أحمد بن مولودي العمراوي
باحث مغربي
مثل خوان غويتسولو حالة فريدة في الأدب العالمي والإسباني، خاصة بعد منتصف القرن العشرين. وفرادته هذه أملتها بصورة رئيسة الحياة التي عاشها كإنسان بدون وطن كما وصف نفسه في رواياته. فعلى غرار ما سمي بـ”جيل الثمانية والتسعين” في الأدب الإسباني الذي ضمّ كتّابا كبارًا من طينة: “مائيثتوMaeztu، أونامونوUnamuno، وأثورين(Azorin”(1في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تشكّل جيلٌ آخر سمي بـ”جيل منتصف القرن” وعلى رأسهم خوان غويتسولو. وهو جيل تكون من مجموعة من الكتاب نشطت بعد سنوات الخمسينيات من القرن العشرين. فقد انتمى هذا الجيل-في بداية مشواره- إلى تيار واقعي اجتماعي/ اشتراكي عبَّر بواسطة كتاباته -مقالات أو روايات- عن التزامه السياسي من خلال جمالية واقعية تدين الظلم وتكتب عن الواقع كما هو، في مواجهة ديكتاتورية فرانكو التي كانت تمارس الرقابة على الإنتاج الثقافي وتمارس التعتيم على الواقع المعيش للإسبان حتى لا يفتضح سرها وحتى تبقى إسبانيا تلك الإمبراطورية المزعومة كما أرادتها الكنيسة الكاثوليكية منذ عصور خلت.
ففي هذا الإطار اندرجت كتابات غويتسولو وتميزت عن باقي السرديات من خلال المعارك التي خاضها والجبهات التي فتحها، وكتب عنها بكل جرأة حتى شكلت نشازا في الأدب الإسباني، ما سبّب له بعض المشاكل في بلده نتج عنها القطيعة النهائية والنفي الاختياري في أماكن متعددة كان أبرزها طنجة ثم مراكش في المغرب إلى حين الوفاة سنة 2017.
إن العلامة الفارقة بين غويتسولو وغيره من الكتاب (ومنهم أخوه لويس) هي أنه لم يكتف بالرفض والتمرد، بل سخر قلمه لتعرية الذات الفردية والعائلية والجماعية دون خجل: محليا وأوروبيا. فكان التمرد أولا على ذاته باعتباره مثليا -أو مثليا مستترا- وعلى قيم العائلة، ثم على قيم الوطن الأم، ثم الخطيئة الكبرى في نظر إسبانيا الرسمية ألا وهي ميله الشديد إلى ثقافة اعتبرت عدوا للثقافة الرسمية والشعبية الإسبانية وهي الثقافة العربية الإسلامية.
في هذه الورقة البحثية نحاول سبر أغوار نفسية غويتسولو من خلال بعض المقاطع المجتزأة من بعض أعماله الأدبية (والتي يبدو حسب علمنا أنها لم تترجم إلى العربية): إبداعا أو نقدا لنبرز أهم هذه الجبهات التي فتحها في كتاباته الروائية. إذ نعتقد أن أسلوبه في الكتابة يبين عن آلام كثيرة تعلقت بالطفولة والذاكرة.
خوان غويتسولو والسيرة الذاتية:
لقد حاول غويتسولو في كتابته الروائية التجديد في التقليد المتعارف عليه في كتابة السيرة الذاتية. فمن المعلوم أنه ” لكي تكون هناك سيرة ذاتية وأدب شخصي بصفة عامة يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية”(2) غير أن غويتسولو أرفق في سرده السير- الذاتي ضمير المتكلم بشخصية أخرى هي ضميره alter ego (تطل على القارئ بصورة-مقصودة- مائلة طباعيا italic)، وهي طريقة من الطرق المتاحة للروائي لكتابة ما هو شخصي” فالحديث عن الذات يمكن أن يفيد إما كبرياءً متضخمة (وهي تعليقات القيصر…) وإما نوعًا من التواضع(…)، ويمكن أن نتصور عدة نتائج مختلفة تماما لنفس الطريقة من احتمال وازدواج أو مسافة تهكمية”(3). وما نظنه استعمل طريقته المشار إليها آنفا إلا للتهكم من محيطه والنكاية فيه، وخاصة في رواية “محمية مسيجة Coto vedado”، إذ جعلها الكاتب لحظات للتذكر القاسي لأحداث وقعت سابقا أو لاحقا، لحظات يلتفت فيها إلى ضميره أو يعطيه الكلمة للتدخل والسرد: تعليقا أو تذكيرا أو تصويبا أو تعنيفا. وباستعماله ضمير المخاطَب يكون السارد مرسلا ومرسلا إليه في الوقت نفسه، وهو شيء مشروع للكاتب، إذ إنه” بديهي أنه من الممكن جدا الكتابة بطريقة أخرى غير ضمير المتكلم، فما الذي سيمنعني من كتابة حياتي معلنا نفسي ضمير مخاطب؟…”(4).
الجبهة الأولى: العائلة والحرب الأهلية
حسب التسلسل الخطي/الزمني -الذي كان غويتسولو يخرقه في سرده بسبب كثرة الاسترجاع والاستباق-، فإن أول مواجهة له مع الخارج ستكون هي تلك اللحظة التي قتلت فيها أمه بسبب القصف الفرانكوي الذي تعرض له حي بابلو الكوبار Pablo Alcover في برشلونة والذي سكنه وهو صغير، وقع ذلك “في صباح السابع عشر من مارس سنة 1938، أخذت أمي طريق سفرها كالعادة. خرجت من المنزل بعيد الفجر، ورغم أني أعرف فخاخ الذاكرة وإعادة بناء صورها الخيالية، فإني أحتفظ بالذكرى الحية لإطلالتي من نافذة غرفتي، بينما هي، وكانت هناك مرأة مجهولة الهوية أمامها، تسير مرتدية معطفها وقبعتها وحقيبتها اليدوية، تسير نحو الغياب النهائي عنا وعنها هي أيضا، نحو: الإلغاء (الحذف) والفراغ واللاشيء”(5). هذا الحادث شكل تحولا في حياته، إذ أصبح همه الوحيد -فيما بعد- هو مواجهة اليمين وفضح الفرانكوية -الوطنية-، ويمكن القول بأن المواجهة ستكون مع الأب أيضا لأنه كان في صف فرانكو. وها هنا ينتقد خوان ماضي عائلته متعددة الجذور ما بين كوبا وبلاد الباسك وكاتالونيا، حيث يذكر كيف كان أبوه يتباهى بكون أجداده انتموا إلى طبقة النبلاء، وكيف أنهم كوّنوا -سريعا- ثروة عن طريق الاستغلال المفرط للعبيد في حقول قصب السكر في كوبا. ويذكر في رواية “محمية مسيجة” أنه اكتشف ذلك من خلال المراسلات بين أفراد العائلة، وهو الشيء الذي جعله يرتمي مبكرا في أحضان الفكر الشيوعي الجمهوري في برشلونة -المواجه لديكتاتورية فرانكو-.
وفي بداية رواية “خوان بدون أرض Juan sin tierra” يعمق الجراح العائلية بسرد المعاملة التي كان يتلقاها العبيد السود والأكاذيب التي كان يخترعها جده أوغسطين وكاهن المنطقة التي عاش فيها جده في كوبا، من أجل ترويض العبيد وجعلهم يتقبلون واقعهم بخنوع. في المقاطع الأولى للرواية المذكورة سلفًا، يتولى غويتسولو سرد الأحداث، ولكن وجهة النظر يقودها جده أوغسطين وكاهن القرية التي كانت تنتج قصب السكر. وجهة النظر هذه، جعلها الكاتب خطابا يؤطره سياق معين هو عبارة عن حوار غاب أو ألغي فيه قصدا صوت المحاور الآخر -أي العبيد-، ذلك أن الجد كان يتكلم باستطراد وحده: يسأل ويجيب ويتوعد ويحلل ويحرم…”انظروا إلى عصافير السماء، إنها تنام أقل منكم ولا تشتكي أبدا. لماذا تريدون النوم أكثر؟:(*) انظروا إلى كم هي فرحة وكيف تغني بكل نشاط عندما تنتشر خيوط الفجر: من يستيقظ باكرا يساعده الرب. وأسوَد مستيقظ أحسن من زاهد يشخر: الأسد لا ينام رغم أنه ملك… انظروا إلى حيوانات الحظيرة. إنها لا تطلب سمك القد ولا اللحم المجفف، ولا تطلب الأحشاء ولا الأرز، ولا الأطباق الدقيقة…”(6). إن وجهة النظر هنا ليست محددة بدقة فقد تكون للجد كما قد تعود إلى الكاهن أو رئيس عمال المزرعة أيضا، نظرا لأن الأمر يتعلق في الواقع بسخرية في الأسلوب. إذ إن مثل هذه الأكاذيب التي تحكمت في رقاب العبيد قد جعلت غويتسولو يخجل ويعترف محدثا ضميره: “تتوقف عن قراءة الوثائق: جمل مأخوذة من الكتب والنسخ تتراكم في ذاكرتك إلى جانب رسالة تلك الأَمَةِ إلى جدك، تلك الجمل تبعث فيك، سالما، كرهك حيال القبيلة التي أتت بك إلى الوجود، الخطيئة الأصلية التي تتعقبك، بشكل قوي، بميسمها الذي لا يمحى رغم جهودك القديمة والواضحة للتحرر منها. إن الصفحة العذراء تهيئ لك إمكانات الاستسلام العجيبة أو لذة تدنيس بياضها: يكفي أن تخط بريشتك خطا بسيطا”(7)، تلك كانت هي المواجهة الأولى التي تمرد بها خوان على الماضي.
أما الحرب الأهلية فقد نكأت الجراح وجعلت غويتسولو الطفل متمردا فيما بعد، لقد صار لديه شبه عقدة تجاه كل أنواع النظام سواء أكان نظاما في العائلة أو في الوطن أو السكن أيضا، وهو أمر سيمتد إلى فترة الشباب “في سن الواحد والعشرين اكتشفت إذن ما سيصير فيما بعد لازمة في حياتي، لقد صرت أشعر بعدم الميل إلى -بل والخوف من- المناطق الحضرية النظيفة والمنظمة، والفارغة بشوارعها المرسومة بشكل دقيق والمتأنقة، ومن الأفضية ومن حركة السير المنسابة، ومن الوجود الحالم: سكان متخندقون في بيوتهم وحدائقهم ومحمياتهم، إشارات خارجية للثروة التي لم توزع بشكل متساو. ومن البرود العاطفي والأنانية ومن الحيوية التي تم تخديرها. بالمقابل صار شغفي كبيرا بالفوضى في الشوارع، بالشفافية الصادمة للعلاقات الاجتماعية، وبالاختلاط بين العمومي والخصوصي، وبالتضخم الخبيث للسلع وبالهشاشة والارتجال والتدافع وبالصراع غير الرحيم من أجل الحياة”(8). وربما، لهذا السبب، استهواه العيش في الأمكنة الشعبية في طنجة ومراكش، وللسبب نفسه تعلق بالكاتب الفرنسي جان جينيه المعروف بفوضويته.
الجبهة الثانية: الوطن
يذكر غويتسولو في بداية رواية أخرى موسومة بـ “في ممالك الطائفة”(en reinos de taifa) وهي الرواية التي تلت رواية:” محمية مسيجة”، كيف تم الاجتماع -في باريس- في حفلة عشاء مع ثلة من المفكرين جمعهم صديقه ماسكولو Mascolo في فترة سنوات الخمسين، ومن بينهم إدغار موران Edgar morin ورولان بارث Roland Barthes، لتشكيل تنظيم من المفكرين الفرنسيين مضاد للفاشية الإسبانية، وقد كان الحديث منصبا حول الإمكانات الملموسة للقيام بعملية مسلحة ضد شخص فرانكو، وتلك المحاولة كان يمكن إنجازها في ملعب لمصارع الثيران، ذلك أن بعض المدعوين للعشاء سبق أن حضر لمصارعة الثيران وأكد أن الديكتاتور كان هدفا سهلا…(9)
كانت إسبانيا تعيش حالة من القمع الشديد والمواجهة العنيفة بين المعسكرين أو بين الإسبانيتين: الوطنية في مدريد والجمهورية الشيوعية في برشلونة. وكان غويتسولو يؤمن بالعمل الثقافي الثوري، ولهذا وقف إلى جانب مجموعة أخرى من الكتاب الإسبان الموجودين في باريس للقيام بهذا العمل. فقد تولى مهمة القيام بالتنسيق وكتابة المقالات ونشرها في الصحف الفرنسية. وفرنسا نفسها كانت قد خرجت للتو من نير احتلال ديكتاتورية أخرى هي التي قادها النازيون، حينها “ارتبطت المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي بالماركسية بالدرجة الأولى ليس فقط بسبب ثورية ذلك الفكر ولكن أيضا لأن كلا من فرنسا والاتحاد السوفييتي كانا في خندق تاريخي واحد في مقاومة الهجمة النازية، وقلنا أيضا إن الحماس الوطني للمقاومة والرغبة في التحرر تكفلتا بتغطية كل الاختلافات العميقة بين الفصائل اﻟﻤﺨتلفة للماركسية وبانتهاء الاحتلال واختفاء الهدف النبيل الذي وحد تلك الفصائل ظهرت الخلافات على السطح بل ظهرت الشكوك في مثالية الماركسية في ضوء التجربة التطبيقية في الاتحاد السوفييتي الذي تحولت السلطة السياسية فيه إلى قوة قهر للبروليتاريا التي جاءت الماركسية لتحريرها وللشعوب في رغبتها للتحرر من نير الاحتلال السوفييتي، في ظل هذا الشك الجديد ازدهرت وجودية سارتر في الخمسينيات وجزء من الستينيات باعتبارها تأكيدا لحرية الفرد وإعادة تأكيد للذات، لكن سرعان ما أصبحت وجودية سارتر محلا للشك بعد أن فقد فيلسوف الحرية وتأكيد الذات مصداقيته، حينما استمر في الدعوة لوجوديته الإنسانية ما بين عامي 1952 و 1956 على وجه التحديد متغاضيا عن القهر الشيوعي الذي وصل إلى ذروته في أحداث الثورة اﻟﻤﺠرية. وهكذا وجدت البنيوية المناخ الثقافي مواتيا لملء الفراغ كما فعلت النظريات الجديدة لعلم اللغة والسيميوطيقا. ويخلص بارث إلى القول بأن البنيويين حلوا محل الوجوديين الذين سيطروا على الحياة الفكرية في فرنسا في الخمسينيات”(10)..
في هذه الفترة، كانت رقابة البوليس الفرانكوي قوية لمراقبة أعداء الداخل ومنهم المثقفون، ويصف غويتسولو ذلك بقوله “فالأمر مختلف مع نوع من القراء كان خاضعا لوقت طويل لرقابة صارمة. وكوني تلميذا متميزا في فن توجيه الكلام إلى الذين لا صوت لهم، تمكنت بشجاعة من كتابة عمل مليء بالرموز والرسائل المشفرة إلى القراء المتنبهين دون أن يتمكن الموظفون المحترمون في وزارة الإعلام والسياحة من التشبث بشيء ملموس ضدي ودون أن يحذفوا فقرة واحدة”(11). وآلية التشفير هذه التي اتبعها الكاتب كانت نابعة من كون فعل الكتابة الإبداعية في ظل الأنظمة الشمولية: رأسمالية أو شيوعية، عملا مغامرا، ولهذا “على القارئ أن يفهم -بشكل رحيم- أن فعل الكتابة في إسبانيا يعني البكاء وأنه ليس هناك عقاب أشد من مواجهة حقيقتنا دون أعذار ولا ترقيع. إن المثقف الإسباني ضحية وهن عصابي عميق”(12). هذه الدعوة الموجهة لمثقفي بلده لمواجهة حقيقة إسبانيا، بدأ منها غويتسولو لمراجعة نفسه، بل والقسوة في جلد الذات،”بتراجعي عن قيمي الضمنية في أدبي الملتزم، كنت أقوم بذلك طبعا بضمير من ينتمي لا إلى ثقافة ضعيفة أو مطلوبة وإنما قوية واسعة وغنية وحيوية كما هي ثقافتي القشتالية بمظهريها الإسباني واللاتيني”(13).
إن الرقابة بالنسبة لغويتسولو كانت سلاحا ذا حدين، لأن المنع الذي طال أدبه في إسبانيا وجد له صدى في أماكن أخرى منها أمريكا اللاتينية التي كان الإسبان، في ذلك الوقت، يهاجرون إليها للعمل هربا من قسوة الظروف الاجتماعية والسياسية، وخاصة إلى الأرجنتين التي كانت في حال أحسن مقارنة مع إسبانيا “إن عملية تخلصي من علامات هوية قمعية وعقيمة، ستفتح الطريق إلى فضاء أدبي متعدد بدون حدود: كانت كتبي الممنوعة من طرف الفرانكوية تلجأ إلى المكسيك وبوينوس آيريس، ومنذ ذلك الحين فصاعدا ستكون لغتي، وفقط لغتي، هي وطني الأصيل”(14). هنا طلق غويتسولو جنسيته الإسبانية إلى غير رجعة، وهنا بدأت الهوة تتسع بينه وبلاده، وبدأت رحلة حب الجنوب والهوس به: جنوب إسبانيا (ألميريا) وجنوب أوروبا (أفريقيا):”من الآن فصاعدا ستَكتبُ آراء سياسية حول سانت دومينغو أو تشيكوسلوفاكيا أو فلسطين ولكن ليس عن إسبانيا، إن تطورها المرتقب تحت الديكتاتورية لم يعد يستهويني. أحيانا تَعْبُرها بسرعة وأنت في طريقك إلى وهران أو وجدة أو طنجة: مجرد انطباع حول فندق، دار ضيافة، مكان للعبور، بقعة في الخريطة”(15). وفي نهاية الرواية يقتبس هذه الأبيات الشعرية ليعبر عن شعوره نحو الأرض التي يهجرها: “الوداع يا زوجة الأب غير النظيفة، الوداع يا بلد العبيد والأسياد، الوداع أيتها القبعات الثلاثية اللامعة، وأنت أيها الشعب الذي يدعم كل ذلك، الوداع. ..إن الذي يَرى والذي يُرى يشكلان واحدا فيك كما يقول مولانا (يقصد جلال الدين الرومي)، ولكن الطريد الذي تودعه الآن هو إنسان آخر”(16).
الجبهة الثالثة: النفس
لقد خلق هذا الابتعاد وهذا الإحساس بتقلص مفهوم الوطن إلى مجرد نقطة قد تكون وقعت بالخطأ على خريطة العالم لغويتسولو عداوات، وظهر من كتاب الفرانكوية من يكيل له الشتائم، وخاصة بعد أن ظهر اسمه بعد “عملاق الأدب” الإسباني: ثربانطيس في مجلة حولية إحصائية للأنشطة الأدبية في العالم والتي تعود إلى سنة 1963 والمنشورة بإشراف من اليونسكو “ظهر اسمي بعد اسم ثربانطيس في لائحة كتاب الإسبانية الأكثر ترجمة، وهذا الأمر، عِوض أن يملأني سرورا، ملأني أولا بالحزن ثم بالعزاء، ماذا فعلت لأستحق كل هذا؟”(17). كان أحد منتقديه من اليمين قد وصفه بالكرة المنفوخة بالهواء لا غير، وتلك كانت فكرة تؤرقه فكتب قائلا بعد معركة نفسية: “كان عليّ أن أفش هواء تلك الكرة المنفوخة (كما تم وصفي)، أن أقلصها إلى حدود إنسانية عادلة جدا. وكان قرار خروجي إلى الحرب ضد صورتي قرارا حازما، لكن أحداث الصراع امتدت سنوات والنتائج كانت متأخرة. بدءا من سن معينة، يتعلم المرء كيف يتخلص من الثانوي أو العرضي لكي يجد نفسه في مناطق التجربة التي تمنحه اللذة الكبرى والإحساس: الكتابة والجنس والحب ذلك ما شكل أرضيتك العميقة والأصيلة، والباقي هو عبارة عن شَبَهٍ فقير لذلك (الثلاثي)…من يطمح إلى أن يتحول إلى شخصية عليه أن يضحي بحقيقته الخصوصية جدا إلى مجرد صورة، إلى مظهر خارجي: الانتفاع بالأدب هو ظاهرة عشوائية وحساسة، وهو عادة تنتقم من أولئك الذين يلهثون وراء الاعتراف، وتبتعد عنهم ثم تهجرهم”(18). إن غويتسولو هنا يسهل على القارئ الأمر بتحليله النفسي لذاته عن طريق الإشارة إلى ما كان يشغله من جنس وحب وأمور شخصية متعلقة بميوله الجنسية منذ صغره “في نص معروف لفرويد Freud يصوغ مؤلف كتاب “موسى والتوحيد” فرضية تقول بأن الطفل عندما يكتشف بأن أبويه كائنان عاديان (مثل بقية الناس)، يؤلف رواية عائلية الغرض منها تعويض -بشكل من الأشكال عن طريق الخيال- الفشل الذريع الذي يرافق اندماجه في الحياة: يخترع، بكل حرية، عائلة خارجة عن المألوف، سواء في فضائلها أو في نقائصها، حيث يمكن أن يحتمي من عراء اكتشافه، ويخفف الصدمة الناتجة عن التفجير المخفق للواقع. هذه الرواية العائلية التي تدور في وسط غير مريح وجاحد ستكون هي البذرة لكل الخيالات المؤلفة فيما بعد من طرف الكاتب (…) إذا كان الأدب كما قال بافيسيPavese هو دفاع ضد إساءات الحياة، فإن الفعل الدفاعي الأول للطفل العصابي سيتمثل في مجموع كواكبه الروائية: إنها نوع من المفاتيح المرممة لجروحه وهي إغراء للتصارع معها من أجل العلاج”(19).
يعترف غويتسولو بأن أشد المعارك التي خاضها كانت ضد نفسه بالدرجة الأولى حتى لا يصاب بالغرور (الكرة المنفوخة)، ويرى بأنها معركة شرسة وخشنة لأنها جعلته يعيش منعزلا ويزرع عداوات “إحداث ثقب في الكرة لفشها كان يتطلب مني سلسلة من التراجعات والتحولات أحدثت في حياتي انقلابا. لكي أقوم بذلك كان عليّ أن أكسر وضعيتي المتواضعة -ورغم ذلك محسود عليها- في عالم النشر بوضعية أخرى مشكوك فيها مغامرة وصعبة في عالم الأدب”(20).
الجبهة الرابعة: المؤسسة الثقافية الفرنسية
كان من المفترض أن يحترم الضيف (غويتسولو) مضيفه (فرنسا)، لكن صراحته العنيدة جعلته يفتح جرحا قديما مع فرنسا أيضا، وبالخصوص مع الجهاز الثقافي الفرنسي المتمثل في دور النشر، إذ رأى أن “الاهتمام الذي أولته دور النشر الفرنسية لإسبانيا كان دائما بائسا وفي غير محله وبطريقة متقطعة. فباستثناء حالة غارسيا لوركاGarcia Lorca الذي تم الاحتفاء به منذ البداية بنشر أعماله الكاملة، لم تصل أعمال “جيل الثمانية والتسعين” أو الأجيال التي أتت بعد الحرب أو قبلها في الخمسينيات إلى معدل متوسط من النشر كما لم يكونوا هدفا للترجمة المختارة والصحيحة. إذا كان جمهور ونقد جيراننا ما زال، بعد، يجهل عموما رواية من حجم رواية ريخينتا La regenta (لكاتبها ليوبولدو ألاس كلارين Leopoldo Alas, Clarín)، فكيف سنفاجأ أنه بعد أكثر من ربع قرن، يعرفون فقط قليلا من الأعمال التي تكون أحيانا قد نفذت أو يصعب الوصول إليها لكتّاب مثل باراخا Baraja وأونامونوUnamuno وماتشادوMachado…أتذكر أنني تلقيت مكالمات عديدة من جرائد ومجلات أدبية بعد موت باراخا بوقت قليل من وصولي إلى باريس يسألونني عن هذا الروائي الذي حضر دفنه أرنست همنغواي… هذا الاحتقار وعدم الاهتمام التقليدي بالذي يكتب في ما وراء جبال البرانس (في اتجاه الجنوب) تماما كما يتصرف الإسبان نحو البرتغال والعالم العربي، تعزز بعد اقتناعهم بأن الأدب الإسباني قد مات مع وجود الحرب الأهلية”(21). إنه لا يريد أن يعيد إنتاج الفكرة نفسها، فكرة التعالي على الجنوب (كما يفعل اليمين الإسباني بكل انتهازية، ذلك أن فرانكو عندما احتاج إلى المقاتلين تقرب من الجنوب: المغرب وأفريقيا، وعندما تحقق له النصر قلب لهم ظهر المجن). فـ” طوال أكثر من قرن ونصف، حاول المثقفون الإسبان المتقدمون إلغاء جبال البرانس والحدود التي كانت تفصلنا عن أوروبا، ولكن التيار المحافظ في طبقاتنا الجامعية بخس هذه الجهود حقها، ولو اقترح علينا اليوم الوحدة من طرف حفاري القبور القدامى، لوجب علينا ألا نقع في فخ تنازل مصطنع أو أن نترك بلاغتهم العقيمة تنطلي علينا. علينا أن نجيب: “الوقت متأخر”، اليوم يجب علينا أن نوجه نظرنا إلى كوبا وشعوب أمريكا وآسيا وأفريقيا وهي تقاتل من أجل استقلالها وحريتها. إن أوروبا ترمز تاريخيا إلى الماضي وإلى الجمود. لقد حان الوقت لنصير أفارقة كما قال أونامونو، وأن نحول إلى راية مطلبية تلك السخرية التي عفا عليها الزمن والتي تقول بأن:”إفريقيا تبدأ من جبال البرانس”(22).
إن أهم ما ميز غويتسولو في مساره الأدبي والفكري هو التجوال والترحال والوقوف على الأحداث طرية وتصويرها إذا اقتضى الأمر-صورة أو فيلما-، نتذكر هنا يومياته حول الانتفاضة الفلسطينية سنة 1988، وزيارته لسراييفو في أزمة البوسنة والهرسك 1993 وغيرها، وهو ما مكنه من امتلاك عين بصيرة وناقدة يرى من خلالها الأشياء كما هي لا كما تريدها السلطة التي تستضيفه. وإذا كنا قد تحدثنا عن مواجهته لليمين كما عايشه في بلاده، فمواجهته لليسار الذي انتمى إليه أيضا واردة “كما استنتجت ذلك، فخارج المجال التنظيري، كانت أفكار الماركسية قد بدأ يعلوها الصدأ وتكتسب مظهرا ليس فقط بائسا بل كئيبا وسيئ السمعة وبدأت حماستي السياسية تخبو”(23).
الجبهة الخامسة: ماركس والماركسية
لم يكن ماركس والماركسية شيئين مقدسين بعيدا عن النقد، ومنه فإنهما دخلا في حقل الرمي بالسهام، سواء أكانت أيديولوجية جهاز الدولة أو في إطار المجمع الذي ينتمي إليه غويتسولو (سارتر وبارث وآخرون). فقد كانت هناك كاتبة تسمى ألبينا Albina، تعرضت للهجوم والتخوين من طرف الماركسيين، “الذين كانوا يحاولون التنقيص من قيمتها بسبب الخطيئة الأصلية لأجدادها، يظهر أنهم يجهلون بالمقابل بأن بورجوازيا مثل ماركس قد عاش حياته كلها تقريبا بالاستحواذ على فائض القيمة لعمال إنجلز”(24).
وفي قلب الشيوعية -الاتحاد السوفييتي- يرى كيف يقترب منه شاب أوزبكي مسلم ليهمس له خائفا بأنه ممنوع على المؤمنين (المسلمين) الالتحاق بالجامعات(25). وعندما هرع غويتسولو إلى جزيرة كوبا للوقوف إلى جانب الثورة الكوبية، اكتشف -في الميدان- بعض ألاعيب كاسترو عندما أمر بغرس أشجار البن في منطقة كان يعلم جيدا أنها لا تصلح لذلك: “لا أحد يستطيع أن يقول لقد أخطأ القائد”(26). كما كانت هناك حملة شرسة ضد الشاعر باديا Padilla من طرف المقربين من الجهاز الحاكم في كوبا، تصدى لها مجموعة من الكتاب بتوجيه رسالة للقائد الأعلى “كان النص المكتوب بألفاظ موزونة ومحترمة يعلن تضامن الموقعين مع مبادئ الثورة وأهدافها، يعبر عن انشغاله من استعمال وسائل قمعية ضد المثقفين الذين يمارسون حق النقد داخلها، وينبه للتأثيرات السلبية لتلك الممارسات بين الكتاب والفنانين في العالم كله والذين يعتبرون الثورة الكوبية رمزها ورايتها. وما إن جمعت التوقيعات لخمسين شخصا من بينهم: سارترSartre، وسيمون دي بوفوارSimone de ،Beauvoir وكلودينClaudin، وكالفينوCalvino، وفوينتسFuentes، ومورافياMoravia، ونونوNono، وباثPath، وآن فيليبAnne Phillip، وسوزان سونتاغSuntag، سيمبرونSimprun، وبارغاس ويوساVargas LLosa، حتى نقلنا الرسالة إلى السفارة الكوبية في باريس(27). وفي أثناء تلك الزيارة أيضا يكتشف زيف هذه الثورة وأبطالها: هنا يتأكد له ما قاله الزعيم الطلابي البرليني: رودي دوتشكي Rudi Dutschke عن الواقعية الاشتراكية في المعسكر الشيوعي آنذاك: “كل شيء واقعي إلا الاشتراكية”. (28)
أمام ذلك لم يكن من غويتسولو إلا أن يعلن ابتعاده عن هذا التوجه الأيديولوجي القائم على العنف “إن انخراطي العاطفي في الماركسية، والذي أملته علي بشكل كبير الرغبة في مسامحة وغفران ومحو بقعة العار الأصلية لطبقتي الاجتماعية ولماضي عائلتي، هذا الانخراط سيتعثر منذ البداية بسبب صعوبات وعوائق لا سبيل إلى تجاوزها. أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي مرر إلي فيه أحدهم حزمة من نسخ قديمة للمجلة الثقافية للحزب الشيوعي الإسباني المحظور: كنت كمن يستعد لتذوق الثمرة المحرمة بإحساس حلو مداعب، لقد ارتميت بكل حماسة في قراءتها، لكن مضمونها أغرقني في ذعر عميق. لقد كان الوقت وقت حرب باردة والذوبان اللاحق لموت ستالين لم يكن قد وصل بعد: لقد كانت لغة عنيفة مليئة بالحقارة وبالسباب، لا تلطخ فقط سلوك وأفكار الكتاب المعروفين بتعاطفهم مع فرانكو ولكن أيضا أفكار بعض الكتاب والمثقفين الأجانب والذين كنت أحترمهم: جيد Gide، كامو Camus، مالروMalraux، وسارتر نفسه، لقد تم وصفهم بالضباع والثعالب وبأنهم رجال تجسس للبنتاغون، وخدام أوفياء للبرجوازية المحتضرة(29).
الجبهة السادسة: الكتابة والحياة
يؤمن غويتسولو بأن الكتابة، بالنسبة لحالته الشخصية والعائلية الفريدة والمتناقضة في آن، هي عمل تطهيري، هي دفاع ومواجهة ضد الإساءات التي تمارسها علينا/عليه الحياة. ولهذا السبب اندفع كلية إليها فقرر أن يصبح كاتبا لمواجهة ماضي الطفولة والشفاء منه في إطار “العلاج بالكلام”(30). وإذا كانت الحياة بهذا الغموض، فعلى الكاتب أن يسعى لأن يكون إنتاجه ” كتابة جديدة وشخصية مختلفة كليا عن التي كانت موجودة سلفا والتي استمد منها في الوقت الذي بدأ عمله: العمل في ما تم تحقيقه، اتباع نماذج مقبولة، وذلك سيشكل إدانة للانحسار واللامعنى مهما يحصل عليه الكاتب من تشجيع من طرف الجمهور. إن عمل الكاتب الذي لا يبدع يمكن أن لا يوجد دون أن يؤثر اختفاؤه في تقدم ثقافته، فإعطاء شكل سردي أو شعري للأفكار المشتركة في عصر ما مثل -الحرية والعدالة والتقدم وتساوي الأجناس والجنسين- سيفتقد إلى الاهتمام الفني إذا كان الكاتب -وهو يفعل ذلك- لا ينصب -بصورة متزامنة – فخا، لا يطعمها بالبارود والديناميت. فجميع الأفكار-حتى المحترمة منها- هي عملات لأوجه مزدوجة والكاتب الذي لا ينتبه لذلك، عوض أن يتصرف فهو في الحقيقة يعمل في صورته”(31).
الكتابة عند غويتسولو، إذن، فعل تحريضي ومغامر ينسجم تماما مع الفترة التاريخية العصيبة سياسيا والتي بدأ فيها إبداعه. إن شئنا القول فهي تنتمي إلى ما بعد الفترة الكولونيالية في كثير من الدول التي تعرضت للاستعمار، كالجزائر وغيرها، “إن المحاولة الروائية، كما تتصورها (يا غويتسولو)، هي مغامرة: أن تقول ما لم يُقل بعد، أن تستكشف افتراضات اللسان، أن تنطلق لغزو مناطق جديدة للتعبير، لغزو هذه الأمتار الأرضية القليلة التي يربحها الهولنديون بصبر من البحر كما قال كارلوس فوينتس، أن تكتب رواية، معناه أن تقفز في المجهول، وأن تحط في مكان غير مشبوه. بالنسبة للكاتب، عند ارتمائه في الفراغ بدون شبكة أو مظلة: -عليه- عندما يتحكم في تقنية ما أو يتوصل إليها في نهاية تجربة ما، تركها للبحث عن ما نجهله: في حقل الفن والأدب نعتبر أن مائة عصفور في اليد، من أجل متعتنا وعذابنا -المزاجي والملهم والخفيف- ليست أحسن حالا من الذي يستمر في طيرانه. إن الأدب يوسع حقل رؤيتنا وتجربتنا، يتعارض مع كل ما يقلص أو يخدر آفاقنا المحتملة، يكيفنا ثقافيا وأيديولوجيًا وجنسيا، يغسل دماغنا، ويسحق حواسنا: في مقابل الخطاب هناك اللاخطاب، في مقابل الاسترجاع المحتوم للجديد والتطهيري، نجد السخرية مما تم تطبيعه وفهمه بطريقة وديعة(32).
لقد سبق أن ذكرنا بأن غويتسولو لم يعد يتعلق إلا بلغته كهوية، أما الوطن فلم يعد يرى فيه إلا مجرد بقعة على الخريطة، فكيف استعمل هذا الكاتب لغته (عن أي لغة نتحدث؟) في الكتابة؟ فليس المقصود هنا باللغة: اللغة الكتالونية (وهي لغة إسبانية محلية تشكل رمزا للهوية الكتالونية الجمهورية في مقابل القشتالية لغة الوطنيين)، والتي يعترف بأنه لم يتقن منها إلا بعض الكلمات نظرا لأنها لم تكن مرحبا بها في بيته من طرف الأب الوطني القشتالي الفرانكوي، وليس المقصود بها القشتالية/الإسبانية، وإنما أي لغة فهمها وتواصل بها وعاش مع متكلميها، ومن ضمنها: العربية والإنجليزية والفرنسية. ولهذا لا عجب من أن نراه يستخدم هذه اللغات جميعا في بعض رواياته: “محمية مسيجة” و”في ممالك الطائفة” و”خوان بدون أرض”، وبذلك يكون أول كاتب إسباني يتاح له هذا الإمكان، “لقد كنت قشتاليًا في كاتالونيا، مفرنسًا في إسبانيا، إسبانيًا في فرنسا، ولاتينيًا في أمريكا الشمالية، ونصرانيًا في المغرب، ومغربيًا في كل مكان. ولن أتأخر، بسبب ترحالي وأسفاري، في التحول إلى ذلك النموذج النادر من الكتاب الذين لم يطالب بهم أحد، ذلك النموذج الذي ينتمي إلى الآخر، المعارض للتجمعات والفئات”. ويجب علينا الانتباه هنا إلى الجنسية التي اختارها وأكد عليها: الجنسية المغربية، فذلك كان إحساسا قديما لازمه منذ إقامته في باريس وخاصة في بداية سنوات الستين:” لو قارنت بين لغط المحبين للظهور واستعراض الأنا، وبين بساطة وتكتم وحياء جان جينيه وكتّاب آخرين كانت لي فرصة لقائهم أو معرفتهم من بعيد، فإن الفارق بين الأمرين سيخجلني ويقوي قراري بأن أبقى في هامش المشهد وحب الظهور اللذين كانا سائدين، (فكان قراري): أن أكون ذلك المورو (المغربي) الباريسي، المنعزل وغير الاجتماعي، المستسلم لممارسة نزواته الخفية”(33).
إن استعماله للغات المذكورة يرفع من منسوب صدقية سرده الأحداث، كما أنه كان يعقد الأمور بالنسبة للقارئ اللاتيني الذي لم يتعود -في غياب وسائل مساعدة كالانترنت مثلا آنذاك- على وجود لغة عربية مكتوبة بحروف لاتينية في رواية إسبانية (كنموذج الصفحة الأخيرة من “خوان بدون أرض”).
الجبهة السابعة: الواقعية الاشتراكية
الواقع أن استعماله للغة كان متميزا، غير أنه -وهو ينتمي إلى الواقعية الاجتماعية /الاشتراكية- قد أورد فكرة مهمة تدخل في رأينا في ما سماه الأستاذ سعيد يقطين بالميتانص: “نشبه الميتانصية كعلاقة بين النص والميتانص من حيث طبيعتها التركيبية والبنيوية المناصة، إلا أن نوع التفاعل يختلف بينهما دلاليا. في المتانصية نجد التفاعل يقوم على أساس النقد، أي أن الميتانص يأتي نقدا للنص، وكما قلنا عن المتناص بأنه يكون متنوعا (سردي شعري..) فكذلك الميتانص قد يكون أدبيا (نقد أدبي) أو أيديولوجيًا، أو تاريخيا.. أو ما شابه، إلا أن العلاقة التي يقيمها دائما مع النص هي علاقة نقدية”(34). والنقد الذي أورده غويتسولو في روايته يعود إلى الشكلانية الروسية، وتأثره بهذا الاتجاه النقدي جاء بعد “قراءتنا لتوماس دي كوينسيThomas de Quincey الذي اكتشفه ماريانوMariano، حملت إليّ حججا جديدة وفعالة وأحيانا غير مسبوقة لعشقي الدفاع عن فكرة الفن من أجل الفن. ولا أحد حينها كان يتبنى فكرة القيمة الاجتماعية للعمل الأدبي -إذ لا أحد منا سبق له أن سمع بالحديث عن لوكاشLukács ولا عن كتاب التعليم المسيحي الكارثي لجورج بوليتزر(35) Politzer. وقد ظهر ذلك جليا في قوله “في القراءات واللقاءات الثقافية التي أتدخل فيها، اليوم، يواجهني أحد الحاضرين بالسؤال الوجيه: لماذا تكتب نصوصا غامضة ومغلقة كـ”دون خوليان” و”المقبرة” إذا كان القارئ متوسط الفهم لن يستطيع الوصول إلى فهمها؟، هنا أقدم تلك النكتة كتذكير حول التنقيص الحقيقي والعميق من إمكانات التحسن في الذوق العام الضمني للتصرف الديماغوجي والأبوي لأولئك الذين يقررون التخفيض -على مسؤوليتهم- من مستوى الإبداع ويستبدون بحق تقرير ما يفهمه الجمهور أو ما لا يفهمه في نقائص الفن والأدب. وتاريخ هذا المظهر الروحي الإنساني يتشكل من سلسلة صعبة من العمليات، غالبا ما تكون متجاهلة في أصلها: لكي تفهم في عمقها وتعقدها، فكل عمل إبداعي أصيل يتطلب برهة -أحيانا- تكون طويلة جدا، يمكن في أثنائها أن نفتح طريقا. إن الحالة التي يمثلها شعر غونكوراGóngora، والذي أصبح في متناول القراء فقط بعد ثلاثمائة عام على إنتاجه، لخير مثال على ما أقول. ولكن هل سيكفي أن نوسع قليلا، في حقل العلوم، المعيار الذي تم تبنيه من طرف البيروقراطيين والذي يقصي حقل الأدب، لكي نكشف الكذب الفج لهذا الموقف: بما أن الجمهور لا يفهم، لنضع مثالا، الاكتشافات الفيزيائية، في الحالة هذه وبطريقة منطقية، سيتوجب منعها. وإذا لم يُفعل ذلك، فهذا يعود طبعا، لدوافع صارمة خاصة بالنفعية: فالعلم في تطبيقاته الملموسة، يمكن أن يحرك في خدمتها (النفعية) بينما الأدب بالمقابل، ليس كذلك ولن يكون أبدا كذلك. إن مبادئ النفعية أو الوظيفة السياسية والاجتماعية للفن ستقضي على ذلك بطريقة مأساوية. من بين النظريات الأدبية والفنية التي تشكلت في القرنين الماضيين، تنماز النظرية الواقعية الاجتماعية حقيقة بخاصية مميزة جدا: وهي أنها لم تنتج ولو عملا وحيدا قيما في حقل الرواية أو الشعر أو الموسيقى أو الرسم”(36.)، وبمقارنة بسيطة بين ما قاله في هذه السطور، وبين ما قيل عن مسألة التغريب في اللغة عند الشكلانيين، سنجد أنه ينقلب أيضا ضد تياره الأدبي، والذي كان قد دخل في أزمة في سنوات الستين، أزمة جعلته يستنفد رصيده الإبداعي وهو ما أشار إليه بقوله السالف: “إنها لم تنتج عملا…” غير أن (التغريب أو كسر ألفة اللغة الذي يتحدث عنه الشكليون وشلوفسكي على وجه التحديد لا يعني العودة إلى لغة البسطاء بل يعني تعمد غموض الدلالة… صحيح أن “شلوفسكي” يقترب من سوسير بطريق المصادفة العلمية حينما يتحدث عن التغريب أو كسر الألفة بهدف “جعل الفهم أو الإدراك أكثر صعوبة” … فنحن هنا نبدأ في عشرينيات القرن العشرين من نقطة انطلاق لغوية متقدمة وحديثة عن الأنظمة والعلامات اللغوية والعلاقة بين الدوال والمدلولات. وفي هذا يتفق الشكليون مع اللغويين الجدد في التفريق بين لغة العلم التقريرية حيث يتساوى الدال والمدلول وبين لغة الشعر التي تعتمد أساسا على اختفاء ذلك التساوي: بقدر ما يبدو في ذلك من غرابة فإن ما يجعل التسميات الراسخة أكثر ملاءمة لعملية الإحالة هو غموضها. إنها ترسخ لا لأنها أكثر تساويا من العلامات الأخرى مع الأشياء التي تشير إليها بل بسبب “مرونتها” الدلالية -بسبب قدرتها على تقبل استخدامات مختلفة ومتعارضة أحيانا. ومن ثم يرى “شلوفسكي” أن الفن اللفظي يجب أن يلجأ إلى تعقيد بنيته ويجعل الأشكال أكثر غموضا حتى يزيد من صعوبة الإدراك ويطيل فيها… لكن الشكليين بدلا من القول بالرجوع إلى لغة البسطاء، ينادون بزيادة مدخول النظام التصوري من جانب الأديب المبدع. ولهذا فإن التغريب لا يعني بالضرورة عند “شلوفسكي” كسر ألفة مفردات اللغة بل كسر ألفة الأشياء ذاتها ومفردات العالم الخارجي حتى يبدو المألوف غير مألوف(37).
إن مسألة الغموض أو التغريب DEFAMILIARIZATION في لغة الأدب وسيلة تطيل عمر العمل الأدبي وتجعله متداولا بين أجيال كثيرة كما مثل لذلك بشعر غونكورا.
مع ظهور روايات غويتسولو وغيره من ذلك التيار، عادت ذاتية السارد، ومعها لم يعد ينظر إلى اللغة كأداة بسيطة لعكس الواقع. إن التجريب اللغوي والبنيوي والشكلي قد أصبح على درجة كبيرة من الأهمية تماما مثل القصة التي يراد سـردها. فقضية التجديد التي جاء بها غويتسولو في كتاباته (بالابتعاد والقطيعة مع التيار الواقعي الاشتراكي)، هي انعكاس لاهتمامه بالشق النظري، وخاصة بعد هجرته إلى باريس سنة 1958، ما سمح له بالتواصل مع أعمال الشكلانيين الروس، ومع النقد البنيوي واللغوي لحلقة براغ. لقد دفعت قراءة هذه الأعمال غويتسولو إلى الاهتمام بالعلامة اللغوية: الدال، بسيرورة الكتابة نفسها وبالعلاقات بين الحكاية والبنية، وبالتوترات بين الخطاب والقصة. وبخروجه من الواقعية الاشتراكية، واطلاعه على نماذج نقدية مثل الشكلانية والاستشراق عند إدوارد سعيد، يمكن القول بأن غويتسولو قد لجأ إلى التجريب والمغامرة في الكتابة الجديدة. وهي آليات تنبع من داخل ذات المبدع ومن طموحه الشخصي دون اغترار، غير أنه يؤمن بأنه -للأسف-، يوجد في الأوساط الأدبية والتي تعرفها (يا غويتسولو) أكثر، ميل ملحوظ من طرف الكاتب لأن يأخذ نفسه بجدية عوض أن يأخذ بجدية عمله الخاص به: كما قلت منذ سنوات في “دون خوليان” فالعبقرية تختلط بالشخصية والشخصية هي مفتاح العبقرية. عندما تكون هناك عبقرية قوية فالشخصية قوية، وعندما تكون الشخصية قوية فالعبقرية قوية (…) إن الحضور الجسدي للكاتب يعرقل التطور الصحيح لعمله بوجود تأثيرات خارجية عن المعايير الخاصة بالأدب: الكاتب الحي، هذا إذا كان حيا، يحاول أن يبهر عيون من يراقبونه، ويحاول أن يحتل مراكز النشر والأبهة بعيدا عن إمكاناته الحقيقية، ولذلك عندما يموت واحد من هؤلاء الأحياء يبدو أنه يتقلص كما تقلصت أنت نفسك، ويسقط فجأة في النسيان لأنه مدح بطريقة مبالغ فيها…
إن الهجمات الموجهة ضد كاتب ما، تؤكد غالبا بأن عمله موجود، يخدش القناعات الأخلاقية والجمالية للقارئ الناقد، ومن أجل ذلك فإنهم يستثيرونه ويبحثون عن ردة فعله. باختصار فإنهم سيربطون علاقة حيوية معه: في ما يخصك أنت، يا غويتسولو فإنك تعتبر ذلك تكريما عاديا ولحسن الحظ، فالمتبجحون المحترفون موجودون: إن العمل المبدع يستثير جوابا دفاعيا ضد أولئك الذين يشعرون بأنهم مهددون أو معنفون بقوتهم أو بكونهم جددا، ذلك واقع اليوم حقيقة كما وقع في زمن غونكورا. إن الرواية تتفادى سهولة المسالك المعتادة، تخلق -بصورة حتمية- التوترَ، الصدامَ مع الآفاق غير المتوقعة لجمهور القراء. وهذا الجمهور يواجه بطريقة فجائية بشفرة مختلفة عما تعود عليه، وتلك الشفرة تشكل أمامه تحديا: إذا قبلها و دخلت في معنى الجهاز الفني الجديد، فالمنتصر من هذا الصدام -جسدا لجسد مع النص- هو بالتحديد جائزته وما يستحقه: النشوة الحية للقارئ. إذا كانت كتبك قد استُقبلت يوما ما بإجماع بالتجاهل، فهذا يشير إلى أن تلك الكتب قد أصبحت يسيرة، غير شرسة وبدون معنى، وأن تلك الكتب قد فقدت في لحظة قصيرة جدا قوتها المثيرة وحيويتها. وبكلمات عامة يمكن تقسيم الكُتاب إلى نوعين: الذين يفهمون الأدب على أنه مسار، والذين لا يفهمون هذا المعنى. النوع الأول يمكن التعرف عليه بسرعة لأنهم يتصرفون وفقا لاستراتيجية متقدمة”(38). ومعنى هذا الكلام أن غويتسولو قد بدأ يخرج من أسْرِ الواقعية في الرواية إلى فكرة أخرى بنيوية تبناها بارثRoland Barthes على الخصوص في إطار بنيويته الجديدة آنذاك. فاللغة في الأدب الواقعي كانت تعد “أداة فقط لمعرفة الواقع”، صحيح أننا في السنوات المبكرة من القرن العشرين كنا قد قطعنا شوطا كبيرا في نظرتنا إلى اللغة، شوطا ابتعدنا معه عن مفهوم المحاكاة الأرسطي، وعن شفافية اللغة باعتبارها أداة لنقل معرفتنا بالأشياء والمفاهيم سابقة الوجود. كانت الرمزية مثلا قد حققت بعض الثراء للغة والأدب عن طريق تحقيق درجة واضحة من التعقيد والمراوغة القائمة على توسيع الهوة بين الدال والمدلول، بالاستخدامات البلاغية والرمزية للغة، لكن اللغة -خاصة في ظل واقعية الرواية منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبا- أبقت على إسار اللغة باعتبارها خادما أمينا للمعنى. وهذا ما حدا بمفكر بنيوي متأخر مثل بارث إلى اعتبار الواقعية نقيض الفن(39) anti-art. ولقد كان نتيجة ذلك أن كتب غويتسولو رواية “خوان بدون أرض” وهي رواية غاية في التشفير والصعوبة بالنسبة للقارئ اللاتيني الذي لم يتعود على لغات أخرى داخل الإسبانية.
على سبيل التركيب
مما سبق، نخلص إلى أن غويتسولو -على غرار كتاب آخرين من بينهم رولان بارث- كان دائم المراجعة لأفكاره ودائم التغيير لمواقفه حسب ما كانت تقتضيه اللحظة من إدانة أو تشجيع أو غيرهما. باستثناء القرار القاضي بخروجه النهائي من بلده للاستقرار في الضفة الجنوبية للمتوسط.
لقد كان خوان غويتسولوJuan Goytisolo “أمة وحده” في التمرد على الأعراف الأدبية والسياسية والاجتماعية، وقد سار على هذا الدرب طوال عمره تقريبا. بإمكاننا أن نؤكد هذا الطرح عن طريق قراءة اسمه العائلي الذي تحدث عنه في إحدى رواياته قائلا: “بينما أصبح مفهوم العائلة عندي لا يعني شيئا منذ سنوات، كانت غرابة اسم عائلتي والانعكاس التقليدي الخالص له، يفسر هوسي بالبحث في دليل التلفون، كلما سافرت، لعلي التقي من خلال هذا اللقب بفرد من دائرة العائلة”(40)، وهكذا سنفككه حسب معرفتنا باللغة الإسبانية إلى:
GO: باللغة الانجليزية هو الفعل “ذهب”، واذهب في الأمر.
Y: حرف العطف في الإسبانية: يقابله الواو في العربية وأحيانا تقلب إلى حرف I حسب الكلمة بعدها.
TI: كاف الخطاب المضافة في اللغة الإسبانية وفي النطق يشبه الضمير أنت بالإسبانية: tu (تو) ويأتي عادة وحده مستقلا عن الكلمة التي تكون قبله ، وهو ضمير يأتي بعد أداة جر في الإسبانية كقولهم: para ti. إليك a ti لك.
SOLO: منفرد أو وحيد.
وإذن فالتركيب الناتج سيكون كالآتي:” اذهب منفردا أو وحيدا” وصدق من قال بأن كل امرئ يأخذ من اسمه نصيبا (في العرف العربي). وهذا ما كان بالنسبة لغويتسولو.
الهوامش
-1 تاريخ النقد الإسباني المعاصر: إيميليا دي ثوليتا، ترجمة السيد ظاهر. المجلس الأعلى للترجمة، ط2003، ص 108
-2 فيليب لوجون: السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994 ص 24
-3 المرجع السابق ص 26
-4 نفسه ص 27
5- Juan Goytisolo, Coto vedado ePub r2.0 Titivillus 09.03.2019, p 42
6- Juan Goytisolo, Juan sin tierra , 1975.Editor digital: Titivillus ePub base r1.2.pp21 -22
7- Juan sin tierra, p 27
8- Coto vedado, p 125
9- Juan Goytisolo, en los reinos de Taifa, ePub r1.0 Hechadelluvia 31.10.14, p 5
-10 عبدالعزيز حمودة: المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيكية، مجلة عالم المعرفة ع232، أبريل 1998 ص 141
11- en los reinos de taifa , p18
12- en los reinos de taifa , p 43
13- en los reinos de taifa , p 48
14- en los reinos de taifa , p 48
15- en los reinos de taifa, p 54
16- en los reinos de taifa , p 196
17- en los reinos de taifa, p 56
18- en los reinos de taifa, pp 57 -58
19- Coto vedado, p156
20- En los reinos de taifa, p 57
21- en los reinos de taifa, p 67
22- en los reinos de taifa, p 43
23- en los reinos de taifa, p 57
24- en los reinos de taifa, p 113
25- en los reinos de taifa, p 173
26- en los reinos de taifa, p 110
27- en los reinos de taifa, p 114
28- en los reinos de taif, p 106
29- Coto vedado, p 146
-30 جاك لاكان: الذهانات، الجزء الثاني، ترجمة عبدالهادي الفقير، الكتاب الالكتروني لشبكة العلوم النفسية العربية ع 35: ص 63
31- en los reinos de taifa, p 72
32- en los reinos de taifa, p 72
33- Coto Vedado, p 113
-34 سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي، النص والسياق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2ن 2001، ص 118
35- Coto Vedado, p 107
36- en los reinos de taifa, p 159
-37 المرايا المحدبة: مرجع مذكور، ص 111-112
38- en los reinos de taifa, p 66
-39 المرايا المحدبة: مرجع مذكور ص 191
40- Coto vedado, p 15