محمد الحجيري
كاتب لبناني
“عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم”
الشاعر هاينريش هاينه (1797 – 1856)
كنتُ أفكّر كيف أنهي الرواية… هل يقدر الكاتب أن يتحكّم بمسار النهاية؟ هل يمكنه أن يقرّر مسبقاً مآل ما ستصل إليه وبمسار شخوصه وأمكنته وسرده ولغته؟ النهاية لا تقلّ صعوبة عن جملة البداية، تتحكّم فيها لغة الأشباح والجنّ والشياطين والعالم الآخر. الخاتمة مفتاح آخر لجذب القارئ. من يستطيع أن يحاكي الأشباح والجنّ. هل يستطيع الكاتب أن يتحكّم بمسار أبطاله؟ يمكنك أن تتخيّل أنّ الكاتب ينتظر لحظة مأسوية ليكتب عنها، أو توظيفها في نصّه، أو يمكنك أن تتخيّل أنّ الكاتب يشعر بغربة عن نصّه ما إن ينتهي من كتابته، بل يلازمه جو من الاكتئاب عن جدوى الكتابة كلّها… حين تكتب أو تكون كاتبًا، لا تسلّم جدلًا بمطلق شيء. لا تتوهّم أنّ الحكاية لها بداية أو نهاية. ينبغي ألا تضيّع وقتك في السيناريو الذي تظنّ أنّه يرضي القارئ.. لكن هل يعيش الكاتب من دون قارئ؟ هل يمكن أن يعيش حياة أخرى؟ هل يكتب الكاتب نصّه وفي باله أنّه سيكون مكانه في الفردوس؟ هل يستطيع فعل شيء من الكتابة؟ محنتي ربّما كانت في مكان آخر، فمن الراعب أن تكون كاتبًا وتعيش في مجتمع تقليدي قرابي، أو مجتمع لا يقرأ ولا يحبّذ القراءة ولا يعطي أهمية للكتاب؟! لا شيء يفسدُ الكتابة سوى أن تكون مراقبة ومحاطة بالعقارب. في الأصل يصير المرء كاتبًا ليعلن اعتراضه على مجتمع، بل ينشّق عنه باحثًا عن حريته وفرديته. لكن لسبب ما بقيتُ أتردّد على مجتمع النسب وأعيش حياة سريّة مع الأدب والشعر. هكذا بات الاقتراب من الأقرباء يتحكّم بواقع كتابتي، وعلاقتي بالكتابة، طوال الأيام التي أمضيها في الصيف في طبق الورد، تلك البلدة النائية، تستريح يدي من أي كتابٍ، وتنام النصوص حتّى إشعار آخر، كأنها تتلاشى من ذاكرتي، وحين أعود إليها في أول الخريف، كأني أعود إلى خبيئة أكل عليها الدهر وشرب وحاكت حولها العناكب السوداء بيوتها الواهنة. أتفاجأ بنفسي، بل أسأل نفسي، هل أنا من كتب هذا؟ كان صعبًا علي أن أنهي قصة عبد الجبّار، بل إنّ قصته راحتْ تتشعّبُ مثل ألف ليلة وليلة، لم يكن جوهرها فتنة السرد، بل لعنة الخسارة… ماذا يمكن أن يقول المرء عن كائن ينتهي كل شيء في حياته إلى خسارات متلاحقة، ويعيش غريبًا وسط غابة من الكائنات المدجّنة…
– نعم…
كنتُ أفكّر كيف أنهي الرواية، وبينما أنا أغادر مكان عملي في منطقة سن الفيل، أتلقّى اتصالًا من شقيقي نزار، يقول إنّ مجهولين أحرقوا المكتبة لعبدالجبّار الطبري بعد منتصف ليل 27 أيار 2009. وهو يتململ قائلًا إنه نصحه مرّات عديدة بالتوقف عن المشروبات الروحية في هذا المكان، لكنه لم يأبه.
أقفلتُ التلفون، أكملت العبور بسيارتي، تخيّلت عبدالجبار في أي وضع يكون الآن. تفاديتُ الاتصال به، صرتُ أتخيّل النار تلتهمُ الأنتيكا والكتب والحكايات. تذكّرتُ ابن رشد، أبو حيان التوحيدي. يخالجني شعورٌ شرير أنّ الأشياء المأسوية تحصل لكي نكتبَ عنها، وتمنحنا رغبة في السرد والتقصّي، وأحيانًا قد تغيّر بعوضة مزاجك في الكتابة وتصيبك اللعنة. مكتبة عبدالجبار أُحرقتْ، يا لحزن الكلمات والأصابع التي لمستْ الورق الأسمر في أيام الشتاء. قبل أنْ أصبح كاتبًا، قبل أنْ أكون تائهًا في المدينة، قبل أن أتسلّل إلى عالم الكتابة، كنتُ مستوحشًا شبه منقطع عن العالم، لا شيء أحبّ أن أفعله سوى التسلّل إلى مكتبة عبدالجبار والتأمل في كتبها في بلدة طبق الورد البعيدة. لم أكنْ قارئًا جيدًا، كانتْ الكتب قليلة وكنتُ طري العود، أبحثُ عن شيء يثير فضولي، حكمةٍ من هنا، مثلٍ من هناك، قصيدة، حكاية صغيرة… كتب عبدالجبار القديمة رفيقة وحشتي وانطوائي. كانتْ الكتب مفتاح الحياة بالنسبة إليّ، على نحو ما تصوّر بورخيس الجنة على شكل مكتبة، أو مكتبة براهما وأردان في الميثولوجية الهندوسية، الذي تخيّلها الإنسان على شكل كأس من الحليب وقالوا إذا شرب منها الإنسان العادي تحوّل بمعجزة إلى فيلسوف وشاعر، أو على ما نحو ما اعتقد أهل الحضارة البابلية بأن السماء ما هي إلا كتاب مفتوح ينبغي على الإنسان ليصل إلى الاستنارة أن يتعلّم فك شفرته…
أُحرقتْ كتب عبدالجبار، قلت إن الحريق أخذ الرواية في اتجاه آخر، من يدري؟ الأحداث تستطيع أن تغيّر مسار الكتابة، الصدمة تبّدل المعايير. اتّصلتُ بعبدالجبّار بعد أيام، كان صوته يوحي بالحزن والغربة. لم أتحدّث طويلًا معه، تفاديتُ أن أفتّح جروحه، قلتُ له قريبًا أزور طبق الورد ونتحدّث، وعدتُ إلى الكتابة. أنظر إلى الكلمات تسيل حزينة. فما الذي يمكن قوله عن العدوانية في الحياة. لم يكن الهدف حرق المشروبات الروحية فقط، أفكار عبدالجبار وكتبه كانت تغضب الآخرين أكثر بكثير.
***
قال عبدالجبار، نعم…
“كنتُ في منزلي حين اتّصل بي بديع ابن شقيقي يعقوب في فجر ذلك اليوم. مجرد الاتصال في مثل هذا الوقت، يدعو للريبة. من أول كلمة قالها شعرت بالتشاؤم، كأن صوته يدلّ على أنه استيقظ للتو من نوم عميق، يخبرني بأن حريقًا التهم مكتبتي. لم أكنْ قد خلعتُ ثيابي بعد. وصلت إلى البيت منهكًا مرهقًا، قبل ساعة من اتصال بديع، وقبل أن أفعل أيّ شيء، فتحتُ الحاسوب المحمول، متحمّسًا للاطلاع على ما ورده من رسائل في الفيسبوك والبريد الإلكتروني. والدتي الحجّة فردوس نائمة في الغرفة الأخرى إلى جانبها شقيقتي ثريا… الصمتُ يكسره عبور سيارات قليلة في الجوار القريب. بديع، ابن شقيقي، حين اتّصل بي ليخبرني بحصول حريق بدا مذهولًا، لا يدري ماذا يقول وماذا يفعل… كان في خضمِ نومه، تلقّى اتصالًا من صديقه العابر صدفة في منطقة زقاق بكر يخبره عن الحريق، وهو اتّصل بي قبل أنْ يأتي بسيارته إلى بيتي ونذهب معًا لمعرفة ما الذي حصل… حبستُ أنفاسي، تشوّش رأسي، لم أصدّق ما سمعته عبر التلفون. لم أشربْ القهوة التي كنتُ أعددتّها، وسكبتها في الفنجان. أطفأت الحاسوب أشعلت سيكارة، ووقفت أنتظر بديع عند بوابة الدار. صوت آذان الفجر ينبعث من جامع الحسين، المسافة بين المكتبة والبيت لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات، أصعد في سيارة بديع الأمريكية الصنع، وعلى وجهينا علامات الوجوم، يقود السيارة بسرعة، وحين نصل، تستقبلنا الرائحة، وكان كلّ شيء انتهى”.
“لم يستيقظْ الجيران في زقاق بكر على وقع الحريق والروائح… وقفت مذهولًا… في أيّ اتجاه أمشي، ماذا أفعل، أتأمّل الرماد، ثم أعود، أتأمل المبنى المؤلف من طبقتين، أحبس دموعي حزنًا، لم تكنْ المكتبة مجرّد كتبٍ مكدّسة… لم تكنْ مجرّد أوراق، لمْ تكنْ مجرّد أغلفة. كانتْ يوميات وذكريات وحكايات. كلّ كتاب حكاية، وكلّ كتاب هو ثمرة رحلة إلى مدينة، أو ذكرى من صديقٍ، أو سطوة بيضاء على مكتبة. لا شيء يمكن فعله في ساعات الصباح الأولى. كلّ كتاب لامست أصابعي أوراقه في محاكاة مع الخيال والأفكار. شعرتُ بالإرهاق، فوق إرهاقي. أقف، أبسطُ يدي وأكوّرها، أعود أبسطها فحسب، أشعل سيجارة بيد مربكة أنسى رمادها، أصابعي كأنها لا تريد التقاطها. أشعر كما لو أني أعيشُ في ظلامٍ دامس. ليس لدي كلام لأقوله، ولا أستطيع فعل شيء، وأنا أتأمل الأشياء التي صارت رمادًا ولا يمكن ردها إلى ما كانت عليه”.
“البنزين الذي سكبه الحمقى على الكتبِ والأوراق والأغراض والأشياء والأنتيكا، كان كافيًا لإعدام كل شيء بسرعة. بدا أن الفاعل المجهول رسم سيناريو للحرق… راقبني عندما خرجتُ من المكتبة، فعل فعلته تحت عتم سميك وألصق ورقة تنْسِبُ الفعل إلى “عصبة التغيير في بلاد الشام”، وبرّر الفعل بأني أبيع “المشروبات الروحية”. لم أنمْ، بقيت حتّى الصباح، الأرض لم تعد تتّسع لي. أحاور نفسي، أسترجع ذاكرتي، أبحث عن عدو محتمل أسأل: من الذي فعلها؟ كثرٌ يحقدون عليّ لأني أبيع “الجعّة”، لكن لمْ أكنْ أتوقّع أن يلجأوا إلى حرق المحل والكتب. أخبرت والدتي وشقيقتي ثريا وأولاد شقيقي يعقوب، بما حصل، جلسوا في حالة صمتٍ على البرندة، كأنهم أقرب إلى الانفجار. ولم أكن أريد سماع أي كلامٍ، كنت أعرفُ ماذا سيقولون… ولم أكنْ أعرف ماذا سأفعل”.
“عدت إلى المحل عند التاسعة صباحًا، كانت الدنيا سوداء. بعد كل ما جرى، لم يرَ سكان محيط ساحة الأجداد في زقاق بكر، من كسر زجاج واجهة المكتبة ليلا وسكب البنزين على مقتنياتها من بضائع وتحفٍ وكتبٍ وذكرياتٍ، وأحرقها… عندما سألتُ جاري ما إذا كان شاهد غريباً في الحي، قال اسأل جاري الثاني… لم تكن الأسئلة مجدية. لقد أُحرقتْ المكتبة… لم يكنْ يعنيني مشهد تقاطر الناس لمشاهدة ما خلفه الحريق، ولم أكنْ أرى أحدًا… كانوا يتهامسون، بعضهم يقول كلامًا كأنه يوجه اللوم لي. وبعضهم يسألني ما إذا كنت أتلقّى تهديدًا من أحدٍ، ولم أكنْ أجيب…
الشخص الذي راودني شك أنّه الفاعل، لم يأتِ، ولم يسأل. أقمتُ جنازة لنفسي أمام مكتبتي المحترقة، أقمتُ جنازة للكتب والنفائس والأحلام والذكريات. تذكّرتُ طفولتي حين أُبيدتْ جوقة الأرانب التي أملكها انتقمت من القِطّ الفرنجي وقتلته، وأخفيت اليقين بأن قاتل الأرانب هو النمس وليس القط… الآن ماذا أفعل مع بشريّ ظلاميّ تسلّل ليلًا إلى المكتبة وأحرقها، لم أسمع من المحيطين بي سوى كلمة “الله بيعوض”، أو دعاء والدتي الغاضب “الله يحرقهم، أولاد الحريق”، وكل الكلام الذي لا ينفع بشيء… مَنْ النمس في المكتبة؟ حاولتُ أنْ أكون طبيعيًا في تلك اللحظة، لكن في ذاتي، كنتُ أعتبر أني أعيش اللحظة الأكثر تكلفًا. أصارعُ ظلّي، أقاتل خيالي، روحي في رأس أنفي”.
***
كان عبدالجبار على يقين أن الشكوى التي رفعها ضدّ مجهول لدى مخفر الضيعة في 28 أيار 2009، لن تصل إلى مكان، سيبقى الفاعل مجهولًا رغم أنّ شكوكه دارتْ حول بعض الأشخاص القريبين. فالضيعة التي يعيش فيها، باتتْ أكبر من مدينة، وحضور الدولة فيها لزوم ما لا يلزم…
تلك المكتبة التي أُحرقتْ، كان فيها ما يقارب 2000 كتاب متنوع بين الفلسفة والرواية والتاريخ، وحوالي 250 لوحة فنيّة وقطعة أنتيكا نحاسية وخشبية، وأرشيف تاريخي استغرق جمعه عشر سنوات من جهد و”بحبشة” في ذاكرة الناس والوثائق والملفات، بالإضافة إلى محتويات المحل، إذ كان عبدالجبار يزعم أنّه أنجز ثلاثة كتب وجاهزة للنشر، وكان يفتش عن مموّل أو مساعد لنشرهم، الأول يتضمّن تاريخ وحكايا وعادات محلية، والثاني يتضمّن نصوصًا تشبه الشعر أو الخواطر الانسانية والوجدانية والأخير عبارة عن موسوعة للأمثال الشعبية، يتضمّن 2500 مثل مبوّب حسب المضمون والاهتمام.
لم يشأ عبدالجبّار الاستسلام، أو الهزيمة أو الانصياع للواقع. لقد مضتْ سنوات على مغادرته المدرسة، ولم يغادر طقس القراءة، وسماع الحكايات وسردها، ولا يزال يتذكّر تمثال جياكوميتي في كتاب القراءة العربي. لم يفهمْ معنى التمثال في نشأته، ولم يفهمْ لماذا اختير ليدرّسَ، ولمْ يفهم النحت كله، لكن غموض التمثال جعله الأكثر رسوخًا في ذاكرته. جياكوميتي، الذي يتحدّث عن إحساسه بالضياع عندما نهشه العوز قائلًا عن منحوتته الشهيرة “الكلب/ 1951”: “هذا أنا، رأيت نفسي ذات يوم أتسكّع في الشوارع”. كالكلب! هكذا نحت جياكوميتي نفسه، نحيلًا وضالًا، ليس نفسه فقط، بل نحن جميعًا. نحت أزمة الإنسان المُعاصر “الإحساس بالهشاشة والضياع”. كلبٌ ضال، كأنّه هيكل عظمي، يهيم على وجهه.
كان جياكوميتي يتسكّع بين حانات باريس بجسدٍ نحيل وروحٍ باهتة. تعكس منحوتاته عالمه الذي حاولَ تمثيله بوضوح. عالم تظهر فيه النفس البشرية هشّة ومفكّكة في عالم لا يتوقّف من أجل أحدٍ.
“روحي أشبه بمنحوتة لجياكوميتي”. قال عبدالجبار، وفي المرات التي سعى إلى كتابة ذلك الماضي الغابر، كان يحسبُ أنّه مصاب بالنحس أو الشؤم، أو أن روحه صلبة مثل منحوتة جياكوميتي لكن حياته باهتة، وحظّه عاثر. في ذلك الليل الدافئ، بعد السلوى والسهر والنمائم البيضاء، ترك في مكتبته كل المخلوقات الخيالية الصديقة، التي تعرّف إليها خلال الثمانينيات والتسعينيات نائمة في فردوسها، أو تتسامر مع نفسها في مدينة اسمها المتاهة، تلك المخلوقات الخلاسية والكونية أطيافها من قارات وشعوب وأمزجة، أصبحت ملح الذاكرة ودمها. حاول على مدى سنوات أن يجعلها بشرية، لكن فضلتْ أن تبقى مطمئنة على نفسها في عالم المثل والحكايات، فهذا العالم أكثر خلودًا من عالم يحكمه العقل والعضلات واللحم والدم والجلد، أكثر خلودًا من نتانة الجسد. هي تعتبر نفسها مثل أسطورة آدم وحواء اللذين تناولا الثمرة المحرّمة فأنزلا من الجنة، أو طردا منها، تلك المخلوقات فجأة وجدتْ نفسها مطرودة من الخيال أو الجنة وأُنزلتْ على الأرض أي الورق، وباتتْ تسكن الكتب مطمئنة للحروف والجمل والعبارات والفواصل… تلك المخلوقات الساكنة في الكتب ليستْ بلهاء، صحيح أنها خيالية لكن تسكن البشر وتتلبّسُ بهم مثل الجنيّات والعفاريتْ، وفي أكثر الأوقات تتفوق على خالقها، أو تصير حياته ويعيش في ظلالها.
تلك المخلوقات الخيالية، شهدت على موت كتبها أو مسكن وجودها أو متحفها في تلك الليلة… في زمن كان عبدالجبار أمضى سنوات ما بعد “الرفاق” والهجرات الفاشلة، في مكتبته، لم يجد تسلية سوى في شراء كومبيوتر وعقد جلسات مع الصحب والأصدقاء، والنقاش بحرية وبلا سقف. وأتى نمس الظلام وأحرق الكتب وكل شيء.
***
“بقيت حوالي الأسبوع في حالة ذهول ولم أصدّق ما جرى، عبثًا كنتُ أفكّر، أسأل ربّما أصل إلى الجاني، أتوهّم أني، ربما أصل إليه، ربما أحصل على تعويض عن كارثة حلّت بي، وعندما تأقلمت مع الكارثة أو التروما، بدأت في التفكير بإعادة الترميم والانطلاق من تحت الرماد.
عندما بدأ عمال التنظيف بإزالة أثار الحريق من المحل، أتوا بشاحنة صغيرة، سألني أحدهم:
-“ماذا تريدنا أن نترك هنا؟”
أجبته:
– “لا شيء، لا شيء على الإطلاق”.
ما حدث لا ينقضي أبدًا، كانت المكتبة تجمع صداقتنا وتصنع أفكارنا، تلك الكتب التي كانتْ تحوي أفكارًا وحكايات، صارت رمادًا أسود… هل نقرأ في الرماد ونجعله استعارة للأشياء… تلك التحف التي كانتْ موضوعة على الرفوف أو معلقة على الجدران صارت خردة… النار تبدّل معنى الأشياء. مقتل تلك الكائنات الورقية جعلني خارج زمني، وخارج ذكرياتي.
أراقب المارة، أشعل سيجارة… السيجارة تساعدني على النسيان لكنها لا تطفئ الكآبة الجاثمة على عينيّ. أتذكّر فترات القراءة والحكايات التي قضيتها من أناس جلسوا في المكتبة لساعات، أتذكّر أشياء وأشياء، والآن لا أستطيع فعل شيء سوى السعي إلى النسيان في مواجهة ذباب الذاكرة… العيش في بيئة يسيطر عليها الغيب، يجعل المرء مكتئبًا. أقول لو أمتلك القوّة لما كان لأحدٍ أن يجرؤ على الاقتراب من مكتبتي. أنا على يقين أن البشر يهابون الأقوياء، ويفترسون الضعفاء، نجاهد كثيرًا لنخرج من الغابة ونعود إليها، ولا ضير في القول إن الكثيرين يشمتون، أعرف أنّ الحقد مدفون عند الكثيرين ويظهر في لحظات السواد… كنتُ أراقب العمال يرفعون رماد الأشياء، رائحة الحريق لا تزال قويّة وتزكم الأنف، كل الأشياء استسلمت لمارد النار… الشّرر يتطاير من عينيّ، وتفكري شجرةٌ تتمايل مع الرياح العاتية، أريد أن أبكي ولا أبكي، أريد أن أستوعبَ ما جرى ولم أستوعبْ. أشعل سيجارة بيدي المرتجفة وخيالي يحترق مثل حطب يابس، وعندما وصل العمال إلى رماد بعض الكتب، ظهر كتاب “مذكرات غاندي” مع مجموعة أخرى لم تحترق، تدحرجتْ دموعي لا إراديًا مثل صخور عالية، هوتْ في وادٍ سحيق. عانقتْ دموعي رائحة الرماد، وخرجتُ هائمًا”.
“العمال يرفعون الرماد، وأنا أشعرُ بحزنٍ عمره سنوات يسطو على وجهي ونظراتي. كأن طوفان الدموع جرف رهبة الأشياء ولم أعدْ أخجلُ أن يسمعَ الناس بكائي في ساحة أجدادي. لم أعرفْ سبب ذلك في تلك اللحظة، أهو حزن وتأثر على مكتبة عامرة أكلتها النيران، أم هو حزن على مبادئ وقيم غاندي السلمية اللاعنفية في لحظة دفن شناعة الجريمة… الأفكار في رأسي ترقص كالجنيات”.
***
طوال سنوات حين كان عبدالجبّار يجمع الأنتيكا من هنا وهناك أو يشتريها، ويرتبها في مكتبته… يسأله بعضهم عن سرّ هذا الهوس بالأشياء القديمة… يجمعها كما لو أنه يعيش حياة أرستقراطية، ويمازحونه: ما تكون عم تقلّد وليد جنبلاط؟! لا أحد كان يولي أي اهتمام بالأشياء القديمة في بلدة طبق الورد، كل شيء يغلب عليه الطابع المادي الصرف، كأن الأشياء يصير لها معنى في مجتمعات هي تفرض لها معنى… كان عبدالجبار يجمعُ أشياءه، ويعرف أنّ ما يفعله لا يعني المحيطين به أو الذين يزورونه… حتّى أولئك الذين يصادف عندهم أشياء قديمة، نحاسية أو فضية في الضيعة، كانوا يقصدون مكتبته لابتياعها… والدته الحاجة فردوس لم تكن تتدخل في ما كان يفعله، لكن حين تعلم بالمبلغ الذي يدفعه ثمن الأنتيكا، تقول لأخته وداد: “عبدالجبار يحرق مصاريه على الخردة التي يجمعها”… تجيبها شقيقته الكبرى وداد: “يعمل الذي في رأسه، إذ تدخلنا في شأنه لا يعيرنا أي اهتمام”.
حتّى أولئك الذين يذهبون في البرد القارس إلى الجرود لصيد ذكر الحجل، يريدون معاتبة عبدالجبّار على جمع الأنتيكا… كأنهم لا يدركون معنى هوسهم بصيّد هذا الطائر، وهم يمضون وقتًا طويلًا في جلساتهم وسهراتهم، يتحدّثون الحكايات ويؤلفون الأساطير عن رحلاتهم إلى الصيد، وقدراتهم في وضع الشرك، والتقاط ذكر الحجل….
كان عبدالجبار حزينًا ومندفعًا لإعادة فتح المكتبة كنوعٍ من التحدّي في مواجهة المجرمين… وبدأت عملية الترميم بالإمكانيات المحدودة. أحمد الزبون المداوم في سهرات المكتبة قال له:
– “عليك أن ترفع طلب مساعدة إلى البلدية، علّها تتحمّل جزءًا من المسؤولية وتساعدك”…
أجابه:
– “ماذا يمكن أن تقدّم بعد خسارتي آلاف الدولارات والكتب والكتابة، سئمتُ الخسارات”..
جاءه صديق في زيارة عابرة، وأهداه نصيحة بأن يرفع طلبًا إلى القائمقام في بعلبك وتحت إشرافه الهيئة العليا للإغاثة في منطقته… حصل على نسخة من التحقيق الرسمي حول الجريمة وذهب باتجاه بعلبك قاصدًا مكتب القائمقام في السرايا.
استقبله القائمقام بالترحاب وأهلا وأسهلًا بعد موعد مسبقٍ، وكان على علم بما حدث من خلال الأجهزة الأمنية، وأخذ من يده تقرير قوى الأمن وبدأ يقرأه وقبل أن ينتهي، تأفف مع ابتسامة وقال:
– “العمى في قلوبهم شو معتبرينك رافضي، حتى عاملين فيك هيك؟”.
ضحكَ مساعده ضحكة مجلجلة، وقال:
– “أهم! حضرته بيكون من جماعة لينين”.
كان عبدالجبار غاضبًا، ولم تضحكه النكتة السوداء…
القائمقام يحتسي قهوته بفنجان صيني قديم، ويتأمل كأنه يريد أن تنتهي الزيارة سريعًا… شرح عبدالجبار سبب زيارته، انتظر أن يسمع جوابًا في شيء من التعويض المعنوي على الأقل، اعتذر القائمقام وقال: هذا ليس من اختصاصنا، ولا يوجد فروع إقليمية لهيئة الإغاثة. عليك بتقديم طلبٍ للهيئة العليا للإغاثة في بيروت. لم يقل شيئًا، خرج وهو يجرجر أذيال الخيبات المتلاحقة خلفه مع بريق أمل يشع من بيروت…
نجاهد كثيرًا لكي نصل إلى اللاشيء.
الكلام لم ينته، والحرائق لا تنتهي. وكل المعارك خاسرة.
ـــــــــــــــــــــــــ
(*) فصل من رواية تصدر قريبا، ولا تمتّ إلى الخيال بصلة