهي حسب والتر بنيامين، ترسى حقيقة للحداثة.
حوالي سنة 1850، في فترة الانقلابات التي أحدثها البارون هويسمان في باريس، يقول بودلير تجربة أخرى، لا تقل عن تجربة الخراب، إنها تجربة المحو، الاختفاء، فباريس تتغير، باريس لم تعد، تعطي القلاقل في المدينة للكاتب الإحساس المدوخ، بالانتقال والعابر السريع الزوال، والضرورة المفارقة للعثور في هذا العابر عن جمالية خالدة، كما يحلل ذلك في «رسام الحياة الحديثة» أزمة زمن جديد تندرج فى تجربة شاتوبريان، وتفسح الطريق لحداثة جديدة، فارضة أبحاثا عن أشكال وتجديدات شعرية، باريس القديمة لم يعد لها وجود (شكل مدينة/ يتغير بسرعة فائقة وأسف أکثر من قلب فان): باريس تتغير لكن لاشيء في كابتي قد تحرك!13: فبخصوص «اللوحات الباريسية» و«سأم باريس» يقول والتر بنيامين: إن الجمال المدهش للشعر الباريسي لبودلير يأتي من تجربة الهدم هذه، ومن الاحساس الأليم، هذا الذي تسببه الهشاشة وتعديم أثر هذه المدينة الكبيرة. فالسأم في الأخير هو هذه «الكارثة المستمرة14». فباريس البودليرية هي مدينة ملغمة، مدينة فاشلة، حيث من خلال صور الشيخ الهرم الكادح، والمرأة العجوز المريضة، والأعمى المفزع يصطدم المتسكع البودليري بجسد المدينة المحتضر.
إن العلاقة بالزمن، إذًا، هي علاقة الصدمة، والكارثة التي تسعى إلى محو الماضي: «إن انهيار الهالة عن التجرية يأتي من الصدمة15»، ففي الشعرية الرومانسية للمشهد: الخراب مخترق بالذكريات والعواطف والأزمنة لأنه غني بحياة سابقة تكون هالته، لكن الصدمة تهدم ما يعطي للصورة هالتها، حسب تحليل والتر بنيامين بخصوص اللوحات الباريسية: فالمتسكع والمبارز ينبغي عليهما فقط أن يتفاديا، وأن يعجزا على رفع بصريهما إلى الأعلى، «هكذا نجد ثمن الجمال والتجربة الحديثة مثبتا: «هدم الهالة بالإحساس بالصدمة16»، حل محل تجربة الخراب تجربة الصدمة، تجربة الكارثة التي هي هدم، وليست بناءً لصورة، لكتابة، لأثر يبدو إذًا أننا نشهد شيئا فشيئًا ضياع فكرة الخراب نفسها، لأن العلاقة. مع الزمن تغيرت: فقراءة بنيامين لبودلير تجسد مقدما ما يحدث في حداثتنا.
إن العصر الراهن، منذ الحرب العالمية الثانية، وسقوط جدار برلين، هو مشهد الانقلاب فى العلاقة بالزمن أزمة: أزمة الوعي بالزمن التي يدعوها فرانسوا هارتوغ النظام الجديد للتاريخية، تهمين علیها النزعة الحاضرية Presentisme التي تعطى للحاضر تمددا لا نهائيا يضيق مدى الحاضر والمستقبل «فالنزعة الحاضرية» « هي اجتياح للأفق بالحاضر ينتفخ شيئا فشيئا، ويتضخم17» فبمثل هذه السرعة لحركة التاريخ لم يعد للخراب الوقت في الوجود بوصفه فضاء تخييليا، إما لأن المدينة تتحول إلى حطام أو إلى ورشات بناء (كما هو الأمر في برلين أو بيروت)، وإما لأن الهدم كان مفاجئًا في إحداث المحو والاختفاء المحض أو البسيط، والانهيار: «لم أر شيئا في هيروشيما». أصبحت نموذجا لخراب الخراب هذا، وتبين فيه معنى اختفاء المفهوم نفسه للخراب، والوعي الذي أن نكونه عنه. إن تجربة الزمن نفسه هي التي انقلبت، فيما يدعوه مارک Ange «الزمن في حالة خراب18». والذي هو ضياع مفهوم الخراب نفسه. ما أسميه خراب الخرائب تحت تأثير توحيد الصور كان المسافر الأديب في القرن 19، يشكل صوره عن الخراب، وكان يحيا تجربة الخراب الفريدة والعالمية في الوقت نفسه يواجه السائح الراهن صورة بصورة ويشيد المهندسون المعماريون في الغالب الاعم.
كما لو أن الصرح المعماري أو المعلمة الأثرية لا ينبغى أبدا أن تصير خرائب. كما لو أن المدينة الحالية كانت حاضرا خالدا، باستثناء حدوث كارثة: «وحدها الكارثة، اليوم، قادرة على إحداث تأثیرات مشابهة لتأثيرات فعل الزمن البطيئة، قابلة للمقارنة لكنها ليست متشابهة. فالخراب فعلا: هو الزمن المنفلت من التاريخ، خليط من الطبيعي والثقافي يضيع في الماضي، وينبثق فى حاضر مثل دليل بلا دال، بدون دال آخر، على الأقل مثل الإحساس بالزمن الذي يمر والذي يبقى في الآن نفسه، فالتدميرات التي تحدثها الكوارث الطبيعية أو التكنولوجيا أو السياسة الإجرامية تنتمي للراهنية19، الصدمة هي التي لا هالة لها، تمحو صورة الكارثة، مثل انهيار البرجين التوأمين تحت صدمة الطائرة أو مدن إندونيسيا أثناء التسونامي، صور تظهر الاختفاء أكثر من الخراب. أكثر من إمكانية الخراب نفسها. إن تجربة الزمن هذه بوصفها حاضرًا ممتدًا إلى مالانهاية، راهنية تتمدد باستمرار هي التي تنتج عوالم أدبية مختلفة، إنها مثل «السد ضد الباسيفيك! لمارغاریت دوراس، أو «بعد الزلزال» لموراكامي: وأشكال أدبية جديدة وفنية، فالتجربتان، تجربة الخراب، وتجربة الكارثة، تتعايشان أحيانا لدى الكاتب نفسه، أحيانا فى النص ذاته، عند بودلير مثلا، أو عند ليريس، الذي فى إحدى روايات الشباب Aurora، «طالب بالكارتة والاختفاء الكلي للإنسانية بنهاية مرعبة للعالم20».
لكن وبشكل مفارق، تعود موضوعة الخراب من جديد، ليس من خلال الكآبة ولا الحنين، ولكن من خلال ضرورة تخيل للمستقبل، لاستعادة مكانه في الزمن في تصور قبلي للكارثة القادمة. كما لو أننا بحاجة إلى الخراب كي نرد الزمن للمدينة، للحياة، كدعوة للإحساس بالزمن، عبر صناعة ذكرى قادمة: «کل شيء يمر كما لو أن المستقبل لا يمكن تصوره إلا كذكرى لفاجعة حيث ليس لدينا اليوم سوى استشعارها: مستقبل لم يأت21 بعد، «إنه استباق الخراب».
فى الأخير، إن الفن، والأدب والنحت والرسم وبعض الأبحاث الهندسية هي التي يمكنها أن تخرجنا من هذا الرعب الذي توحي به «النزعة الحاضرية»، بالإحساس المقلق «لطابعها العابر» حاضر بلا مستقبل، الذي يولد يوميا، الماضي والمستقبل، الذي هو في حاجة إليه يوما بعد يوم، ويثمن المباشر»: حسب فرانسوا هارتوغ22. إنه من دون شك يمكننا بواسطة الفن أن نخرج من هذه المباشرية وإعادة تجربة الخراب، وبواسطتها. نعيد التجربة مع الزمن، فالفنانون، مثل boltanski ,anne، Patrick poirier، يعرفون ضرورة تكريس أنفسهم للخراب ويتصورون غالبا أعمالهم أنها تعرض حالة خرابهم أو يستبقون حالة الهدم لديهم.
خاتمة:
بين الخراب والهدم، والأثر والمحو، والإثبات والاختفاء، يعبر الأدب عن تعقد علاقتنا بالزمن والموت. لقد ذكرت ديريدا الذي يرى في الخراب رسم صورة شخصية Autoportrait، فيما يظهره «لا شيء علی الإطلاق»، «لا يظهر شيئا على الإطلاق». في البدء كان الخراب طريقة للقول إن الموت جزء من الحياة من دون حاجة حتى لذكر فروید.
لقد بدا لي شاتوبريان، نموذجيا، فيما يخص مواجهته لسؤال الزمن، في تموقعه في الزمن، في فجوة الزمن من أجل أن يبني منه رائعته «من وراء القبر». وبودلير فيما أضافه لامتحان الزمن، هذا الرعب من المحو والاختفاء، والذي مع ذلك، قد وضعه جورج دیدی هوبرمان أنه يوحي» بصور، رغم کل شيء23»
سيصير الخراب ربما صورة للحلم، فضاء شعريا، نقرأه بوصفه حلما، هيروغليفية، لغزا مصورا، نصا وصورة، لقد حاول ذلك ليريس، الذي بالنسبة إليه خرائب24 Gondar أو خرائب أثينا أو خرائب Beaux de provence كانت أكثر من استعارات، کما قال ذلك في يومياته «عالم أحلامي، عالم معدني، مبلط بالحجارة، تصطف على جوانبه المباني على واجهاتها اقرأ أحيانا جملا غامضة25»
ولكي أنهي سأعطي تعريفه الساخر أو الكئيب للخراب: «الخراب: الهواء فيه ضوضاء، الملل فيه يتضاءل26».
الهوامش
1.- Jacques Derrida, Mémoires d’aveugle: l’autoportrait et autres ruines, Paris, R.M.N. 1991, p. 72.
2.François Hartog, Régimes d’historicités. Présentisme et expériences du temps, Paris, Le Seuil, 2003.
3.- Chateaubriand, Mémoires d’outre-tombe, Éd. Jean-Claude Berchet, Paris, Bordas, Librairie Garnier, 1989, tome I, p. 409.
4.- Marc Augé, Le temps en ruines, Paris, Galilée, 2003.
5.- Christine Montalbetti, Le voyage, le monde et la bibliothèque, Paris, P.U.F. coll. « écritures »>, 1997.
6. Chateaubriand, Génie du christianisme, Éd. Maurice Regard, Paris, Gallimard, coll. << Bibliothèque de la Pléiade », 1978, p. 459.
7.- Chateaubriand, Mémoires d’outre-tombe, op. cit., 1998, t. IV, p. 797.
8.- Voir Jean-Claude Berchet, « Chateaubriand et le paysage classique »>, dans Chateaubriand e l’Italia, Roma, Academia nazionale dei Lincei, 1969, p. 67-85.
9. Voir « Les stromates de Clément d’Alexandrie »>, dans Agnès Verlet, Les Vanités de Chateaubriand, Genève, Droz, 2001, p. 81-92.
10. Chateaubriand, Voyage en Italie, dans Œuvres romanesques et voyages, Paris, Gallimard, coll. « Bibliothèque de la Pléiade », 1969, t. II, p. 1486.
11. «Venise! nos destins ont été pareils ! mes songes s’évanouissent, à mesure que vos palais s’écroulent ; les heures de mon printemps se sont noircies, comme les arabesques dont le faîte de vos monuments est orné. Mais vous périssez à votre insu; moi, je sais mes ruines >>. Chateaubriand, Mémoires d’outre-tombe, op. cit., t. IV, 1998, p. 802.
12. Ibid., p.391.
13 .Baudelaire, « Le Cygne », dans Les Fleurs du mal, Paris, Garnier, 1991, p. 295
14.Walter Benjamin, Charles Baudelaire, Paris, coll. « Petite bibliothèque Payot »,
p. 214.
15. Ibid. p. 207.
16. Ibid. p. 239
17.François Hartog, Régimes d’historicité, op. cit. p. 125
18. Marc Augé, Le Temps en ruines, op. cit.
19. Ibid., p. 91.
20.Michel Leiris, Aurora, Paris, Gallimard, coll. « L’imaginaire », 1973.
21. Marc Augé, Le Temps en ruines, op. cit., p. 67. Sur ce temps apocalyp- tique, voir François Hartog, « La temporalisation du temps: une longue marche », dans Les récits du temps, dir. Jacques André, Sylvie Dreyfus-Asséo, François Hartog, Paris, P.U.F., 2010, p. 9-29.
22. François Hartog, Régimes d’historicité, op. cit., p. 126.
23. Georges Didi-Huberman, Images malgré tout, Paris, Minuit, 2003.
24. Voir Agnès Verlet, « Gondar: l’effondrement du rêve africain de Leiris », dans La Mémoire en ruines. Le modèle archéologique dans l’imaginaire moderne et contemporain, textes réunis par Valérie Deshoulières, Clermont-Ferrand, Presses Universitaires Blaise Pascal, 2000, p. 115-127.
25. Michel Leiris, Journal, Paris, Gallimard, coll. << N.R.F. », 1992, p. 93.
26. Michel Leiris, << Glossaire, j’y serre mes gloses », dans Mots sans mémoire, Paris, Gallimard, coll. « N.R.F. », 1969, P. 106.