الطيّب الطّويلي
رأيتها ذات نوم.. كتبتها ذات يوم..
بخطى ثابتة كان الحبر اليهودي يسير داخل البنك مرتديا معطفه الأسود الطويل. وضع محفظته الجلدية على المنضدة الرخامية، وانحنى نحو المصرفي فاحتضنت لحيته الطويلة المحفظة حتى حجبتها: “أريد أن أودع لديكم هذا المبلغ.”
أدخل يديه داخل لحيته الكثة ليبحث عن محفظته، ثم التقطها ودفعها للمصرفي وأضاف: “عشرون ألف دولار.”
رفع المصرفيّ عينيه ليلمح الوجه الجميل المجعّد والعينين الزرقاوين الثاقبتين وقال مداعبا:
“أنت سيد إهريش؟ مرة أخرى؟ تمطرنا بأموالك، أنت حريف جيد.”
أنا لا أمطركم بأموالي.. بل أمطر نفسي.. إنه حسابي..
التقط المصرفي المحفظة وشرع في إخراج الأموال وعدّها بينما يلحظه “إهريش” متأففا، ثم لم يتمالك تبرّمه قائلا:
بطيء.. لو كنت مدير البنك لفصلت البطيئين أمثالك.
أجابه مبتسما وهو يدفع له بجذاذة ورقية: “ها قد انتهيت.. الحساب صحيح.. عشرون ألفا.. يمكنك إعداد الوصل.. ولا تنس بطاقة الهوية..”
لم ير المصرفي كيف أخرج “إهريش” القلم من معطفه، ولم يفهم كيف أرجع له الوصل بتلك السرعة، ولكنه لم يستغرب، فقد بدا أنه تعوّد هذا الحريف السريع والضجر.
التقط الوصل وبدأ في مراجعته: “الاسم: إهريش وايس، المولد: 24 مارس 1874.” رفع المصرفي عينيه متأملا إهريش وقال: “اثنتان وخمسون سنة فحسب ووجهك مليء بالتجاعيد! لو أنقصت من التعجل ومن طباعك القلقة لما شِبت قبل الأوان ولما تجعّد وجهك..”
قاطعه إهريش وقد بدا عليه القلق: “عمري لا يعنيك شيئا.. من الطبيعي أن تظهر التجاعيد في وجهي.. التجاعيد تظهر منذ سن الأربعين.. ألم تر وجهك؟.. كم عمرك أنت؟؟..”
اختطف الوصل ثم استدار مغادرا المصرف بسرعة اهتزت معها ضفيرتاه المتدليّتان على كتفيه العريضين، شقّ شارع ديترويت الأنيق في أقل من دقيقة ثم ولج إلى داخل أحد النزل، لم ينظر إلى عون الاستقبال وهو يعطيه مفتاح غرفته مرحّبا: “أهلا سيد إهريش.”
صعد السلم برشاقة شاب صغير، كل خطوة تلتهم في طريقها ثلاث درجات، ثم دخل إلى غرفته ليتمّ تفاصيل نهايته.
ألقى بمعطفه، فاستقام معلّقا على أحد مسامير الحائط، ونزع شعره المستعار من فوق رأسه ووضعه بعناية داخل صندوق صغير على السرير، ثم طفق ينزع تجاعيده الملصقة بتأنّ وتدريج ويغيّبها في جوف الصندوق، وبدأ بفتح أزرار قميصه عندما استمع إلى صوت المفتاح يخترق ثقب بابه ويفتضّ خلوته.
تسلّـلت إلى داخل الغرفة امرأة في كامل أناقتها، أناقة بداية القرن العشرين الثقيلة اللّباس، خداها كتفاحتين محمرّتين، قالت وهي تنزع قبعتها الكبيرة من فوق شعرها القصير:
حبيبي.. ألم تغيّر رأيك؟.. أما زلت مصرّا على ما اعتزمت؟
هزّ رأسه في هدوء مكملا نزع قميصه، وأضافت “بياتريس” وكأنها تحرص على إثنائه عن أمر ما:
عظيم الشأن هوديني.. لا يمكنك أن تتخذ هذا القرار.. ما تقرره سخيف وغير مُجد لأحد..
ما أقرره سيسمح لي بإتمام حياتي في هدوء وبأن تبقى ذكراي خالدة في القلوب.. العظيم هو الذي يحسن اختيار نهايته..
اقتربت منه مداعبة شعره وكأنها تأخذ فرصتها الأخيرة لإقناعه أو استمالة عاطفته، أو أن تقذف في عقله شيئا من قلبها.
ستتفجر الدموع، سيجهش الرجال، ستنتحب النساء، ستبكي الديار، ستخشع الجبال، ستنشق البراكين حزنا لفقدك.. سهم الفراق قاتل، ولا أظن أن ..
قاطعها ضاحكا ويحيطها بذراعيه:
لن يبكي أحد.. صدقيني.. وحدك ستبكين حزنا على فراقي.. زوجتي وحبيبتي هي أنت يا “بيث”.. ولهذا فإني سأموت أمام الجميع وسأبقى حيا لديك.. عليك أن تكوني سعيدة لأني سأجعل حياتي مقتصرة عليك.. ألن يسعدك هذا؟
وبدا أنها اقتنعت واستسلمت لقراره. لطالما كان يبهرها بعجائبيته، يجرّب سحره عليها، وحين يرى وميض الدهشة في عينيها يدرك أن ما يقوم به قادر على إبهار العالم. عيناها جواز سفره نحو بقية الكون.
طبع قبلة على شفتها السفلى قبل أن يفلتها من ذراعه ويرجع إلى ما كان منغمسا فيه لإعداد مشهده الأخير.
ألقى ما عليه من ثيابه الأنيقة ليستبدل محلها جلبابا أبيض فضفاضا، وأزال من على وجهه ماكياج الهرَم ليعوّضه بمساحيق توحي بشحوب المرض، وانقلب وجهه في لحظات من وجه حبر يهودي بلحيته الكثة ذات الضفائر وشعره الطويل والقبعة السوداء التي تعلو رأسه إلى وجه “هوديني” وقد غمرته مساحيق الاعتلال، وبدت قسمات وجهه ميّالة نحو الموت.
” اقترب الموعد، إنهم قادمون” قال لزوجه وهو يرفع ساعة جيبه من على الطاولة ويلقي عليها نظرته العجولة.
“أنا في الغرفة الأخرى.. الحقي بي عندما يقدم الجمع.” أضاف قبل أن يختفي من الغرفة تاركا خلفه “بيث” في ضباب حيرتها.
وسرعان ما استفاقت من بهتتها على جلبة خارج الغرفة، فسارعت لاستقبال زوار فندقها، وبادرها أحدهم من بعيد دون أن يلقي التحية:
سيدة بيث.. جئنا للزيارة.. أحقا زوجك في وضع حرج؟
أجل.
أحقا أن السبب سلسلة اللكمات التي تلقاها في عرضه الأخير؟
أشارت بحدّة إلى أحدهم وقالت بنبرة ساخطة: “أمامك الطبيب.. لا أعلم شيئا.” ثم انطلقت قدماها لتقود الحشد نحو الغرفة الأخرى.. قرعت الباب بتوتر بيّن: “هاري.. لديك زوّار”
ووافاها الصوت الباهت من الداخل معلنا ترحيبه بضيوفه.. وبدا الجميع في اندهاش من حالة الوهن التي عليها صديقهم.. وبدا أن نظرة القنوط في عينيه خلّفت لدى الجميع إحساسا بالحزن واليأس.. إنه الشعور باستسلام رجل لم يستسلم في حياته قط.
لم تكن لديه المقدرة على المصافحة أو حتى على الكلام، ولم يكن لديه ما يقدم لزائريه سوى نظرات الحزن النابعة من قلب محطم.. وفهم الجميع أن الموت يخيّم على الغرفة وأن عليهم مغادرة المكان.. لقد كانوا يحبون رؤية “هاري” عندما يتحدى الموت، أما اليوم فلن يمتعهم عرضه الضعيف المذعن.. وغادر الجميع وتركوه لزوجه وطبيبه حتى يرافقاه لوحدهما في استقبال المنيّة.
ولم تكد “بيث” تغلق الباب حتى وثب هاري من رقدته وانحنى ليسحب من تحت سريره دمية ضخمة.. وتوجه إلى الطبيب وهو يريه وجه الدمية المطلّة برأسها:
ما رأيك؟ إنه أنا.. أليس كذلك؟؟
تفحّص الطبيب وجه الدمية وأجاب كالمستنكر: “يبدو أنه أنت فعلا.. ولكن..”
قاطعه هاري: “ولكن؟؟.. كلّ “لكن” قد تنطق بها محسوب أمرها.. لم أترك شيئا للصدفة.. الطول.. العرض.. الملمس.. الأظافر.. حتى الرائحة.. اجث على ركبتيك.. ضع أنفك واشتم.. لم يتبق إلا أنت.. تعلن الوفاة وتضمن الدّفن دون تشريح..”
أجاب الطبيب ونبرة التوجس تملأ صوته: “ليس عرضا مسرحيا هذه المرة.. إذا تفطنوا للأمر لا يمكنك أن تقول إنها خدعة من خدعك ثم يصفق لك الجمهور.. الخطأ يعني الفضيحة.”
أجاب بحزم: “هوديني لا يخطئ.. والمتعاونون معه لا يخطئون.. نفّذ ما هو مطلوب منك وسيكون الأمر على ما يرام..”
وبدا أن الطبيب يريد أن يقول شيئا قبل أن يصب عليه هاري جام غضبه: “أعطيتك نصف المال الذي طلبت والباقي ينتظرك.. ما الذي تريد؟ لا تحدثني مرة أخرى عن قناعاتك الوهمية.. أنا أكره الجبناء..”
وبدا أن سحر هوديني اشتغل هذه المرة أيضا وأثّر في الطبيب الذي انكفأ على الجثة يساعده على حملها، وقال وهو يتأوه من ثقلها: “لم تغفل الوزن أيضا.. أنا مقتنع أنك لا تخطئ أبدا.”
وتحاملا على الجثة يضعانها على سرير الموت.. وسأله الطبيب: “متى نعلن الوفاة؟”
بعد ساعة لو شئت.
” سأعود بعد ساعة لأعلن الوفاة.. رتّب أمورك..” قال الطبيب مغادرا، تاركا “بيث” ترواح بين النظر إلى الجثة المسجاة على السرير وإلى وجه حبيبها المنهمك في سلخ وجهه من المساحيق الكئيبة.
الموت لا يلائمك.
قالت وهي تضع قبلة على خده وتطبع على شفتيها ألوان مساحيقه القاتمة.
لا يموت من كان له حبيب مثلك.
أجابها وهو يحيط خصرها بذراعه المفتولة ويقذف في عينيها شرارة حبه المتوهجة. نظرة أذبلت عينيها وأطبقت جفنيها وغرست داخلها سيف عشقه الأبدي.
مدّد الدمية برفق على السرير، ثم رفع الغطاء الأبيض ليسدله على وجهها، ثم استدار إلى زوجه دامعة العينين:
أمامك الجثمان، يمكنك إعلان الوفاة، تهيّئي للجنازة.
وضعت أناملها على شفتيه كأنها تحاول سدّ الطريق أمام شيء ما، ثمّ فتر فمها وقالت بعبوس:
لا تقلها!
بالنسبة للناس ستكون جنازة.. بالنسبة لي ستكون إجازة..
ثم اختفى خلف الباب..
وماهي إلا دقائق حتى ارتفعت صرخات “بيث” لتكسر صمت النزل وتعلن للعالم وفاة الساحر الكبير.
كان وسط الرجال الذين يشيّعون النعش حبر يهودي ذو ضفائر، غارسا يديه في جيبي معطفه الأنيق الطويل، متفرّسا وجوه المشيّعين، مال على الرجل المحاذي وهمهم قائلا وهو يحرّك رأسه باستنكار:
يستحق جنازة أضخم من هذه.
أجاب الرجل بلا اهتمام:
لا أعتقد أن الميت يهتم كثيرا لجنازته.. أظن أن له أشياء أخرى يهتم بها..
الجنازة مهمة للأحياء.. الأموات لهم جنازاتهم الخاصة..
ثم عبس وأضاف:
كنت أظن أن جنازته ستأتيها الجحافل من كل مكان.
قطع الرجل عليه تذمره قائلا:
موته جاء مفاجئا.. كما أنّ هناك من لا يصدق أنه مات.. لا تنس أن هوديني هو ملك الهروب.. هناك من يعتقد أنه قادر على الفرار من الموت.
لا يمكن لأحد أن يفر من الموت.. من الممكن تأجيله..
تحسس وقع كلماته على وجه الرجل، فلم يجد أي تأثير، وتطلّع إلى وجوه الرجال التي تتبع نعشه فوجد وجوها لا حزن فيها، وأخرى تتصنع الحسرة، حينها فهم أنه تخيّر القرار الصحيح. أن يختفي ويعيش حياة هادئة على أن يكابد ويصارع من أجل سعادة أناس بلا ذاكرة.