أنيسة عبود
شاعرة سورية
أعترف لك
حين رحلت
دون أن تودعني
قطعتْ الاشجارُ أنفاسها
ورمت صفصافةُ الباب أسرارها
ومضى العابرون
كلهم مضوا
بعد أن ألقوا التحية على الصمت المهيب
وأنت ما رددتها
كان الأجدر بك
أن تودع نهر السن
وقريتي
والجرن
الذي ندق به الحزن
وظلال شجرة الأزدرخت
والعزف المنفرد للأنين
ومنديل أمي المنشور على الحطب
قبل آلاف السنين
كان من الأفضل
أن تودع عمامة أبي المنسية على مفرق الزمن
ومن ثم
أقول لك الذي جرى
وما جرى من لهب
كان عليك أن
توضب لي حزنا خفيفا يليق بي
وغربة
لا تشرخ الروح
ولا تفتق الأمل
كان حري بك
أن تؤسس لي متجرا لبيع الوحشة والعشرة والحنين
ومكانا فسيحا
يمشي فيه اغترابي الطويل وتتشمس في صحوه
خيبتي
من رطوبة الافتقاد
زمن مر
تركته في حلقي
لم يبق لي
غير كرسي تحت شجرة الغار
يكاد ينكسر من ثقل الغياب
وبعض قمصان للأحباب
نسوا أن يأخذوها معهم
فصاروا غرباء
فطردت وجوههم من غرفتي
لا أريد لأحد أن يقلق راحة
الألم
ولا أريد لمخلوق
أن يخلخل نوم حيرتي
دعني ألومك وحدك
أنت زرعت الأسى
بين أشجار البرتقال
وأنا حصدت بروحي
العذاب
وصنعت منه القهوة
والهيل
وأغاني فيروز
ولوعتي
من يومها
وأنا ابحث عن نعنع أمي
وعني
أضحك على الجميع
وألقي بشظايا ابتسامات زائفات
وحين أغلق الباب الأخضر
وأصير
داخل علبة الصمت
أسمح لكل الوحوش أن تدخل
وتنهش فكرتي
كأنني
ما زرعت حبقا على أصابعي
ولا ورثت نهرا من الشموع
كأني
ما غسلت أناملهم من الآه
ولا نفضت وسائدهم من الدموع
كأني
ما رتبت لهم الأيام على رف قلبي
(وستَّفتها)
في أدراج من الزهوً
كأني
ما أطلقتهم كعصافير في شارع العمارة
ولا ركضت خلف ظلالهم في الحقول
كأنهم
نبتوا في بلاد غير البلاد
ولبسوا قلوبا غير القلوب
لا تتأسى ولا تذوب
كأني
وكأنهم
والزمان يمشي
بيني
وبينهم
لا أعرفني من أنا
ولا أنا
أعرف
من همُ.
ينبهني العطر
عليَّ أن أعتذر من قلبي
فأنا أخذته من يده
ورميته في النار
و قلت له
هذه الجنة
لا يغرنك الجمر المشتعل ولا الشرر
أنا
أغمضت عينيه
وأوهمته أنه يمشي على الزبد
ومثل إله طائش
يسبح على الماء
أنا التي
رتقت ندوبه
وسكبت العطر على قدميه
وقلت له سر
هذا هو المحبوب
سر
لا تلتفت
أنا معك
…..
مدينة لك أيها القلب
بالتأسي
نيابة عن الأكوان التي أهرقتها
وعن الياسمينات
التي
دهستها
وعن الوهم الذي
دسسته في جيوبك
وأنت صدقته
وأنا تعاميت
وغضضت العذاب
ومشيت
لآخر نفس
وما صدقت وساوس أحد
أنا التي صنعت من ظلال الشجر
حديقة
ومن نقطة المطر محيطا
وأنا
أتحمل كل ترهاتي وجنوني
ومثل أي
عاشق
ردمت البحر
وصنعت طريقا بين السماء والأرض
وقلت
لقلبي
لبيك.
وهو
مشى في العذاب
وحين بكى
واحتج
وذاب
قلت
إنه القدر
لا تعاند
هو القدر
….
مدينة باعتذار شديد لأناملي
أنا
أوهمتها بأن أزراره نجوم
وقمصانه مدن فسيحة
وصوته
عزف النايات في المعبد
وأناملي صدقت
أن قميص يوسف لم يقد
وأنا
سرت في التشوف
كما المنومة
وعلي الآن أن أعتذر
للورد والشط والقلق
لخيالي الجامح في القصيدة
لعقدة الحكايات
لصوت الشرفات
لمفردات الشوق التي اخترعتها
للنجوم التي ساهرتها
لي أنا
لعطري
الجامح
لخيبتي التي دقت الباب
وطردتها
أنا التي
صنعت الكذبة
وسرت فيها
وصدقتها.
حفلة زعل
أقمت حفلة من الزعل
حضرها بيتنا القديم
ووجوه الذين أحبوني في الجامعة
وجاء متأخرا قلبي
فعزف وغنى
وأنا أطلقت أجنحتي
وطرت بين الأزمنة.
…
بالأمس
استضفت كثيرا من الكؤوس المكسورة
فاندلق الوقت على السجاد
وصبغ البيت بالغياب
…
بالأمس
وعلى الرغم من الزحمة
جلست الأسئلة على الكنبة
لم تساعدني في ترتيب الأجوبة
ولم تتذوق الشراب معي
وأنا
فضلت
أن
أبقى غائبة
…
مليارات من البشر يملؤون جيوبي
حين نفضت قلبي
لم أجد أحدا يقف بباب البيت
ويستقبلني
كأني
في هذا العالم
لا شريك لي؟؟
سواي لا ينتظرك
تأبط قلبي
ليس لك عكاز سواي
لاتصدق الوقت حين يهز أيامك
ستوقعك العاصفة
وستبقى عاريا
إلا من -يديَّ-
….
لماذا أسرعت في العبور
لم تترك لاسمك أن يرتاح في هويتي
لدي محطات كثيرة
كان يمكن
أن تستعير واحدة مني
وكنت سأمنحك جهة من جهات عمري
وربما
مشينا معا إلى أن يجتازنا
النهر
وتتعب الشمس من انتظارنا
دعنا
لأنفسنا
لا أحد في الجهة المقابلة
…
لا أحد
يلوِّح
بروحه
لك
إلَّاي.
صهيل الفكرة
كان لي شجرة
قرب الحكاية التي زرعتها أمي في الغمام
كان لي حديقة مسورة بالكلام
وكان إخوتي العشرة
يحرسون خيالاتها كي تنام
وحين
تصهل المهرة
يفيق الورد
ونعناع خالتي
والتفاح
وكانت زوجة عمي
تسير في الترقب
وتعدد الحناء
الذي يكبر
على فمي
وكنت
أنا الصغيرة
في العمامات
والحبق الذي في ثياب الجدات
وظلوا
يرجمونني بالجمر
حتى كبرت
فشويت
رفا من فطائر الشوق
على الماء
..
كنت صغيرة
ورآني درج القرية
صعدتُ
وما لقيت قمرًا على السطح
ولا بستانًا
لكني
وجدت
خابية من زجاج الرغبة
تركها ابن عمي
لجارتنا البنفسجية
فسرقتها
حين
كان نائما في شفتيها
وأنا سهرانة أتلصص على
نوافذ الأحلام
كان لي
قرية
ببابين وجرة أسرار
وقنطرتان
وسراج
كان لي قرية
تلبس نهرا
وطريقا
تربط شعرها وتحتذي الغياب
كان لي حلم
هجر بيتنا
فحزن البيت وذاب
كان
ثم
كان
فظلت البنت
مختبئة في الرواية
حتى أفاق ابن عمي
وغيَّر النهاية
وبدَّل الزمان.