شوقي بزيع
شاعر وكاتب لبناني
لعقود قليلة خلت لم يكن عقد الكوكبة التي أطلقت عليها تسمية شعراء الجنوب قد بدأ بعد بالانفراط، باستثناء الرحيل المبكر لموسى شعيب، الشاعر الوسيم ذي الموهبة المتوقدة الذي قضى اغتيالًا لأسباب سياسية عام 1980. أما التسمية نفسها فقد تم إطلاقها من قبل الصحافة ووسائل الإعلام، في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية بقليل، وفي ذروة الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، حيث انتبه البعض إلى أن الغالبية الساحقة من شعراء العقد الأول من السبعينيات الذين قدموا لاستكمال دراستهم العليا في الجامعة اللبنانية، تنتمي إلى الجنوب اللبناني. وهو أمر يمكن فهمه في ظل التضافر الوثيق بين جملة من العناصر، التي يعود بعضها إلى الترددات الوجدانية الجمعية للواقعة الكربلائية، وبعضها الآخر إلى سلاسة الجغرافيا وعبقرية المكان وتحدّب الهضاب الأمومي، وبعضها الثالث إلى المعاناة المزمنة التي عاشها الجنوب اللبناني، تهميشًا من قبل السلطة، ومواجهةً قاسية مع الاحتلال.
أما العامل الإضافي الذي أسهم في تثبيت التسمية وترسيخها، فقد تمثل في تبني المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وأمينه العام حبيب صادق لشعراء ذلك الجيل، سواء من خلال استضافتهم المتكررة في مقره البيروتي، أو من خلال المهرجان السنوي للشعر الجنوبي، الذي توزعت دوراته المتتالية في الفترة السابقة على الحرب بين مدينتي النبطية وصور، وشاركت فيها أسماء من مختلف المشارب والأساليب، بينها محمد علي شمس الدين وموسى شعيب وحسن عبدالله وإلياس لحود وياسر بدرالدين وعبدالكريم شمس الدين وجودت فخرالدين وأحمد فرحات، إضافة إلى كاتب هذه السطور، وإلى رَجُلي الدين المتنورَين والقادمَين للتو من النجف، محمد حسن الأمين وهاني فحص.
لم يكن حضور محمد علي شمس الدين عاديًا آنذاك وسط أترابه الشعراء، بل كان قادرًا بما يمتلكه من موهبة عالية وتمرّس لافت بلغة الضاد وتراكيبها الصوتية وشجوها الغنائي، على لفت أنظار الجميع إلى إطلالته المتفردة التي لا تقتصر على الشعر وحده، بل تضفرها بالمزيد من البهاء وسامته الظاهرة ووجهه القمري وإلقاؤه المنبري. وكان جمهور الشعر برمته مشدودًا إلى نبرات صوته المؤثرة وهو ينشد قصيدته المفعمة بالشجن “ارتعاشات اللحظة الأخيرة”، التي غناها الفنان اللبناني أحمد قعبور في وقت لاحق، والتي يقول في مطلعها:
تهبّ الريح في فلواتيَ الجرداءِ
تقلع في منابتها جذورَ الرعشة الأولى
وتلقيها على فلوات صدركِ
برعمًا من دمْ
أنا لا الريّ يرويني
ولا قبسٌ من النيران يحييني
وبي ظمأٌ وما لي فمْ
والواقع أن ما تأتّى لشمس الدين من عناصر التميز لم يكن متصلًا بالموهبة الصرف وحدها، بل كانت تضفره طفولته المترعة بالثراء المشهدي وسحر الطبيعة الأخاذ، ونشأته المبكرة في كنف جده لأبيه الذي كان شغوفًا بالشعر وضليعًا بشؤون الدين والفقه والتراث الصوفي. كما أفادته لاحقًا قراءاته المعمقة وتتلمذه يافعًا على سعيد عقل، الذي قبس منه أسلوبه المنمنم ولغته الباذخة، وهندسته الجمالية والإيقاعية. وهو ما بدا واضحًا في مجموعته الشعرية الأولى “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا”، التي ترافق صدورها مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، والتي عكست من خلال لغتها المتوهجة وغنائيتها المرهفة وعمقها الرؤيوي صورة الكيان اللبناني الممزق بين ماضي البلاد الوردي، وبين حاضرها المحفوف بالكوارث. وسواء أكانت آسيا في عنوان مجموعته ترمز إلى ابنته البكر، أو إلى القارة المترامية التي يقع بلده الصغير في طرفها الغربي، فقد تمكنت هذه المجموعة، وخلافًا لبواكير الشعراء، من وضع صاحبها في قلب المشهد الشعري الحداثي، وفي طليعة الجيل الذي عُرف أبناؤه اصطلاحًا بجيل السبعينيات.
ولم تكن المكانة المرموقة التي احتلها الديوان في ذاكرة قرّائه، مرتبطة بقصيدة واحدة أو نص بعينه، بل عكست قصائده بأجمعها صلة صاحبها الوثيقة بأسئلة الهوية والمكان، والتعلق بالجذور الينبوعية للعيش، كردّ طبيعي على قلق الإنسان وغربته عن نفسه وعن محيطه. وهو ما عكسته بوضوح قصائد “الطوفان” و”أربعة وجوه في مرآة مكسورة” و”تجليات الورد والحمّى” و”دعوة لاغتيال ميم” و”البحث عن غرناطة”، التي احتفى بها على نحو خاص المستشرق الإسباني بيدرو مارتينيث وترجمها إلى الإسبانية. على أن القيمة الفعلية لهذه المجموعة، لا تتمثل في مضامينها وموضوعاتها الحداثية فحسب، بل في طزاجة لغتها وتواشج إيقاعاتها وثراء صيغها التعبيرية.
وقد حافظ شمس الدين في مجموعته الثانية “غيم لأحلام الملك المخلوع” على معظم الخصائص الأسلوبية التي اتسم بها عمله الأول، وعلى ترجيعاته الغنائية الشجية، والتفاتته الدائمة باتجاه الأماكن الأم التي غادرها إلى العاصمة في مطالع صباه، وتحولت إلى مادة غنية للكتابة، كما كان الحال مع معظم مجايليه الجنوبيين. فبقدر ما بدت قصيدة “بيروت” لمحمد العبدالله التجسيد الشعري الأمثل لحالة التمزق المرير، بين الماضي الريفي الغارب والحاضر المديني الإسمنتي، بدت قصيدة شمس الدين المبكرة “دخان القرى” التجسيد الأمثل لمرحلة الانفصال الصعب عن مسقط الرأس، والتي يقول فيها:
هو القلب أم حفنةٌ من دخان القرى؟
قال لي صاحبي:
نشأنا معًا وضحكنا معًا
وشربنا معًا وحْل أقدامنا
فهل أنت مثلي غدًا ميّت في المدينه؟
قلت: هذا اتجاهي
من النهر حتى احتراقاته في الخليج
جنوبًا جنوبًا جنوبًا
وكلّ الجهات التي حددتني غدت واحده
ورغم أن التقنيات والعناصر الأسلوبية والرؤيوية التي حكمت قصيدة شمس الدين في مجموعته الأولى لم تختلف كثيرًا في مجموعته الثانية، إلا أن الشاعر يُظهر هنا ميلًا أشد إلى القصيدة المركّبة ذات البناء السمفوني، وتفاعلًا أكثر وضوحًا مع جماليات الطبيعة الجنوبية وتضاريسها المتنوعة، كما مع التراثين الكربلائي والفولكلوري. إلا أن تأثيرات الحرب الطاحنة التي اندلعت بين اللبنانيين في تلك الفترة، باتت أكثر وضوحًا في هذه المجموعة، ليس فقط على صعيد الموضوعات والمعاني وخلفيات النصوص، بل على صعيد الجمل العصبية والتوتر النفسي والمعجم الدلالي الذي تتكرر معه مفردات الدم والخنجر والزلزال والنزف والقنص والكفن والعويل، وكثير غيرها. كما تتصادى قصائد تلك المرحلة مع عوالم غارسيا لوركا ذات اللغة الجارحة والصور المحسوسة والمباغتة، حيث تتكرر ثنائية الموت – الحياة ومشهدية الجنازة – العرس، وغيرها من المفارقات الضدية. وإذ يفيد الشاعر من التراث القرآني في طقسيْه الروحاني والتعبيري، يحرص في الوقت ذاته على الإفادة من الرموز والأساطير المشرقية والغربية. وفي أحيان أخرى تتحول القصيدة برمتها إلى عمل ملحمي ذي خلفية أسطورية.
أما في أعماله اللاحقة “أناديك يا ملكي وحبيبي” و”الشوكة البنفسجية” وغيرها، فيحرص الشاعر أكثر فأكثر على المواءمة بين مقتضيات المعنى وجماليات الشكل، بعيدًا عن الإفاضة التعبيرية والاحتشاد الصوري واللفظي. كما تتجه كتابته نحو المزيد من الوضوح والتصويب نحو الجوهر، دون أن تغادر رشاقتها الأسلوبية وانسيابها الغنائي. وهو ما يظهر جليًا في “حديقة مريم” على سبيل المثال لا الحصر:
جلستْ مريم في مرمى الحقيقة
مرّ قناصٌ ولم يقنصْ
ومرت في الحديقة
طفلة خضراء مثل الشجراتْ
قلت فلأعبرْ وأطلقتُ عناني
نظرتْ مريم لم تخطئ حصاني
ورأت ظلي فسمته الترابْ
ورأت كفّي فسمتها الزمنْ
ولا يتردد شمس الدين في تحويل ذلك الينبوع الثر من الطقوس الدينية والتراثية، ذات الطابع الكربلائي على وجه الخصوص، إلى مادة شعرية آهلة بالأساطير، والمشهديات الصورية الملحمية، والترجيعات الصوتية الموشاة بالحسرات، والمطعمة بالمرويات الشعبية والمواويل والفولكلور الجمعي. وإذا لم تكن هذه الظاهرة مقتصرة على شمس الدين وحده، بل بدت بمثابة سمة مشتركة بين عدد من شعراء الجنوب اللبناني، فإن صاحب “منازل النرد” قد جعلها أكثر من أي شاعر آخر، أحد المراجع الأبرز لطاقته التخييلية ومعجمه الدلالي ووجدانه العميق. وهو ما سينعكس في مجمل أعماله الشعرية، كما في قصائد كثيرة مثل “من مراثي فاطمة” و”كف العباس” و”عرس القاسم” و”المهدي” و”شمس محمد” وكثير غيرها. إلا أن من موجبات الإنصاف القول بأن تفاعل الشاعر مع الرموز الدينية والأسطورية والتاريخية لم يقتصر على هذا الجانب وحده، بل اتسعت دائرته بالتدريج، لتتحول إلى حوارات مختلفة وغنية مع عشرات الفلاسفة والمفكرين والشعراء في الماضي والحاضر، وفي الشرق كما في الغرب، مثل عبد الرحمن الداخل وأبي العلاء المعري وابن سينا وديك الجن الحمصي وزرياب وجلال الدين الرومي. كما أن إعجابه بحافظ الشيرازي دفعه إلى التصادي الشعري والروحي مع تجربته، لا عن طريق الترجمة الدقيقة، وهو الذي لا يتقن الفارسية، بل عن طريق اقتباس المعاني والصور والمناخات، ونقلها إلى العربية عبر قصائد منظومة على النسق الخليلي، تم نشرها تحت عنوان “شيرازيات”.
ولا بد لقارئ شمس الدين أن يتوقف مليًا عند المروحة الواسعة التي تطالها موضوعاته وخياله الواسع، الذي لم يدع فكرة تخطر على بال الإنسان المعاصر إلا وقاربها في نصوصه ومقطوعاته، بحيث مزج الماضي بالحاضر والمستقبل، والمكان بالزمان، والمقدس بالمدنس، مقترحًا على شعره أكثر أسئلة العصر إشكالية ومثارًا للجدل. وإذا كانت هذه الميزة قد وضعته في قلب الحداثة الشعرية وجوهرها ومتنها، فإن أشكاله التعبيرية والأسلوبية قد رسخت من جهتها حضوره داخل المشهد الحداثي العربي. فمن جهة الصورة يمتلك شعر شمس الدين بوصلة بصرية شاسعة، تقطف من خلالها عينا الشاعر النافذتان كل ما يريد أن يوظفه في نصوصه من جمال الطبيعة وسحر الموجودات، مازجًا في متّحد بلاغي رفيع، بين المحسوس والمجرد، وبين المرئي واللامرئي. ورغم أننا لم نعرف عن الشاعر مزاولته الشخصية لفن الرسم، فهو لا يكتفي في كتاباته بالإفادة من فنون التشكيل، بل يدخل في حوارات افتراضية مع كبار الرسامين، من أمثال غويا وغوغان وسيزان وسلفادور دالي وحسن جوني، الذي كتب له قصيدته “معك وحدي”، التي يقول فيها:
دعني أتملّى وجهك وحدي في مرآة يديكَ
وأصغي لبكاءٍ يرشح من جفنيك إلى قلبي
وأراك جميلًا كغريق في الماءِ
وأزرقَ أخضرَ أبيضَ
كالهذيانْ
وكطيرٍ تسبح في فلَك الأزمانْ
هذا الثراء البصري في نصوص شمس الدين واكبه بالمقابل ثراء إيقاعي وصوتي متصل على الأرجح بحساسيته الموسيقية الفطرية، واستمرائه للجانب الموسيقي من الشعر. وهو لا يتوانى عن الانتقال من بحر إلى آخر في القصيدة ذاتها، معتمدًا المسرحة والبناء الدرامي والتوشية النغمية، وفقًا لمتطلبات المعنى وخلفياته النفسية والعصبية. ومع أنه يستخدم البحور ذات التفعيلات المكررة التي استخدمها جيل الرواد، إلا أن مهارته في استثمار العروض العربي في مختلف أنماطه وجوازاته، تجعل من معظم كتاباته تطبيقًا عمليًا لقول بول فاليري “على الصوت في الشعر أن يكون صدىً للمعنى”، أو قوله الآخر “الناثر يمشي أما الشاعر فيرقص”. لكن هذا الرقص ينحو نحو المبالغة ويبدو متقصدًا لذاته في بعض الحالات، تمامًا كما هو الحال مع القافية التي -وإن أتقن شمس الدين توظيفها في نصوصه على نحو عام- إلا أن الإلحاح على استخدامها والتقريب في ما بينها، يحولها في مواقع مختلفة إلى نوع من”التسجيع” أو التطريب اللفظي المفرط، كما هو حال قصيدة “الهدهد” التي يهديها الشاعر إلى صديقه شوقي أبي شقرا:
لا تأخذ تاج فتى الهيكلْ
خذ تاء التاجْ
واصنع منها لغة الأبراجْ
خذ إن شئت الأمواجْ
لكنْ إياك البحرْ
فالبحر فتىً وزواجْ
ولا يتحرج شمس الدين من استثمار كل الاحتمالات الإيقاعية للشعرية العربية، فيكتب القصيدة الخليلية، جنبًا إلى جنب مع قصيدة التفعيلة، وصولًا إلى قصيدة النثر. إلا أن الشاعر المفطور على الأوزان، لم يفلح من وجهة نظري في البلوغ بالخيار الأخير إلى المستويات نفسها التي بلغها عبر الخيارين الأولين. والأرجح أنه لم يفعل ذلك عن قناعة راسخة ومتأصلة في داخله، بل كنوع من إثبات قدرته على الكتابة بمختلف الأساليب والأشكال، أو رغبة منه في “مقارعة” شعراء قصيدة النثر في ساحتهم، وعلى ملعبهم بالذات. ولعل ما تقدم يفسره إقلال الشاعر التدريجي من هذه النصوص، مقابل مضاعفة منسوب قصائده الخليلية.
يتعذر على المرء أخيرًا أن يحيط بتجربة شاسعة ومتنوعة وبالغة الثراء، كتجربة محمد علي شمس الدين، حيث إن مهمة كهذه تحتاج إلى كتب مستقلة ودراسات بحثية مطولة. ومع أن “أميرال الطيور” لم يكن مهملًا على المستويين النقدي والإعلامي أثناء حياته، إلا أن غيابه الجسدي سيثبت بالقطع أن شاعريته المتوقدة لن تفقد قدرتها بغيابه الجسدي على التحليق، كما هو شأن الكثير من النظّامين ومنتحلي الصفة، بل هي ستجترح من لبنات الاستعارات “ممالكها العالية ” وفراديسها التي لا تخبو.