حمود حمد الشكيلي
كاتب عماني
في قصص يحيى سلام المنذري الثلاث المجموعة في عنوان “وقت قصير للهلع”، الصادر حديثًا عن دار عرب، نقرأ قصصًا تصوِّرُ هلع الإنسان، من الفقد والوحدة والغربة والفقر والمرض.
في موضوع الخوف نجد القاص يحيى سلام المنذري مفتونًا بتجربته القصصية “بيت وحيد في الصحراء” الصادرة قبل عشرين عامًا عن كتاب 2002م. أغرته الشخصيات هناك فعاود النظر إليها من خلال ما قد يصلهم من بلدانهم إلى بلده موضع غربتهم وانكساراتهم، لكأنه لم يشبعهم كتابة، بدا أنه راغب في أن يبقى متأمِّلا ما فاته من تلك التجربة. يُوصِلُ إلى قارئه ما لم يصل، يردُّ ما انْتُزِعَ، يفتح المُغْلق؛ فتنكشف الأسرار، وتتضح الهدايا وتعود الرسائل.
لم يراقب يحيى سلام هذه المرة العمال وهم يزرعون الأرض بغابة أسمنت فقط، إنما وهم أساس بيوتنا، جزءٌ منها بأحلامهم، كما هو حال “ماري” في قصة “صناديق المفاجآت الملونة”.
صار الكاتب التاريخي “يحيى سلام المنذري” في مجموعته الأحدث” وقت قصير للهلع” قارئًا وكاتبًا ومترجمًا مفترضًا للجزء الثاني من المجموعة القديمة “زارعو غابة الأسمنت”.
قراءتي لمجموعته ستتركّز في قصة “غليان الشاي”، ولعل تمركزها في وسط الكتاب بين قصتين كان اختيارًا مناسبًا، لكأنها تحمل كذلك إشارة تؤكد ما سيجعل قارئًا يعود إليها أكثر من مرة، فإذا ما أراد قارئ إقامة علاقة ربط وتواصل بين قصص من المجموعة الأقدم “بيت وحيد في الصحراء”، سيجد ما يسمح له بذلك في المجموعة الأحدث”، وقت قصير للهلع”، لعلنا قادرون على الإشارة إلى فكرتنا هذه بالتمثيل بالقصة الثانية “رسالة من تلك البلاد”، إحدى قصص الجزء الثاني “زارعو غابة الأسمنت” في مجموعته “بيت وحيدٌ في الصحراء”.
قصة “رسالة من تلك البلاد” حبكة رسالتها المنتزعة من قبل شقيقين عوضتها السنون برسالة أكثر انفتاحًا ورسمًا تفصيليًّا. رمزيًّا استبدلت الرسالة المنتزعة في قصة “رسالة من تلك البلاد” بـ “هديّة أختي حسينة” في قصة “غليان الشاي”.
بالعودة إليها سنقرأها في ثلاثة أجزاء بهذه العناوين “هدية أختي حسينة/ الكتاب الإسمنتي/ صياد العاملات”.
في الأول نقرأ إهداء حسينة لأخيها محمد عزالدين المغترب في عُمان كتاب قصص مترجمة، من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزيّة بعنوان “بيت وحيد في الصحراء لكاتب عُماني ص36”. ولعلنا من هنا يمكننا التفكير لاستنطاق تساؤلات عديدة، فلنبدأ بهذا السؤال، ألن يقرأ الأخ هدية أخته؟
لكأن حسينة أرادت من أخيها الاقتراب من واقعه بقراءة ما صوّره الكاتب العُماني، فإذا اطّلع على نماذج من حياة العُمال؛ بصفته واحدًا منهم صار أكثر قربًا من واقع بني جلدته، وأصبح أكثر خبرة بالعمانيين، وبهذا نتوقّع أنه سيكون قادرًا على الإجابة على سؤال “كيف ينظر العمانيون إليه؟ وكيف يمكنه أن يعيش خمسة عشر عامًا في بلدهم؟ كيف يتحمّل الغربة؟
وحدها القراءة حوّلت العامل المغترب إلى كاتبٍ ومقيِّمِ قصص. ثمة قصة في كتاب بيت وحيد في الصحراء “مملّة”، هكذا يصف محمد عزالدين بعض تجارب تلك القصص، بعدد من الدلالات النصِّية في يومية (19 يوليو- 9 مساء) نصل إلى أنه يشير إلى قصة “الشمس لا تجد من تقدم له دفأها”، إحدى قصص “بيت وحيد في الصحراء”. وبهذا فإن الكتاب المقروء، “بيت وحيد في الصحراء” صار دفتر كتابة يوميات، لكنها يوميات لن نقرأها بلغة الكتابة، إنما بلغة الترجمة تحت عنوان “هديّة أختي حسينة”، وسنصل إلى أن القراءة حوّلت العامل إلى كاتبٍ حتى أضحت الكتابة لديه متنفسًا مسائيًّا يعود إليها؛ ليملأ بياض تسع وعشرين صفحة يتيمة من صفحات كتاب “بيت وحيد في الصحراء”، مدونًا فيها اثنتين وعشرين يوميّة (20 يونيو-10 ديسمبر)، وفيها وجدنا القراءة للعامل راحة، المتنفس الوحيد لما في النهار من تعب، القراءة عودة إلى الذات، ذكرى رائحة الأخت، استذكار وتذكّرٌ، تمثّل صوري للوالدين. الكتابة الخلاص الوحيد، الملجأ والملاذ، السر الغامض، الأسرار المكتوبة، الكشف والبوح والتأمل، والصدق، إنها الإنسانية الأرقى في جزء منها يؤكدها الأدبُ في دواخل المشتغل قارئًا وكاتبًا.
أدب اليوميات الفن الأكثر قربا من النفس والروح في تجلياتهما الصادقة من عامل بسيط يكتب كما يقرأ في السرِّ، فلنفترض أنه جعل الكتابة ملاذا وحيدًا، متنفسًا من الوحشة والكرب وضيق الغربة، ونحن إن سألنا عن كيفية وصول يوميات العامل إلينا بعد أن قرأناها مترجمة في الجزء الأول سنصل في الجزء الثاني من القصة والمعنون بـ”الكتاب الأسمنتي” إلى أن الكتاب صار كتابين، وبهذا فهو كتاب جامعٌ، بين قصص “بيت وحيد في الصحراء” ويوميات العامل “هدية أختي حسينة” المكتوبة أول مرة باللغة التي ترجمت إليها قصص “بيت وحيد في الصحراء” ووصلتنا باللغة الأولى نفسها التي كتب بها يحيى سلام كتابه القديم، وقد دوِّنت تلك اليوميات بقلم في صفحات القصص المفرغة من الكلام من أصل صفحات كثيرة في الكتاب الصادر قبل عشرين عامًا.
قبل مباشرة فعل الترجمة كان أن بحث القارئ والمترجم المفترض عمن أعطاه نسخة من الكتاب، هذا ما سيكشفه الجزء الثالث من القصة “صياد العاملات”، وبهذا غُيِّبنا عن لغة اليوميات الأولى مثل ما غاب العامل عن يومياته.
من المحتمل أن نصل في قراءتنا هذه إلى أن يحيى سلام بعد أن كتب تلك اليوميات كان لابد له من ربطها بسياق يجعل القارئ يتقبّلها قراءة كما لو أنها فعلًا كذلك، فكان أن مثّل دور المترجم الذي بحث عن حيلة تجعل من قصة “غليان الشاي” مشتركة بين اثنين، هما الكاتب المتخيّل هذه المرة، والعامل المفترض.
أخيرًا يمكن أن نترك سؤالًا به نختم إذا ما ذكّرْنا بنهاية القصة في جملتها هذه “في كل الأحوال كانت حكاية هبّت علي كريح ناعمة. نعم حكاية أرقتني وانتهت. ص 46″، نقول إلى أي مدى كانت المواءمة بين الحيل والإحالات الرابطة بين الكاتب التاريخي، والكاتب المفترض تلك التي أشارت إلى صفتي الكاتب والمترجم، مقبولة فنيًّا في سياق جامع ورابط، بين أجزاء القصة الثلاثة؟