علي إبراهيم دريوسي
كان قد حدَّدَ موعدًا للقاء معها في الساعة الحادية عشرة تمامًا أمام مدخل محطة المترو “سلون سكوير” في الجنوب من لندن. صعد من محطة “ستون بريدج” في شمال لندن إلى قطارِ المترو “خط باكيرلو”، بعد عدة محطات توجَّب عليه النزول في محطة “بادينغتون” وتغيير خط السفر والصعود إلى قطار “خط سيركيل”.
حين تكون في محطة “بادينغتون” الكبيرة، التي يعود بناؤها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد يخطر على ذهنك مغامرات “دب بادينغتون”، الشخصية الشهيرة في الأدب البريطاني للأطفال، التي ظهرت في قصة الكاتب “مايكل بوند” والذي عاش في بيته القريب من المحطة وكان قد استَوحى فكرة الحكاية في موسم أعياد الميلاد لعام 1956 لما أراد إهداءَ زوجته شيئًا، فوجدَ على أحد الأرفف في متجر لندني “دبًا قماشيًا” وحيدًا، اشتراه، سمّاه “بادينغتون” وأهداه لها.
عند المداخل والمخارج من محطة “بادينغتون” تلسعك نسمات برد قادمة من الأنفاق، تُولِّدها الوصولات والانطلاقات السريعة للقطارات، باليمنى تُحْكِم وضعَ الشال حول رقبتك، باليسرى تضغط قبّعتك على رأسك برفق، تقفل أزرار سترتك، تنظر بنزق إلى الجرائد المنسية على مقاعد الانتظار، ترنو إلى مؤخرة امرأة عابرة، تنفرج أساريرك، خطوات قليلة ويصبح الدفء سيد المحطة.
وأنت الغريب تُحدِّق في كل شيء، تحملق في اللوائح والتعليمات والإعلانات، في اتجاهات خطوط السفر وتراتبية المحطات، تنظر إلى وجوه الناس العابرة، إلى ملابسهم وحقائبهم وانشغالاتهم واستعجالاتهم، ترى وجوهًا من كل الألوان، من كل الأعمار، من كل البقاع والأصقاع، من كل المهن، تراها في حالة دفاع عن تواجدها ومكاسبها وحقوقها.
وأنت الرجل الذي تجاوز الطفولة منذ زمن بعيد تأتيك تلك الرائحة، التي طالما عذَّبتك منذ الساعات الأولى لوصولك المدينة، منذ الثواني الأولى لمرورك بهذه المحطة، تأتيك رائحة المكان العميق، رائحة الظّل والماضي، قادمة من آبار غميقة، من أنفاق عتيقة، من بقايا ذكريات عن حروب عالمية، رائحة آتية من الشحوم والزيوت، من عطر الرطوبة في الحجر، من الحديد حين يحنُّ على الحديد، من غبار الفرملة، من الاهتراء والاهتلاك البطيء لهياكل الحديد والناس والمدارج والحجر والدهان على الجدران، رائحة السفر والسرعة والوصول والصعود والهبوط والوقوف والمشي والجلوس، رائحة السؤال عن المحطة القادمة، رائحة الانتظار والهلع، رائحة الناس كل الناس، النساء والرجال والمراهقين والمراهقات، رائحة الموسيقى القادمة من كوريدورات العبور وتقاطعاتها ومنعطفاتها وارتجاجاتها، رائحة بائع الجرائد، رائحة عازف البيانو الحزين، رائحة جسد راقصة حافية، رائحة مغنية من أوربا الشرقية.
وأنتَ أيها العابر المؤقت للمحطة، قُلْ لي: ألا تشعر بها؟ نعم إنّها هي كم ظَننتها أنتَ، إنّها رائحة الروائح، أحسدكَ أنّكَ استطعتَ تمييزها، لمْ يبقَ من العمر ما يكفي لتمييز عطر الروائح المدفونة، بلى، إنّها رائحة المداجن! كلّا، إنّها رائحة الصيصان الصفراء أو تلكَ المصبوغة بالدهان الأحمر والأخضر والأزرق، وتلك المبّقعة باللون البرتقالي والأخضر الفاتح. أحسبها تقترب من رائحة مدجنة ومذبحة “أبو حنّا” في القرية، لا، لا لا، ليست هي، لمدجنته رائحة الأرقام والمعادلات، رائحة دروس الرياضيات، التي يعطيها ابنه “حنّا”، وسلام عليه بعد أن يتناول الكأس الأولى، ترافقه السيجارة الطويلة وتمشيط شواربه الكثّة بأصابع يده اليسرى.
نعم، نعم، إنّها رائحة الصيصان، تلكَ التي كان يشتريها في طفولته من مصروف الجيب، بعد اشتغاله في موسم حواش الزيتون مع الجيران، أو تعفير حبّاته من الحقول التي تمّ جنيها، أو بعد أن يكون قد باع كيلو أو كيلوين من أكياس الورق لدكان أبو زاهي أو عزيز أو الشيخ رويش، التي صنعها بيديه الصغيرتين، مستعملًا أكياس الإسمنت الفارغة الوسخة المَرْمِيّة في أماكن البناء، كان ينفضها، يسوّي سطوحها، يقصها، يرتّبها فوق بعضها، يجفِّفها من رطوبتها، يطويها باحترافِ طفل أتقنَ المهنة، يلصقُ طيّاتها بالخرنوبِ أو بالنشا الذي كان يطبخه بنفسه من بقايا الخبز اليابس والماء ولم ينس أن يضيف إلى المزيج المنقوع بعض الرمل كي يزن الكيس أكثر، ثم يُشمِّس الأكياس التي أنتجها لساعات إلى أن يجفّ النشا اللاصق وييْبس.
بنقوده الخاصة كان يشتري الصيصان من سوق المدينة، السوق الذي يقدّم للشاري كل شيء، من الإبرة والخيط مرورًا بالسمك وصولًا للفيلم الهندي في سينما أوغاريت، يشتري بقدر ما خبّأه من نقود وبقدر سعر الصوص ولونه، واحد، اثنين، ثلاثة، وقد تصبح نادرًا أربعة. ينتقيها نشيطة مبرقعة بالأحمر أو بالأخضر، يعبّئها في كيسٍ من ورق، يفتح فيه ثقوبًا للتَهْوية، يأخذها إلى البيت، يخبّئها في خيمة من قصب على سطح البيت، يختلس كمشةً من البرغل المخزّن في العنبر، يعلفها، يصنع لها قفصًا من علبة كارتون فارغة، بشفرة حلاقة قديمة يسرقها من الطاسة النحاسية لعدة الحلاقة الخاصة بأبيه، يشقُ للقفص الكارتوني بابًا ونافذة قابلين للفتح والإغلاق، يفرش أرض العلبة ببعض البرغل والعشب اليابس وثمار التوت، يفرحُ لاستنشاق الرائحة، رائحة الصيصان ممزوجة برائحة البرغل وورق التوت والفضلات.
يُربِّيها لبضعة أيام، تمرض ثم تموت، هل ماتت جوعًا أو عطشًا؟ أو ربما حنقًا؟ وإلّا لما دَأَبت على نقر جروح الأقدام الصغيرة المنعقرة غير المندملة لمربيها ومالكها الصغير، التي خلّفها عدوان السقوطات المُتكرِّرة في الشوارع الوعرة، أو لعلها اِنْعقَرتْ بسبب الأحذية الرخيصة الضيقة أو بسبب اقتتالات الأطفال في المدارس وباحات اللعب.
كان يحملُ قفصه ويمضي به في موسمِ الزيتون ماشيًا بين الحقول، إلى أن يصلَ أرضهم، غالبًا ما يجلس تحت شجرة الزيتون “الدارمليلية” الكبيرة، التي زُرِعَتْ على منصةٍ ترابية مرتفعة قليلًا، يُشرف الناطور في ظلِّها على الشجرات من حولها، يحميها من احتمالات السرقة، بجانبها بُنيت “الضامة” بالحجارة المتماسكة بالطين والتبن وسُقِفَتْ بألواح التوتياء وبعض دعامات خشبية، غرفة صغيرة غريبة الأطوار.
يجلس تحت “الدارمليلية”، يبحث مثل عصفور بريّ عن بعضِ حبات الزيتون التي استوت وتخمّرت ليأكلها ببقايا خبز، يفترشُ الأرض تحت شجرته المُفضَّلة، يتلذَّذ رطوبة تربتها، يفتحُ بابَ القفصِ، تَتَبَخْتر الصيصان في خروجها كالأمراء، تبحثُ في تربةِ الأرض عمّا يُؤكّل، ثمة فتات مُبعثر من طعام أمس “مجدّرة”، برغل مع عدس بزيت الزيتون، قشور بصل يابس وبندورة وبذور عنب أبيض.
يتبع أحد الصيصان إغراء جرحه المقيّح والمعقور مثل ساق دابة، يتبعه وكأن “العقر” في القدم هو الدجاجة الأم تَرُقّ: “رُقْ رُقْ رُقْ”، يتبعها الصوص، يستغل انشغال مربيه عنه، ينقرُ الجرح كما يَنقرُ الحَبَّ، يَحفرُ الجرح بمِنْقَاره بسرعة رهيبة، يَخرقه، يتخرَّبُ الجرح، ينزف قيحًا ودمًا، يرتفع صوت المربّي الطفل بالعواء.
ينهض من قعدته كمن لسعته أفعى سامة، يرقص ويبكي ويعوِّل من شدة الألم، يلعن الصوص واللَّون الأصفر والشجر، يتابع رقصته وقفزاته، يحتارُ الصوص من رقصة مربيه الحانقة، يهرب من وقع الأقدام الحافية، يختبئ في ظلّها حين ترتفع، ويهرب من الظلّ حين تهبط القدم، بين اختباء وهروب تدوسه القدم الموجوعة دون انتباه، تضغطه بكل ما حملت من ألم ولوعة، تعتصره عصرًا دون قصد، تحزن عيونه الصغيرة كثقب الأبرة، يتعب جسده ويرتجف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، تخرج أمعاؤه من مؤخرته ويغمض عينيه إغماضة وداع واعتذار.
يتوقف العويل جرّاء الجرح المُخرَّب ليصيرَ حزنًا على صوصٍ أصفر ملطخٍ بالأحمر، يبكي المربّي لخسارته، يحفر قبرًا، يدفن صوصه، يزِّين القبرَ بحصوات صغيرة، يغرسُ فوقه قطفةً من نبات الريحان، يعود إلى جلسته تحت شجرة الزيتون وكل ما حوله يعبق برائحة الصيصان، الرائحة الهجينة ذاتها التي اقشعرّ لها بدنه للحظات خلال عبوره في ممرات محطة مترو الأنفاق “بادينغتون”.