قسطنطين باوستوفسكي*
حسين علي خضير- مترجم عراقي
كان شهر تشرين الأول باردًا وممطرًا. اسودّت سقوف البيوت الخشبية. وكان العشب المتشابك مستلقيا في الحديقة، وازدهر كل شيء، ما عدا عباد الشمس الصغير، لم يتمكن من أن يزدهر قرب السور.
تسير السحب الرخوة فوق المروج الموجودة خلف النهر، لامست أشجار الصفصاف المتحركة، وبعض من هذه السحب أمطرت بغزارة. لم يعد من الممكن السير أو المرور على طول الطريق، وبدأ الرعاة في دفع قطعانهم إلى المروج.
هدأ بوق الراعي حتى الربيع. أصبح من الصعب على كاترينا بتروفنا أن تستيقظ في الصباح وترى نفس الأشياء: الغرف التي ما زالت فيها الرائحة الكريهة للمواقد التي لا تبعث الدفء، ومجلة «فيستنيك الأوروبية» المتربة، وأصبح لون الأكواب مصفرا على الطاولة، السماور غير نظيف منذ فترة طويلة والصور على الجدران. وكان الظلام شديدًا في الغرف، وظهرت على عينيها غشاوة، أو ربما بهت لون اللوحات بمرور الوقت، ولم يكن بالإمكان ترتيبها. عرفت كاترينا بتروفنا من ذاكرتها فقط أن هذه الصورة كانت لأبيها، وهذه الصورة الصغيرة داخل الإطار الذهبي كانت هدية من كرامسكوي(1)، وهي لوحة لامرأة مجهولة. عاشت كاترينا بتروفنا حياتها في منزل قديم بناه والدها الفنان الشهير.
عاد الفنان من بطرسبرغ إلى قريته الأم في سن الشيخوخة، وعاش بهدوء واعتنى بالحديقة. لم يعد بإمكانه الكتابة: كانت يده ترتجف، وعيناه تؤلمانه في أغلب الأحيان. كان المنزل، كما قالت كاترينا بتروفنا، «تراثيًا». كان تحت حماية المتحف الإقليمي. لكن ماذا سيحدث لهذا المنزل عندما تموت، وهي تُعَد آخر من يقطنه، لم تكن كاترينا بتروفنا تعلم. وفي القرية -التي كانت تسمى زابوريا- لم يكن هناك من يتحدث معها عن اللوحات، وعن الحياة في سانت بطرسبرغ، وعن ذلك الصيف عندما عاشت كاترينا بتروفنا مع والدها في باريس وشاهدت جنازة فيكتور هوغو.
لم يخبروا مانيوشكا حول هذا الأمر، ابنة أحد الجيران، أبوها كان إسكافيًا في القوقاز، تذهب تلك الفتاة كل يوم لجلب الماء من البئر، وكنس الأرضيات، وإشعال النار تحت السماور.
أهدتها كاترينا بتروفنا قفازات مجعدة وريش نعام وقبعة سوداء مزينة بالخرز الزجاجي مقابل خدماتها.
– من أجل أي شيء أعطيتِني هذه الاشياء؟ سألت مانيوشكا بصوت أجش وبكبرياء، وهل أنا من الذين يشترون الملابس العتيقة؟
– وهمست كاترينا بتروفنا: «بيعيها يا عزيزتي». منذ عام وهي أصبحت واهنة وغير قادرة على التحدث بصوت عالٍ، بيعي.
– أعطتها الخرق، وقررت مانيوشكا لملمة كل شيء وغادرت.
كان الحارس نادرا ما يدخل إلى حجرة الحريق، كان يدعى تيخون، وكان نحيفا وشعره أشقر. لا يزال يتذكر كيف جاء والد كاترينا بتروفنا من سانت بطرسبورغ، وبنى منزلًا، وشرع بإقامة الضيعة.
كان تيخون صبيًا في ذلك الوقت، لكنه ظل يحترم الفنان الكبير لبقية حياته. نظر إلى لوحاته، وتنهد بصوت عالٍ:
– يا له من عمل طبيعي!
غالبا ما كان تيخون يعمل بلا مقابل وبدافع الشفقة، لكنه لا يزال يساعد في الأعمال المنزلية، لقد قطع الأشجار الميتة في الحديقة، ونشرها بالمنشار وقطعها من أجل الحطب.وفي كل مرة حين يغادر، يتوقف عند الباب ويسأل:
– ما هو الجديد يا كاترينا بتروفنا، وهل ناستيا تكتب شيئاً أم لا؟
صمتت كاترينا بتروفنا، إنها جالسة على الأريكة، احدودبت، وأصبحت بنيتها الجسدية صغيرة، راجعت بعض الأوراق في الحقيبة الجلدية الحمراء. تمخط تيخون لفترة طويلة، وراوح بالقرب من العتبة.
قال: «حسنًا»، دون انتظار الإجابة، أعتقد أنني سأذهب، يا كاترينا بتروفنا.
– اذهب ياتيشا، قالت همسًا، اذهب، الرب معك!
خرج وأغلق الباب بعناية، وبدأت كاترينا بتروفنا تبكي بهدوء.وأصدرت الرياح صفيرا من خلال الأغصان العارية خارج النوافذ، مما أدى إلى سقوط الأوراق الأخيرة. ارتجف ضوء الكيروسين الليلي على الطاولة. وبدا لها الشيء الوحيد الذي يعيش في المنزل المهجور، لولا هذه النيران الضعيفة، لما عرفت كاترينا بتروفنا كيف تعيش حتى الصباح.
كانت الليالي طويلة وثقيلة أشبه ما تكون بالأرق. ومر الفجر ببطء وتأخر أكثر فأكثر خلف النوافذ غير المغسولة، حيث توجد بين إطارات النوافذ منذ العام الماضي أوراق خريفية صفراء، أصبحت الآن متعفنة وسوداء.
ناستيا، ابنة كاترينا بتروفنا وهي الإنسان الوحيد والقريب لها، عاشت بعيدًا في مدينة لينينغراد (حاليا بطرسبورغ)، آخر مرة زارت أمها منذ ثلاث سنوات.
عرفت كاترينا بتروفنا أن ناستيا ما عادت تهتم بها الآن، فلدى الشباب قضاياهم واهتماماتهم غير المفهومة، وسعادتهم الخاصة، والأفضل أن لا تزعجها، لذلك، نادرًا ما كتبت كاترينا بتروفنا إلى ناستيا، لكنها فكرت بها طوال الأيام، وهي جالسة على حافة الأريكة المخروفة بهدوء لدرجة أن الفأر، الذي خدعه الصمت ركض من خلف الموقد، ووقف على رجليه الخلفيتين وأخذ يحرك أنفه ويتشمم الهواء الفاسد.
لم تكن هناك رسائل من ناستيا أيضًا، ولكن كان ساعي البريد فاسيلي المبتهج يجلب لكاترينا بتروفنا حوالة قدرها مائتا روبل كل شهرين أو ثلاثة أشهر مرة واحدة، كان يمسك كاترينا بتروفنا من يدها حينما تقوم بالتوقيع، لكي لا توقع في المكان الخطأ.
حينما غادر فاسيلي، جلست كاترينا بتروفنا حائرة، والنقود في يديها، ثم ارتدت نظارتها وأعادت قراءة بعض الكلمات في الحوالة البريدية. كانت الكلمات كلها متشابهة: هناك الكثير من الأعمال اقوم بها، بحيث لا يوجد وقت، ليس فقط للمجيء، بل حتى لكتابة رسالة حقيقية.
رتبت كاترينا بتروفنا الأوراق النقدية بعناية. ومن جراء الشيخوخة نسيت أن هذا المال لم يكن فقط في يد ناستيا على الإطلاق، وبدا لها أن المال تفوح منه رائحة ناستيا.
ذات يوم، في نهاية شهر أكتوبر، ليلًا، طرق شخص ما لفترة طويلة الباب الخارجي المغلق بإحكام لعدة سنوات في وسط الحديقة.
شعرت كاترينا بتروفنا بالقلق، ولفت وشاحًا دافئًا حول رأسها لفترة طويلة، وارتدت معطفًا قديمًا، وخرجت من المنزل لأول مرة خلال هذا العام. سارت ببطء وبهمس، ومن جراء تيار الهواء البارد أصيبت بالصداع. كانت النجوم المسلية تطل على الأرض بشكل مُثير. والأوراق المتساقطة تعوق السير.
بالقرب من البوابة سألت كاترينا بتروفنا بهدوء:
– من يطرق الباب؟
لكن من خلف السياج لم يرد أحد.
قالت كاترينا بتروفنا: «لا بد أنني توهمت»، ثم عادت. لهثت، وتوقفت بالقرب من الشجرة القديمة، وأمسكت بيدها غصنًا باردًا ومبللًا واكتشفت أنه غصن من شجرة القيقب. لقد زرعتها منذ وقت طويل، حينما كانت لا تزال فتاة مرحة، هو أيضًا الآن ينهار ويقف متجمدًا من جراء الصقيع، ولم يكن لديه مكان ليمضي إليه في هذه الليلة العاصفة والخالية من المأوى.
شعرت كاترينا بتروفنا بالشفقة على شجرة القيقب، ولمست جذعها الخشن، وعادت إلى المنزل، وفي تلك الليلة بالذات كتبت رسالة إلى ناستيا.
كتبت كاترينا بتروفنا: «حبيبتي»، لن أنجو هذا الشتاء، تعالي ليوم واحد، ودعيني أنظر إليكِ، وأمسك يديكِ، لقد أصبحت عجوزًا وواهنة لدرجة أنه من الصعب عليّ ليس فقط المشي، بل حتى الجلوس والاستلقاء، لقد ضل الموت طريقه إليّ. ستجف الحديقة، ولم تعد كما هي على الإطلاق، حتى إنني لم أرها. هذا الخريف سيئ وصعب جدًا؛ وكل حياتي، على ما يبدو، لم تكن طويلة كهذا الخريف.
بعد أن زمتت أنفها، أخذت مانيوشكا هذه الرسالة إلى مكتب البريد، وحملتها ودستها في صندوق البريد كانت تنظر ما بداخله..
– ماذا هناك؟ ولكن لا يوجد شيء يمكن رؤيته بالداخل، سوى صندوق من الصفيح الفارغ.
عملت ناستيا كسكرتيرة في اتحاد الفنانين. وكان يقع على عاتقها تنظيم الكثير من المعارض والمسابقات والعديد من الأعمال.
تلقت ناستيا الرسالة من كاترينا بتروفنا حينما كانت في العمل. أخفتها في حقيبتها دون قراءتها، قررت قراءتها بعد العمل. أثارت رسائل كاترينا بتروفنا الشعور بالارتياح بالنسبة لابنتها: بما أن والدتها كتبت لها، فهذا يعني أنها على قيد الحياة. ولكن في ذات الوقت، بدأ قلق مبهم من رسائلها، وكأن كل رسالة فيها عتاب صامت.
بعد العمل، كان على ناستيا الذهاب إلى ورشة الشاب النحات تيموفييف، لمعرفة كيف يعيش، من أجل إبلاغ إدارة الاتحاد بذلك، لأن تيموفييف اشتكى من البرد في ورشة العمل، وكذلك من المضايقات وعدم السماح له بالكشف عن قدراته الفنية.
أخرجت مرآة صغيرة، ودهنت وجهها بالبودرة وابتسمت، هي الآن معجبة بنفسها. أطلق عليها الفنانون اسم سولفيغ (2) بسبب شعرها الأشقر وعينيها الكبيرتين والناعستين.
فتح الباب تيموفييف بنفسه، كان قصيرًا، وحازمًا، وغاضبًا، يرتدي معطفا، وقد لف على رقبته وشاحا كبيرا، ولاحظت ناستيا أنه يرتدي حذاء نسائيًا من اللبّاد.
– لا تخلعي ملابسكِ، – تذمر تيموفييف، وإلا تجمدتِ، أرجوكِ!
قادَ ناستيا عبر ممر مظلم، وصعد بعض السلالم وفتح الباب الضيق للورشة.
رائحة الدخان تفوح من الورشة. كان الكيروسين يشتعل على الأرض بالقرب من برميل مصنوع من الطين الطري، وتقف المنحوتات المغطاة بخرق رطبة على المساند. وخارج النافذة العريضة كان الثلج يتطاير بطريقة مائلة، وغطى نهر نيفا بالضباب، ومن ثم أصبحت الرؤية عديمة، وهبت الرياح من خلال إطارات النوافذ وحركت الصحف القديمة الموجودة على الأرض.
– يا إلهي، يا لها من باردة هذه الورشة! قالت ناستيا، وبدا لها أن الجو في الورشة كان أكثر برودة من منحوتات الرخام الأبيض، وحالة من الفوضى تعم ما هو موجود على الجدران.
– وهذا الحال، يروق لكم! قال تيموفييف، وهو يدفع كرسيًا ملطخًا بالطين نحو ناستيا.
– أنا لا أفهم كيف لم أمت إلى الآن في هذا المخبأ. أما في ورشة بيرشين تهب التدفئة من جهاز التسخين، كما لو أنها تأتي من الصحراء.
– أنتم لا تحبون بيرشين ؟ – سألت ناستيا بحذر.
– إنه لا يستحق الترقية في عمله! قالها تيموفييف بغضب
– وإنه غير ماهر! شخصياته مصنوعة بشكل سيئ، المرأة القوقازية – هي عبارة عن تمثال حجري يرتدي فوطة مطوية. وحتى عامله يشبه إنسان الكهوف. ينحت بمجرفة خشبية. إنه ماكر، يا عزيزتي، ماكر مثل الكاردينال!
– أرني، نحتكم للكاتب غوغول، – طلبت ناستيا من أجل تغيير الحوار..
– دعينا ننتقل إلى مكان آخر! قال النحات ووجههُ متجهم.
– لا، ليس هناك! في تلك الزاوية، نعم!
أزال تيموفييف الخرق المبللة من إحدى الشخصيات المنحوتة، وفحصها بدقة من جميع الجوانب، وجلس القرفصاء بالقرب من موقد الكيروسين، ودفّأ يديه، وقال:
– حسنا، ها هو نيكولاي فاسيليفيتش! (المقصود هنا الكاتب غوغول)، الآن من فضلك!
جفلت ناستيا، نظر إليها بسخرية، الرجل المدبب الأنف والأحدب، وكأنه يعرفها جيدا. شعرت ناستيا بأن وريدًا متصلبًا رقيقًا يضرب صدغها.
بدا أن عيون غوغول الثاقبة تقول: «لكن الرسالة غير مفتوحة في الحقيبة».
– يا لك من ثرثار!.
– حسناً، وماذا؟ سأل تيموفييف. ألا يبدو العم جديًا؟
– رائع!
– أجابت ناستيا بصعوبة.
– إنه حقًا عمل رائع!
ضحك تيموفييف بمرارة.
– كرر تيموفييف: «رائع!».
– بيرشين وماتياش وجميع الخبراء من كل اللجان، الجميع يقول «رائع». وما الفائدة من ذلك؟ إنه أمر جيد، ولكن حيث يتم تقرير مصيري كنحات، هناك أيضًا بيرشين يتمتم دون توقف. وحين يتمتم بيرشين يعني النهاية!…
– ألم تنم ليلًا! صرخ تيموفييف وركض في أرجاء الورشة، ووطأ بحذائه.
– أصاب الروماتيزم يدَيَّ من جراء الطين الرطب.
– قالت ناستيا: كنت تقرأ كل كلمة عن غوغول لمدة ثلاث سنوات. تلتقط صورًا للوجوه القبيحة! مسكَ تيموفييف مجموعة من الكتب الموجودة على الطاولة، وهزها في الهواء وألقى بها مرة أخرى بقوة. وطار غبار الجص من على الطاولة.
– كل شيء عن غوغول! قال وهدأ فجأة.
– ماذا؟ هل أخفتكم؟ ارجو المعذرة، ولكن والله أنا على استعداد للمعركة.
قالت ناستيا ونهضت: «حسنا، سنخوص المعركة معا».
صافح تيموفييف يدها بحرارة، وغادرت، وفي ذات الوقت اتخذت قرارًا حازمًا لإخراج هذا الشخص الموهوب والمغمور بأي ثمن.
عادت ناستيا إلى اتحاد الفنانين، وذهبت إلى رئيس الاتحاد وتحدثت معه لفترة طويلة، وكانت متحمسة، وأثبتت أنه من الضروري ترتيب معرض لأعمال تيموفييف على الفور. نقر الرئيس بقلمه الرصاص على الطاولة، وفكر في شيء ما لفترة طويلة ووافق أخيرا.
عادت ناستيا إلى المنزل، إلى غرفتها القديمة في مويكا، ذات سقف مذهب من الجص، وهناك فقط قرأت رسالة كاترينا بتروفنا.
إلى أين أذهب الآن! قالت، وهي واقفة. «هل يمكنني الخروج من هنا!». فكرت في القطارات المزدحمة، والنقل إلى السكك الحديدية الضيقة، وبالعربة الهزازة، وبالحديقة الذابلة، وبدموع والدتها التي لا مفر منها، وبالملل المستمر الذي لا مثيل له في أيام الريف، ووضعت الرسالة في درج مكتبها.
قضت ناستيا مدة أسبوعين في ترتيب معرض تيموفييف. وعدة مرات خلال هذا الوقت تشاجرت وتصالحت مع النحات المشاكس. أرسل تيموفييف أعماله إلى المعرض كما لو كان يحكم عليها بالدمار.
– قال لناستيا بتشفٍ: «لن تكون الأمور على ما يرام، يا عزيزتي»، كما لو كانت ترتب معرضها الخاص بها، وليس معرضه. فقالت له: بصراحة،
– أنا أضيع وقتي معك فقط.
في البداية، كانت ناستيا يائسة ومستاءة، حتى أدركت أن كل هذه النزوات كانت من جراء كبريائه الجريح، وأنه كان يتظاهر بذلك، وكان تيموفييف من أعماقه سعيدا جدا بمعرضه المستقبلي.
افتتح المعرض في المساء. كان تيموفييف غاضبًا وقال إنهُ من المستحيل مشاهدة التمثال تحت الإنارة.
– ضوء خافت! قالها متذمرًا
– يا له من ملل قاتل! الكيروسين أفضل.
– انفجرت ناستيا غضبا، وقالت: أي نوع من الضوء الذي نحتاجه؟ إنك من النماذج الذي لا يمكن التعامل معهم!
صرخ تيموفييف بحزن، نحتاج إلى شموع! شموع!
– كيف يمكن وضع غوغول تحت المصباح الكهربائي. إنه لأمر سخيف!
كان هناك نحاتون وفنانون في الافتتاح. لم يتمكن المبتدئون، بعد أن سمعوا محادثات النحاتين، فيما يخص تخمينهم وثناءهم لأعمال تيموفييف أو توبيخهم. لكن تيموفييف أدرك أن المعرض كان ناجحًا.
اقترب الفنان صاحب الشعر الرمادي وسريع الغضب من ناستيا وربت على يدها:
– شكرًا لكِ، سمعت أنكِ أنتِ من أخرج تيموفييف إلى النور. فأحسنتم صنعًا، وبعد ذلك، كما تعلمون، لدينا الكثير من الذين يثرثرون حول اهتمامهم بالفنان، وعن رعايته وأحاسيسه المرهفة، وعندما يتعلق الأمر بالعمل، نصطدم بأشخاص تافهة. شكرا لكم مرة أخرى.
بدأت المناقشة. تحدثوا كثيرا، وأشادوا، وتحمسوا، وتكررت الفكرة التي طرحها الفنان العجوز حول الاهتمام بالإنسان والشاب النحات المنسي وهو يستحق الرعاية.
جلس تيموفييف متجهم الوجه. ينظر إلى الباركيه، ولكنه لا يزال يلقي نظرة خاطفة على المتحدثين، ولا يعرف ما إذا كان من الممكن تصديقهم أم أن الوقت لا يزال مبكرا جدًا.ظهرت ساعية البريد من اتحاد الفنانين قرب الباب، داشا الرقيقة والغبية. أشارت إلى ناستيا. اقتربت منها ناستيا وسلمتها البرقية مبتسمة. عادت ناستيا إلى مكانها، وفتحت البرقية بهدوء، وقرأتها ولم تفهم شيئًا: كاتيا تحتضر.. تيخون.
أي كاتيا؟ فكرت ناستيا بارتباك، أي تيخون؟ على الأرجح أن هذه الرسالة ليست لي.
نظرت إلى العنوان: لا، البرقية كانت لها. عندها فقط لاحظت الأحرف المطبوعة الرفيعة على الشريط الورقي: «زابوريا». ناستيا جعدت البرقية وتجهم وجهها. تحدث بيرشين:
قال وهو يتمايل ممسكًا نظارته: «في أيامنا هذه، أصبح الاهتمام بالإنسان حقيقة رائعة تساعدنا على التطور والعمل. يسعدني أن ألاحظ في بيئتنا من النحاتين والفنانين، وظهور هذا الاهتمام. أنا أتحدث عن معرض أعمال الرفيق تيموفييف. نحن مدينون تماما لهذا المعرض.
– دعنا نقول دون الإساءة لقيادتنا: لإحدى موظفاتنا البسيطات في الاتحاد، عزيزتنا أناستاسيا سيمينوفنا.
انحنى أولًا لناستيا، وصفق الجميع. صفقوا لفترة طويلة. كانت ناستيا محرجة من البكاء. لمسَ شخص ما يدها من الخلف، كان هذا الرجل فنانا كبيرا وحاد المزاج.
– ماذا هناك؟ سأل همسًا وأشار بعينيه إلى البرقية المجعدة في يد ناستيا. هل هناك خبر غير سار؟
– كلا، أجابت ناستيا
– إنها من إحدى معارفها…
– أها! تمتم الرجل العجوز وأخذ يستمع مرة أخرى لبيرشين.
نظر الجميع إلى بيرشين، ولكن نظرة شخص ما ثقيلة وثاقبة أشعرت ناستيا طوال الوقت بالخوف من رفع رأسها. «من يمكن أن يكون؟ – فكرت. هل خمّن أحد ما؟ يا لها من حماقة. ومرة أخرى انتابتها نوبة من التوتر.
رفعت عينيها بجهد وأبعدتهما على الفور: نظر إليها غوغول مبتسمًا. بدا أن الوريد الرقيق المتصلب يضرب بقوة على صدغها. وبدا لناستيا أن غوغول قال بهدوء من خلال أسنانه التي أطبق عليها بشدة: آه منكِ!.
نهضت ناستيا بسرعة، وخرجت، وارتدت ملابسها على عجل في الطابق السفلي، وركضت إلى الخارج. سقط الثلج الندي، وكان هناك صقيع رمادي في كاتدرائية إسحاق. كانت السماء ملبدة بالغيوم وكل شيء أصبح مكفهرًا حتى المدينة وناستيا ونهر نيفا. «يا حبيبتي»، تذكرت ناستيا الرسالة الأخيرة التي جاء فيها: «يا حبيبتي!».
جلست ناستيا على مقعد في الحديقة بالقرب من إدارة الأسطول البحري وبكت بمرارة. ذاب الثلج على وجهها وكان ممزوجًا بالدموع.
ارتجفت ناستيا من البرد وأدركت فجأة أن لا أحد، يحبها بقدر ما تحبها هذه المرأة العجوز الواهنة والمهجورة في «زابوريا الكئيبة».
«الوقت متأخر! لن أرى ماما مرة أخرى»،
– قالت لنفسها وتذكرت أنها لأول مرة في العام الماضي تفوهت بهذه الكلمة الطفولية والعزيزة «ماما». ونهضت من مكانها، وسارت بسرعة بوجه الثلج الذي صفعها. لماذا بالذات ماما؟ لماذا؟ أخذت تفكر، ولم ترَ شيئا. ماما! كيف يمكن أن يحدث هذا؟ لا يوجد أحد في حياتي، كلا، ولن يكون هناك أقرب لي منها. ليتني أفلح بالوصول إليها، وليتها تتمكن من رؤيتي وتسامحني فقط.
خرجت ناستيا إلى شارع نيفسكي، واتجهت إلى محطة سكة حديد المدينة. كان الوقت متأخرًا. لم تعد هناك تذاكر.
كانت ناستيا تقف بالقرب من شباك التذاكر، وشفتاها ترتجفان، لم تستطع التحدث، وشعرت بأنها ستنفجر في البكاء من أول كلمة ستقولها. ألقت أمينة الصندوق المسنة نظرة خاطفة من النافذة وكانت ترتدي نظارات.
– يا أخت، ماذا حدث لكم؟ سألت بانزعاج.
– «لا شيء»، أجابت ناستيا.
– لدي أمي… ومن ثم استدارت ناستيا وسارت بسرعة إلى المخرج.
– إلى أين أنتِ ذاهبة؟ صرخت أمينة الصندوق.
– وعلى الفور كان عليّ أن أقول انتظري لحظة.
في ذات الوقت، غادرت ناستيا، طوال الطريق، بدا لها أن السهم الأحمر(3) كان بالكاد يتحرك، بينما كان القطار يندفع بسرعة عبر الغابات الليلية، يغمرها بالبخار ويصدر صرخة تحذير طويلة.
وصل تيخون إلى مكتب البريد، وهمسَ لساعي البريد فاسيلي، وأخذ منه البرقية، وقلبها لفترة طويلة، ومسحَ شاربه بكمه، وكتبَ شيئا ما بخط أعوج. ثم طوى البرقية بعناية، ودسها في قبعته، وذهبَ إلى كاترينا بتروفنا. لم تستيقظ كاترينا بتروفنا لليوم العاشر. لا شيء يؤلمها، لكن الإغماء يثقل على صدرها ورأسها وساقيها، وكانت تتنفس بصعوبة.
لم تغادر مانيوشكا كاترينا بتروفنا لمدة ستة أيام. ولم تخلع ملابسها ليلًا، وكانت تنام على أريكة بالية. بدا أحيانًا لمانيوشكا أن كاترينا بتروفنا لم تعد تتنفس. ثم بدأت تبكي خوفا ونادت: هل أنتِ على قيد الحياة؟
حركت كاترينا بتروفنا يدها تحت اللحاف. وطمأنت مانيوشكا. منذ الصباح كان هناك ظلام نوفمبر في زوايا الغرف، ولكن الطقس كان دافئًا.
أشعلت مانيوشكا الموقد. وعندها أضاءت النار الجدران الخشبية التي تبعث البهجة، وتنهدت كاترينا بتروفنا بحذر.
جعلت النار الغرفة مريحة وملائمة للسكن فيها، كما كانت منذ زمن طويل، ذرفت عينا كاترينا بتروفنا دمعة واحدة، استقرت على صدغها الأصفر وشعرها الرمادي المتشابك.
– وصل تيخون، سعل وتمخط بأنفه وبدا مضطربا. ماذا يا تيشا؟ سألت كاترينا بتروفنا بوهن.
– الجو بارد، يا كاترينا بتروفنا! قال تيخون بمرح ونظرَ إلى قبعته بقلق. «سينزل الثلج قريبًا. والطقس سيكون أفضل، وسيمحو الطريق من جراء الصقيع، وهذا يعني أنه سيكون أكثر قدرة على القيادة بشكل أفضل.
– ممن؟
– فتحت كاترينا بتروفنا عينيها وبدأت تمرر يدها الجافة والمتشنجة على اللحاف.
– ومن سيكون إن لم تكن من ناستيا سيمينوفنا.
– أجاب تيخون وابتسم ابتسامة مصطنعة، وسحب البرقية من قبعته.
أرادت كاترينا بتروفنا أن تنهض، لكنها لم تستطع، هوت مرة أخرى على الوسادة.
– ها هي! قال تيخون، وفتح البرقية بحذر وسلمها إلى كاترينا بتروفنا. لم تأخذها كاترينا بتروفنا، لكنها نظرت إلى تيخون نظرة رجاء.
– «اقرأها»، قالت مانيوشكا بصوت أجش
– الجدة لا تستطيع القراءة جراء الضعف الذي أصاب عينيها.
نظر تيخون حوله خائفًا، وعدل الياقة، ورتبَ شعره الأحمر المتناثر، وقرأ بصوت متردد: «انتظروني، لقد غادرت. ما زلت دائما ابنتكِ المحبة ناستيا».
– لا حاجة، ياتيشا! قالت كاترينا بتروفنا بهدوء. «لا حاجة، ياعزيزي، الرب معك. شكرا لك على الكلمة الطيبة وعلى لطفك».
استدارت كاترينا بتروفنا بصعوبة إلى الحائط، ومن ثم بدت وكأنها نائمة. كان تيخون جالسًا على مقعد في الممر البارد، يدخّن مُنكسا رأسه، وبصقَ ومن ثم تنهدَ، ما زالت مانيوشكا لم تخرج ولم تلوح بيدها لكاترينا بتروفنا في الغرفة.
دخل تيخون على أطراف أصابعه ومسحَ وجهه بكفّه. استلقت كاترينا بتروفنا الشاحبة والصغيرة وكأنها نائمة بسلام.
– لن تنتظر حتى تأتي، تمتم تيخون.
– أوه، يا لحزنها المرير ومعانتها التي لا توصف! انظري أيتها الحمقاء، قال بغضب لمانيوشكا،
– ردوا الجميل بالجميل، ولا تكوني مغفلة… اجلسي هنا، وسأذهب إلى مجلس القرية لأبلغهم.
ذهب تيخون، وجلست مانيوشكا على كرسي وركبتاها مرفوعتان، وهي ترتجف وتحدق باستمرار في كاترينا بتروفنا.
دُفنت كاترينا بتروفنا في اليوم التالي. الطقس أصبح صقيعا. نزلت كرات الثلج الرقيقة، وتحول النهار إلى اللون الأبيض، وكان الطقس جافًا ومشرقًا، ولكنه رمادي، كما لو كانت قطعة قماش مغسولة ومجمدة وممتدة فوق رؤوسنا. وكانت الأماكن النائية وراء النهر رمادية. ومنها جاءت رائحة الثلج الحادة والمبهجة، والتقطها لحاء الصفصاف في أول وهلة للصقيع.
تجمعت النساء المسنات والشباب في موكب الجنازة. حُمل التابوت إلى المقبرة من قبل تيخون وفاسيلي وشقيقين لماليافينا، ولحى الطاعنين في السن كانت تبدو أشبه بالألياف النظيفة، حملت مانيوشكا وشقيقها فولوديا غطاء التابوت وتطلعا مباشرة إلى الأمام دون أن يرمشا.
كانت المقبرة وراء القرية وتعلو النهر. نمت عليها نبتة يطلق عليها أشنة وكذلك الصفصاف الأصفر الطويل.
تواجدت معلمة في الطريق، وصلت مؤخرا من المقاطعة ولم تكن تعرف أي شخص في قرية زابوريا.
– قال الشباب همسا: المعلمة، المعلمة قادمة!
كانت المعلمة شابة خجولة ذات عينين رماديتين، وما زالت فتاة، رأت الجنازة وتوقفت على استحياء، ونظرت إلى المرأة العجوز الصغيرة بخوف في التابوت. سقطت الرقاقات الثلجية القارصة على وجه المرأة العجوز وكذلك على شعرها الرمادي ولم تذُب. هناك، في المقاطعة، تركت المعلمة وراءها أمًا واهنة جدًا، متحمسة دائمًا لرعاية ابنتها.
وقفت المعلمة للحظة وتابعت السير خلف النعش ببطء. نظرت إليها العجائز، وتهامسن مع بعضهن البعض وكأنهن يقلن: يالها من فتاة هادئة سيكون من الصعب عليها في بداية مشوارها التعامل مع هؤلاء الفتيان، إنهم مستقلون ومزعجون جدا في قرية زابوريا.
وأخيرًا، اتخذت المعلمة قرارها وسألت إحدى العجائز، وهي الجدة ماتريونا:
– «على الأرجح أن هذه المرأة العجوز كانت وحيدة؟».
– يا عزيزتي، وتلت ماتريونا الصلاة على الفور.
– اقرئي الصلاة إنها وحيدة تماما.
كانت صادقة وودية جدًا. كان من عادتها الجلوس طوال الوقت على أريكتها لوحدها، مع عدم وجود أحد ليقول لها كلمة واحدة. هذا مؤسف! لديها ابنة في لينينغراد، نعم، على ما يبدو أنها حلقت عاليًا، لذلك ماتت وليس لها أقرباء ولا محبون. تم وضع التابوت في المقبرة بالقرب من قبر حديث. انحنت النساء المسنات على التابوت، ولامست أيديهن الداكنة الأرض. اقتربت المعلمة إلى التابوت، وانحنت وقبلت يد كاترينا الشاحبة والذابلة. ثم نهضت بسرعة، وأشاحت بوجهها وسارت باتجاه سياج الطوب المدمَّر. خلف السور، هناك في الثلوج المتطايرة ترقد عزيزتها والأرض الحبيبة والحزينة.
نظرت المعلمة لفترة طويلة، واستمعت إلى كبار السن من الرجال يتحدثون خلف ظهرها، وأهيل التراب على سطح القبر، وصاحت الدِّيَكة في أفنية البيوت البعيدة، وتوقعوا أياما صافية، وصقيعًا خفيفًا، وسكونًا شتويًا.
وصلت ناستيا إلى قرية زابوريا في اليوم التالي بعد الدفن، وجدت قبرًا جديدًا في المقبرة، تجمدت الأرض تحت قدميها على شكل كومة.
كانت غرفة كاترينا بتروفنا مظلمة وباردة، والتي يبدو أن الحياة قد هجرتها منذ زمن بعيد.
بكت ناستيا طوال الليل في هذه الغرفة، حتى تحول الفجر الغائم والثقيل إلى اللون الأزرق خارج النوافذ. غادرت ناستيا قرية زابوريا خلسة، محاولة ألا يراها أحد ولا يسألها عن أي شيء. بدا لها أنه لا أحد سوى كاترينا بتروفنا يمكنه أن يغفر لها ذنبها الذي لا يغتفر ووزرها الذي لا يطاق.
الهوامش
(1) كرامسكوي اي. ن. ( 1837 – 1887 ) – فنان روسي، كشف في لوحاته عن العمق النفسي للانسان. (المترجم)
(2) سولفيغ – هي بطلة دراما الكاتب النرويجي إبسن في عمله «الطريق المشمس». تجسد الشعر والجمال. (المترجم)
(3) السهم الأحمر: قطار سريع يسير بين موسكو وسانت بطرسبورغ. (المترجم).
المصدر:
http://paustovskiy-lit.ru/paustovskiy/text/rasskaz/telegramma.htm
*قسطنطين باوستوفسكي (1892 – 1968)، كاتب وصحفي ومترجم، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، تم ترشيحه لجائزة نوبل في الأدب لعام 1965، ولكن السلطة السوفيتية مارست ضغطا كبيرا على اللجنة التحضيرية آنذاك، وذهبت الجائزة إلى مرشح السلطات السوفيتية ميخائيل شولوخوف. قصة «البرقية» كانت علامة بارزة في مسيرته الإبداعية وقد ترجمت إلى العديد من اللغات ما عدا اللغة العربية، تلك القصة التي أبكت نجمة هوليوود الشهيرة مارلين ديتريتش.