نشوان عزيز عمانوئيل
كاتب عراقي
في داخل كل مِنا صوتٌ خاص يظهر على شكل ومضات خاطفة من ترياق الجنون.. أو الأسى يأتي أحيانا على شكل نداء أو عصارة وجع لتاريخ مهشم.. أو سمِّهِ ما شِئت.. هو في النهاية صوتٌ خاصٌ بِك ولايُشبِهُ أحدًا سواك.
كانت تلك هي المرة الثالثة التي أحاول فيها أن أكتم هذه الأنفاس التعيسة.. كنت قد سئمت حقًا أن أكون نصفين، ولكن قبل ذلك كله أتذكر قبل دخولي المستشفى بلحظات قصيرة كان هناك صوت يناديني أنا من الغابة المجاورة، صوت ليس ككل الأصوات.. له خصوصيته وأبعاده.. صوت بعيد بذبذبات مجنونة يسحقني سحقًا رغمًا عني.
كان ذلك قبل أن أستيقظ فجأة من موتي المؤجل ومن كابوس حياتي ومن جحيم الآخرين والوقت كان في ما بعد منتصف العمر.. أتذكر جيدًا كيف أني قبل ذلك كنت على نقالة متهالكة تجري بجنون عبر ممرات بيضاء طويلة جدًا ولانهائية ومن حولي كائنات غريبة تحدق في وجهي شبه الممزق. وهناكَ خلفَ النقالة شبح يدفعني بجنون للأمام ويتمتم بكلمات لم أكن أفهمها.
كل شيء ليس ككل شيء. وكأنني كنت أركض، أركض مثل أبليس هارب من فردوس مفقود صوب الغابة وبوابة الحلم.. أو كأرملة مذعورة في زمن الحروب الأهلية.
ولا أنسى كيف أن ذلك الصوت كان يرن في رأسي مثل جرس من أبواب الجحيم..
حلمت كأني في غرفة بلون الحلم والورد، وكنت أبكي بجنون فوق مخدة بلون السماء… رأيت عصافير صغيرة بيضاء تحاول الطيران دون أن تقدر على التحليق.. كأنها كانت في سجن كبير… وغيمة تمد يدها صوب النجوم دون أن تلمس الضوء.
رغم أنني كنت على حافة الحياة إلا أنني رأيت أسلاكًا كثيرة تغطي جسدي… كنت أسمع نبضات قلبي على آلة نحاسية ذات إطار أبيض تمتد منها أسلاك ناعمة بألوان مختلفة.
قلبي مازال ينبض.. ياله من قلب شجاع..
حقًا كيف كنتُ مختلفا عن الآخرين إلى هذا الحد؟
كانت لدي أكثر من حياة.. وأكثر من موت
حتى جنوني كان مختلفا.. كان جنونا من نوع آخر
كان هناكَ فوق رأسي ضوء ساطع كالشمس يملأ عقلي الفارغ حينها بالنور.
مرت سنوات ضوئية طويلة أو لربما لحظات قصيرة حين وجدت نفسي في حالة وسطى من الجنون والحكمة.. حالة ضبابية.. فيها مسحة من الغموض.
كنت في تلك الغرفة البيضاء ألمح بصعوبة خيوطًا من نور تبدو بعيدة ومشتتة بعض الشيء..
كأنني للحظة كنتُ أنسلخُ عن ذاتي.
وكأنما كنت أنظر من فوق طائرة ورقية من الأعلى.. وخُيل لي أني أرى كل الأشياء في ذاتِ الوقت.
كل شيء هنا هو عكس ما نراه ويتحدى قوانين الفيزياء والطبيعة. حتى حواسي هي الأخرى استيقظت فجأة وبقوة..
خيِّل لي أني كنت أشم رائحة الموت هناك.. ورائحة الولادة.
من حولي اجتمع حشد من كائنات بيضاء ترتدي قفازات رمادية كانت تنزلق على جثتي الهامدة والمكبلة بألف عزرائيل فوق السرير.
في السقف كانت هُناك فتحة صغيرة كنتُ أتأمل عبرها أرجوحة تتدلى من فوق الغيوم.. وأنا أركض في مكان يشبه الغابة، وعلى طول الطريق تلمعُ أمامي شرائط مُبهمة من الذكرى.. أشكال بشرية وأخرى مُسوخ غير بشرية، خُيلَ لي كأنما أولئك جاءوا فجأة من زمن كنت فيه وكنت جزءًا لا يتجزأ منه .
الوقت ليس له معيارٌ أو معنى.. كل شيء يظهر فجأة.. ويختفي فجأة وأنا مازلت أركض في ذلك الممر الذي يشبه غابة نائمة..
الأشياء من حولي تشدني إلى ذلك الصوت الجميل.
الصوت الاعتيادي نسمعه جميعًا.. لكن ذلك الصوت كنت أراه يقرع شبابيك غرفتي المجاورة للغابة كل يوم.. كنت أشم رائحته.. كأنما كرائحة صلوات أو أزهار ليلية.. صوت كحلاوة الروح حينا.. وتارة مثل أبواب الجحيم.
يومها، ولا أعرف بأي شقاء وحزن ولهفة قررت أن أفتح ذلك الباب في عقلي..
حين لمستُ مقبض الباب كنت أنا في قلب الغابة..
رأيتها واقفة هناك وراء الباب مثل بقايا حلم.. بشعرها المُجعد..
وعيون مثل أساوِر المرجان والفيروز قلت لها:
الأشجار كلها صارت كبيرة.. وكبُر حُزن الغابة وأنتِ ما زلت صغيرة وكل العصافير تحبكِ، وما زال شذا عطرك الحزين هناك.. يأبى الزوال رغم تقادم الأيام، ومازال ثوبك يحتضن النوارس ويحتضن سريركِ المُغطى بالأعشاب والفراشات.
هل تعلمين شيئًا.. حين عدتُ من هناك.. عدتُ بجسدي.. روحي غلبها النُعاس بِقُربكِ.
مدَّت يدها كي تسحبني هناك لكنها تلاشت مثل صلاة قصيرة..
حاولت أن أدخل وبقوة لكن ذلك الصوت ظل يسحبها صوب الغابة.
استيقظت من جديد على صوت تِلكَ الآلة النحاسية اللعينة.. قلبي كان لم يَزَل ينبض بالنور.. ياله من قلب شجاع.