فليحة حسن
كانت نادية أكبر أخواتها الثلاث سنًا، وأكثرهنَّ وزنًا وأضخمهنَّ بنية، وربما لهذا السبب كان قد تأخر زواجها، فهي لم تركب قطار الزواج حتى بلغتْ الثلاثين من العمر، أما زوجها الذي كان يكبرها بعشر سنوات، فهو مثل غالبية الجنود الذين انتهتْ خدمتهم الإلزامية في الجيش العراقي، وتم تسريحهم من الواجب العسكريّ بقرار رسميٍّ بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية التي امتدّتْ طوال ثماني سنوات، لم يجد له عملًا آخر سوى أن يكون واحدًا من عمال البناء الذين صاروا يفترشون الأرصفة كل صباح مع آلاتهم اليدوية البسيطة التي يحملونها أينما ذهبوا والمتمثلة بـ(المالج والقصعة) وفأس صغيرة أحيانًا، هؤلاء العمال أصبحتْ تعجُّ بهم أرصفة الشوارع، ولا تخلو منهم حتى يحلّ الغروب.
لم يكن هذا النوع من العمل دائميًا؛ فبوجود حصار اقتصادي جائر لم يستطع كثير من الناس ترميم بيوتهم، أو بناء بيوت أو أسواق أخرى جديدة؛ فكثير من البيوت والأسواق، وإن بدت متهالكة للعيان أو آيلة للسقوط، عجز أصحابها عن إصلاحها، وبقوا يشغلونها مع توقع سقوطها في أية لحظة ولأدنى سبب.
لذا فإن العامل يكون محظوظًا جدًا إذا استطاع أن يعمل في الأسبوع الواحد لمدة أربعة أيام متتالية، فكثيرًا ما كان أصحاب العمل يأتون ويختارون الشباب الأقوياء، لينجزوا مهمة الترميم أو البناء في الوقت المحدد المتفق عليه بين صاحب العمل وصاحب البيت الذي يتم إعادة بنائه من جديد.
ولهذا السبب فإن علاء، زوج نادية، كانت فرصته في العمل تتقلص يومًا بعد آخر، فهو وإن حاول أن يُخفي علامات الشيخوخة التي بدت عليه بمواصلة حلاقته اليوميّة لذقنه بالموسى لا يرميه حتى يتأكّد من عدم صلاحيّته للاستعمال مرة أخرى، وتخضيب شعره الأشيب بالحناء السوداء الهندية المنشأ الرخيصة الثمن، والتي لا تصمد في تغطية شيبه سوى أيام معدودة، إلا إنّ حظه في وقوع الاختيار عليه بقي قليلًا جدا.
لم يفكّر الاثنان جدّيا بالإنجاب، حتى بمرور أكثر من عام على زواجهما، وكثيرًا ما كانا يُجيبان من يسألهما عن سبب تأخرهما في الحصول على طفل بجملة واحدة اتفقا عليها:
– سنرزق بالأطفال حين يشاء الله.
أما في الحقيقة فقد كانت الزوجة تخفي بصعوبة كبيرة الغصة التي تشعر بها من جراء تأخرها في الحمل، لكنها لا تستطيع البوح بها حتى لزوجها، فكيف لهما أن يتحملا مسؤولية شخص آخر وهما يعيشان هذه الفاقة التي يبدو أن لا مخرج لهما منها.
حاول الاثنان أن يحدّا من علاقاتهما بالآخرين ويقصراها على أهليهما فقط، فإذا ما تمّت دعوتهما لحفل زواج واحد من أقاربهما مثلًا، تمارض أحدهما، أما الثاني فتقع على عاتقه مسؤولية إيصال خبر المرض إلى عائلتيهما فينتشر الخبر بين الأقارب بسرعة كبيرة ويعرف من قام بدعوتهما بأنهما لا يستطيعان حضور مراسم ذلك الحفل.
وبالرغم من أنّ مراسم الاحتفالات لم تكن كبيرة أو مكلفة، لكنّ المدعو لا يستطيع أن يحضرها خالي الوفاض، فعليه على الأقل أن يأتي بهديّة بسيطة معه، قد تقتصر على قطعة قماش للعروس، لكن حتى هذه الهدية كان توفيرها يُعّدُ أمرًا صعبًا جدًا بالنسبة لهما.
أما المناسبات التي كان يحضرها أحدهما أو كلاهما فهي مجالس العزاء، كانت نادية وكلّما سمعتْ بوفاة أحد الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران، تقوم ومنذ الصباح الباكر بالذهاب إلى بيت المتوفى تعزي زوجته أولًا، ثم تأخذ على عاتقها عملية إدارة مجلس عزاء السيدات، فتطبخ ما يتسنى لها من طعام، أو تعدُّ الشاي وتقدمه للنساء المعزيات القادمات من مناطق مختلفة، فيكون الجهد الذي تقدمه بديلًا عن الواجب المادي الذي يتوجب عليها دفعه لزوجة المتوفي أو أمه أو أخته.
أما زوجها فكان في كلّ مناسبة من هذا النوع يقف في الخيمة المخصصة للرجال إلى جانب أولاد المتوفى أو أقاربه من الذكور، يتلقى التعازي من القادمين، حتى أن كلّ مَنْ يراه يعتقد أنه واحد من أخوة المتوفى أو ابنه الكبير خصوصًا بعد أن يكون قد أطلق لحيته، وترك شيب شعره باديا للعيان.
سارتْ الأمور على هذه الشاكلة لأكثر من عام، وفي أحد الأيام عاد الزوج من عمله منهكًا خائر القوى، وآثار الأتربة تغطي جسده بالكامل، فأيقنتْ الزوجة بأن زوجها قد حصل على عمل اليوم، استبشرتْ بقدومه على هذه الشاكلة، وأسرعتْ فرفعتْ قدْر الماء الحار الذي سخنته له على الموقد النفطي الصغير من مكانه، ووضعته في الحمام، ثم جاءتْ بمنشفة زرقاء كبيرة نظيفة، وعلّقتها في المسمار المثبتْ في جدار الحمام وخرجتْ.
حينما انتهى الزوج من أخذ حمامه الدافئ، عاد ليجلس في الغرفة بينما أسرعتْ هي وجاءتْ بطعام الغداء؛ حدثها زوجها عن تفاصيل يومه، وما تعرض له من مواقف أثناء العمل وبالرغم من أن صوته كانت تشوبه نبرة حماس واضحة، إلا أن زوجته كانت تحاول أن تجبر نفسها على الإنصات له بصعوبة، فكثير من الوجوم كان قد سيطر عليها.
بعد مرور نصف ساعة من الحديث المتواصل فطن الزوج إلى أن زوجته تخفي شيئًا ما؛ سألها وهو يلوك لقمته الأخيرة:
– ما بكِ؟
– لا شيء، ردتْ عليه وهي تتشاغل بجمع الأواني من مفرش الطعام ووضعها في الخوان استعدادًا لرفعها والذهاب بها إلى المطبخ.
– تعرفين أنني لا أحب طريقة السؤال والجواب في الحديث، ردّ علاء على زوجته وهو منزعج.
– أختي ستتزوج بعد يومين، هذا الخميس، أجابته بصوت تغلفه الكثير من الحيرة، ثم قامتْ من مكانها بهدوء، رفعتْ الخوان المليء بأواني الطعام وخرجتْ.
– بهذه السرعة، ردّ علاء، وقد أطرق برأسه إلى الأرض مفكرًا.
بعد دقائق عادتْ الزوجة إلى الغرفة وهي تحمل صينية صغيرة بها قدحان من الشاي وضعتها أمام زوجها، وجلستْ قبالته، وبالرغم من أن الاثنين كانا يجلسان في نفس المكان، ولم تفصل بينهما سوى تلك الصينية الصغيرة، غير أن هذا الخبر جعل كل واحد منهما يغرق في لجّة بحر هائل من التفكير.
– الله كريم، قال علاء لزوجته بعد أن ارتشف رشفة من الشاي، سأحاول اليوم أن أبتاع لك ثوبًا مستعملًا من سوق العتيق، ولا داعي لأن تقدمين لأختك أية هدية، الأخوّة لا تقاس بالهدايا، أليس كذلك؟
شعرتْ الزوجة بقليل من الراحة حين سمعتْ بأن زوجها سيقوم بشراء ثوب لها، تستطيع ارتداءه لهذه المناسبة، فجميع ملابسها قد بليتْ تمامًا أو أصابها تَلف ملحوظ.
أما بشأن الهدية فهي تحتفظ بستة أقداح زجاجية مطرزة من الخارج بألوان زاهية، قدمتها لها إحدى قريباتها كهدية في يوم زفافها، ولحسن الحظ أن تلك الأقداح لما تزل محفوظة في علبتها التي قُدمت بها، مع ذلك فإن موضوع الهدية سيكون سرًا بينها وبين أختها، ولن تُطلعَ زوجها عليه، حتى لا يظنّ الأخير بأن زوجته امرأة مبذرة، أو غير مبالية، لا تولي اهتمامًا بحاجيات بيتها.
بعد الغداء تحدث الزوجان قليلًا عن خطبة الأخت الصغرى التي لم يمرّ عليها أكثر من شهر، ولما شعر الزوج بالتعب، سحب الوسادة الموجودة إلى جانبه، وبطريقة شبه آلية تمدد على الأرض بعد أن وضع رأسه على تلك الوسادة ليستغرق في نوم عميق.
بعد ساعة تقريبًا، استيقظ الزوج من قيلولته، ليجد زوجته وقد أكملتْ كل أعمال البيت اليومية، وجلستْ بالقرب منه تتسلّى بحياكة خيوط الصوف بالسنارة.
– سأخرج الآن إلى سوق العتيق قال الزوج حينما قام من مكانه وخرج ليسير على مهل من الغرفة، ابتسمتْ الزوجة وأسرعتْ لتحكم إغلاق الباب خلفه، ثم عادتْ لتكمل الحياكة.
انقضتْ ساعات النهار عادية برتابتها، وسرعان ما حلّ الغروب، وانبعثتْ أصوات المؤذنين تدعو للصلاة من مكبرات المآذن التي تعلو قبب المساجد والجوامع، فأضاءت البيوت مصابيحها، بعد أن أضاءتْ مصابيح أعمدة الشوارع الطرق والحارات أيضًا.
وبعد أن أكملتْ نادية صلاتها، سمعتْ طرق أصابع كفّ زوجها على الباب، فسارعتْ لفتحه، سلّم علاء على زوجته، ثم دفع لها بكيسين بلاستيكيين؛ الأول كان بلون أصفر يحتوي على القليل من البطاطا والباذنجان، وبداخله كيس بلاستيكي آخر شفاف يحتوي على القليل من التمر، أما الثاني فقد كان محكم الربط أسود اللون، أسرعتْ لتضعهما في المطبخ، فقال لها زوجها حين رآها تدخل إلى المطبخ:
– أعتقد بأن قياسه مناسب، وأشار إلى الكيس الأسود.
بحماس شديد لحقتْ الزوجة بزوجها بعد أن أفرغتْ الكيس الأزرق من محتوياته في الثلاجة الصغيرة التي كانت تحتل ركنًا صغيرًا في المطبخ، وهي تحمل الكيس الأسود، دخلتْ به إلى الغرفة لتجد زوجها وقد فرش سجادته استعدادًا لأداء صلاة المغرب، وذهب كي يتوضأ، وبعد أن جلستْ في مكانها المعتاد، قربتْ الكيس منها، وفتحته لتخرج الثوب، ولكن ما إن فرشتْ الثوب على حضنها حتى صرختْ بأعلى صوتها مذعورة:
– قُمّل، قُمّل
سارع الزوج للمجيء إلى الغرفة، وماء الوضوء يقطر من وجهه وذراعيه، ليجد زوجته وهي تحاول بحركات عشوائية وباشمئزاز واضح، أن تُعيد الثوب إلى الكيس
– أحرقيه، تخلصي منه، يكفينا ما نعاني منه، قال علاء لزوجته ثم شرع بأداء صلاته.
لم تستمع نادية لما قاله لها علاء بل على العكس من ذلك، ففي منتصف الليل، وحينما تأكدتْ من أن زوجها يغطُّ في نوم عميق، تسحّبتْ من فراشها، وخرجتْ من الغرفة، لتُخرج الكيس من مكانه وتفتحه وتسحب الثوب منه، وتضعه في قدر قديمة، كانت متروكة في إحدى زوايا المطبخ، ثم صبتْ عليه النفط حتى تغطى بالكامل، ثم أغلقتْ القدر عليه وتركته، ثم عادتْ لتنام بعد غسلتْ يدها عدة مرات بالماء والصابون.
في صباح اليوم التالي وبعد أن خرج زوجها لعمله، جاءتْ نادية إلى مكان القدر وفتحته فهالها منظر العشرات من الجثث السوداء الطافية لتلك الحشرات الصغيرة على سطح القدر.
أخرجتْ الثوب بحذر من مكانه، ووضعته على الأرض ثم صبتْ النفط وما يحمل من قُمّل ميت في بالوعة المطبخ، وغسلتْ القدّر بقطعة إسفنج بلّلتها بالماء والصابون عدة مرات.
بدا لها الثوب الأحمر القاني وقد خلا تمامًا مما كان فيه، لكن رائحة النفط كانت تنبعثُ منه بشدة، ففكرتْ أن تتخلص من تلك الرائحة بغلي الثوب بالماء الحار.
وفعلًا ملأتْ القدر بالماء، ووضعتْ الثوب بداخله، ثم أوقدتْ شعلة الموقد النفطي، ووضعت ذلك القدر فوقه، بعد نصف ساعة تقريبًا، أنزلتْ القدر من على الموقد، وتركته قليلًا ليبرد، بعدها أخرجتْ الثوب منه، ودعكته بأصابعها بالماء والصابون مرارًا.
اختفتْ الكثير من رائحة النفط، لكن اللون الأحمر لم يبقَ هو الآخر على نصوعه السابق، فبعد النقع لليلة كاملة بالنفط، والغليان بالماء الحار، فقدَ الثوب بهاء لونه.
عصرته نادية جيدًا بيديها، ثم صعدتْ به إلى أعلى السطح لتنشرهُ على الحبل، مثبتةً إياه بمشبكين صغيرين مصنوعين من الخشب، ونزلت.
قبل أن تعدّ طعام الغداء، دهنتْ نادية كفيها بالكثير من الفازلين، كي تُخفي جفافهما، وتغير لون بشرتهما الذي جاء نتيجة ملامستها للنفط.
بعد أن أكملتْ قلي الباذنجان بالزيت، أرادتْ أن تقوم بتسخين ماء لزوجها، فهو معتاد بعد يوم عمل شاق أن يستحم بماء حار حتى في فصل الصيف.
ملأت قدرًا آخرَ بالماء ووضعته على الموقد النفطي، وأشعلتْ عود ثقاب كانت قد أخرجته من علبته، بدعكهِ في إحدى جوانب تلك العلبة، وقربته منه، لكن الموقد لم تشتعل ناره، أعادتْ نادية الكرة مرة أخرى، فلم يحدث شيء، فأطفأت عود الثقاب، ورمته على الأرض، ثم رفعتْ الموقد النفطي إلى الأعلى فوجدته خفيفا جدًا، وبخفته تلك أعلن الموقد عن خلوه التام من النفط.
في وقته المعتاد رجع الزوج إلى البيت، لكنه لم يكن بحاجة إلى أخذ حمام ساخن اليوم، فهو لم يحصل على عمل، فاكتفى بغسل وجهه ويديه بماء الحنفية والصابون.
تناول الاثنان طعامهما وهما يتحدثان بموضوع الزواج المزمع إقامته يوم الخميس، وكيف أنهما سيقومان بالذهاب باكرًا ذلك اليوم ليقدما المساعدة متى ما طُلبتْ منهما، وحين انتهى الاثنان من غدائهما، سأل الزوج زوجته:
– هل الشاي حاضر؟
– لم يعد لدينا نفطٌ كي أعدّ به الشاي، قالتْ الزوجة بتردد، وهي تحاول أن تتحاشى نظرات زوجها.
– عليكِ أن تُكثري من الدعاء لي بالرزق غدًا، وإلا سنضطر الى أكل البطاطا نيئة.
قال الزوج بصوت امتزجتْ به لوعة كبيرة، وقليل من المزاح، ثم قام، وخرج من الغرفة.
انشغل الزوجان بتفاصيل ما تبقى لهما من يومهما، أما الثوب فقد بقي منشورًا على الحبل، تحت شمس بدأتْ بالغروب، وكلّما جفَّ منه جزء تحول إلى لون وردي كالح.