حسن شهاب الدين
شاعر مصري
“1”
“إنَّني أظنُّ أنَّني سأظلُّ غائبَ العقلِ ومُرتبكًا لبقيةِ حياتي”*
كَالْعَادةِ ..
أَعْصِرُ لَيْمونَ الشَّمْسِ بِفُرْشاتي
وَأُلَوِّنُ مَأْسَاتي
كَالْعَادةِ..
أُوقِظُ سُكَّانَ اللَّوْحَاتِ المَوْتَى
وَأُوَزِّعُ أَوْرَاقَ العُمْرِ
وَنَلْعَبُ دَوْرًا أَوْ دَوْرَيْنِ
فَيَرْبَحُ أَكْثَرُنا مَوْتًا
وَنُدَخِّنُ غَانِيَةً أَوْ أَكْثَرَ
مِمَّنْ عَلَّقَهُنَّ اللوفرُ في ذَاكِرَةِ الجُدْرَانِ
وَنَصُبُّ الوَقْتَ المُتَبَقِّي مِنْ قِنِّينةِ أيَّامي
كَيْ نَشْرَبَ نَخْبَ المَوْتِ الآتي
كَالْعَادةِ أَيْضًا..
سَأَخُطُّ رَسَائليَ الغَرْقَى
وَأُبَلِّلُ عِشْرِينَ زَمَانًا بِالْكَلِمَاتِ
وَأَخِيرًا..
أَشْحَذُ نَصْلَ الأَلْوَانِ
لِأَقْتُلَ مَنْ يُشْبِهُني في المِرْآةِ
…
“2”
“ثُمَّ هبطت الشمسُ وألقتْ مسحةً من الضوءِ المُبهرِ على المياهِ..كانَ مشهدًا مهيبًا وجليلا”
في البَدْءِ..
كَانَتْ رِيشَتي وَبَنَاني
وَيَشبُّ طِفْلُ الكَوْنِ
في أَلْوَاني
وَأَنَا..
أُدِيرُ رَحَى الوجودِ
على يَدِي
وَأَصُبُّ في الأَرْوَاحِ
مِنْ إِنْسَاني
أُصْغِي إلى الأَلْوَانِ
تَصْرُخُ : فُكَّنِي
مِنْ قَيْدِ تَاريخي عَلَى الجُدْرَانِ
لَوِّنْ بهذي الشَّمْسِ
حَقْلَ سَنابلي
وَاقْطِفْ فَوَاكِهَ أَصْفَرِي الرَّنَّانِ
وَاصْبغْ بلَوْنِ الماءِ
زَوْرَقيَ الذي أَمْسَى بلا بَحْرٍ
وَلا شُطْآنِ
لَوَّنْتُ هذا الكَوْنَ
إلا شُرْفةً
تَرْنُو بها المِرْآةُ حِينَ تَرَاني
وَتَرَكْتُ ظِلِّي
في مَتَاهَةِ لَوْنِه
لِيَخُونَ كُلٌّ في خُطاه الثَّاني
…
“3”
“لقد صالحتُ نفسي مع فكرةِ الرحيل”
في الحَانةِ
كَأْسُ الأَفْسَنْتِينِ الأولَى
تَشْرَبُ ظِلِّي
كَأْسٌ أُخْرَى
وَأَبِيعُ إلى الشَّيْطانِ قَمِيصَ الرُّوحِ
وَأَمْشِى عُرْيَانًا مِنْ ذاتي
كَأْسٌ خَامِسَةٌ..
ثَالِثَةٌ..
سَادِسَةٌ..
أَقْطَعُ أُذْني
كَيْ لا أَسْمَعَ ثَرْثَرَةَ الأَلْوَانِ
وَأُهْدِيها لِفَتَاتي
آخِرُ كَأْسٍ..
تَكْفِي كَيْ أُطْلِقَ نَحْوِي
كُلَّ فَرَاشَاتِ المَوْتِ السَّوْدَاءِ
وَأَعْبُرَ بَابَ نِهَايَاتي
…
“4”
“مِن الحقيقي أنَّ عددًا كبيرًا من الرسَّامين يُجَنُّونَ..
إنَّها حياةٌ مِن الهمومِ”
جَرَّبْتُ مَوْتي مَرَّةً فَمَللْتُه
وَطَرَحْتُه عَنِّي
وَقُلْتُ كَفَاني
أَنَّى لِقَبْرٍ أَنْ يُلَمْلِمَ غُرْبتي
أَوْ أَنْ يَكُونَ – لِسَائلٍ – عنواني
وَأَنا الذي ابْتَكَرَ الوجودَ بِرِيشَةٍ
وَنَفَخْتُ فيه الرُّوحَ
مِنْ أَلْوَاني
وَيُقالُ..
جِنٌّ عَابِثٌ بِكِيَانِه
فَأَقُولُ..
جِنٌّ عَابِثٌ بِكِيَاني
شَيْطَانُ فُرْشَاتي
وَجِنُّ يَدِي مَعًا
خَاضَا مُغَامَرَةً مِنَ الأَلْوَانِ
لَوْلايَ..
كَانَتْ لَوْحَةً مَطْمُوسَةً تِلْكَ الحَياةُ
كَثِيرَةَ العُمْيَانِ
فَأَضَأتُ شَمْسَ اسْمِي
عَلَى أَنْحَائِها
وَتَرَكْتُني في الظِّلِّ
حَيْثُ مَكاني
…
“5”
“والآنَ إذْ أختمُ خطابي سأبقى معكم جميعًا بأفكاري”
كَالْعَادة»
أَفْتَحُ في اللَّوْحَةِ بَابًا
تَعْبُرُه أَشْجارُ الدُّلْبِ
وَسَمَاءٌ خَلْفَ الشُّرُفاتِ
وَقِبابُ كَنِيسةِ آحَادِ اللهِ
وَالشَّارِعُ ذو الأَجْراسِ
وَحَقْلُ نُجُومٍ لَمْ تَنْضجْ بَعْدُ
(وَسَتَنْضجُ في أَلْوَاني)
وَزهورُ الخَشْخاشِ بِنَافِذَتي
وَسَفِينٌ مَجْهُولُ المَرْساةِ
لكنِّي..
– وَعَلَى غَيْرِ الْعَادةِ –
أُطْفئُ شَمْعَ الأَلْوَانِ سَرِيعًا
وَبِضَرْبةِ فُرْشاتي
أُقْنِعُ هذا الكَوْنَ الصَّاخِبَ بِالصَّمْتِ
قَلِيلًا هذي اللَّيْلَةَ
رَيْثَ يَخُطُّ شِهابُ الشِّعْرِ قَصِيدًا
في مَرْثَاتي.
الهوامش
* الاقتباسات من رسائل فان جوخ المنشورة بعنوان “المخلص دوما فنسنت”