فاروق يوسف
كاتب وفنان تشكيلي عراقي
تنسل الأشجار إلى غرفة نوم جارتي الحلوة بخفة. حين يراها المرء يشعر أنها خرجت لتوها من خزانة الملابس لتقفز إلى السرير. كانت قبل لحظات نائمة وحين استيقظت اتجهت مباشرة إلى الحقل لتلهو. أثرُ مرورها يتنفس. خطوة تليق بملك مجوسي تائه. أهكذا تؤسس الإمبراطوريات؟ من النافذة، من خلال زجاجها تبدو الغابة هادئة. الحطابون يتبادلون الأحلام وأكياس الغذاء. فكرتهم عن مزاج جارتي تشعرهم بالخطر. هي ذي امرأة تميل إليها الغابة. ما معنى الفعل (تميل) هنا؟ تشتاق، تحن، تتعذب، تأرق، تأمل، تهوى، تقع في الحب. لها، لجارتي ضحكة تخدع الأيائل، تشق مياه الساقية مثل سمكة، ومثل سمكة تخترق المرآة وتقيم في نارها.
ــ «تشوي الفراشات»
باستثناء شجرة واحدة، الشجرة التي تلقت على جذعها قبلتها الأولى، هدية حطاب عابر، فإن كل الأشجار تميل بأغصانها إليها حين تمر مسرعة. سلتها ملأى بفاكهة الله. الفتاة وهي السبب في كل هذا لن تقرع جرسها. لم يحن بعد وقت قداسها. قداس الأموات جميعهم. القديسين النائمين في حوض البلدية. حيث يقف تمثال شعبي لباخوس. هناك حيث تجتمع كل صباح شلة من الفتية الهامشيين، أمطار المحطة الأخيرة من الرجم الخريفي. فتاة وحيدة تكفي لفضح كل ذلك اللؤم الذكوري. فشل بجناحين. «اركعي أيتها الحمامة» فتركع. لا يسمي الملاك الأشياء بأسمائها. لا يعرف سوى اسم واحد. اسم واحد له دلالة، وهو الاسم الوحيد الذي يملأ صفحات القاموس. كان الفتية المشاغبون قد وجدوا في النظر إلى ملاك نائم على مصطبة خشبية مصدرا لتسليتهم. «يملأون ساعاتهم رملا أسود»، تقول موظفة المكتبة وهي في طريقها إلى المطعم الايطالي وسط البلدة.
ــ «سيكون القديس أسكل شاهدا على فجوركم»..
الوحوش السعيدة بطيشها، النابتة على متر من الأسمنت، يطن ذبابها المفزع. تصفق أجنحتها. لم يتأخر الوقت بعد. بلى، الصبر يكاد أن ينفد. يولد صبيان في المستشفى ليذهبوا مباشرة إلى الإسطبل. هناك يتلقون الدروس الأولى التي تصنع منهم ملائكة ذهبية، تقوى ظهورها على حمل ملح التعاسة. أطنان قادمة من البحر تلهمهم الصبر. الذريعة جارتي تنظر إلى الحطابين بإشفاق. فؤادها هواء. خفيفة حتى على العاصفة. ريشة ليس إلا. مزاجها الأخضر يترفق بخطوتها. تنساب غيمتها على ثوبها المشجر. على السلم تحط من غير أن ترتقيه درجة درجة. تمسك غصنا بيدها وترفع قدمها عن غصن لتندفع بقوة إلى الأعلى. هل رأت الحطاب وهو يتبعها من الغابة إلى المكتبة؟ شعرت أنه هناك كما تشعر دائما. موجود من أجل أن تكون أنوثتها كاملة. فمها طري وثدياها يرفرفان. يخيل إليها أن دما يسيل من البيضة وتضحك. تتبع الخط الأحمر الذي ينبعث من نظرتها. دم الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين يقلق جارتي. «الدم في الشوارع» تستعير من لوركا جملته. الخط الأحمر يذهب إلى الساقية. يجتاز سوقا للمغاربة وحديقة حجرية وبيتا قروسطيا هو جزء من أملاك الكنيسة. مزاجها الأخضر لا يكف عن الهذيان.
«سترندبيرغ صنع خيال لغة لشعب صامت»
لم ترني وأنا أراقبها. جارتي الحلوة ضائعة في التاريخ. هناك في الجانب الآخر من النهر كنيسته القوطية. وصل القديس الإنكليزي أسكل قبل ألف سنة في قارب متهالك وقرر البقاء هنا. على هذه الأرض لم يكن هناك مسيحيون. كانوا يعبدون الطبيعة. «وهل هناك مسيحيون هنا الآن؟» تضحك جارتي من غير أن تظهر أسفها. حتى اللغة ليست مسيحية. مات أسكل وطوب قديسا من قبل روما. وبنيت مدينة من أجله. كانت جارتي تحلم. «رأيته وقد نام على سرير من ذهب تحيط به الجماجم. هل لك معرفة بتفسير الأحلام؟» القديس أسكل مقيم هو الآخر في المدينة التي كانت قبل مجيئه قريتين. مهاجر وهبته المسيحية حق الإقامة. تبدأ حياته من لحظة وصوله إلى الشاطئ السويدي ولكن ماذا عن حياته السابقة؟
يا حلو. لمَ تعذبني؟ حياتي السابقة تسقط في النهر. سمكة بجناحين. زهرة بأنف خنزير. صدقة لـ (الله). كنت أظن أن حياتي هناك هي المعنى كله، هي الطريق التي لا طريق سواها، حديقتي التي أنا رهين فتنتها. وإذا بأسكل يقلب الدرس. المسيحي وسط الوحوش غدا قديسا بعد مئة سنة من موته. أنفاسي تمر كل يوم بمزاجك الأخضر فتزداد نضارة. محظوظ إذ أنتهي إليك. يحسدني راعي الأبرشية. نعمة تنبعث من العشب الذي يغازل قدميك. أنا عطرك. أعرف أنك تناصرين المثليين ولا أعترض. أنتِ تعرفين أنهم يثيرون غضبي. ولستُ محقًا. «إنهم بشر مثلنا. طبيعيون مثلنا» تقولين لي. «هناك بشر طبيعيون مثلنا في العراق غير أنهم يتعرضون للقتل والمهانة» أقول لك. تهزين رأسك. لا تناقض. أنا وأنت ندافع عن حق الحياة. سأبكي. سيبكي البراق معي. يجلس الرب على المياه. من تحته ماء ومن فوقه ماء. كنت أظن أن العراق هو الولد البكر للرب قبل المسيح؟ تضحك جارتي وتقول لي: «لستُ فطومة». نوحي إذًا يا روحي نوحي.
الراهبات يخرجن من المكتبة مثل طيور الدراج. ناعمات، هادئات، وديعات. ما هذا؟ أراك صامتة تتأملين المشهد المسرحي المرائي. لا أمل ولا نور. للكذب أقدام كثيرة. لا يفارق القضيب خيالهن. أسكل كان ضحية خيالهن الصامت. رجل بثياب فارس قروسطي. الرجل سبق عصره. البحار ترك سفينته على الشاطئ وفضل أن يكون منسيا. تذكرته الكنيسة بعد مئة سنة وطوبته قديسا. مات قضيبا وعاش قديسا. سأقول شيئا من أجله ومن أجلي. هناك خيال عدو. خيال لا يفرق بين الذاهب والقادم، بين السؤال والجواب، بين الصخرة والنبع. هناك جرح. الخط الأحمر الذي يسبقك، يسيل من بين قدميك ليذهب إلى الساقية. عبر النهر هناك على الضفة الأخرى كنيسته القوطية الحمراء. هناك قبره. قبر كل القديسين الموتى. رماد من عظام وأبخرة من أفكار ناعمة. تلمسين حجرا تذكاريا باردا فيبكي قلبي. أغمض عيني على آجرة بابلية، جرة خزفية من سامراء، دمية سومرية وتمطر وسادتي.
تقف جارتي الحلوة هناك. على بعد مترين من الرصيف الآخر. تتكئ على سياج أحمر غامق وتنظر بخشوع إلى كنيسة سانت أسكل. بيننا النهر. بيننا الف سنة من الفراق والندم. بيننا السنونوات الأخيرة. آخر البياض الملهم بالذهاب إلى الشعر، بعده يأتي بياض النثر، حيث الثلج يمحو ما سنكتب. يمحو الغابة والحطابين وصياح الديك وسطور أول رسالة غرام وآثار أقدام القديسين الموتى وجوقة الفتية الهامشيين وموظفة المكتبة التي تمشي في اتجاه المطعم الايطالي في الثانية عشرة وخمس دقائق من ظهر كل يوم. سيكون الأحد طويلا. أحد أبيض بذراعين ضجرتين.
تتذكر حجرا التقطته لتضعه في سلتها، ومن ثم أخرجته من تحت باقة بصل لتضعه بحنان على الرف بين الكتب. «يشبه الكمأة» وفي مناسبة أخرى قالت: «أنقذت الجمال». «الأرواح هي الأخرى تحلم. للحجر روح» تتذكر جارتي جدتها. تملأ القدر ماء وتلقي في الماء أعشابا وردية. على نار هادئة تترك الماء يغلي. حينها ترفع الغطاء فيتصاعد البخار، ويمتلئ كوخها بعطر غريب. «العطر يجذب الأرواح الخيرة. يجعلها تشعر أن هناك مكانا مريحا لأحلامها»، كانت جدتها تقول. أراها واقفة في باحة الكنيسة وهي تكلم القس. تبدو منشرحة. زهرة في اليد وفي عينيها نظرة مرحة. أخبرتها فيما بعد أني رأيتها هناك فنظرت إليّ مستفهمة ولم تعلق. أحيانا يعجبني أن أتبعها من بعيد. «مثل لص»، قالت حين رأتني قادما وكانت قد وقفت في انتظاري. «هل أنت غاضبة؟»، أسألها فتجيبني بسؤال: «لِمَ؟» «لأن شبحي يتبعك». تلقي قدما في سوق الأزهار. لا تزال قدمها الأخرى على سطح البحيرة. تضحك وهي تشير بإصبعها إلى سطح البحيرة الجليدي. «هناك الكثير من الأسماك الملونة تنام تحت» تحمل زهرة واحدة. كاردينيا طويلة مثل جرس. تقبض على غصنها وتومئ بها لي. «تعالَ. شمها» ما من رائحة. «كاردينيا للأشباح» اليوم هو عيد ميلاد نانو. نانو هو ابن عشيقها من عشيقته البوسنية. كانت قد لمحت لي في وقت سابق أن عشيقها المتعجرف يكرهني. لم تقل: يكرهك بل قالت لا يحبك. من يومها صرت كلما رأيته في السلم لا أنظر إليه حين أحييه أو حين أرد تحيته. «لابد أن تأتي. سيحضر أبونا الحفلة. أخبرته أنك ستكون موجودا. اتفقنا» ولكنه يكرهني. لم أقل لها. أتذكر أني قلت لها: «ربما يشك أن هناك شيئا ما له صلة بالغرام بيننا» قالت بعد نظرة عتاب طويلة: «لا تكن ساذجا».
رأيت نانو على السلم. كان ابن السادسة يدفع اطارا كبيرا ملونا. نصف مسلم. سيكون علي أن أعرف أن أباه يكره ذلك النصف مثلما يكرهني كاملا. قبل يومين عثر نانو على كلب أبيض وحمله إلى البيت. كلب من ثلج. وضعه في حوض الاستحمام وأغلق باب الحمام عليه. قال لي انه لم يجده صباح اليوم. لقد اختفى الكلب. «أتظنه صار يكرهني لأني نسيته ولم أطعمه؟» هرب الكلب وهربتُ من شقتي حين رأيت وجه نيكول كيدمان على شاشة التلفزيون وقد بدت كما لو أنها ترتدي قناعا من شمع. «كلارا ستجلب كعكة عيد ميلاد نانو. سأدعو أصدقائي لحضور الحفلة. أنت مدعو كذلك. قالت كلارا لأبي أن يتوقف عن كرهك. على الأقل هذه الليلة. هي قالت ذلك وبكت. لودميلا هربت بسبب البكاء. أخذت لودميلا أصدقائي معها وهربت. كانت تبكي كثيرا مثل العرائس» أبوه لن يكرهني إذًا هذه الليلة. ولكن أصدقاءه سيذوبون مثل ذلك الكلب الأبيض. لم يكبر نانو ولن يكبر. سنواته قليلة. أشعر بألم من أجل كلارا. منذ سنتين وهي ترعى أبا وابنه لن ينضجا في وقت قريب. يستخرج نانو أصدقاءه من تحت الثلج. يزيح عنهم الثلج ويهبهم أسماء. أسماء لن يعرفها أحد سواه. يهمس بتلك الأسماء في آذان أصدقائه فيبتسمون له. يعرف أنهم سيختفون، غير أنه يحتاج إلى أصدقاء. أصدقاء يحملون مثله أسماء. أسماء مثل لمسه ليست حقيقية. يقول لي إن نانو ليس اسمه الحقيقي ولكنه يتأملني صامتا حين أسأله عن اسمه الحقيقي. «هات يدك نانو» يمد لي يده. أقوده إلى التل المغطى بالثلج. «نانو هل ترى الأعشاب؟» «خضراء تشع بالضوء. هناك سنجاب يخبئ رأسه. أرى ذيله. العشب لا يموت. لودميلا ماتت. هل ستموت كلارا؟» أنظر إلى عينيه فلا أرى دموعا. نانو ليس حزينا. نانو يتساءل فقط.
ما إن تحفر قليلا حتى تعثر على بقاياها. خشبها لا يزال يطلق رائحة وشراعها مطوي. لقد ترك الفايكنغ سفينتهم هناك وذهبوا إلى حانة على الشاطئ. شربوا أبسلوت ورقصوا وضاجعوا نساء الحانة وسكروا وناموا في أكواخ صغيرة. حين استيقظوا مساء اليوم التالي ذهبوا إلى الحانة نفسها وشربوا أقداحا من الأبسلوت ورقصوا وضاجعوا نساء الليلة الماضية وحين سكروا ناموا في تلك الأكواخ الصغيرة. بعد سنوات انسحب البحر تاركا سفينتهم في مكانها باعتبارها تحفة من زمان مضى. السفينة صارت تلا معشبا تغطيه الثلوج في الشتاء. نانو يرى السفينة. يرى خشبها اللامع. يرى شراعها المطوي. ولكنه لا يرى من الفايكنغ إلا رجلا واحدا. ذلك الرجل الذي تركه في البيت. الرجل الذي قالت لي كلارا إنه لا يحبني وقال لي نانو إنه يكرهني. لابد أن أكون حذرا. لا يزال ليف يحلم بالعثور على تلك المستعمرة الخضراء. أرض الخمور كلها. جنة الفايكنغ التي تقع في مكان ما بين أيسلندا وغرينلاند. هناك حيث تغطي أشجار العنب بخضرتها الأرض طوال العام. ليت ابن فضلان ينجدني هذه الليلة بخبرته. يطل كيرك دوغلاس برأسه باعتباره أشهر القراصنة.
ذهبت جارتي إلى غوتلاند وجلبت من هناك نقودا عربية. «أمويون كانوا هناك» رقصت. سالت الشمس على مرمر الجامع الأموي بدمشق. ابتسمت بهدوء وقالت: «لا تفرح. أجدادك لم يصلوا إلى الجزيرة. أجدادي هم الذين خزنوا النقود العربية في جرار دفنوها تحت الأرض. غدرت بهم أوروبا حين سكت نقودها فلم تعد لتلك النقود المدفونة أية قيمة. يومها انتهى عصر الفايكنغ» لم أقل لها إن هناك واحدا منهم لا يزال في انتظاري، لذلك فإن عصرهم لم ينته بعد. ألمس وجه عبد الملك وأقرأ الشهادتين. يكاد المعدن يذوب من رقة العاطفة. غوتلاند ليست بعيدة عن مدينتي. رأيت قطعة نقود عربية تتمايل بين نهديها. تقع عيني على البحر. البحر المتوسط بحيرة أموية. لكن غوتلاند تقع إلى الشمال. «لقد غدر بهم المؤرخون. لم يكونوا قراصنة بل كانوا رجال بحر» تذكرني شفتاها بشفتي بريجيت باردو يوم وقعت في غرام بحار تائه. يسيل العنب. النظرة، نظرتها تملأ جسدي نبيذا. «الأوروبيون يكرهون الفايكنغ. قد لا تعرف أن الفايكنغ عبروا بحر الظلمات قبل كولومبس. لقد بنوا قرى في كندا. أوروبا الجنوبية لا تنظر إلى الشمال» عبد الملك لا يراه أحد غيري وهو يتنقل بخفة بين الثديين.
سوف تحطين على تل من الثلج مثل حمامة نوح. أثرُ الزهرة ينزلق على الثلج. نانو لن يكبر فجأة. الكعكة جاهزة. كل شيء جاهز. نفرح لأن أحدا ما نقص سنة. التهم سنة. ذهبت سنة من عمره. الصغار يكبرون غير أن نانو لن يكبر. تقولين «الزمن كذبة» أوافقك وأنت جارتي الحلوة منذ أن تخطى مزاجك الأخضر عتبة البناية. الحطابون ينظرون إلى شرفة بيتك بشبق. ينظرون إلي بحسد. تلمسين الحجر فلا ينساك. تضعين الحجر بين الكتب فيصير كتابا يُقرأ.
«ألا تقترح علي لونًا بعينه للزهرة؟» تقولين للبائع المجري. ينظر إلى عبد الملك بعينين مبتلتين. «البنفسجي للزواج، الأصفر للقاء يومي، الأحمر للغواية، الأبيض للأمهات» «ولكن ماذا عن الأطفال؟» تسألينه. يجيب: «الأطفال لا زهور لهم يا سيدتي. هم زهور». ترفعين وجهك إليه. يخفض عينيه. «لم أره من قبل في السوق» حكمته تقود نظرتك إلى نبتة غريبة. «تلك النبتة من أين؟» يقول لك: «يابانية. وهي تلائم المناخ في البيوت هنا» تحملينها. إذًا أرى الآن جارتي الحلوة بنبتة يابانية. تتخيلين جارة يابانية لي بنبتة أسوجية. يبدو لي خيارا جميلا.
لم تكن لدي فكرة عن الهدية التي سأقدمها إلى نانو. في محل الألعاب هناك بائعة إثيوبية كنت قد تعرفت عليها في مطعم الأسماك الذي يحاذي ضفة القناة. «سقطت فراشتك»، قلت للفتاة الطويلة السمراء التي احتكت تنورتها بمنضدتي وأشرتُ إلى الأرض. كانت فراشتها الفضية هناك. التقطتها وحين رفعت رأسها ابتسمت لي بإغراء كما لو أنها مارلين مونرو في فيلم «يحبونها ساخنة». ساخنة كانت تلك الفتاة ممشوقة القوام بساقي نعامة. بعد وقت قصير من جلوسها، قالت: «خمن؟» وكنت سألتها عن عملها. كانت الزهور على الماء. في إمكاني أن أعدها. ثابتة لا تتحرك. الشمس تصنع خطا عريضا يشق المياه بالفضة. ظل البناية المقابلة يغرق صورة البناية مقلوبة في الماء. البنت الإثيوبية تضحك بذكاء. ما معنى الضحك بذكاء؟ تعرف كيف تضحك باحتراف. تغلق فمها فيما الضحكة تتنقل بخفة بين ثنايا وجهها. قلت لها: «لا بأس. سأبدأ من الأخير. عارضة أزياء». «لو أن جملتك قيلت في مكان آخر لكنت صدقتها» كانت تنظر إلي بعمق. أنا شيء معروض للنظر. واحدة من تلك اللقى التي تغص بها محلات العاديات. صحن تستقبل زخارفه الصينية مسحة أصابعك المرتبكة. الهواء يضرب شعرها الناعم. إبر سوداء ترتجف فوق الجبهة وعلى الخدين، قريبا من الفم وفي الفراغ. «لست سوى مهاجرة من بلد عاثر الحظ» مثلي تماما. لا ليس تماما. حركت يديها بيأس وابتسمت بحزن. «عاطلة عن العمل. أعيش على دعم الرعاية الاجتماعية» حدثتني عن الرجل الذي كانت تساكنه. تعرفت عليه في دبي. حينها كانت تعمل ساقية في حانة تابعة لأحد الفنادق. صار يحضر كل مساء من أجلها. ويتبادل معها جملًا عابرة وسريعة. كلمها باقتضاب عن شغفه بها. ذات ليلة طلب منها أن توافيه إلى غرفته فرفضت لأن ذلك الأمر كان محظورا عليها وإلا فقدت عملها. حينها أخبرها أنه سينتظرها على باب الفندق. وبالفعل وجدته واقفا هناك حين أنهت عملها. «مشينا» تقول. «بعد شهرين كنت في مطار أرلاندا بستكهولم وكان يقف في انتظاري حاملا باقة زهور».
ليزا ليس اسمها. غير أنها تلتفت كلما سمعت أحدا ينادي بذلك الاسم. صار اسمها ليزا في اللحظة التي لامست قدماها الثلج. «بارد كل شيء. الهواء والأكل ومرمر المصطبة والنَفَس والكلام والعاطفة والزهور والثياب والسرير والشموع والأيدي والنظرات وأواني النبات والشرفات والجنس والشمس والصداقة والأحذية والرسائل والكؤوس وأكواب القهوة والخبز والابتسامات والعائلة والأسئلة والهمس والوسائد والأحلام» دخلت ليزا إلى منجم بارد ومعتم خرجت منه بعد سنوات وهي لا تتذكر ما الذي حدث لها عبر تلك السنوات. «لا أتذكر سوى البرد والوحدة». تنقصها خبرة الطائر المهاجر. «الشيء الوحيد الذي ربحته هو كوني أصبحت مواطنة. أفاجئ نفسي كل صباح بالقول إنني مواطنة» هي رتبة. درجة في سلم إنسانيتنا الناقصة. ولأن البشر ليسوا كلهم مواطنين فقد صارت المواطنة امتيازا. حلية استعراض يعلن من خلالها المرء عن تفوقه. أتذكر أني حين استلمت خطاب المواطنة بكيت. يومها شعرت أني فقدت وطني إلى الأبد. صرت فردا من رعية بلد آخر. بلد لا يسري ماؤه السري في عظامي. حتى اللغة فإن إجادتها غربة. حين أقرأ فإنني أترجم. حينها يقف الخائن بيني وبيني. من لغة معاشة إلى لغة مفقودة تتساقط أحجاري إلى الهاوية. لا يهتم الطائر المهاجر إلا بما سيأتي لاحقا. تشغله فكرة السفر اللاحق عن كل ما يجري من حوله. يعيش حياته من أجل أن يكون مستعدا للسفر. يوم يسقط في البحيرة لا معنى له. «أكتبي لي كل الخضراوات التي تشكل مادة للطعام الذي تجيدين طبخه وسيكون كل شيء في انتظارك في مطبخي يوم السبت القادم»، قلت لها وأنا أرمي فتات الخبز إلى البط، فيما كنا واقفين على جسر خشبي صغير. احتضنتني وهي تصرخ: «سأجلب قنينة بوردو لنحتفل».
سأكون على منضدة الطعام. السمكة التي لا تزال تغمض عينيها وتفتحهما بناء على إشارات تصدر عن يدين فاتنتين. فم البنت السمراء في النبع يطلق النكهة وعلى مسافة سنتيمتر واحد من خصرها تتجمع الأبخرة. سأكون معك بعد هنيهة، أيها الملاك انتظرني. هناك ما يجب أن أفعله، في الملعقة مثل قطرة من شراب الرمان، في الشوكة عالق مثل قشرة بصل، على حافة السكين أمحو رائحة اللحم وأتنفس هواء الخبز اليابس. أقفز إلى المقلاة فتكون رقصتي مكتظة بالفلفل والبقدونس والكمأ وقطع الدجاج ومكعبات البطاطا. حشد من الفراشات الأفريقية يمر بشفاه غليظة بحافة كأس النبيذ. يدي هناك ساكنة. سبأ نائمة وبلقيس جالسة على عرشها. ثوبها حديقة فيما تنطلق من بين يديها أفكار عن مستعمرات طرية من زهور مسحورة بعبقها. ليزا عثرت على عمل في محل للزهور. البياض حل مشكلته. اللغة صارت أخرى. سأقول لمطبخي تمهل قليلا قبل أن تتأوه. لن يضيق نظري بردفين يسعان الحكايات كلها. أهدم منزلك. فتت أسطورتك. وأخرج حمامتك من القفص. «ستأكل» تقول وهي ترقص. بيدها صحن فارغ وفي عينيها شعب لا يكف عن الذهاب والإياب. ليزا تؤهل بلادا للنازحين. الجاموسة تدخل رأسها من النافذة لتصرخ بي «أفق. الفيل يا صغاري سرق من النملة ثوب عرسها» تضحك ليزا. «ليت شهرزاد لا تزال حية لتسمعك»، تقول. صحنان على المنضدة. صحنان فارغان فيما الطعام كله في فم الآلهة.
جلست مرهقة أمامي لكن ممتلئة بالظفر.
«أخيرا ستأكل» مرت قطرة النبيذ بحنجرتي. جلس المغني على حجر في الطريق إلى مكة. قالت «إثيوبيا هي حبشتكم. كنتم لاجئين هناك» قلت لها «تخيلي قوافل اللجوء وهي تغير طرقها عبر العصور» مست يدها الغريبة يدي الغريبة وتعانقتا. لم يستيقظ أحد في البئر وفاض الكأس. دمعها عزيز والطبل نائم في ظل شجرة آدم. لن أحدثها عن الناصرية. الشطرة تعذبها أصوات أبنائها. ملكة هي على عرش عافته بلقيس فارغا لأنها حسبت المرمر لجة وسقطت في الامتحان. خُدعت بلقيس فخرت ساجدة أمام هول الفتح الذكوري. «بريئة منك ومن أفكارك. جئت لأطعمك. النجاشي قبلك لاجئا. ومن أجله أطعمك. لستَ سيدي». حشرتي تئن. تصفر لكي تستدعي الرهبان القادمين من قداس الأنبياء المهذبين. هناك سأكون وحيدا مثلما رأيتني أول مرة. سأعود وحيدا. وأنت تعرفين ذلك. يلهمني طعامك الرغبة في الذهاب مجددا إلى الجنة. لا تنفع الحيطة. من قال إن الأفارقة يفنون أولا؟ أبدأ بالموز المقلي. هناك رمزية خاطئة. بعد رمزي يصحح اتجاهه. «الجسد ميزان للعبودية»، تقول وأهدأ. حواسي كلها تنصت. يوما ما سنكون واقفين على هاوية كل شيء. البريد لن يصل فلا أحد ينتظر رسالة من أحد. «كلنا هالكون» تضحك وتضيف «النجاشي وأبرهة والماركسيون الجدد ومادونا وهيلاري كلينتون» لن يكون هنالك ليل. بل سيكون ليلا عميقا. لا فرق. ستحل الأفئدة محل العيون. «ولكنني أود أن أرى. العالم من حولي ينبغي أن يكون صالحا للنظر» حشرتي نائمة وأنا أحبك.
في الليل، ليل أفريقيا كنت وحيدا أنتظر عاصفتك.
دمى كثيرة ولكنها لا تشبه نانو. نانو بالنسبة لي هو دمية أيضا. دمية لن تكبر. تقول كلارا إنه مختلف. وأنا أعرف أنه متخلف مثل أبيه تماما. ليس تماما. أتوقع من الأب عنفا مبيتا. سأكون عرضة للاختبار في حفل ميلاده. أنا متخلف أيضا. لا أفهم ما يجري من حولي. لا تزال طفولتي تقفز بي بين مناطق متوترة. لن يكون نانو شبحا. إنه طفل. طفل مثلي. مثل ليزا التي أود أن أدعوها إلى الحفلة. فكرت. سيقتلني الفايكنغ ويقتلها. سنرى دمية مذبوحة. مقطوعة الرأس. نانو سيبكي.
في انتظار ليزا جلست في المقهى أحلم. لم أشعر بحاجة إلى أن أغلق عيني. الوحوش تتقافز من حولي من غير أن يراها أحد سواي. وحش ناقص أو جنية لم أرها من قبل، أمر لا يؤثر في كثافة أو خفة الحلم. كانت المدينة تتسلى بالنظر إلى الثلج وهو يهطل على شكل ندف كبيرة. يمكنني النظر إلى وقائع حلمي من خلال ألواح الثلج التي كانت تتراكم على الأرض لتمتزج فيما بينها مكونة تلالا صغيرة مرصوصة. لقد تعودت أن أصنع أحلاما، وهذا ما أقصده حين أقول إني أحلم. من وراء الزجاج كنت أرى حياتي تقبل من مكان ما لتحل محل ما أراه واقعيا. وكنت أندهش إذ يتحول أبطالي الخياليون إلى أناس حقيقيين، يمشون ويجلسون ويتصافحون ويتكلمون ويصرخون ويضحكون ويودع بعضهم البعض الآخر.
«أشيد مدينة» أجبتها حين رأيتها قد انبعثت من الفراغ أمامي فجأة. مرت سيارة إسعاف خاطفة بعد أن ملأت الشارع زعيقا. «تسير الأمور نحو الأسوأ» تضحك. «كما لو أني عرافة»، تضيف. لم ينته الحلم وصار علي في الوقت نفسه أن أنصت لليزا وأنظر إليها. أرى اليد نفسها التي تأتيني في النوم وهي تلوح. كنت ذلك الطفل الوحيد شبيهي الغارق في كتاب القراءة الخلدونية، خلف عباءة عمتي في سوق الصدرية، تحت نصب الحرية، أمام السباع الأربعة، في زخارف جامع الخلاني، بين أزقة باب الشيخ، في أروقة أورزدي باك، على لافتات سينما النصر الصيفي. الخطوة تلو الخطوة والنظرة المفتوحة على حديقة الأمة وعلى صور المصور الأهلي وعلى خزانات الأحذية لدى سعيد حراق. على جدار جامع الحيدرخانة رأيت رعد عبد القادر وهو يسند ظهره حاملا بيده مكواة حجرية. يقول لي: «وجدتها لدى أحد باعة سوق الهرج». لقية من عصر الاحتلال الأول. يمر جلال الحنفي فيقول رعد وهو يشير إلى غطاء الرأس الذي يرتديه الحنفي «قلم رصاص» يرفع الشيخ رأسه ويقول جملته الخالدة «قلم قوبية». «من هي كوبيا؟» تسأل ليزا. تمر سيارة إسعاف ثانية، بعدها يختفي صديقي الشاعر فيما يبقى الشيخ في مكانه وهو يحاول عبور الشارع. يحمل بيده جريدة التآخي. تترك بائعة السمك عربتها وتتجه إلى بائع الخس. تصفعه وهي تصرخ «باليني بلوة المخبل. طركاعة اللفتك». يضحك المارة فيما الرجل ينظر إليها مشدوها. تلك اليد لا تزال تلوح. يد بنفسجية تميل إلى الخضرة. «الثلج يحيي الموتى»، قلت لليزا. «هاهم عادوا انظري»، صرت أشير الى الجسر الذي يمشي عليه الأسرى وهم يلوحون بإشارات النصر. عادوا من الأسر منتصرين. بعد ثماني سنوات من الغياب القسري ها هم يمشون على أرصفة الوطن ثانية. يمشون على الثلج بطريقة مضحكة. أخيرا هناك أرصفة. كنتُ واحدا منهم. لوحت له، للشخص الذي يشبهني، لي من وراء زجاج المقهى. لم يرني. لم أره من قبل. أقصد لم أر شخصا يشبهني إلى هذه الدرجة. أحسست بيد ليزا وهي تقع على يدي. نارية مثل جمرة. نظرت في عينيها. شفتاها المكتنزتان تتحركان. إنها تقول كلاما لا أسمعه. توقف الهواء عن نقل الكلمات، بل أصابني الصمم. لا شيء. عيناي تهذيان. أنا أحلم. شفتان تلتهمان الهواء. اللمعة تخرج من بين الأسنان. بيضاء تنشق عن ضحكة عميقة.
فيما كنت أنظر إلى شفتيها اختفى الأسرى. رأيت على الرصيف المقابل تلًا من الأحذية. لقد تركوا أحذيتهم هناك إذًا. «انظري. صار في إمكانهم بعد عشر سنوات من الأسر أن يمشوا حفاة على الثلج. خفة الموتى» كانت يدها الدافئة لا تزال تمسد يدي. تسلل دفؤها تحت جلدي. التفتت إلى حيث أشرتُ وهزت رأسها. «قضيت سنوات وأنا أحلم بأني قد وقعت أثناء الحرب في الأسر. وكنت أستيقظ مرعوبا. كنت أصغر الأسرى. كنت طفلا» قالت: «أفهم مشاعرك. فأنا وقعت في الأسر من غير حرب. لسنوات وأنا أعيش داخل غيمة تنتقل بي من مكان إلى آخر في انتظار أن أسقط منها في أية لحظة». روت لي حكايتها بطريقة مختلفة.
* النص جزء من رواية قصيرة