عمر كوش
يتواتر إصدار دراسات فكرية عديدة في عالمنا العربي، تنظر في إشكاليات السلطة والاجتماع في بلداننا العربية، وتستجلي قضاياها وتطوراتها وتحولاتها، ومدى تأثرها بما يجري في بلدان العالم، وخاصة في دول الغرب، لذلك نتناولها وفق منظور مقارن، بهدف تَفقد أحوالنا وأحوال عالمنا، وشدّ الانتباه إلى ما هو محلي، ومدى ارتباطه بالكوني وتفاعله معه، وما ينتج من مفاعيل وإرهاصات على مختلف المستويات. وفي هذا السياق يأتي كتاب المفكر اللبناني حازم صاغية «في أحوالنا وأحوال سوانا» (دار الساقي، بيروت، 2023)، كي يسهم في إغناء التفكّر حول قضايا ومسائل عديدة، تخص الثقافة والمثقفين والعصبية والإصلاح الديني والمدينة والليبرالية وسوى ذلك، وفق منهج تحليل تاريخي، ينهض على منظور نقدي للأفكار والأوضاع، التي سادت في منطقتنا العربية، خاصة في بلدان المشرق العربي، طوال عقود عديدة، بغية سبر الصعوبات والإشكاليات التي تواجهنا، والتحذير من التعتيم عليها أو التغافل عنها.
أزمة الثقافة:
ينطلق صاغية مما ساد حول «أزمة الثقافة العربية» و»أزمة المثقفين العرب» في الكتابات السياسية والفكر السياسي العربي، مع تركيز تناوله على أحد جوانبها المؤسسة للأزمة، التي تخص علاقة الثقافة والمثقفين بالغرب، خلال الحقبة الممتدة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً إلى الربع الأول من القرن العشرين (1975 – 1914)، التي سماها المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل هشام شرابي «السنوات التكوينية»1، ويطلق عليها صاغية تسمية سنوات «الزمن الجميل» الأوروبي، التي شهدت تضافر النمو والازدهار والسلام وحركة الإبداع والاختراع، وكذلك التوسع والإمبريالية والاستعمار. ونشأت فيها أبوة كاملة، «مهنية» الطابع، بين الغرب وثقافتنا الحديثة في الحقبة الكولونيالية، منذ أن شرع المثقف الحديث، الذي أنتجته هذه الحقبة، بالحلول محل الشيخ. في حين أن مفكرين عربا آخرين اعتبروا أن المثقف الحديث في بلداننا العربية ولد في سياق الاحتكاك بالغرب، والاحتفاء بالتقدم الأوروبي، وقام بحمل راية الحداثة، وكان متمايزًا عن عالم الدين والفقيه2.
لم تتوفر تلك الأبوة الكاملة للمجالين السياسي والاقتصادي، لأن الثقافة تمتلك تلك القابلية التي تتفاوت من ثقافة إلى أخرى، من حيث تسهيلها الاندراج في الزمن الحديث، وفي إنتاج الحداثة أيضًا، لكن وصف العلاقة بين ثقافتنا الحديثة والغرب بالأبوّة الكاملة لا يلغي وجود تناقضات بينهما، ذلك أن الحداثة لا تعطل مفهوم الصراع ولا تستبعده أبداً، لكن عدم اكتراث بعض المثقفين بذلك الصراع، أدى إلى سيادة التقليد والانقياد لتلك الأبوّة المهنية، وتبسيط تعقيدات مجتمعاتنا العربية، وإعاقة تطوير طرق ذاتية إلى التقدّم والحداثة والحرية. في حين أن الثقافة في جانبها الإنساني ترفض الظلم والاستعمار والعنصريّة، وتحضّ المثقفين المنخرطين في الشأن العام على الانحياز لبلادهم في صراعها ضد الاستعمار والاستبداد، وفق كيفيّة خاصّة بالثقافة، تخدم فيها مصالح الشعوب ورغباتها.
الحرية:
استفاد المثقفون من أجواء الحرية، التي شاعت خلال الحقبة الاستعمارية، بوصفها شرط العمل الثقافي، حيث تُشكل الحرية، وما يتمخض عنها من رؤى وممارسات نقدية، الأساس اللازم من أجل الخوض في مفاهيم الثقافة الحديثة الملازمة للحرية، كالعدالة والمساواة والوطنية والدولة والإدارة وحقوق المرأة والتسامح وتحديث اللغة والنظرة العلمية إلى العالم، وسوى ذلك. وراح المثقفون العرب يتناولون تلك القضايا، بدءًا من نهايات القرن التاسع عشر، حيث تناول وليّ الدين يكن حقوق المرأة، وكتب عبد الرحمن الكواكبي ضد الاستبداد، فيما تناول بطرس البستاني مفاهيم الوطنيّة والشعب، وعرَّفَ شبلي الشميّل بنظريّة داروين، وكذلك فعل اسماعيل مظهر وجميل صدقي الزهاوي. ومنذ تلك الحقبة قام المثقفون العرب في المشرق العربي بأدوار غير مسبوقة في الفكر والأدب العربي، ثمّ في الفنون ولاحقًا السينما. ويعتبر صاغية أن الحرية الثقافية كانت وجهًا من وجوه الحرية السياسية، إذ تشكلت في عام 1907 خمسة أحزاب في مصر، «أسّس معظمها مثقفون وكتاب وصحافيون، مثل أحمد لطفي السيّد (حزب الأمّة) ومصطفى كامل (الحزب الوطنيّ) وعلي يوسف (حزب الإصلاح). ولم يتأخّر العراق عن اللحاق بالركب فصدر، في 1922، «قانون الأحزاب والجمعيّات» ممهّدًا لقيام أحزاب أربعة (الوطنيّ والنهضة والحرّ وحزب الأمّة)، وفي الثلاثينيّات ظهرت «جماعة الأهالي»، قبل أن يتفرّع عنها «الحزب الوطنيّ الديمقراطيّ»، الذي أسّسه مثقّفون، أبرزهم كامل الجادرجي ومحمّد حديد». كما حاول مثقفون كثيرون نقل أفكار وأيديولوجيات غربية، كالليبراليّة والفابية والماركسيّة، إلى بلدان المشرق.
كان التداخل ما بين السياسي والثقافي هو عنوان تلك الفترة، لكن صاغية يرى بأن الغلبة كانت للثقافي، الذي كان يقود السياسي أكثر ممّا يُقاد به. ولم يتوقف الأمر عند توفر الحريات الثقافية والسياسية، بل تعداه إلى تشييد الجامعات، وإلى ظهور فن الرواية، الذي تعدّ أبرز وأهمّ منتجات الحداثة الأوروبية، وامتد الأمر إلى العروض السينمائية التجارية في القاهرة والإسكندرية وسواهما، وإلى العلاقة بالوقت، وإشادة المساكن الحديثة، وتخطيط المدن، وإنشاء مجالس نيابية وبلديّة منتخبة، وانتشار التعليم في المدارس والجامعات.
يدافع صاغية عن مثقفي تلك الفترة، نافيًا الاتهامات التي وجهت إليهم، وزعمت بأنهم كانوا «تغريبيّين» و»متغرّبين» و»مُهجّنين»، معتبرًا أنهم لم يتخلوا عن الخلفية الثقافية التي صدروا عنها أو عن هموم شعوبهم وتطلّعاتها، ووازنوا بقدر معقول بين البنّوة المهنية للغرب والارتباط القيمي والسياسي والأهلي أو الوطني، وبالتالي يصعب الحديث عن قطيعة في سِيَر المثقفين الحداثيين بين نزعة تقليدية من الثقافة والانشداد نحو الحداثة.
يستعين صاغية بما ذكره رئيف خوري في كتاب «الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي» (مؤسسة هنداوي، 2017)، الذي أكد فيه أن مثقفي ذلك الزمن، اعتبروا حملة نابليون بونابرت على «مصر في 1798 أوّل مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي»، واستقبلوا بشكل إيجابي الثورة الفرنسية، وخاصة من طرف جمال الدين الأفغاني وفرنسيس مرّاش وأديب اسحق وعبد الله النديم وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي الشميّل وفرح أنطون ومصطفى كامل ووليّ الدين يكن وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وروحي الخالدي وجرجي زيدان وطه حسين ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن الرافعي ومحمد كرد علي وسلامة موسى، وسواهم. وكان معظمهم من مناهضي الاستعمار، لكنهم بنفس الوقت أعجبوا بأفكار الحداثة الأوروبية، وحملوا رايتها، الأمر الذي يشي بأن المثقف العربي في تلك الحقبة أوجد كيفيّة ثقافية خاصة، للتدخل الثقافي في السياسة والصراع السياسي. وهنا يعتقد صاغية أنه لو أُتيح تطوير تلك الكيفيّة التركيبيّة، لاستطاع حاملوها الإسهام في تصويب المواجهة السياسيّة مع الاستعمار أو الغرب، ومع ذلك يرى بأنهم لم يكونوا على رداءة زملائهم اللاحقين، بل كانوا أشدّ إنصافًا وتركيبًا في نظرهم إلى أنفسهم وإلى العالم، وكانوا، بتأسيسهم الأحزاب والمؤسسات وتوزيرهم في الحكومات، أفعلَ بلا قياس وأشدّ تأثيرًا.
ممانعة الحداثة:
تغيرت الأمور كثيرًا في الفترة اللاحقة، بدءًا من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وصولًا إلى انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في عام 1952، حيث حلّت قراءة مختلفة للتاريخ، وبالتالي وظيفة أخرى للمثقفين، استُبعدت بنتيجتها الكيفيّة المركّبة، وحلّ محلّها التحاق شبه كلّي بالسرديات السياسية والشعبوية، مع جنوح نحو عسكرة الثقافة، أوقعَ المثقفين في حبائل رواية الأنظمة الأمنية والعسكرية، وبات جائزًا الحديث عما يسميه صاغية «انتحار ذاتي للمثقف والثقافي على مذبح السياسة والسياسي».
يعزو صاغية الممانعة الأهليّة والدينيّة القديمة للحداثة في البلدان العربية إلى الفكر الغربيّ المناهض للغرب نفسه، حيث وجدت ما يغذي رفضها اشتغال الكيفية المركّبة، عبر استخدام أفكار وأطروحات شبنغلر ونيتشه وهايدغر وسارتر الرافضة للغرب، كمبرر ثقافي لتطليق «الثقافة الغربية» والذوبان في السياسات القومية والوطنية. كما أن الماركسية اللينينية، بوصفها أحد أشكال ذاك الفكر الغربي المناهض للغرب، أغرت العديد من المثقفين في جانبيها الثقافي والسياسي، الذين تميزوا عن المثقفين القوميين، وعن المثقفين الدينيين، لكن سرعان ما ظهرت حالات من التوتر بين السياسي الذي انشدّوا إليه، والثقافي الذي آثروا أن لا يطلّقوه بالكامل، وبات التمزّق بين السياسي والثقافي يميز حالة مبدعين «تقدّميّين»، انضمّوا إلى حركة التحرر الوطني بشروط قواها السياسية، وأحسّوا بالكلفة التي ينبغي دفعها، ذلك أن الماركسية اللينينية على اختلاف فهمها وتأويلاتها، كانت تتضمن بذور نزعة تستصغر العمل والجهد الثقافي، انطلاقًا من التمايز الذي أقامته بين اليدوي والذهني، المنحاز لليدوي، باعتبار أن الذهني هو نِتاج فائض القيمة الاجتماعي، لذلك عومل المثقفون بحذر وبشيء من الحيرة حيالهم، وجرى اجتراح مفهوم المثقف المحترف الاشتراكي، كمعادل لاستخدام الثقافي بوصفه أداة في خدمة السياسي، فهو محروم من حرية النقد، وتنحصر مهمته في تنفيذ مهام سياسية ملزمة لا تقبل النقاش، ومن لا يتلزم يلقى مصير من طُرد على متن ما عُرف بـ»سفينتي الفلاسفة»، اللتين كان على متنهما ما بين سبعين ومائتين من ألمع المثقفين الروس الذين جرى نفيهم في عام 1922 إلى خارج الاتحاد السوفييتي المندثر. كما أسهمت أطروحات الفيلسوف الإيطالي، أنطونيو غرامشي، حول الثقافة والمثقف العضوي في خنق الثقافي، بوصفها جزءًا من نظريّته في الهيمنة، التي أعطت أدوار المثقفين وظيفة سياسية أيديولوجية في السيطرة على القلوب والعقول. وقد أفضى الدور الذي لعبته أدلجة الثقافة إلى محاصرة مسألة الحرية، وخاصة حرية التعبير والرأي، التي جرى تغييبها منذ أن أجهزت الانقلابات العسكرية والتسلّط الأمني على مختلف مفاصل الحياة في بلداننا العربية المشرقية، وساندتها مطالبات بعض المثقفين بأن تمارس الدولة أبوّة حنونة للمثقفين، لذلك قادتهم مواقفهم المساندة للأنظمة، التي تدعي معاداة الإمبريالية، إلى مناهضة الثورات العربية.
الاستتباع:
العلّة التي يجدها صاغية، تكمن في أن تجربة العلاقة بين السياسة والثقافة، في المشرق العربيّ، تكمن في التضاد ونموّ السياسة مقابل استتباع الثقافة. وتجسدت هذه التبعيّة في تجارب المثقف العربي الأقرب إلى العضوية، حين جرت عملية إلحاق الثقافي للسياسي، التي أضعفت الصوت الثقافي الخاص لدى تدخله في السياسة، بل وغيّبته في معظم الأحيان، وبالتالي فإن الأب البديل عن الغرب، الذي سعى إليه المثقفون، عاملهم بقدر كبير من المهانة والإيلام، حيث تثبت تجارب المثقفين مع الأحزاب التي عرفتها بلدان المشرق في القرن العشرين المنصرم، أن الأنظمة السياسية عملت على إمحاء المثقفين، تحت يافطات الالتزام والدور والتغيير، وقامت بإيذائهم وملاحقتهم وطردهم، بل واغتيال بعضهم. ولم تكن الأنظمة السياسية المصدر الوحيد في الاعتداء على الثقافة والمثقفين، بل ساهمت في ذلك المؤسّسات الدينيّة والجماعات الأصوليّة المتشددة. إضافة إلى أن الأنظمة الديكتاتوريّة والشمولية قامت بابتلاع الحياة الثقافية، والهيمنة على التعليم ومؤسّساته، وتدجين المثقفين في اتحادات الكتّاب والأدباء والصحافيين والأساتذة الجامعيين، وقامت في سبعينيات القرن العشرين بتنصيب قيادات ثقافية، وجعلتها متصدّرة وصاحبة امتيازات، ويقوم أفرادها بترديد بعض الشعارات المناهضة للغرب الإمبريالي.
كان لانعدام الكيفيّة الثقافية للتدخل في الشأن العام، أن انقَلب الموقف الثقافي إلى موقف مضاد للثقافة، وتحول النظر إلى الصراع مع الغرب كصراع إطلاقيّ عابر للأزمنة، حيث جرى حصره في الاشتباك حول المسألة الاستعماريّة، ثم توسعت رقعة الاشتباك بلا نهاية أو حصر. وقد سهّل ذلك طريق الإسلاميّين الساعين إلى التمركز حول الماضي، وباتت معركة الماضي بديلًا عن الاندراج في تحدّيات الحاضر والمستقبل. إضافة إلى أن الفكر السياسي العربي السائد لم يبذل جهدًا حيال المسائل الحيويّة في العلاقة مع الغرب، وذلك على الرغم من تراجع الأيديولوجيات الكبرى في العالم العربيّ، كما في سائر العالم، فيما نشأت تراكيب واهتمامات ثقافيّة مستجدّة، ومع ذلك فإن مهمة تذليل أزمة الثقافة والمثقفين في المشرق العربي، تقتضي تذليل مشكلة العلاقة مع الغرب، وبالتالي مع الذات، حيث يستطيع المثقفون لعب دور أساسي في تذليلها، ولا يخرج هذا الدور عن دورهم المطلوب دفاعًا عن الحرية، التي تعنيهم بالدرجة الأولى.
حيثيات الأزمة:
الملاحظ هو أن الفترة التي يتناولها صاغية واسعة وممتدة، وعاش فيها مثقفون من انتماءات مختلفة، وقاموا بأدوار مختلفة، بالنظر إلى أن اهتماماتهم كانت متمايزة عن بعضهم البعض، فكان -وما يزال- هناك مثقفون لهم علاقة بالأنظمة، وارتضوا بأن يكونوا جزءًا منها، وهناك مثقفون معارضون لهم آراء مختلفة، وحتى هؤلاء المعارضون لهم أطياف تتمايز عن بعضها البعض، هناك قوميون وماركسيون أو يساريون وإسلاميون، وهناك آخرون ليبراليون ويمينيون وسوى ذلك.
أعتقد أن ما عُرف بأزمة الثقافة العربية لها حيثيات تعود إلى قرون من التراجع والعوائق، وجسدتها حالات من الركود والاختناق، وتوقف للنمو الثقافي، بسبب غياب الحريات العامة، وخاصة حرية التعبير، وأفضى كل ذلك إلى أن العديد من المثقفين «لم يتخذوا موقفًا إزاء التحول الاجتماعي» في بلداننا، ولم يتعاملوا مع الفكر النقدي القادر على التلاؤم مع التحول الاجتماعي، لأن مجتمعاتنا «لا يتوفر لها حتى الآن الحد الأدنى من حرية التعبير والاجتماع»3، بسبب أنظمتها السائدة. أما عدم الاعتراف بالأبوة الثقافية للغرب، فيعود حيثياته إلى الجدل حول علاقة الثقافة العربية بالثقافة الغربية، أو بالأحرى بالحداثة، وهو يختلف عن التهجم على الغرب، العائد إلى ما يمكن تسميته المرض بالغرب، الذي أصاب قطاعًا كبيرًا من المثقفين، وخاصة القوميين والإسلاميين والماركسيين، ومثقفي الأنظمة تحديدًا، ثم تسرّب هذا المرض إلى الثقافة السياسية العربية، محمولًا على خطاب شعوبي، يحيل إلى نزعة العداء للاستعمار والكولونيالية، ونظرية المؤامرة، التي روّجت لها الأنظمة السياسية السائدة. ويقوم هذا الخطاب المعادي للغرب، والمريض به بنفس الوقت، على نزعة إيمانية، تعلي من شأن الخصوصية والمحلية، التي تعلي بدورها من الذات الجمعية للشعب والأمة، وتسود فيها الشعارات والرغبات محل الواقعية والعقلانية، ولا يدرك فيها الواقع دون أن يلتهم التشبيه المشبّه به، وتتضخم النزعة الذاتية الرغبوية، وفق منطق «الشلف التأويلي»، العاجز عن إنتاج وعي مطابق في الواقع حسب ياسين الحافظ 4، حيث يستسهل أصحاب هذا المنطق إطلاق أحكام قيمية فارغة حول الخيانة والعمالة والمؤامرة والانحراف، وينجرون إلى ما يقودهم إليه «الشلف التأويلي» في النظرية والإرهاب الجسدي والفكري في الممارسة.
ومع ذلك كله، فإن النظر في أزمة الثقافة العربية في دول المشرق العربي بحاجة إلى تأمل عميق، بالاستناد إلى أدوات علمية مناسبة، من دون تغييب الالتزام الأخلاقي حيال قضايا شعوبها، لأن المثقف، وكل من يهتم بالشأن العام، لديه التزام طبيعي، والأمر يتصل بما يقوم به المفكر والمنظّر السياسي، ولا يبتعد حازم صاغية عن ذلك، لكن ليس وجيهًا أن يتحمل المثقفون في المشرق العربي بأطيافهم المختلفة واتجاهاتهم المتعددة، مسؤولية الفشل في إنارة طريق الحداثة في مجتمعاتنا العربية، لأن أسباب الفشل عديدة.
نظام القرابة:
ما تزال العصبية، أو «نظام القرابة الموسع»، تفعل فعلها في العالم العربي، وليس هناك ما يمكن التعويل عليه لتراجعها أو التخفيف منها أو حتى منافستها، خاصة مع ازدياد اعتماد الأنظمة العربية عليها، والنفخ فيها، وذلك في ظل ضعف الأحزاب والمنظمات الحديثة، التي ينكر أغلب قياداتها وجود العصبيات، وتتعامى عن تأثيرها الاجتماعي والسياسي، في حين أن العصبية تتمدد إلى الطائفية والأثنية والجهوية، وسائر تمظهرات الروابط ما قبل المدنية، التي تلعب دورًا مهمًّا في الانقسام المجتمعي، والحروب الأهلية، وفي إفشال حركات التغيير الاجتماعي والثورات، وتحول دون الوصول إلى وطنية جامعة، ودون تشكيل وعي اجتماعي وطبقي عام، إلى جانب أن القوى المستفيدة منها تستغل كل ما يمكنها من أجل المزيد من الاستقطاب وشد العصب الطائفي والاثني والجهوي.
تظهر جلّية الكيفية التي احتل فيها نظام القرابة وثقافته الحيز السياسي، بشكل مباشر وغير مباشر، وذلك عند النظر إلى ثورات «الربيع العربي»، وحرب لبنان التي أخذت طابع الاحتراب الطائفي، وكذلك الحرب في العراق واليمن وسوريا والسودان. وعليه يتناول صاغية نظام القرابة الموسع على صعيد الثقافة السياسيّة، مطالبًا بالاعتراف بهذا المعطى الخطير، وبذل الجهد لمحاصرته والحدّ منه، من منطلق ضرورة التعامل مع المحرّمات، بالنظر إلى أن علاقات القرابة، والقرابة الموسَّعة أو المحوَّرة بحسب المناطق والجهات، تحيط بنا من كل جانب، ففي لبنان طائفية ممأسسة وعلنية، وفي العراق كذلك وسوريا وسواها. ويحفل القاموس السياسي السائد عربيا بأوصاف عديدة للقرابة الموسعة، وذات مضامين سياسية واقتصادية وثقافية، مثل «المارونية السياسية» في لبنان، و»العلوية السياسية» في سوريا، و»السنيّة التكريتية السياسية»، ثم «الشيعية السياسية» في العراق، إضافة إلى السنية الشافعية اليمنية، مقابل الشيعية الزيدية والحوثية اليمنيتين، كما تعرف ليبيا انشطارًا جهويًا، بين شرق وغرب وجنوب، وهناك مشكلة كردية في كل من العراق وسوريا، وأمازيغية في بلدان المغرب العربي… إلخ.
يتمدد حضور القرابة ونظامها إلى الإنتاج الثقافي المعاصر والحديث، في الشعر والغناء، لكن هذا الحضور لا يرتبط ربطًا حصريًا بالحداثة، وبالصلة التي نشأت بين المجتمعات العربية والغرب، بل يضرب جذوره في التاريخ العربي، حيث يصعب التفكير بالعصبية القرابية، بمعزل عن صاحب نظرية العصبية، عبد الرحمن ابن خلدون (1332 – 1406)، الذي تمتلك نظريته راهنيته لفهم مجتمعات كثيرة، حيث أرجع العصبية إلى الالتحام بالنسب، واستعداد المنتسبين إليها للتضحية واحدهم في سبيل الآخر، فهم يدافعون عن أنفسهم من دون أن يكلّفوا جنودًا ومرتزقة القيام بذلك، كما يخدمون أنفسهم من دون أن يكلفوا خدمًا بخدمتهم. وهي أقوى ما تكون عند البدو، لأن شظف العيش في الصحراء يفرض وجودها. أما في الدولة، فتنهض العصبية على نواة عائلية ذات أحلاف مع أطراف العصبية نفسها، وبالتالي فهي تنتقل إلى المدن، فتستولي على السلطة، وقد تبني إمبراطوريات، لأن غاية العصبية هي المُلك.
يرى صاغية أن نظرية ابن خلدون في العصبية تتلاقى مع نظريته في صعود الممالك والسلالات وانحطاطها، بحيث لا تُفهم واحدتها بدون الأخرى، فحين تصاب السلطة بحياة الرخاوة، فإن هذه الحياة لا تلبث أن تُضعِف أصحابها حيال أصحاب عصبية جدد. ويلجأ رأس العصبية في السلطة إلى التخلص من منافسيه في العصبية نفسها، ليبدأ تصدع العصبية الحاكمة سياسيًا واقتصاديًا، إذ مع الترف والفساد والضرائب، التي يفاقمها شراء الجنود والمرتزقة للدفاع عن السلطة، تتحول القيادة عبئًا على الدولة فيبدأ السقوط. أما في جانب التاريخ وتحولاته الكبرى، فقد نَقله ابن خلدون من دراسة السرديات إلى دراسة النظم، وجعْله نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع عميق. وعليه اعتبره مفكرون وباحثون كثر مؤسس علم الاجتماع وعلم التاريخ وفلسفته، حيث أدرجوا العصبية الخلدونية في نظريته للتاريخ، وتعيين دورها في تلك النظرية، بوصفها محرك التاريخ الأول. ووفق المؤرخ الشهير، أرنولد توينبي، فإن العصبية الخلدونية ليست حكرًا على البداوة، بل إن مواطني إيطاليا خلال عصر النهضة كانت لديهم عصبية، كما أن مفكرين آخرين نظروا في انتقال الأوروبيين عبر مسار طويل، من النظام القرابي الموسع إلى العائلات النواتية، ولم يتمّ الأمر دون المرور بحالات انتكاس وتعثر وتراجع إلى روابط موسعة، حيث اعتبرت الفيلسوفة، حنة أرندت، أن الأنظمة الشمولية استدخلت، تصليبًا لسلطتها، مفهوم «الدم الغريب»، الذي يحتل صاحبه موقعًا ثانيًا، ومُستَبْعَدًا في مراتب المواطنة، وركزت على مفهوم القومية القَبَلية، التي تصرّ على أصل قَبَلي مشترك، بوصفه الشرط الجوهري للانتماء إلى الأمة.
في بلدان المشرق العربي، عملت الدولة الحديثة التي حملتها القوى الاستعمارية، ثم تبنتها النخب المحلية، على إنهاء استقلالية القبائل والعشائر، وتدخلت في تضاعيف حياة السكان ودواخلها. وإذا كان نظام القرابة تاريخيًا، ليس حكرًا على البلدان العربية والمسلمة، إلا أنه انكسر في معظم أوروبا الغربية وعبر تحولات كان الكثير منها نتاج تدخل إرادي متعدد الأشكال والمستويات، حيث لعبت الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دورًا أساسيًا في كسره، من خلال الرسملة الصناعية ومركزة الدولة، فانتقلت الأولوية من الأسرة التي يولد الفرد فيها إلى الأسرة التي يختارها من خلال الزواج.
إشكالية العصبية:
تبرز عند تناول العصبية إشكالية الربط بين مفهوم العصبية القَبَلية والعصبية الطائفية عند تفسير الصراعات في بلدان المشرق، وخاصة الصراع على السلطة، إلى جانب ضرورة التمييز ما بين المذهب والتمذهب وتشكل الطائفة اجتماعيًا وسياسيًا. فالعصبية التي تحدث عنها ابن خلدون تنطبق على الدول والممالك القديمة، من أجل إيجاد تفسير وصول سلالة إلى السلطة بالتغلّب، أي حين تتغلب عصبيتها على عصبية سواها، لكن في الدولة الحديثة، فأعتقد أن الأمر يحتاج إلى تطوير هذا النموذج في التفسير، إذ إن الأنظمة الشمولية والتسلطية هي من يقوم بإنتاج العصبيات، من أجل توطيد وإسناد أنظمتها، وتأبيد سلطتها وسطوتها على الدولة والمجتمع.
ليست النزاعات الطائفية نتاج التعددية الدينية أو القبلية الموروثة في مجتمعات المشرق العربي، على الرغم من أنها تفضي إلى غياب اللحمة والمشاعر الوطنية أو ضعفها، لحساب العصبية الدينية أو المذهبية أو العشائرية، لكنها ليست السبب الأساسي في إضعاف دول المشرق العربي، بل إن غياب دولة المواطنين، التي تنهض على المواطنة المتساوية دون تمييز، هي السبب الأساس. كما أن التعددية الطائفية والعشائرية والمناطقية لا تتحول إلى مشكلة إلا حين يحلّ الانتماء للطائفة أو العشيرة محلّ «الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه، ويصبح عائقا أمام التفاعل بين الأفراد والتعاون في ما بينهم في ما وراء الحصن الطائفي أو الإثني. لذلك فإن أكثر ما تترسخ العصبيات الطائفية والعشائرية وتتحول إلى بديل للانتماء الوطني في ظل النظم الاستبدادية التي تقوم على نفي التعددية ولا تملك أي مفهوم أو سياسة لاستيعابها وإدارتها بالطرق السلمية وتنزع إلى كبت الاختلافات والتمايزات بالقوة والقهر بدل التعامل السياسي والثقافي والاجتماعي معها»5.
الإصلاح الديني:
يجري النظر إلى أهمية تجربة الإصلاح الديني في أوروبا من جهة الإشارة إلى حاجة بلداننا العربية إلى إصلاح معادل، على الرغم من صعوبة القيام به في ظروفنا الراهنة، حيث يعتبر صاغية أن التجربة الأوروبية تظهر ضخامة القضايا والتغيرات التي نفتقد إلى ما يعادلها عربيًا، بالنظر إلى توسع حالات التراجع والارتكاس التي تحيطنا من كل جانب، مع فقدان الحريات العامة، وهامشية موقع الفرد والفردية، وسيادة الطغيان والعسف وسحق الفرد، وإغلاق المجال العام أمام القوى التي تريد التغيير. لكنه، يستدرك بالقول إن المقصود ليس تكرار التجربة الأوروبية، بل في تبيان ضرورة توفر عناصر الحرية والمبادرة وشعور الفرد بفرديته، بالتضاد مع العصبيّات والقرابات والقضايا الأيديولوجية والاستلابيّة، وبصياغات تختلف عن صياغات الغرب، فيما يفضي الافتقار الشامل إلى أوضاع، تسود فيها نزعات أشد قسوة وانغلاقًا. ولتبيان ضخامة ما أُنجز أوروبيًا، يجري استعراض مختلف العناصر التاريخية والعلمية، التي تعود إليها جذور حركة الإصلاح الأوروبي أو واكبتها، وشكلت مقدمات التحول التاريخي خلال عصر النهضة، وتجسدت في تغير طرق التجارة العالمية، وضعف قوى الإقطاع، ثم نشأة الدول القومية المترافقة مع ظهور نقابات المهن والجامعات المتحررة، التي سعت إلى التحرر نسبيًا من سلطة الكنيسة والإكليروس، وصولًا إلى انتعاش مختلف فنون الأدب ووسائل الإعلام، واكتشاف العالم الجديد واختراع المطبعة، والتقدم في علم الفلك الذي غيّر مفهوم مركزية الأرض، والتغيرات التي طالت العلم والفن والاجتماع والثقافة، وصولًا إلى ثورة على التأويلات الموروثة لنصوص الكتاب المقدس، وما قام به مارتن لوثر من تجديد للخطاب الديني، وإنجازات مكيافيللي وغيوتو وبرونو ودافنشي وماكس فيبر. أما في حالتنا العربية، فما زال الطلب قائمًا، منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، على «لوثر مسلم».
تدمير المدينة:
من الفظائع التي سيذكرها التاريخ طويلًا، تدمير أجزاء مُعتَبَرة من مدن ثلاث في المشرق العربيّ، وتعدّ من أهمّ مدنه وأعظمها، وهي الموصل في 2014، وحلب في 2016، وبيروت في 2020. ويرى صاغية أن أسبابًا وعوامل عديدة ومتراكمة، أوهنت هذه المدن، وأضعفت مناعاتها حيال المآسي المذكورة ومرتكبيها، وهي تعود بشكل أو بآخر إلى تعددية تركيبتها وكزموبوليتها، وإلى عمليات «ترييف» هذه المدن عبر حركات نزوح إليها، وتدخلات السياسة وفساد الأنظمة الحاكمة.
وخلافًا لما ذهب إليه ابن خلدون عن ضمور العصبيّة في المدن، فإن مدننا حضنت العصبيّات القلقة والكارهة التي تجمع بين الخوف والإخافة، لكن رصد النتائج السياسيّة عبر ترجمة الوقائع والأحداث إلى سياسة، فإن الأشكال والتنظيمات والأفكار الحداثيّة، تقدم مساهمة ضخمة لصالح استحالة المدن، التي تعني أيضًا، وفي نهاية المطاف استحالة الريف، واستحالة أي شيء آخر، لكن المستغرب أن يخلص صاغية إلى أن «داعش» وحكام سوريا وحكام لبنان، لم يؤسسوا دمار المدن الثلاث، بل استأنفوا تأسيسًا سابقًا، وكانوا فقط اليد المنفذة، فيما يكشف واقع الحال أن دمار أحياء مدينة حلب الشرقية، جرى بشكل مختلف تمامًا عن دمار مدينة الموصل أو دمار مدينة بيروت، سواء في الطريقة، أم في النهج والأدوات.
الليبرالية:
بالانتقال إلى الليبرالية، يحاول صاغية البحث في أسباب بقاء الليبرالية في المشرق العربي، ومعها الاشتراكية الديمقراطية، مجرد مزاج وحساسية فرديين، وذلك عبر تقديم وصف وشرح للفرضيات الأساسية لليبرالية، التي لا يُخفي انحيازه لها، وللاشتراكية الديمقراطية، مزاجًا وحساسية. ثم يقدم عرضًا للمبادئ والنصوص الليبراليّة، الأم والتأسيسية، التي اعتمدت على الفلسفة الأخلاقية، دون النظر في الخلافات بين المدارس الفكرية المتعددة لليبراليّة، والمحكومة بظروفها وشروطها التاريخية.
يستند تناول الليبرالية إلى أطروحات وتحليلات في الفلسفة السياسية، تلك التي قدمها هوبس ولوك وجون ستيوارت وغيرهم من المفكرين والفلاسفة، وذلك بعيدًا عن الجانب الاقتصادي الهام لليبرالية، وعن تطوراتها اللاحقة التي جسدتها نسخة النيوليبرالية المتوحشة وتفرعاتها. وعليه، فإن الأساس الأول لليبرالية القديمة أو بالأحرى الكلاسيكية، هو الاعتقاد بأن الحرية هي القيمة السياسية الأولى لها، وأن الفرد يتقدم على الجماعة، باعتباره فردًا، يحظى بقيمة قائمة بذاتها وبكرامة وفرادة إنسانيّتين، إضافة إلى أنه يستحق في الاحترام وفي كونه وحده صاحب القرارات التي تتعلّق بحياته. وعليه يمكن القول إن الليبراليّة شكلت مدرسة لم تكتفي بجعل الحرّية الفردية قيمة شبه مطلقة، بل جعلتها أيضًا معادلًا لـ»الواقعي» والطبيعي.
وتُعرف الليبرالية في سياقها الكلاسيكي بوصفها فلسفة سياسية، ترى أن المجتمعات مبنية على المواطنين كأفراد أحرار ومستقلين، وتمنحهم حقوقًا تجسد قدرتهم على اتخاذ خيارات لجهة التعبير والاجتماع والاعتقاد، حيث يشمل حيّز الاستقلالية حق التملك والتعاملات الاقتصادية، وشمل مع الزمن حق الاشتراك في الحياة السياسية عبر حق التصويت. وعليه يمكن القول إن الليبرالية هي نظام اجتماعي، ينهض على مبدأ المساواة في الحقوق الفردية، وحكم القانون، وحريّات الأفراد، وإدارة الاختلافات سلميًا، وتجد كل هذه المبادئ متحققها في سياسة تقوم على التسامح المتجذر في احترام الاستقلال الذاتي الفردي الذي يكفله القانون والحكومة. ويمكن تحديد مسوغات الليبرالية على مرتكزات منطق براغماتي وأخلاقي واقتصادي، حيث تظهر مسوغاتها أن الليبرالية ظهرت في منتصف القرن السابع عشر، مع نهاية حروب أوروبا الدينية الطائفية، التي استمرت 150 سنة، وظهرت الليبرالية بوصفها حلًا مؤسسيًا لمشكلة التنوع الديني والاثني في المجتمعات التعددية، كونها ولدت نتيجة الصراع الديني الأوروبي، حيث أسهم المبدأ الليبرالي، القاضي بأن الدول ينبغي ألا تسعى إلى فرض آرائها الطائفية على الآخرين، في استقرار أوروبا في الفترة التي تلت معاهدة وستفاليا عام 1948(6).
أما في الحالة المشرقية، فتبرز المعاناة من الضعف الشديد في الفكر السياسي، الذي تتحكم به سياسوية ضيقة ومباشرة، استبعدت أو همشت المسائل المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم، وبإدارة العلاقات فيما بينهم. وذلك على الرغم من أن بلداننا المشرقية شهدت حقبة ليبرالية في بدايات القرن العشرين، ارتفعت فيها أصوات من نادوا بالوطنية الدستورية، والحرّية ورفض الاستبداد، وحقوق المرأة، وسوى ذلك، وحاول بعضهم تنمية الوعي الليبرالي، لكن محاولاتهم لم يُكتب لها النماء والتطور والتحوّل، بمعنى لم تتحول إلى حالات اجتماعية واسعة، حيث بدأ التراجع مع خنق الحياة الحزبية والإعلامية والنقابية وسواها، وخاصة بقدوم انقلاب عام 1952 في مصر، الذي سبقته، وحضرت له، انقلابات عديدة في سوريا والعراق. ويعتبر صاغية أن التيّار المناهض لليبرالية بدأت جماعة الإخوان المسلمين في بلورته، مع نشأتها في 1928، ليبلغ ذروته مع الانقلابات العسكرية التي استفادت من تقاليد عدّة ومن تطوّرات عدّة. ثم عملت الأنظمة الأمنية والعسكرية، الناصريّة والبعثيّة، والمدارس الفكرية التي تحصّنت بها، على رفع القيم غير الليبراليّة إلى مصاف رفيع، وكان الشكل الأخير الذي حضرته الليبرالية ما جسدته جنازة مصطفى النحّاس في 1965، التي أعلنت وداعها إلى مثوى أخير.
أخيرًا، تكمن أهمية كتاب صاغية في تناوله النقدي لقضايا كثيرة في الفكر والتاريخ والاجتماع، التي تمازجت فيها هموم مشرقنا العربي وأحوالنا مع مقارنتها بأحوال سوانا، وخاصة أحوال الأوروبيين وما صنعوه وقدموه من أفكار وثقافة، خلال عصر النهضة وقيام الحداثة والإصلاح الديني ونشأة المدينة والليبرالية. وهنا تأتي أهمية الاشتباك مع ما يطرحه صاغية والبناء على ما يقدمه، بغية اجتراح كيفية للاستفادة منه في تناول قضايانا وأحوالنا، والتصدي لأزمات مجتمعاتنا وتصدعات الهوية والعصبية والحكم، بعيدًا عن الاستسهال، واللجوء إلى تهويمات اللغة، التي تتعامى عن الواقع، وتتغنى بالماضي وبالانتصارات الوهمية، تلك التي تصدر عن عقل بليد، مصاب بالجمود الفكري.
الهوامش
-هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار النهار، بيروت، 1981
-برهان غليون، سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2023، ص 26,
– هشام شرابي، أزمة المثقفين العرب، دار نلسن، السويد – بيروت، 2002 ص 23.
– ياسين الحافظ، الأعمال الكاملة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص 888.
-برهان غليون، في مسؤولية النخب عن الحروب الطائفية وآلامها،
https://www.aljazeera.net/opinions/2010/9/25
– فرانسيس فوكوياما، الليبرالية ونقادها الساخطون، ترجمة معين الإمام ومجاب الإمام، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2023، ص 26.