أنيس الرّافعي
(عندما نسيرُ في هذه المدينة على هذا النّحو، نصعدُ الزّمن، لدرجة أنّ المَتَاهَ لا يكون مكانيًّا فحسب، بل هو، بنفس الحركة، متاهٌ زمنيّ).
عبد الكبير الخطيبي، من تقديم كتاب “فاس، مقام العابرين”، ص 7.
في الأيام الأولى بعد وصولها، شتاء العام 1973، مصابة باكتئاب حادّ، إلى قلب مدينة فاس؛ لم تكن أناييس نين تبارح الفندق إلاّ بعد أن يسدل اللّيل ستائره. فقد انشغلت، على مدار أسبوع كامل من العزلة الوقائيّة، بقراءة طبعة إنجليزيّة جديدة مصوّرة من “الكوميديا الإلهيّة” لدانتي أليغري.
وكانت كلّما توغّلت أبعد في سطور وأيقونات هاته الملحمة الشعريّة، تفاقمت بداخلها عقدة الذنب، وضاقت حول غربة روحها الدوائر التسع (*) للخسّة، والشهوة، والشراهة، والجشع، والغضب، والبدعة، والاحتيال، والغدر، مثلما صاغتها أناشيد الجحيم والمطهر والفردوس.
ولما انتهت من القراءة ذات مساء، ألقمت في سَوْرَةِ حنق سوداء نيران المدفأة نسخة الكتاب النفيسة، كما لو أنّها تحرق إلى الأبد الحلقات المستديرة لغمّها الوجوديّ وانكسارها العاطفيّ.
وفي ذات المساء الفاسيّ البارد، استعانت بدليل مغربيّ معسول السحنة، جذّاب المحيّا، كان يشبه إلى درجة بعيدة وجه الشاعر فرجيل، مثلما جسّدته التماثيل النصفيّة الرخاميّة الإيطاليّة. أرشدهَا عبر متاهات المدينة العتيقة وطرقاتها المنحدرة، إلى أن عثرت على مطعم محليّ مشهور، كانت قد سمعت من أصحابها وخليلاتها الكثير عن مزاياه الخليقة بعناء البحث عنه وسط كلّ هذه الممرّات الفرعيّة المهجورة للزمن، والأزقة الصغيرة المتسربلة بالظلام والغموض، والدروب التي لا يمكن التّكهّن بوجودها، الحاجبة لبيوت خبيئة تحتمي ببعضها كالحلازين الخائفة.
لكن، بمجرّد مغادرتها المطعم، بُعَيْدَ منتصف اللّيل بقليل، فوجئت أناييس نين باختفاء الدليل السياحيّ صاحب الملامح الفرجيليّة السمراء، وما إن سارت بعض الخطوات في إحدى الزنقات المستطيلة والضيّقة كالخنادق التي لا مَخْرَجَ لها، حتّى تهافت على جسمها رقيق البنية من كل حدب وصوب، في مشهد جهنميّ مريع، وحاقد يطفح بصرخات هائجة، رهطٌ من الشحّاذين من ذوي العاهات والثياب القذرة، منهم الأعمى، والأحدب، والأبتر، والأصلم، والمجذوذ، والمجذوم، و الجربان، والمعتوه، ومقطوع الرِجل الماشي على خشبة.
غضّنوا في لمحات خاطفة معطفها، ومزّقوا قميصها، وشقّوا تنورتها، وخدشوا وجهها، وخمشوا ظهرها، وثقبوا جلدها، وأحدثوا كدمات زرقاء في أطرافها، وشعّثوا شعرها، وسرقوا محفظة يدها، وكادوا أن يقتلعوا إحدى عينيها، ثمّ ذابوا كالجرذان بين تلافيف المصارين الباطنيّة للمدينة العتيقة.
رهط الشحاذين ذاك، الذي عكس فداحة ومأساويّة التراجيديّا البشريّة المغربيّة، كان عدد أفراده تسعة بالضبط.
أناييس نين سجّلت تقريبا تفاصيل هاته الواقعة في يوميّاتها، لكنها -لداعٍ لم تكشفه لأيّ كان طيلة حياتها- لم تكتب أبدا عن سرب الطيور الصغيرة الجارحة ذات الأجنحة العريضة، التي كانت تطوف كالحلقات فوق رأسها، وتشارك رهط الشحّاذين بمناقيرها ومخالبها سطوة الاعتداء على جسدها الناحل الأعزل (**).
سرب الطيور ذاك ، الذي سبق لها مشاهدة تصاويره، كان عدد عناصره تسعة بالضبط، وقد قدم لتوّه بلا ريب من غياهب الطبعة الإنجليزيّة لكتاب “الكوميديا الإلهيّة” !
الهوامش
(*) إحالة أولى: يحيل النصّ على بنية الرقم تسعة المجازيّة، الشهيرة ضمن « ﺃدب القيامة « عامّة، وكذا ضمن المتخيّل الشامانيّ اﻵسيويّ لعدد مستويات العالم السفليّ ، تلك التي تأسّست عليها أنشودة «الكوميديا الإلهيّة « لدانتي؛ تسع دوائر في الجحيم ؛ وتسع طبقات في المطهر ؛ وتسع حلقات في الفردوس.
(**) إحالة ثانية : ضمن يوميّاتها الشهيرة ، وضعت الكاتبة الأمريكيّة أناييس نين (1903)/ 1977) نصّا بعنوان « المغرب» ، انضاف إلى نصها المعروف عن « متاهة مدينة فاس « المنشور في مجلة « ترافل ليجر « العام 1973، وقد أشارت فيه إلى واقعة هجوم رهط من المتسوّلين عليها عقب خروجها من أحد المطاعم في وقت متأخّر من اللّيل .