عبد السلام بنعبد العالي
“تعلّمني الطبيعة أيضا، بواسطة أحاسيس الألم والجوع والعطش… إلخ، أني لست مقيما في بدني كالنوتيّ في سفينته، بل فوق هذا متّحد به اتّحادا وممتزج به امتزاجا يجعل نفسي وبدني شيئا واحدا: إذ لو لم يكن الأمر كذلك، لما كنت أحسّ ألما عندما يلحق بدني جرح، نظرا إلى أنّي لست إلا شيئا مفكرا، بل كنت أدرك ذلك الجرح بالذهن وحده… فالحقيقة أن جميع أحاسيس الجوع والعطش والألم وما إليها ليست شيئا سوى أنحاء مبهمة من أنحاء التفكير مصدرها واعتمادها على اتّحاد النّفس بالبدن وامتزاجهما”.
ر. ديكارت، تأملات في الفلسفة الأولى، ت. عثمان أمين.
“في ورطة الألم الجسديّ، ألا يحسّ المريض بوحدة كيانه غير القابلة للقسمة عندما يتقلّب على فراش معاناته كي يعثر على وضع يشعر فيه بالهناء؟”
إيمانويل ليفيناس
تطرح تجربة الألم مسألة العلاقة بين النّفسي والجسدي والحدود بينهما، إذ غالبا ما يتعذر الفصل بصددها بين ما للإحساس الجسدي وما للشعور النفسي. تعبّر اللغة الفرنسية عن هذه التجربة باستعمال لفظين تسعى من خلال التمييز بينهما إلى رسم الحدود بين النفسي والجسدي. فبينما تخصّ الألم الجسدي بلفظ douleur محاولة إطلاقه على الإحساسات التي يستشعر المرء أنها مقتصرة على أعضاء معينة من الجسم، أو على الجسم بمجمله، فهي تطلق لفظ souffrance على إحساسات منفتحة على التّفكير واللغة والعلاقة بالذات وبالآخر، وكذا العلاقة بالدلالات والأسئلة. تشتق اللغة الفرنسية هذا اللفظ الأخير من اللاتينية sufferre التي تعني حَمَل ثقلا، وتحيل إلى معنى الجهد. المعاناة إذن هي مكابدة الألم وتحمّله. لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن التمييز بين اللفظين تمييز فاصل، إذ يستعمل كلا اللفظين في بعض الأحيان خارج سياقه. وهكذا فقد نتكلم عن الألم النفسي المعنوي، كما نتكلم عن المعاناة الجسدية، كما أن اللّفظين قد يجتمعان معا كي يدلّا على العلامات الجسدية للتوترات النفسية. وهكذا فنحن نتحدث عما يصيبنا من ألم جراء فقدان صديق، كما أننا نقول إننا نعاني من وجع الأسنان.
سمحت اللغة الألمانية لأبي الفينومينولوجيا إدموند هوسرل بأن يميّز بين الجسد العضوي Korper ، أي الجسد البشريّ كموضوع من الموضوعات، وبين الجسم الخاصّ الذي يعيشه الفرد. هذا التّمييز من شأنه أن يساعدنا على أن نفهم فهما جيّدا كيف يتحوّل الألم الذي يصيب الجسد العضوي إلى معاناة تلحق الجسم المعيش Leib. أما التحليل النفسي فلا بين الألم الجسماني والمعاناة النفسية. وهكذا فإن فرويد يقتصر على لفظ واحد، ويستعمل الاصطلاح نفسه Schmerz الذي ينطبق على المعنيَيْن اللذين تميّز بينهما اللغة الفرنسية.
واحدية الاسم الذي يطلقه فرويد يعنى، في نهاية الأمر أنّ المسمّى واحد، وأعني “التجربة الحسية العاطفية غير المريحة والمرتبطة بإصابة جسدية فعلية أو بما يُعتقد أنها كذلك”. ما يلحّ عليه هذا التحديد لمنظمة الصحة العالمية هو الطابع الذاتي لتجربة الألم. فالألم هو، قبل كل شيء معاناة شخصية قبل أن يكون إصابة عضوية فعلية أو متوهمة، وقبل أن يصبح أعراضا وعلامات قابلة للملاحظة الموضوعية. وهو ليس مجرد ترجمة عضوية لآفة من الآفات، وإنّما هو معنى، دلالة ومعاناة. إذ لا ينبغي أن نختزل الإنسان في عضوية تستجيب لمنبهات. الإنسان هو ما يفعل بفكره وبوجوده عبر تاريخه الشخصي. كتب الفيلسوف الفرنسي جورج كانغيليم1: “الانسان يصنع ألمه ويقوم به (على غرار ما نقول إنه يصنع مرضه ويقوم بحداده) أكثر مما يتلقاه أو يخضع له”. فالألم لا يسحق الجسد، بل يسحق الفرد. والفرد، في كليته، هو من يحسّ بالألم، بكل كثافة قصته الشخصية وسعتها، وليس الكائنَ العضوي المختزل في طبيعته البيولوجية فحسب. الألم يخلخل سيولة الحياة اليومية، ويشوّه العلاقة مع الغير. يقتلع الألم الإنسان من عاداته مجبرا إيّاه على العيش متجنبا ذاته، من غير أن يتمكّن من أن يدرك نفسه فيما يشبه الحداد على الذات. هذا هو المعنى الذي يأخذ به فرويد. فالألم عنده ردّ فعل على فقدان بداهة الوجود من خلال انكسار داخلي: إنه حداد أو انفصال وتصدّع للوحدة الجسمانية. وهو ليس مجرد استنساخ على مستوى الوعي لشرخ عضوي. فهو دائما شرخ يحمل معنى. إنه واقعة جسدية-معنوية. وهو ما نفعله بأوجاعنا. بهذا المعنى قيل “إن وجع الأسنان لا يوجد في السنّ، وإنّما يوجد في العالم”.
لذلك فإن تجربة الألم تتوقف على الدلالة التي نعطيها إياها. فبينما تحطم بعض تجارب الألم أشخاصا فإن أخرى تساعد على بنائهم، إذ لا حياة تخلو من الألم، غير أننا نختلف في ما نفعل به. معنى ذلك أن ليس للألم معنى في ذاته، وإنّما هو يستمد دلالته من التجربة الكلية التي يدخل فيها. كتب عالم الإناسة الفرنسي د. لوبروطون: “ثمة سلسلة من التعارضات النابعة من تصور ثنائي تعقد في الغالب مقاربة الأشخاص المعانين من الألم: الجسماني/ النفسي، العضوي/ النفسي، العضوي/ الوظيفي، الموضوعي/ الذاتي، الموضوعي/ السيكوجسماني، الجسد/النفس أو الروح، الواقعي/ المتخيل… الخ. لكن الألم حقا مبدأ خلخلة لهذه المقولات المبالغ في عقلانيتها”2، ثم يستخلص: “يمحو الألم كل ثنائية بين الفيزيولوجي والوعي، وبين الجسد والنفس، والجسماني والسيكولوجي، والعضوي والنفسي، وهو يبين تشابك هذه الأبعاد التي يميز بينها فقط التقليد الميتافيزيقي التليد في مجتمعاتنا الغربية”3 .
الألم معاناة كائن يكابد ويعاني حالة عدم ارتياح، وعدم تكيف مع العالم، في عزلة عن الكائنات وعن الأشياء. تجربة الألم إذن هي معاناة بفضلها أتعرّف على نفسي وعلى الآخر. هي تجربة نرى من خلالها العالم والآخرين، فهي إذن تجربة وجودية، نمط وجود- في- العالم، وليست مجرد حالة نفسية، أو إصابة عضوية. في تجربة الألم، تتأكد الذات إذن من ذاتها، في إحساس قويّ بالوجود، في وجود بشدة وقوة. كأنما هي تعي ذاتها في هذه التجربة: “أتألم فأنا موجود”. في تجربة الألم ينفصل الوعي ويرتكز حول نفسه ويتعرف على ذاته من حيث إنها ذات منفية، ومع ذلك، وهذه هي المفارقة، فإن ما يصاب في تجربة المعاناة هذه، هو القصدية التي تستهدف شيئا خارج الذات. من هنا امحاء العالم كأفق تمثل. يبدو العالم لا كمأوى، وإنما كفراغ لا يقطنه أحد، وهكذا فسرعان ما ترتد الذات نحو نفسها وتنغلق عليها. فيتبين من يعيش تجربة الألم عزلته ويتمه، غربته ووحدته، شاعرا أن الآخر لا يمكنه أن يحسّ بما يحسّ به هو، ولا يمكن أن يتفهّم وضعه، بل ولا يمكن أن يفيده في شيء. فعالم الآخر ليس عالمي أنا الذي أعيش هذه التجربة القاسية. في هذا المعنى يؤكد ريكور4 أن تجربة الألم هي تجربة اختفاء وهجران، بل إنها تجربة فقد كل اعتبار. تجربة فقدان. تدفع هذه العزلة إلى التعطيل عن القول والكلام، بل والتعطيل عن الفعل. يقول ريكور: “ينبغي أن نذهب أبعد من ذلك، ونأخذ بعين الاعتبار أكثر أشكال الألم تخفيا: وأعني العجز عن الحكي، رفض الحكي”5.
إزاء تجربة الألم يمكنني أن أتخذ مواقف متعددة: يمكنني أن أتحمل الألم، كما يمكنني أن أتمرد، وأن أحوّله إلى متعة، كما يمكنني أن أنساق له وأتقبله. وهكذا فإن الفيلسوف الرواقي إبيكتاتوس، وهو عبد جيء به إلى روما في القرن الأول الميلادي، كان يعتقد أنّ بإمكان المرء أن يقهر الألم، ما دام يعني الجسد، فالأمر لا يتوقف إلا علينا لكي نخضع الألم. وعندما أراد سيده تكسير ساقه، اكتفى إبيكتاتوس بأن يحذّره: “ستتكسر الساق” ، من غير أن يشكو من شدة الألم، وعندما حصل ما حصل قال له: “لقد حذرتك” كأنما يعلّق على حادث خارجي. كان الرواقيون يعتقدون أن آلامنا لا تتولد إلا عن عدم انسجام بين رغباتنا وقوانين العالم. الحكمة الرواقية ممارسة للتخدير العضوي بالموارد الروحانية الخاصة بالشخص. إنها سعي وراء استبعاد المعاناة بحصرها في ألم يمكن تحمّله. كتب الفيلسوف الفرنسي جانكيليفيتش: “الحكيم الذي يعيش المعاناة والمكابدة، لا يحس شيئا… لدى هذا الحكيم فعلا ألم، لكن ليس ثمة معاناة أو كدر أو غمّ… إن قوة الحكمة لا تتمثل في قلب الألم إلى لذة… وإنما في التفرقة بين المكابدة والمعاناة والإحساس… الألم لا يؤذي الحكيم”6.
ستعيش هذه الروح الرواقية على مد العصور الأوروبية وسنلفيها عند مونتيني الذي عانى خلال سنوات من مرض الأمعاء فعبّر عن تجربته مع الألم في صفحات من مقالاته: “أنا ضحية أكثر الأمراض شراسة، وأحدّها مباغتة، وأشدها ألما، وأكثرها فتكا، وأبعدها عن العلاج. لقد مررت بخمس أو ست فترات مديدة ومضنية، ورغم ذلك فإما أنني أذعن، أو أبحث عن وسيلة لكي أقاوم، أنا الذي تحررت من الخوف من الموت ومن أشكال التهديد والتبعات التي يملأ بها الطب أدمغتنا. إلا أن حقيقة الألم ليست من الحدة إلى حدّ أن الإنسان المتوازن ينهار بسببها ويخوض في السّعَر واليأس”.
بل إن نيتشه يذهب أبعد من ذلك ويرى في هذه التجربة سبيلا إلى خوض تجربة أشدّ عمقا. فقد كتب في تمهيده للطبعة الثانية من كتاب “العلم المرح”: “وحده الألم، الألم الشديد، ذاك الألم المديد البطيء الذي يأخذ وقته ويقوم بطهينا، كما لو على نار أعواد طازجة، يرغمنا، نحن الفلاسفة، على أن نسبر أغوارنا، ونرمي بعيدا كل أشكال الثقة والطيبة والأقنعة والنّعومة والحدود الوسطى التي كنا نضع فيها إنسانيتنا حتى الآن. أشك شديد الشك في أن من شأن هذا الألم أن يجعلنا أحسن مما نحن عليه، إلا أنني أعلم أنه يجعلنا أكثر عمقا” 7.
نتفهّم الآن لماذا يتمسّك بعض المرضى الذين يمرّون بتجربة الألم بالامتناع عن تناول الأدوية المهدئة، لأن المعاناة قد تمكّنهم من أن يستشعروا أنهم لا زالوا على قيد الحياة، فيستعيدون وحدة كيانهم، بل إنها قد تقوّي شعورهم بالتفرّد والتميّز عن الآخرين، “مادام الألم وحده هو الذي يبعدنا بصفة جذرية عن الابتذال” كما كتبت حنه آرندت.
الهوامش
Canguilhem. G, Le Normal et le Pathologique, Paris, P U F, 1966, pp 56-57.
لوبروطون. دافيد، تجربة الألم، ت. فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، 2017، الدار البيضاء، 2017، ص 14.
المرجع نفسه، ص15.
مداخلة بعنوان: «المعاناة ليست هي الألم»، ألقيت خلال ندوة نظمتها الجمعية الفرنسية للطب العقلي في بريست أيام 25 و26 من يناير 1992. كان عنوان الندوة «الطبيب العقلي أمام الألم». نشر هذا النص ضمن عدد خاص من مجلة الطب العقلي الفرنسي في شهر يونيه 1992 وكذا في مجلة على نحو مغاير:» معاناة»، العدد 142، يبراير، 1994.
المرجع نفسه.
Jankélévitch, V. L’Autorité et la vie morale. أورده د. لوبروطون في المرجع سابق الذكر، ص ص19-20
Nietzsche,F, Le Gai Savoir, Préface, tr P. Klossowski. Gallimard, Livre de Poche.