محمد ابن المهدي
كاتب مغربي
نام نوما متقطعا للّيلة الثالثة، يحس بألم رهيب يتغلغل في عموده الفقري، وانفجارات صغيرة داخل أحشائه، وصداع طفيف ينقر رأسه الصغير. والآن بدأت حكّة جامحة تجتاح مناطق من جسده، يصرخ ويقفز ويحترق. ذهبت به أمه عند الطبيب، عاينه الطبيب وأخذ عينات من دمه ووصف له مهدئا خفيفا.
بعد تفاقم حالة لؤي ذي السابعة، أصبح والده يظلّ في البيت ما استطاع، يعود بسرعة فائقة من العمل، ولو كان يستطيع الطيران لطار إلى البيت. أمسيات المقاهي المعتادة حرم نفسه منها، وغدا رجل البيت الأول. حذّر زوجته أكثر من مرّة وبشكل ملحّ ومبالغ فيه، من الحلويات التي يتناولها لؤي باستمرار.
“السكريات هي سبب الحكّة؟!” يقول الأب ذلك. بل أصبح كلما اشتدّ ألم الطفل، يقولها ويكررها كثيرة كتسبيحة من التسبيحات.
سمع لؤي والده، وقال لأمه:”ماشي الحلاوة؟” قالها بصوت النجدة كما لو كان يعلم السبب جيّدا.
رمقه والده بحدّة. خفض لؤي بصره وهو يحكّ ساعده الأيسر بخشونة.
وقبل عودة الأب من العمل، يلحّ لؤي على أمه إن تركت لأبيه من الغذاء، يؤكّد على ذلك بإصرار مخيف. لكنه لا يهدأ إلا إذا شاهد بعينه غذاء أبيه مستلقيا فوق الفرن.
يعود الأب، قبل أن يبتسم ينظر نحو زوجته أوّلا، ابتسامة أبويّة تخفي حذرا ما. لؤي يقف بعيدا، بعدما كان يتسابق نحو الباب ليحتفي بعودة والده مع بعض الهدايا الصغيرة. حتى هذه المرّة معه لعبة، سيارة ناينتي فايف الشهيرة. من قبل لم يكن لؤي بحاجة إلى نداء ليتسلّم هديّته، نادى عليه والده بشيء من الأنانية المتستّرة خلف ستار من الكبرياء والسلطوية والخجل.
رفع لؤي نحوه نظرة خاوية مترددة لا تدل إلا على الفزع المزمن.
كان شكل الأب كأنّه يعاني لا توازن عقليّا، شاحب الوجه ببقع سوداء حول عينيه. لكنّه يعلم جيّدا كيف يعامل العالم من حوله، كنوع من الفطنة يفرض بها الاحترام والتبجيل. لا يفتخر بالعنف الكثير الذي تلقّاه من والده وهو صغير، كما يفعل الكبار عادة بتلذذ، إنّما يمقت سيرة العنف والضرب. لكن القتل والذبح، شيء على مستوى كبير من العنف، ربما يحمل بعدا عاديا في نفسه وعقله.
كان في صغره طفلا فضوليا بحساسية مفرطة، يجري خلف تلبية ميولاته العنيفة، ويعشق تجربة أشياء جديدة. لكن والده كان يضايقه، يحاول بكل الطرق كبح اندفاعه. الشيء الذي جعل الكثير من الأشياء عالقة بلا إنجاز.
وذات يوم، بمزاج طفولي خاص غير معتاد، أغرق قطتهم بانشراح صدر عجيب، راقبها بتلذذ جامح وهي تغرق، ثم قبرها في الخلاء البعيد.
جاء المساء، عاد الأب صفر اليدين. كان تحت تأثير نشوة عارمة، كتلة صامتة وديعة تدير عالما داخليّا غامضا وحكيما.
خفّ وجع لؤي قليلا في ذلك المساء، وبدا كأنه يستعيد قليلا من براءته المعهودة. بذلك أطلق الأب العنان لسعادة هستيرية فائضة عن الحد، راقبت الأم ذلك وشعرت بعاطفة سحرية. ورغم ذلك، لم يبادر الأب هذه الليلة بتقديم هاتفه لابنه كما يفعل عادة.
بعدما خلد الأب للنوم وبقيت الأم تشاهد التلفاز، كان لؤي في غرفة أخته ينصت لحكايتها، مما يضفي لونا من التعافي على حياته. كان بيده الصغيرة يلاعب قلم الرصاص. نظر ناحية أخته، استمد قوة مجنونة من هدوء الليل وروح العطف السمح النّضر على وجه أخته، وقال بسرعة: “هو نفس القلم عند أبي، لكنّه غليظ، كان يضعه هنا…(أشار إلى المنطقة الحسّاسة)، قال لي لا تخبر أحدا وإلا قتلت الجميع؟!”
في الصّباح، وُجد الأب جثة هامدة معلّقة.