ترجمة:أغنيس بيوتروفسكا
يجب أن نعترف بأن الأفكار اليسارية نشأت جنبًا إلى جنب مع بداية عصر التنوير، رغم أننا يمكن أن نجد بذورها قبل ذلك بكثير، والمواقف التي أنتجتها قد تكون قديمةً قِدَم الحضارة البشرية، حتى وإن كانت تعاديها. من المفترض أن التدمير الذاتي هو أيضًا عنصر من عناصر الطبيعة الإنسانية. أقصد هنا موقفًا ثوريًّا نابعًا من الاستياء والكراهية تجاه الواقع، والمثال الواضح على ذلك هو فكر ماركس الذي أشرتُ إليه مسبقًا، أو -على نطاقٍ أوسع- الغنوصيَّة، التي تدين العالم المادِّيَّ منذ أكثر من ألفَيْ عام. هذا لا يعني أن مثل هذا الرأي كان سائدًا في عصر التنوير. غير أن نسخته الراديكالية، وجعل العقل الرياضي المجرَّد مُطلَقًا -باعتباره المقياس الوحيد للأشياء البشرية- يقودان في هذا الاتجاه.
في التنوير انتصرت القناعة بأن الإنسان، بقوَّة عقله، قادرٌ، ليس فقط على التَّعرُّف على العالم، ولكن أيضًا على إعادة بنائه لإنشاء مملكته على الأرض، أي الواقع المثالي، أو على الأقل: الجيد بقدر ما يمكن أن يصل إليه الإدراك البشري؛ تلك القناعة هي إرث ديكارت -رائد ومشرع عصر التنوير- الذي ارتبط به ربما جميع التنويريِّين. رغم أنه لم يدخل في السياسة، إلا أنه سعى إلى إنشاء علوم مؤكَّدة وشاملة، يتمُّ فيها تحويل معارف الإنسان بأكمله. بالطبع أن عواقب ذلك يجب أن يكون لها تأثير أيضًا على مجال السياسة. كما أن ديكارت كان يعدُّ نفسه لإدخال الأخلاقيات المنظَّمة بشكل عقلاني إلى متن علمه الشامل. منهجه نفى تمامًا الموقف السابق تجاهها، المستَمدَّ في أغلبه من أرسطو. لم ينجح ديكارت في تنفيذ مشروعه، وكان عليه أن يكتفي بـ«أخلاقيات مؤقَّتة»، التي كانت من المقرَّر أن تُطبَّق حتى يتم إنتاج نسختها العقلانية الكاملة، لتشكِّل جزءًا من النظام بأكمله.
لم يكن التَّنويريون عادةً بهذا الطموح، لكنهم تبنَّوا منهجه؛ إذ رفضوا كلَّ أشكال السُّلطة، وكل الحقائق الراسخة الموجودة، واستدعوا أمام «محكمة العقل» -المصطلح المفضَّل في ذلك العصر- النظامَ البشريَّ القائم بأكمله. النتائج كانت من السهل التنبُّؤ بها. بدا وكأن هذا النظام فوضى عبثيَّة مليئة بالمعاناة غير المجدية والجهود المهدرة. بالنظر إلى التركيبات الرياضية الدقيقة التي مكَّنَت الإنسان من فهم الواقع، والتي أيضًا طبَّقها عمليًّا في بعض المساعي؛ فإن هذا الوضع ظهر كفضيحة كبيرة. لذلك؛ كان لا بُدَّ من تغييره بشكل أساسي، أو إعادة بنائه ولو حتى من الصفر. ولتحقيق هذه الغاية؛ كان من الضروري أوَّلًا القضاء على النظام القديم القائم على العقائد والأحكام المسبقة أو حتى العادات. كان لا بُدَّ من رفض أي ترتيب قائم على الدين والتقليد وجميع السلطات. فقط بعد إتمام هذه المهمَّة سيكون من الممكن بناء المملكة البشرية المثالية.
هذه الطريقة في التفكير تكون مُقنِعةً إذا افترضنا فرضيات معيَّنة. إذا كان العالم عقلانيًّا تمامًا، وكان العقل البشري قادرًا على فكِّ تشفيره بالكامل وترتيبه بأشكال محدَّدة، وكذلك فهم نفسه كجزء من الكل، فيمكنه أيضًا استنتاج الشكل السياسي الأمثل الذي يلبِّي جميع توقُّعاته؛ وبالتالي بناء اليوتوبيا. لا شيء يمكن أن يمنع هذا في نهاية المطاف؛ لأن في واقعٍ عقلاني شفَّافٍ يجب أن ينتصر العقل، في حين أن الخطوة الأولى نحو تحقيق عالَمٍ مثالي، أو على الأقل: أفضل بشكل لا يُقارَن؛ يجب أن تكون إزالةَ العالَم القائم الذي يشكِّل عقبةً أمام تحقيق دولة التنويريِّين. نحن نعيش في مملكة الظلام والخرافات والنفاق، وعلينا أن نبني نقيضها. ومع ذلك، فإن هذه الأرض ليست حتى رؤيةً واضحة للمستقبل، بل هي -فقط- تظهر في أفق أفعالنا التي يجب أن تكون مكافحةُ الفُحش السائد مَرحلَتَها الأولى الحقيقية الواضحة؛ لأنه هو الذي أفسد الوضع الحضاري القائم. من أجل هذه المهمة يكرِّس مؤيِّدو التنوير جهودهم. في رأيهم، يكفي هدم مملكة الشَّرِّ المنتصر حتى يظهر نقيضها، وكلَّما زاد غموضه؛ كلَّما كان أكثرَ جاذبية. رغم أن مثل هذا المسعى يمكن أن يكون شاقًّا ويستغرق وقتًا طويلًا، إلا أنه حتمًا سينجح في النهاية.
هذه الصورة للواقع تظهر عندما نفترض عقلانيَّته المطلقة؛ وبالتالي ندرك الآليات التي تحكمه. شرط شفافية الأمور البشرية (وليس فقط البشرية) المفهومة بهذه الطريقة كان إبعادَ الله عن أفقهم. يمكنه أن يظلَّ على الأكثر كساعاتي أو مهندس عظيم، كما هو الحال في المفهوم الرُّبوبي للكائن الأعلى، مَن يضبط آلية العالم التي تعمل تلقائيًّا منذ ذلك الحين.
عندما نتبنَّى هذه الافتراضات، يبرز سؤالٌ لا توجد إجابة صحيحة له: لماذا مثل هذا الإنسان العقلاني خلق لنفسه مثل هذه الحضارة اللا عقلانيَّة؟ تفسير ذلك بأنه استسلم لتصوُّراته الخاصة التي أُسقِطَت عليه من الأصنام المختلفة، أو بخدعة من الكهنة والملوك، الذين نشروا الجهل والخرافات، يبدو كأنه عُذرٌ لا يصمد أمام النقد. إذا اعتبرنا الإنسان كائنًا عقلانيًّا بالكامل، فلماذا وافق على أن يتمَّ استخدامه على الدوام من مجموعات قليلة؟ لماذا وُلِد المستنيرون بعد ثمانية عشر قرنًا من ميلاد المسيح، وإذا كانوا قد ظهروا قبل ذلك، فلماذا لم يتمكَّنوا من الانتصار؟ لماذا استمرَّ الإنسان طيلة هذا الوقت في عدم النضج الذي يُلامُ عليه؟
إذا كان ذلك مرتبطًا بالتَّطوُّر الطبيعي لحضارته، فالتَّعرُّف على هذه العملية خلال حدوثها لا يمكن أن يتمَّ، سواء عن طريق الناس الذين يكونون مادَّةً لها، أو المبتكرين الذين ليسوا على دراية كاملة بأفعالهم؛ فإن الوعي بهذه الحقيقة سيقوِّض المفهوم البسيط للعقلانية الشفافة. ربما سنحقِّقها يومًا ما، لكن كيف لنا أن نعرف إذا لم نكن فقط نُصادِرُها الآن؟ هناك الأسئلة تتضاعف، لكن فلاسفة التنوير لم يهتمُّوا بتلك الأسئلة بالخصوص (لاحقًا سيعالجها هيجل وخلفاؤه، ولا سيَّما اليساريُّون منهم) لكنهم تلهَّفوا على إنشاء مدينة الإنسان بدلًا من مدينة الإله. في الواقع فإنهم كانوا معنيِّين في الغالب بإصلاح النظام القائم الذي كان يعوق إنشاء مملكة الإنسان. إلا أن الإصلاح كان يعني استبدال أساساته. بَدَا العالم العقلاني بديهيًّا لدرجة أنه كان كافيًا لمحو عالم الخرافات والظلام لكي تسود أضواء التنوير من تلقاء نفسها. كان المثقَّفون يقودهم إيمانٌ بالقوة اللا محدودة لعقولهم. وإذا كانت لديهم حقيقة مثل هذه القدرات، فإن مشروع الواقع المثالي كان في متناوَل أيديهم.
يمكن للمرء أن يتَّهم هذه الملاحظات بأنها تناسب -فقط بالكاد- عصرَ التنوير الفرنسي، وتختلف عن نسخته البريطانية أو الأمريكية. يمكن الإشارة إلى أن شكوكية ديڤيد هيوم هي أحد أُسُس التيار المحافظ الحديث. كتبت جيرترود هيملفارب في كتابها «الطرق إلى الحداثة» بشكلٍ مُقنِع عن الأشكال الوطنية المختلفة لهذه الحقبة. كان الهدف للمُؤلِّفة -التي صاغته بوضوحٍ- هو انتزاع احتكار الفرنسيين للتنوير.
والموضوع ليس فقط أن الإنجليز، الذين كان يحب الفرنسيون الإشارة إليهم، سبقوهم من ناحية الوقت والمفاهيم. المقصود هو التَّبايُن الراديكالي بين هذين العصرَيْن في البلدين اللذين تفصلهما القناة، والنموذج لنسخة التنوير الإنجليزية كان أحدَ أسباب اختلاف طابعه في الولايات المتحدة.
الاستنتاجات المذكورة أعلاه قد تبدو مُبالَغًا فيها، حتى فيما يتعلَّق بالتنوير الفرنسي. على أي حال، بما يخصُّ مُمثِّليه البارزين، الذين لا يسهل تقييدهم في قوالب مُحدَّدة؛ لكونهم مُفكِّرين مُميَّزين، تتطوَّر أفكارهم، وغالبًا ما يشكِّكون هم أنفسهم في افتراضاتهم- هذا صحيحٌ، حتى بالنسبة لفلاسفة مثل ڤولتير أو دينيس ديدرو.
إلا أنه هناك شيء مشترك في هذا العصر، وخاصَّة في فرنسا، شيء يسمح بمعاملته باعتباره فصلًا مميَّزًا في التاريخ. علاوة على ذلك، اعترف مُمثِّلو التنوير الفرنسي أنفسهم بأنهم يكوِّنون مذهبًا واحدًا، وعرَّفوا أنفسهم عَلَنًا بهذه الطريقة. لقد كانوا في النهاية (les philosophes) الذين أعلنوا الحرب على النظام الإقطاعي، وخاصة على مؤسَّسته الرئيسة، أي الكنيسة الكاثوليكية. الإحساس بهذه المهمة المشتركة -على الرغم من اختلافات في وجهات نظرهم حول مسائل محدَّدة- بنى وحدتهم. سمح لهم بأن يؤنِّبوا بعضهم البعض إذا كانت خطاباتهم ستضرُّ بمَهمَّتهم المشتركة. هيلفيتيوس حثَّ مونتسكيو على التَّخلِّي عن نشر «روح القوانين». من الواضح أن كاتب البحث انفصل عن الجبهة المتحدة للـ(les philosophes). تعرَّض للانتقاد من قبل ڤولتير وكوندورسيه وچان چاك روسو، وتَبايُنه يبدو واضحًا، خاصة في الفترة اللاحقة. الأمر لم ينطبق فقط على مونتسكيو، بل إن ڤولتير اتَّهم روسو (لأسباب وجيهة من وجهة نظره) بالانحراف وتقديم الحجج لأعداء التَّقدُّم، في حين أنه من المفترض أن يكون (les philosophes) من مناصريه.
لم يكن لديهم إحساس بمَهمَّة مشتركة فحسب، بل أيضًا بتفرُّد وروعة حقبتهم التي كانوا ممثِّلين بارزين لها. كفاحهم ضد الخرافات والتَّعصُّب اللذين تجسَّدا في الكنيسة الكاثوليكية سيحقِّق النتائج في المدى القريب. ذلك العالم على وشك الانتهاء، وسوف يحلُّ محلَّه أنوار التنوير.
أجل، إنهم يختلفون في وجهات نظرهم حيال الأمور المهمة، لكنهم مُتَّحدون في تحدِّي التقاليد السائدة في الحاضر والماضي. يهاجمون في المقام الأول أساسَها الديني، أي المسيحية. كراهيتهم تجاه الأديان القائمة أمرٌ لا لَبْسَ فيه. بدلًا من ذلك، غالبًا يريدون إنشاء ديانة «طبيعية»؛ وبالتالي الديانة التي خلقوها بأنفسهم. أحيانًا ينسبون ميزاتها إلى بعض الأنظمة الغريبة، مثل الكونفوشيوسية، التي لا يعرفون عنها سوى القليل، ولا يبدو أنهم مهتمُّون بها.
قد يجادلون حول طبيعة الإنسان وحدود العقل البشري، لكنهم يهاجمون -سويًّا- جميع أشكال عقيدة الخطيئة الأصلية أو عدم الكمال البشري الفطري. بوجه عام، يرفضون كلَّ أسرارٍ يخفيها العالم عن الإنسان. جميع المسائل يجب أن تقف أمام «محكمة العقل» التي ستحكم عليها بشكل حيادي ونهائي. رغم أن العقيدة النفعية سيتم صياغتها لاحقًا في إنجلترا، (les philosophes) يمارسونها (avant le lettre) (قبل أوانها). كل شيء لا بُدَّ أن يخضع لمصلحة الفرد في أبسط أشكال هذه العقيدة. أخلاقيات الفضيلة من المفترض أن تُفسِح الطريق للقيم الاجتماعية المحددة بدقَّة (يختلف روسو اختلافًا جوهريًّا في هذا الشأن وغيره). تسود النزعة الفردية الاجتماعية. صحيح أن الإنسان يفهم أحيانًا في سياقه الجماعي، إلَّا أن جميع الجماعات يُنظَر إليها كمجموعٍ للأفراد، ويتمُّ اختزال جميع الأحكام الأخلاقية إلى مدى نفعها. هذا لا ينطبق فقط على فرنسا.
ربما يكون التعارض الأكثر تميُّزًا في عصر التنوير هو التضاد: طبيعي-اصطناعي. الطبيعة حكيمة ومفهومة، الثقافة القائمة اصطناعية وتشوِّه الكمال.
كان التنوير الفرنسي يشكِّل في ذلك الوقت المناخ الروحي لأوروبا، وأصبح أساسَ الحداثة. مع الاعتراف باختلاف تجسيد النموذج البريطاني والأمريكي عن الفرنسي، تجب الإشارة إلى أن منظورًا ليبراليًّا فرديًّا بدأ يُهَيمِن هناك أيضًا، وهو -إلى جانب العقلانية الراديكالية- قاد عالمنا في الاتجاه الذي يسير فيه الآن. لمدة طويلة لم تستخلص هذه الليبراليةُ العواقبَ النهائية من تعاليمها. كان مناصروها متأصِّلين في الثقافة التقليدية التي اعتبروها أمرًا مسلَّمًا به جنبًا إلى جنب مع مبادئها، وذلك بالاضافة إلى الدين (معظمهم على الأقل)؛ ما جعل موقفهم -مثل موقف عامَّة الناس- غيرَ مُتماسِكٍ، وكان -إلى حدٍّ كبير- اندماجًا مع الجمهوريانية. لحسن الحظ.
حدَّد التنوير الفرنسي أعداءه بشكل قاطع، وتجلَّى ذلك في الشعار الشهير لسيده ڤولتير، الذي كرَّر، على غرار كاتو الأكبر، في نهاية رسائله، مُشيرًا إلى المسيحية: (Écrasez l’infâme!) (اسحقوا العار!). في إحداها يصيغ موقفه على النحو التالي: «المسيحية ديانة مُخزيَة، هيدرا حقيرٌ يجب سَحقُه من قِبَل مئات الأيدي غير المرئيَّة. من الضروري أن يخرج الفلاسفة إلى الشوارع لتدميرها، كما يجوب المبشِّرون حول الأرض والبحار للتبشير بها. يجب أن تأتيهم الجرأة على فعل أي شيء، وأن يخاطروا بكل شيء، بل وحتى أن يحرقوا؛ لهدمه».
يمكن تبرير تطرُّف (les philosophes) بالظروف المحيطة بهم. جميعهم تعرَّضوا للتهديدات من قِبَل السلطات في ذلك الوقت، وخاصة السُّلطات الدينية. معظمهم حُكم عليه بالسجن (لم تكن عقوبات صارمة). الكثير منهم اضطرَّ إلى الفرار من البلاد خوفًا من الاضطهاد، والعديد من أعمالهم تعرَّضَت للحظر أو الحرق علانية.
القضية الأشهر في فرنسا آنذاك كانت حُكمًا بالإدانة على تاجر كالڤيني صغير بريء من تولوز، اسمه چان كالاس. بعد محاكمةٍ تعرَّض فيها للتعذيب -رغم أنه لم يُقرَّ بالذنب- تمَّ إعدامه عام 1762، عن طريق تكسير عظامه بعجلة تعذيبٍ، وتمَّ حرق جثمانه. اتُّهِم بقتل ابنه، الذي -حسبما زعموا- أراد التَّحوُّل إلى الكاثوليكية. في الحقيقة إن ابنه انتحر عندما مُنِع من ممارسة مهنة المحاماة بسبب اعتناقه الكالڤينية. في الحملة ضد كالاس، التي كانت ذاتَ طابع دينيٍّ صارخ- لعبت الرهبنة الدومينيكانية في تولوز دورًا سيِّئ السُّمعة. بعد أربع سنوات تمَّ إعدام فرانسوا چان دي لا باري بعمر عشرين عامًا، بعد تعرُّضه للتعذيب، وكان قد اتُّهِم بتدنيس المقدَّسات. أحد أدلَّة إدانته في القضية كان قاموس ڤولتير الفلسفي الذي وُجِدَ لديه. قضية أخرى تُذكِّرنا بمحاكمة كالاس كانت اتهامَ بيير بول سيرفن (الذي كان أيضًا بروتستانتيًّا، وجميع عائلته) بقتل ابنته المريضة عقليًّا. نظرًا لهروب عائلة سيرفن إلى الخارج، حُكِم عليهم غيابيًّا؛ حُكِم على الوالدين بالاعدام، وعلى البنات بالنفي. لكن بعد تدخُّل ڤولتير، وطلب الاستئناف؛ تمَّت تبرئتهم، وذلك في عام 1771. وقبل ذلك بسِتِّ سنوات، برَّأ المجلس الملكي كالاس بعد وفاته، ومنح الملك عائلته معاشًا كبيرًا كتعويض.
أكتب عن ذلك بتفصيل كبير؛ لأن هذه الأمثلة يمكن أن تكون بمثابة مادة للمقارنة التاريخية. لقد تسبَّبَت في سخط ماحقٍ، وذلك ليس فقط في فرنسا. وُثِّقَت التَّعصُّب والفظائع التي ارتُكِبَت باسم الدين. إلَّا أنها أظهرت أيضًا التأثير الإيجابي للقوانين والمعاملة الجادَّة للعدالة. بعد ثلاثين عامًا، خلال الثورة، لم يَعُد لدى السلطات الجديدة أي تردُّد. عشرات الآلاف من القتلى بالمقصلة أو الإبادة الجماعية المخطَّطة والمنفَّذة بشكلٍ منهجيٍّ في فونديه أثبتَت هذا التغيير.
لا أريد بأي حال من الأحوال أن أختزل الثورة الفرنسية كلها في إطار واحد. أكثر من ذلك، لا أريد أن أحمِّل فلاسفة عصر التنوير مسؤوليَّة وِزر جرائمها. أريد فقط أن أُظهِر التَّناقُض بين العالم الذي يعيش ويتطوَّر بإيقاع طبيعي مميَّز (ولكن ليس بمعنى التنوير)، وبين تنويعه المبتَكَر والمخطَّط. الأخير لا بُدَّ أن يسير في اتجاه لم يتوقَّعه المخطِّطون، ولم يتمَّ تصحيحه بواسطة المبادئ التي استقرَّت خلال المدة الطويلة لبقاء الحضارة الإنسانية.
ڤولتير كان راديكاليًّا. كثيرًا ما يتمُّ ذِكر مقولته: «إذا لم يكن الله موجودًا، فسيكون من الضروري اختراعه»، التي ينبغي اعتبارها تعبيرًا عن نوع من الوسطية الأيديولوچية- السياسية. الشرح الذي سبق ذلك أقلُّ شُهرةً. «أريد من محاميِّي وخياطِيِّي وخَدَمي -بل وحتى زوجتي- أن يؤمنوا بالله؛ لأنني حينها سأتعرَّض للغشِّ والسرقة والخيانة بشكل أقل».
تُظهِر هذه العبارةُ النَّزعةَ الأبوية اللافتة للنظر عند مفكِّري عصر التنوير، التي ستصبح علامة مُسجَّلةً لدى الطليعة المناضلة من أجل المساواة والتَّحرُّر. لم يتغيَّر شيء في هذا الصدد إلى يومنا هذا. يبدو الأمر متناقضًا، لكنها مجرد مظاهر.
«لا يجب أن نعتمد على رأي الجمهور في مسائل التفكير والفلسفة؛ صوت الجمهور شرير وغبي ولا إنساني ومتحيِّز. الجماهير جاهلة وحمقاء. لا تَثِقوا فيهم في المسائل الأخلاقية»- هذا ما قاله ديدرو. لا أقول إنه لا يشير إلى المخاطر الحقيقية التي كتب عنها مُواطِنُه جوستاڤ لوبون، بعد حوالي مائة عام في «سيكولوچية الجماهير». مؤلِّف «چاك القَدَري» بالطبع لم يقصد ظاهرةً معيَّنةً عند الكتلة البشرية التي يمكن أن تُشعِل مشاعر ومواقف مُميَّزة في حالة الاتحاد المؤقَّت، مصطلح «الجماهير» عنده يجب ترجمته على أنه «العوام». ومرَّة أخرى يمكننا أن نتَّفق بأن البشر -ككلٍّ- لا يميلون بشكل خاص إلى التفلسف، وكذلك إلى التأمُّلات الأخلاقية. يبقى السؤال حول ما هي الاستنتاجات التي ينبغي استخلاصها من هذا.
كان (les philosophes) شديدي الغضب من حقيقة أن الناس لم يتبعوا أفكارهم المستنيرة، وخاصة أنهم «لكونهم ممتلئين بالأحكام المسبقة» لا يريدون رفض المسيحية. في حين أن: «كل إنسان عاقل وصالح يجب أن يشعر بالاشمئزاز من الطائفة المسيحية» كما كتب ڤولتير. يبدو ذلك غير مُتَّسِق مع تصريحه عن الحاجة إلى الله. لكن صاحب «كانديد» أثبته فقط بضرورة إحكام السيطرة على العوام، بالإضافة إلى زوجته الخياَّلية (حيث إنه ظلَّ أعزبَ حتى وفاته). حقيقة أنه لم يدرجهم من بين «العاقلين والصالحين» تبدو غيرَ مشكوك فيها.
وفي هذا السياق، تصريحه التالي يبدو منطقيًّا: «لم نتظاهر قطُّ بأننا كنَّا نحاول تنوير صانعي الأحذية والخَدَم؛ تلك وظيفة الرسل». تدفُّقات العاطفة الأدبية التي سمحت له بالظهور بمظهر الرسول لم تتجلَّ إلَّا على الورق. ڤولتير، أو ديدرو، أو دا لمبرت- بالطبع كانوا يفضِّلون استنارة فريدريك الثاني وكاترين الثانية. لا غرابة؛ فهي بالتأكيد تضمَّنَت المزيد من المكافأت المادية.
بدون أن نحاصر أنفسنا باتهامات مُرسَلة، ينبغي أن نتَّفق أن المستبدَّ المستنير هو هدية من السماوات لمفكِّر القرن الثامن عشر (وليس وحده)، الذي لديه مشروع شامل وفريد لإصلاح العالم. السياسة العادية يجب أن تأخذ في الاعتبار اتجاهات عامَّة الناس، حتى الرَّعيَّة، الذين تُشكِّلهم تقاليد مُظلِمة ومكروهة عند المستنيرين. الحاكم المترسِّخ في هذه التقاليد مُقيَّد بالعادات والدين، وحقيقة أنه أحيانًا يخالف المعتاد ليست القاعدةَ، بل الاستثناء. السُّلطة في الأنظمة الملكية جزءٌ من نظام عضوي، ليس فقط من الناحية الاجتماعية، بل أيضًا الكونية، الذي يفرض القوانين ويحدُّ من تعسُّف الحُكَّام. لقد تخلَّى الطُّغاة المستنيرون عن هذه المبادئ، واعتبروها خرافات؛ وبالتالي لا يتعيَّن عليهم أخذها في الحسبان. من الواضح أن (les philosophes) كانوا يسعون إليهم في البلدان الواقعة على أطراف الحضارة الغربية ذات التقاليد المدنية غير المستقرَّة. كان مثل هؤلاء الملوك أكثر ميلًا إلى إجراء تجارب لإعادة تشكيل الهيكل الاجتماعي بأكمله، وكان مستشاروهم الفكريون يُمنُّون أنفسهم بأنهم سوف يلعبون دور المرشدين الفكريين في هذه العملية، وليس فقط دورًا يلعبونه من وراء الستار. حقيقة أن الحكام ومرشديهم كانوا يشعرون بخيبة أمل فيما بينهم لا ترجع فقط إلى عدم توافُق توقُّعات كِلَا الجانبين، التي حدثت عاجلًا أو آجِلًا، بل وأيضًا إلى أن تلامذتهم المسؤولين عن الدولة -الذين كان عليهم أن يمارسوا السياسة على أساسٍ يومي- لم يكونوا راديكاليِّين بما فيه الكفاية كما توقَّع مُعلِّموهم. كاترين الثانية ألقت المشروع الاجتماعي الذي كلَّفت ديدرو بكتابته في القمامة، واعتبرته كائنًا مُشوَّهًا ومدمَّرًا تمامًا.
ومع ذلك، إذا فهمنا أن دينًا فاعلًا يضمن النظام الاجتماعي، وبيان ڤولتير يجب أن يُفهَم على هذا الأساس؛ فرغبته في تدميره التي يعلنها في كل مناسبة تبدو مدهشة. إذا أخذنا ملاحظات ديدرو على مَحمَل الجدِّ؛ يجب علينا أن نفكِّر إذا كان الأشخاص الذين لم يبلغوا مستوى التفكير الأخلاقي يجب ألَّا يعتمدوا على المبادئ الدينية والاجتماعية المتجذِّرة على المدى الطويل والمجرَّبة مرَّاتٍ عديدة- وهذا لا يعني أنها مُعفاة من التهديدات. هَدمُها قد يؤدِّي إلى كارثة. ليست هذه هي التناقضات الوحيدة في آراء المستنيرين.
لم يَعِش ڤولتير أو ديدرو ليشهدا ماذا حدث للناس الذين أنكروا «الانحيازات الدينية»؛ لأن هذا هو العنصر الأساسي للثورة. من المحتمل أنهم كان سينتهي أمرهم حينئذ بشكل سيِّئ، ومن شبه المؤكَّد أن التاريخ الذي يحدث أمامهم (وليس هذا فقط) لم يكن ليعلِّمهم شيئًا. كما في حالة كوندورسيه، الذي كان يكمل عمله الرئيس «بلورة مشروع تاريخي لتقدُّم الروح البشرية» وهو يختبئ في السجن عام 1794 قبل وفاته.
لأنه، حتى وإن كان التَّحفُّظ تجاه ممارسة الثقة المفرطة في عقلية الناس وأخلاقهم يبدو منطقيًّا؛ فينبغي أن نظهر على الأقل نفس التَّحفُّظ في مواجهة الإيمان بالكفاءات الخاصة للمثقفين الذين يعلنون أنفسهم على أنهم منقذو البشرية. هذه الشكوك تُعزِّزها أحداث التاريخ التي تكشف الحالة الذهنية لـ(les philosophes) في القرن الثامن عشر، ومواقف الثوار في القرون التالية، أو عقليَّة كلِّ مُمثِّلي الطليعة والنُّخَب الذين يُحرِّرون البشر من حالتهم السابقة. هذا السلوك دائمًا ما يكون مصحوبًا بفخرٍ غير محدود، بقدر ما هو غير مُبرَّر، بالإضافة إلى احتقار لهدف أعمالهم؛ ما يسمَّى بالعوام.
الطريقة المتعالية تجاه الطبقات الدنيا من قِبَل المحرِّرين هي أكثر إثارة للدهشة؛ لأنها تمارَس في نفس الوقت من هؤلاء الذين يغضبهم الفساد والتفاوت الاقتصادي. إنهم يرتقون إلى أقصى المستويات في خطاباتهم الأخلاقية من أجل إدانة الضرر الواقع على الناس، بالإضافة إلى نفاق الثقافة الرسمية، التي برأيهم تبرِّر هذا الشَّرَّ وتخفيه، وإذلالهم يثير سخطهم، بينما في نفس الوقت يُظهِرون غطرسةً لا تُصدَّق تجاههم.
عندما أعلن المثقفون الفرنسيون في القرن الثامن عشر ازدراءهم للدين، كان لديهم نفس المشاعر تجاه مُعتَنِقيه، أي جميع سكَّان بلدهم. مَهمَّتهم كانت تحريرَ العالم من الخرافات، وبما أن الخطوة الأولى لذلك كانت تحرير أنفسهم، وهو ما فعلوه في تقديرهم؛ فقد شعروا بالفجوة بين استنارتهم وجهل الباقين. هذا الموقف لم يتغيَّر بأي شكل من الأشكال حتى الآن. مثلما لم تتغيَّر أُسُس برامجهم، التي هي هدم الأشكال الثقافية القائمة.
ڤولتير، المثقف، المتشكِّك كما يبدو، شعر بكراهية شديدة تجاه الدين الذي شكَّل نظام الحضارة الغربية. المؤلِّف، الذي تجنَّب إظهار التَّطرُّف في خطاباته الأخرى، يبدو لنا في هذا الصدد الأساسي للثورة كأنه راديكاليٌّ ثوريٌّ. لأن -الأمر يستحقُّ التكرار- الثورة هي في المقام الأول شغف بالتدمير. جميع مشاريعها المستقبلية تَبيَّن أنها سرابية وغير حقيقية، الشيء الوحيد الملموس هو الدمار.
«لن يكون الإنسان حرًّا أبدًا حتى يُشنَق آخرُ مَلكٍ بأحشاء آخِر كاهن»- كما كتب سيد المفارقات، الأنيق: ديدرو. كما نرى؛ إنه لم يُبدِ كَياسةً تجاه خصومه. هؤلاء الأعداء هم الذين حدَّدوا الآفاق الفكرية لـ(les philisophes) إلى حدٍّ كبير. القطب المتطرف كان بالنسبة لهم هو نظام الحضارة السائد في ذلك الوقت، المستند إلى الدين المسيحي.
رسَّخ التنويريون عقيدةَ التَّقدُّم، التي وُلِدَت قبلهم بأكثر من مائة عام، أي التغيير المستمر للأفضل والتَّطوُّر الحتمي وتحسين الجنس البشري. تمَّ التعبير عنها في عبادة الأجيال القادمة، الذين كان يفترض أن حكمهم سينصف مؤيِّدي التنوير الذين كافحوا ضد قوى التَّحيُّز والظلامية. «“الأجيال القادمة” بالنسبة للفيلسوف هي “العالم الآخر” بالنسبة للمؤمن»؛ تكشف هذه المقولة لديدرو عن سِمات الدين العلماني التي اتَّصَفت بها عقيدة التنوير. كارل ل. بيكر يكتب عن ذلك ببراعة في «المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر»، وهو يثبت بأنهم خلقوا البديل العلماني الذي حلَّ محلَّ المسيحية. رغم أن بيكر لا يرى – باللامبالاة الليبرالية النموذجية- الاختلافات الأساسية بين الدين القديم والديانة التنويرية الجديدة، الشيء الذي بالتأكيد يثير الشكوك من وجهة النظر المعرفية البحتة، إلَّا أن الوصف المركَّب لمواقف أساتذة التنوير، الذي نجده في كتابه، يعجبنا بتألُّقه وبسعة اطِّلاعه.
لم تكن فكرة التَّقدُّم خلال عصر التنوير متماسِكةً بعدُ (إن أمكن أن تكون كذلك على الإطلاق) وعملت أساسًا على تشويه سمعة «الأزمنة المظلمة» التي اعتُبِرَت في العصور الوسطى أوَّلًا، ولكن أيضًا العصر الحديث، الذي كان يمكن تبريره بظهور (les philosophes)، لكن السُّلطة الاستبدادية القائمة على المسيحية والنظام الاجتماعي المنبثق من الدين أثارا اشمئزازهم. إذا كان الملك الفرنسي سيميل إلى أفكارهم مثلما فعل فريدريك الثاني أو كاترين الثانية؛ فإنهم لم يكن ليحكموا على فرنسا بتلك القسوة.
أشار ڤولتير إلى «أربعة عصور سعيدة» في تاريخ البشرية: اليونان الكلاسيكية، وروما في عهد أغسطس، والنهضة الإيطالية بعد سقوط بيزنطة، وفرنسا في عهد لويس الرابع عشر. العصور القديمة -وخاصة جمهورية روما- تسبَّبت في حماس التنويريِّين، بشكل أساسي من حيث معارضتها للعصر المسيحي الذي تلاها. أعظم عمل تاريخي في هذه الفترة «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» كتبه إدوارد جيبون وهو مدفوعٌ ليس فقط بالحنين إلى تلك الروعة الأسطورية؛ ولكن أيضًا بسبب كرهه «للهمجية» المسيحية التي دمَّرَتها.
عبادة روما الجمهورية التي مُورِسَت في أواخر عصر التنوير ستصبح مشهدًا مميَّزًا للثورة الفرنسية، التي ستَّتخذ شكلها النموذجي على لوحات داڤيد.
التاريخ في عصر التنوير صار موضوعَ اهتمامٍ خاصٍّ، ولكن عندما نلقي عليه نظرة فاحصة يتبيَّن أن الأمر لم يكن عن التاريخ بشكل رئيس، بل عن استخراج مبرِّرات منه لمُثُل التنوير. المفوَّه ڤولتير كتب أن التاريخ لن يكون له أي معنى إذا كان يتناول حُكمًا بربريًّا قبل الآخر، أو (Quancum) يتبع (Kincum)، أو بالعكس. هذه الحجَّة تبدو مُقنِعَة بالنسبة للقارئ المعاصر، لكن التَّأمُّل فيها يثير السؤال: ماذا في المقابل؟ لا يمكن العثور على المعنى المحتمل للحقائق إلا بعد الكشف عنها وتوصيفها بدقَّةٍ، والتحليل المتشكِّل على هذا الأساس. ڤولتير ورفاقه يقترحون نهجًا بديهيًّا في معاملة التاريخ الذي لا يسمح لنا كثيرًا بالتفكير فيه، ولكنه يمنعه، ويجعل منه أداة أيديولوچية. إذا كان التاريخ سيفيد أي غرض، سواء سمَّيناه الأخلاق أو التَّقدُّم أو أي مُسمًّى آخر؛ فإننا نتوقَّف عن البحث عنه ونبدأ في استخدامه لتبرير مُثُلنا. نتوقَّف عن تفسير العالم.
هذا هو نهج التنويريين النموذجي. لقد انتقدوا التاريخ بسبب ارتباطه بالحقائق وتجميعها من أجل ذاتها، بينما -من وجهة نظرهم- لن تكون هذه الحقائق مثيرةً للاهتمام إلَّا إذا صارت أساسًا لمعرفة مؤكَّدة، وبناءً لأخلاقيَّات طبيعية جديدة. إلَّا أنه كيف يمكننا أن نعرف الاستنتاجات التي ستوصلنا إليها الحقائق قبل أن نتعرَّف عليها؛ وبالتالي ما هي المعارف التي ستبني على أساسها؟ يتجاهلها فقط أتباع أيديولوچية معيَّنة، الذين لديهم تفسيرات سابقة التجهيز لجميع ظواهر الواقع، أمَّا خبراتهم فيستخدمونها فقط على سبيل التوضيح.
موقف المثقفين التنويريين الذين يتعاملون مع التاريخ (أو على الأقل معظمهم؛ لأنه هذا لا ينطبق -على سبيل المثال- على باحث بارز، رغم انحيازه، مثل جيبون) يشبه موقف لينين، الذي تحدَّث عن “الحقائق السخيفة” بازدراء.
الشكل الأكثر تطوُّرًا لتجاهُل التجربة سنجده عند العديد من الفلاسفة العقلانيِّين. إلى حدٍّ ما تستند إليه الميتافيزيقا المثالية بأكملها. هي بحثٌ عن معرفة ثابتة ودائمة، لائقة بعقول نخبوية، وترتبط بموقف تأمُّلي؛ وبالتالي تنأى بنفسها عن العمل والمسائل الاجتماعية. تغيَّر الأمر مع ظهور اليسار الهيجلي، وبالأخص ماركس وأتباعه. في حالتهم، الرفض الفعلي للتجربة (لأنهم أشاروا إليها على شكل تصريحات) كان شرطًا من شروط بناء المشاريع الأيديولوچية. مثل هذا الموقف ضمن نقاء العقيدة والنظام المبني عليها، وأزال كل الشكوك. سيصبح هذا النهج -وبشكل أكثر تعقيدًا- أساسًا لـ«المدرسة النقدية» الهامة جدًّا للأيديولوچية السائدة حاليًا، والمستمَدَّة من چورچ لوكاش ومفكِّري مدرسة فرانكفورت.
مقدِّمة كتاب «التَّمرُّد والتَّقبُّل» (مُقتَطَف)
يبدو أن التَّمرُّد والتَّقبُّل هما قطبا الصراع الذي يقسم حضارتنا اليوم. إنها قضية أساسية، وليست أفعالَ معارضة أو تأييدٍ عرضيَّة. تلك تعتمد على أوضاع محددة وظروف تاريخية. في حين أن المعارضة الأولية التي أكتب عنها ذات طبيعة ميتافيزيقية. الأمر يمكن اقتصاره إلى قبول أو رفض العالم في شكله الأساسي المعطى لنا بشروطه المبدئية.
التَّقبُّل لا يعني أن نغضَّ الطرف عن الشر الذي نعيشه والمتأصِّل في طبيعة الإنسان؛ على العكس تماما، فقط تقبُّل العالم ككلٍّ يسمح لنا بمعارضة جوانبه السلبية بفهم؛ وبالتالي بشكل فعَّالٍ إلى حدٍّ ما.
علينا أن نتقبَّل بأن الشَّرَّ هو عنصر دائم في الحياة، ومرجعيَّة لجميع أفعالنا. يجب أن نقاومه قدرَ الإمكان، ولكن بدون أي أوهام أننا قادرون على القضاء عليه كلِّيًّا وتحقيق مملكة الإنسان على الأرض. كل هذه المحاولات انتهت دائمًا إلى كوارث وانقلبت ضد نواياها. حدودنا المعرفية، وبالتالي جميع الحدود الأخرى، جزءٌ لا يتجزَّأ من الثقافة. فهمها يعني القبول بالبعد الذي يتجاوزنا. نشارك فيه في مقابل جهودنا التَّضامُنيَّة كأعضاء في المجتمع، الذي هو بيئتنا الحضارية. التَّضامُن هو تَفاهُم أننا نعتمد على الآخرين، ونتحمَّل المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
التَّقبُّل يعني الاعتراف بقصورك الإنساني وحدودك. إنه لا يستلزم القبول بالشر، ولكن إدراك قدراتنا وتحدياتنا ومسؤولياتنا التي يمكننا أو ينبغي علينا تحمُّلها.
التَّقبُّل هو الاعتراف بمصيرك. نحن نولَد في مكان وزمان مُحدَّدين، والاختيار ليس في يدنا. ذلك ليس عبثًا، كما أعلن الوجوديون، ولكنها مَهمَّة وُكِّلَت إلينا. هذا لا يعني أن أحدًا (أو شيئًا ما) قد كلَّفَنا بها، على الرغم من أن تبنِّي مثل هذه الفرضية لا يقلُّ شرعيَّةً عن رفضها. ولكن الأمر في هذه الحالة هو فقط إطار الوجود الذي يبني طبيعتنا الإنسانية؛ وبالتالي يخلقنا، ويحدِّد عالمنا وحياتنا فيه، ويمنحه قالبًا.
نولد كرجُلٍ أو امرأة بقدرات جسديَّة وفِكريَّة مُعيَّنة. يمكننا التغيير كثيرًا بالمجهود والعمل والانضباط، لكننا غير قادرين على تجاوز الحدود التي تضعها البيولوچيا. وهذا يجب أن نقبله أيضًا، حتى ولو كان من أجل أن نفهم وضعنا ونستخدم المعلومات الموجودة تحت تصرُّفنا؛ وبالتالي نحقِّق ما في وسعنا.
الثقافة تنبثق من الطبيعة كمحاوَلةٍ لمقاومة ضغوط قواعدها الأكثر قسوة، وحماية الناس منها، وجعل البيئة المحيطة ودية؛ وبالتالي فهم العالم والدخول معه في علاقة خاصَّة للبشر، أكثر حميمية وعقلانية. الحضارة ليست إنكارًا للطبيعة، بل هي استخراج المعنى الذي يمكن للإنسان أن يفهمه من العالم، وتحويله وفقًا لاحتياجاتنا. من ثم؛ هذا إلى حدٍّ ما يُعتبَر معارضة للطبيعة. عنصر المقاومة لها كان موجودًا في أفعال الناس منذ البداية، لكنه لم يؤدِّ إلى نفيها، ولا إلى سراب بروميثيوسي لبناء عالمنا من جديد، بينما في الحداثة بدأ يسير في هذا الاتجاه.
التعارُض بين التَّمرُّد والتَّقبُّل يمكن فهمه بالإشارة إلى هذا السؤال: مَن هو الإنسان، وما هي أهداف وجوده، سواء في بُعدِه الجَماعيِّ أو بُعده الفردي، الذي له دائمًا شكل اجتماعي؟ لذا فالسؤال هو: مَن هو (أو ينبغي أن يكون) الأوروبي أو الأمريكي أو المسيحي أو البولندي؟
الإجابة التقليدية عليه نشأت من تقبُّل العالم وطبيعة الإنسان، وجعلته يكتشف جوهره والأهداف الناتجة من هذا الجوهر، التي تتجسَّد فيما يخصُّ الأفراد الموجودين في المجتمعات. الوعي الحديث الذي تَشكَّل في روح التَّمرُّد البروميثيوسي يتطلَّب بأن يخلق الإنسانُ نفسَه بشكل مستقلٍّ، ويختار الأهداف التي يسعى لتحقيقها. لا يمكن إجراء هذه العملية بشكل متماسك. إنها تمنح الإنسان مكانةً إلهيَّةً لا يمتلكها، ولا يمكنه بلوغها. عندما نحاول تحقيق الوهم البروميثيوسي عن خلق الذات، نستسلم لتصوُّرات أيديولوچية وبيئية. وعندما نحاول الانفصال عن الأُسُس الحضارية التي تُحدِّد هويَّتنا، فإننا نبني هويات عشوائية ومؤقَّتة للغاية.
نظرًا لحقيقة أننا كائنات اجتماعية، فإن أفق وجودنا تعرفه الثقافة واللحظة التاريخية المحدَّدة التي نعيش فيها. إنها تُحدِّد بشكلٍ كبيرٍ طريقتَنا في التَّعامُل مع الواقع. نظهر كأعضاء في مجتمعات معيَّنة: الأسرة، المجتمع والأُمَّة. فيها نصبح بشرًا، نتعلَّم وننضج. عندما نبلغ مستوى معيَّنًا من التَّطوُّر، نستطيع أن نتحدَّاها. غير أنه اختيار راديكالي. أي شخص حاول تحقيقه أو شاهد مثل هذا المسعى -وهو قادر على اتخاذ الجهد الفكري المناسب لفهمه- لا بُدَّ أن يدرك مدى صعوبة وتفرُّد المهمَّة، كم من الجهد يتطلَّبه بناء هوية جماعية جديدة (والتي بدونها لا يمكن لإنسان أن يعيش)، وكم من النادر يتحقَّق النجاح كاملًا. الانفصال عن هويتك القديمة ليس نهائيًّا أبدًا.
نحن دائمًا نظلُّ أبناء عصرنا وقالبه الثقافي؛ ننتمي إلى نوعٍ واحد، ونتميَّز بطبيعة واحدة، تسمح لنا -إلى حدٍّ ما- بتجاوُز ظروف حضارتنا وفهم تجارب الآخرين. مثل هذه التجارب الفكرية مُهمَّة وضرورية. إلَّا أن هذا الفهم لا يجعلنا مواطني ثقافات مختلفة. نولد في لحظة تاريخية مُعيَّنة، تحدِّد أيضًا إطارَ أفعالنا، وتُعرِّف التحديات التي يمكن أن نواجهها. آفاق تفكيرنا تحدِّدها -إلى حدٍّ كبير- «روح العصر». إنها لا تجسِّد المرحلة التالية من التَّقدُّم العقلي، لكنها تفرض قوالب لإدراكنا وتفكيرنا. لا يتعيَّن علينا أن نقبل بها (هذا الكتاب هو في الغالب محاولة لتحدِّي المعتقدات السائدة اليوم)، لكنه يتطلَّب الكثير من الجهد، وليس دائمًا ممكِنًا. معارضتنا سوف ترتبط بهذه الروح؛ وبالتالي ستتحدَّد بأشكالها. ستكون مُمكِنةً لأنه هناك دائمًا جنبًا إلى جنب مع المحتويات التي يقدِّمها عصرنا، أنماط ثقافية ومعتقدات مرتبطة بها منبوذة ومهمَّشة خارج التيار السائد. العامل الذي يسمح بمقاومة ضغوط الآراء السائدة هو استدامة الثقافة التي تحتفتظ بنماذج مختلفة من الاتجاهات والعقليات. المنظور التاريخي يمنحنا فرصة لتمييز التجسيدات الظرفية لحضارتنا عن أصولها الأساسية، والذي بدوره يتيح لنا أن ننأى بأنفسنا عن النقطة الأولى.
لهذا الغرض يجب علينا أن ندرك أهمية الطبيعة التاريخية لوجودنا، التي تستلزم خصوصية المواقف والأحكام السائدة في عصر مُعيَّن. يجب أن نفهم أن بعض خياراتنا تُفرَض علينا من خلال الظروف التي نجد أنفسنا فيها، والتي لا نستطيع الهروب منها؛ لأنه حتى لو حاولنا القيام بذلك، فإننا نحدِّد وجودنا ونؤكِّد على الأهمية الجذرية لهذه المحدِّدات التاريخية. يصبح هذا واضحًا في المواقف المتطرِّفة؛ مثل الحرب. ولكن أيضًا في ظروف أكثر اعتيادية يتمُّ تحديد مسارات حياتنا من خلال العوامل التاريخية الخارجة عن إرادتنا، وفي الغالب: قدرتنا على الفهم.
التَّقبُّل هو قبول كل تلك القيود التي تحدِّد طبيعتنا. إنه لا يجعلنا نفكِّر في مُتلازِمات مرتبطة بالهوية على أنها الأفضل، ولا يجبرنا على اعتبار مصيرنا أنه الأمثل، لكنه يسمح لنا بأن نفهم أن هذا هو الدور الذي تلقَّيناه في مسرح العالم العظيم، وعندما نرفضه فلن نكون قادرين على تلبية نداء إنسانيتنا، أي مواجهة التحديات التي سنواجهها، بغضِّ النظر عن إرادتنا.
العالم الذي نعيش فيه وُكِّل إلينا كمَهمَّة. لا يمكننا أن نجد الحرية ونعطي معنًى لوجودنا إلا في إطاره. لا نستطيع حتى أن نتخيَّل عالمًا أو إنسانًا آخر (هل سيظل إنسانًا؟). كل ما يمكننا عمله هو التصريح به. محاولة إنشاء واقع مختلف جذريًّا دائمًا ما تؤدي إلى تحوُّل سطحيٍّ، وغالبًا ما تكون صورة كاريكاتورية لما يحيط بنا في الحقيقة.
التَّقبُّل هو قبول العالم ككلٍّ؛ ممَّا يعني الشعور به وفهمه كوحدة بذاتها. أكرِّر: الأمر ليس تقدير كلِّ ما فيه؛ على العكس من ذلك، إنه المنظور الشامل الذي يسمح لك بأن تنأى بنفسك عن العيوب والظلم والشر المتجلِّي فيه؛ يسمح لك بمواجهتها.
قد يبدو أن تجربتنا مُجزَّأة وتتفكَّك إلى أجزاء منفصلة غير متطابقة غالبًا مع بعضها البعض. إننا مختلفون في ظروف مختلفة، فيما يتعلَّق بالآخرين، وفي أدوار اجتماعية متنوِّعة. نحن أشخاص آخرون عندما نخضع للعقلانية الوظيفية للمؤسسة التي نعمل فيها، وأشخاص آخرون عندما نلتقي بمعارفنا في أوقات فراغنا؛ نتصرَّف بشكل مختلف تجاه الأقارب، وبشكل أكثر اختلافًا تجاه الغرباء؛ نحن مختلفون عندما نتجوَّل في الجبال، وعندما نتصفَّح الإنترنت في المنزل. من الصعب أن نكون متطابقين في الحُبِّ وفي العمل. نفس الشيء ينطبق على الإحساس بالعالم. واقعية مدينة كبيرة شيء والإحساس بالطبيعة التي لم يَمسَسها بَشرٌ شيءٌ آخر، لكنها أيضًا تظهر لنا في عدد كبير من التَّنوُّعات التي تبدو مختلفة جذريًّا.
تَجزِئة وجودنا -الذي يعطي انطباعًا بالتَّنوُّع- يصبح كابوسًا مُتعِبًا؛ إنه يثير الاغتراب، والإحساس بالعُزلة عن أنفسنا، الذي نكتشفه بشكل مفاجئ ومُزعِج. لكن على الرغم من كوننا مختلفين جدًّا، إلا أنه لدينا دائمًا حِسٌّ بهويتنا النهائية. رغم سياق حياة الإنسان المتغيِّر جذريًّا، ووجهات النظر والآراء المتحوِّلة للواقع، بالإضافة إلى تحوُّلات الخيارات والمواقف التي تُسبِّبها- ما زلنا نشعر بهويتنا الفردية. يبدو أن إدراك ومواقف الطفل والشخص الناضج أشياء غير متوافقة، ومع ذلك نجد هذا الارتباط الغامض، الذي يجعلنا نتعرَّف على أنفسنا، في هذه التجسيدات المختلفة. عصر الاعتراض لجميع الهويات بلغ أيضًا إلى وحدتنا الذاتية. غير أن انفصامها هو أحد أعراض المرض العقلي، أمَّا رفضها فهو مَحضُ هُراء. لا يمكننا إنكار الإحساس بهويتنا منذ الولادة حتى الموت.
الوضع هنا أيضًا صحيح بخصوص موقفنا تجاه عالم بتبايُناتٍ مُذهِلة لمظاهره، يخفي طبيعته المتطابقة التي نحسُّ بها أكثر من تعرُّفنا عليها. هذا النوع من الحَدْس مفروضٌ علينا من مسألة الوجود. في قلب تجربتنا للواقع، سواء فرديًّا أو ثقافيًّا، تقع التجربة الدينية- رغم أننا لسنا بحاجة إلى أن نكون مُدرِكين لها أو نُسمِّيها بذلك التعريف. بدون الحَدْس الأساسي للاتحاد الذي يعطي الاتِّساق ويتجاوز كل ما نعيشه، لن نكون قادرين على أن نفهم أو أن نصيغ أيَّ جانب ممَّا يحيط بنا. كل شيء سوف يتفتَّت إلى سلسلةٍ من الأحاسيس التي لا يمكن فهمها؛ لأنها غير مُركَّبة بأي نظام. لا علم أو معرفة يمكن أن يكونا مُمكِنَيْن؛ لأنهما ينبثقان من الإحساس الأوَّليِّ بوحدة الظواهر التي نختبرها. كل نظام أو معنى ينبع من هذا (…)
التَّقبُّل هو محاولة لفهم العالم ومصيرنا فيه، رغم ثقل ومآسي التجارب البشرية، وينتج من القبول بطبيعتنا والواقع الذي هو جزء منه. شدَّد الرواقيون عليه إلى أقصى حدٍّ، واستوعبوه، لدرجة أنهم أطلقوا عليه «عشق القدر» (آمور فاتي). فريدريك نيتشه أعاد تفسير هذه الصيغة بطريقته الخاصة.
التَّقبُّل هو الفهم بأننا موجودون في الثقافة، ونعيش بفضلها في القوالب التي تقدِّمها لنا، وننظِّم العالم عن طريق تفسيراته. نعيش في النظام الذي أنشأته سلسلةُ أجيالٍ لوجودنا الجماعي، ولا يمكن للفرد أن يضيف إليه سوى القليل. يستند هذا الترتيب الثقافي على نظام ميتافيزيقي يتجاوز الفهم البشري، وإحساس مألوفٌ لنا بهذا النظام غالبًا ما ننفيه لفظيًّا، ولكن أفعالنا تتعارض مع ذلك- وأساس هذا النظام هو الدين.
الثقافات التي نعرفها مبنيَّة على الدين. إنه ردُّ فِعلٍ أساسي للإنسان على العالم الذي يتجاوزه. التجربة الدينية هي الإحساس بنظام وجمال الواقع الذي نحيا فيه. هذه التجارب التي لا نستطيع فهمها ولا وصفها بالكامل، تعود بنا دائمًا إلى ما هو يتجاوزنا؛ إلى الألوهية أو السُّموِّ. نشعر بالعالم كتجسيدٍ لشيء ما وراءه، بمعنى أنه وراء الفهم المباشر الحقيقي للواقع الذي تتطابق فيه الكائنات مع بعضها البعض، هي موجودة أيضًا في ترتيب مختلف؛ لا يمكننا استيعابه إلَّا بشكل حدسيٍّ، وعلى الأقل لسنا قادرين على إنارته بالعقل كلِّيًّا. نظام العالم يُفرض علينا بطريقة تجعلنا نقبل به في البداية، حتى وإن حاولنا التشكُّك فيه، وبدون ذلك لن نكون قادرين على صياغة أي أحكام، والتَّواصُل واتخاذ أي إجراءات، والحضارة والعلم أيضًا سيصبحان غير ممكنَيْن؛ لأنهما دائمًا ما يحيلاننا إلى شيء خارجي يتجاوز تجربتنا، رغم أنه يتجلَّى من خلاله.