ليندا نصار
كاتبة لبنانية
يمثّل الشاعر شوقي أبي شقرا (بيروت 1935) تجربة فريدة في الإبداع النثري والشعري فهو من المؤسسين لحركة الحداثة في لبنان إلى جانب يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس ومحمد الماغوط…. وقد كان من أعمدة مجلة «شعر» 1957، كما كان له إسهام عظيم في تأسيس هذه المجلة التي لها فضل كبير في تغيير مسار القصيدة العربية لتتخذ اتجاهات مغايرة، ويعدّ الشاعر واحدًا من أعمدتها الصلبة وقد أصرّ على إنجاح مشروع الحداثة لدى الأجيال الشابة آنذاك. دعت مجلة «شعر» إلى الصدق والحرية مع الذات وتطلّعت إلى الإنسان بوصفه أساس القيم الإنسانية وموضوع الشعر. في هذا الإطار، تعتبر الناقدة خالدة سعيد أنّ التجربة التي «يتوسطها الإنسان» في هذا الأفق، تقترن بالمعاناة، لا بمعنى الألم وحده، معاناة، لا تنحصر في المستوى الفردي ولا المستوى الجمعي، لا تنحصر في الماضي ولا في الحاضر. «إنها لحظة وعي وتمثل وانخراط صميمي، عند تقاطع الخبرات، ورؤيا المصائر، عند ملتقى الفردي والتاريخي والكوني».
ينفتح شعر أبي شقرا على ممكنات التأويل إذ لا يمكن لقصيدته أن تنحسر بين الجدران أو الحواجز مهما كان نوعها، فهي قصيدة تمتاز بثرائها وغناها بمعجم خزّنه من الطبيعة والقديسين والحياة الريفية والألم والذاكرة التي حفر فيها طفولة نمّت فيه شعرية وصنعت مجدًا من الماضي استمر حتى اليوم.
من هنا يبني الشاعر علاقات وثيقة بين ذاته والعالم من خلال بلاغة استعادة الذاكرة التي منحت قارئه مجموعة من المشاهد والصور المدهشة وقد ترك له حق ترجمتها في ذهنه إلى حقائق عديدة. هذه الصور النابعة من الذاكرة اقترنت باللغة وتجسّدت من خلال المجازات والاستعارات حيث ترجم من خلالها قوّة الكتابة وأسئلتها.
يرصد الشاعر هوامش الحياة كما عمقها ويقتحم علّيقة الإبداع فيقحم قارئه في عملية اكتشاف حقيقة الإنسان وعلاقته بالمكان ومسيرته عبر الزمان، فلعلّنا أمام ذاكرة مفتوحة قدّمت جماليّة الشعر من خلال الأنا النابضة بالصدق الإنسانيّ.
شوقي أبي شقرا الذي ترك مفتاح بيته في الباب فيبقى مشرعًا يتسع لاستقبال الأصدقاء والأتراب والمبدعين وأبناء الجيل الطالع فيصغي إلى مكنوناتهم قبل قصائدهم ويلاحظ ويدقّق بملاحظاته الناعمة وكلماته الحنون. إنه الشاعر المضياف، يدهشك كيف يرصف الكلمات لتتهندس بجانب بعضها البعض. إنه يحكي الشعري واليومي ضمن سيرة ذاتية حقيقية بشفافية واعتراف وصدق عارم.
أبي شقرا صاحب «أكياس الفقراء» التي لم تخلُ من العطاء وهو الذي ابتكر لنفسه دربًا جديدًا واتخذ من لقب المعلم جدارة في أعماله. يكتب شوقي النثر في هذا الكتاب وتراه يجنح نحو الشعر والصور والاستعارات التي لم تلبث أن تبارحه، إنه الطفل الذي أراد أن يكبر وتكبر معه قصيدة مغايرة لها جماليتها وتعبر عن خصوصية التجربة وتنوّعها بين الريف والمدينة إنه الشاعر السوريالي، الذي يحمل حقيبة جمة من الرموز ويوزعها في نصوصه، من هذا المخزون ومن التفاصيل عمل على تركيب القصيدة. وهو المثقف المختلف الذي نبغ نجمه منذ ديوانه الأول الذي شكّل حداثة القصيدة، خرج عن المألوف أحيانًا وتمكّن من اتخاذ خطّ متعدّد الاتجاهات وسار فيه. فمن الشعر إلى النثر والترجمة فالصحافة والقصص كلّها مجالات طبعت مسيرته الأدبية وجعلتها مميزة في المشهد الثقافي اللبناني والعربي بالإضافة إلى الترجمات التي حظي بها إلى لغات عدّة.
كان لأبي شقرا دور مهمّ في ازدهار الصفحات الثقافية التي خبرها وعمل فيها، فقد كان له موقع عظيم في لبنان والدول العربية، عام 1964 استلم رئاسة تحرير الصفحة الثقافية في جريدة النهار اللبنانيّة، وقد قال عنها في نص «في شعراء بيروت وفلسطين»: «كانت لي الروح والكيان» «وأنا لها ذلك الزارع وذلك المنجل وذلك الحصاد الذي لا يغيب والذي يعطي نفسه ويعطي أفكاره في الفصول جمعاء».
ثمّ كانت له زاوية في جريدة (الغاوون) ولاحقًا جريدة البناء. وقد نال الشاعر العديد من الجوائز والتكريمات.
وللشاعر دواوين وكتب كثيرة نذكر منها:
أكياس الفقراء – 1959، خطوات الملك – 1960، ماء إلى حصان العائلة – 1960، سنجاب يقع من البرج – 1971، يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضًا – 1979، حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة – 1983، لا تأخذ تاج فتى الهيكل – 1992، صلاة الاشتياق على سرير الوحدة – 1995، ثياب سهرة الواحة والعشبة – 1998، نوتي مزدهر القوام – 2003، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة – 2004، أبجدية الكلمة والصورة – 2009، وديوانه الأخير الصادر عن دار نلسن 2022 بعنوان أنت والأنملة تداعبان خصورهنّ.
يمثّل كتاب «شوقي أبي شقرا يتذكّر» (دار نلسن) السيرة الذاتية لأبي شقرا، إنها الحيوات التي عاشها في الأزمنة والأمكنة التي خبرها في حياته، وقد جاءت متعددة المواضيع والفصول فامتدت على مدار 800 صفحة تقريبًا مضيفًا إليها الوثائق والصور والتكريمات… في هذا الكتاب، عبّر الشاعر عمّا يراوده من أفكار وانطباعات بالإضافة إلى نظرته إلى الأمور والمشاهد وتطوّر الأحداث في حياته والتحوّلات التي مرّ بها منذ وفاة والده الذي لم يتركه في أيّ ديوان من دواوينه اللاحقة. هذه الصفحات التي أطلّ أبو شقرا من خلالها لم تبرحها سورياليته وغموضه، ففي النثر عنده كما في الشعر، عهدناه يصنع عالمًا مستمدًّا مفرداته من الطبيعة الريفية في ضيعته التي منحته هواء الشعر وماءه.
ويعتبر الشاعر أن هذا الكتاب «أكبر مرحلة له في هذه الحقبة، هذه السنوات الصعبة، هذه السنوات التي ملأها بالرحيق تارة وفي أغلب الأحيان بالنقد وتارة وعلى الدوام في الحب، حب القلم وحب الصدق وحب الشفافية الأعلى والأكبر من أية شجرة، ويرى الشاعر أنه ربما هذا الكتاب هو الوحيد في مجاله، وجاء كذلك بضربة معلّم وهو مغامرة العمر بأكمله.
وقد تضمّنت فصول الكتاب العناوين الآتية: الإهداء، الفصل الأول كرنفال الإقامة والراقصة والهجرة، الفصل الثاني رحلات إلى جذور الأزمنة، الفصل الثالث عرزالي ويأتي الضيوف إلى رغيف المشاركة، الفصل الرابع الكلمة هي الداء تنقذني وتحرسني، الفصل الخامس نسطع ولو زارنا الليل (البناء)، الفصل السادس نحن والثمار، الفصل السابع ما كان من بعض الصدى- ما كتب عنه بأقلام أنسي الحاج، البرت، أمين الريحاني.. الخاتمة، بيتي تأملات، صور ووثائق وعرض مؤلفات.
إذًا يتناول أبي شقرا حياته منذ طفولته متسلسلًا في المواضيع، موظّفًا اللغة والإبداع. كما يحدّثنا عن هذه الطفولة مسلّطًا الضوء على والده الذي كان لوفاته الأثر الأكبر في تشكيل مسيرته الأدبية والحياتية بشكل عام. تمكّن أبو شقرا من أن يجمع سيرته الذاتية والثقافية في آن فهو لم يكتف بأن يقدّم للقارئ مادّة محض شخصيّة بل دخل في التفاصيل بطريقة إبداعية وجماليّة شكلت عاملًا مساعدًا ومهمًّا في الأبحاث الأدبية المهمة في المكتبة العربية والجامعات.
يبدأ الشاعر كتابه بتساؤلات وأفكار وجوديّة تنحو نحو الحلوليّة والاتّحاد بالله، علّة وجوده وأصل إيمانه: النص الأول «تظهر أنت» «أنت الآب والابن؟» ليتابع: «أأنت أبي، إذن أنا موجود بك، بالزهرة التي أعبدها، لا ألمسها، ألمسها، أداعبها كما تفعل أيدي القداسة والقديسين، حين تمتدّ، حين تنبسط، حين تتقرّب من الآخر، من الكائن أيًّا كان.»
أأنت أبي؟ بل كان أبي يحبك، وكان أبي الذي أوجدني منك، وكان يطلب لي طريق العلم والخير والأبعد من القرية، من اللون الذي بلغه هو…»
الشاعر الذي يتمتّع بالإيمان بالطريق الذي يرسمه الله للإنسان، صوّر الحادثة التي تعرّض لها والده وانتهت بوفاته مؤمنًا بقضاء الله وقدره.
«إذًا كان أبي وكنت أنا وذهب أبي في السيارة، ونزل السائق إلى الوادي واستلقى على الشجرة والصخور، ولا شكّ كانت بنفسجة، جالسة في كعب الصخرة، ولا شك أنت رأيت الحادث، ولا شكّ أنه مات.
كل ذلك لأقول لك أنّ أبي مات في رجائك.
كل ذلك لأقول لك أنك تأتيني بالرجاء، وبكل الألوان في مساري. وكل ذلك لأنك قمت أيها الرب.»
للأمّ تقدير واحترام، فالشاعر يعتبرها القنديل المعلّق والمشكوك، هي النور الذي يمكّنه من السير في طريق الصواب والفضيلة، ويتابع متحدّثًا عن عادات الضيعة، ثمّ انتقاله مع العائلة إلى منطقة الأشرفية بعد الحرب العالمية الثانية ويتطرّق إلى الانتداب الفرنسي وعادات عيد الميلاد داخل مدرسة مار يوحنا والفصح وأمور أخرى أيضًا… كما يروي حكايات تتعلّق بالتراث: «إذ تنفخ البومة بوقها وتعزف اللحن …. والدواء أن نضع الصرماية مقلوبة درعًا ضد الشؤم. وأمي هي الخاتمة وتغلق المسرح والحكاية.»
يستحضر الشاعر مشاعر ومشاهد من الذاكرة إنه الحنين الذي يسكنه للطبيعة الخلابة في ضيعته، إنها الدهشة الأولى التي خزّن منها مفردات ومعجمًا كان الحجر الأساس لقصائده ومشروعه الشعري. شوقي أبو شقرا الذي غادر ضيعته، مسقط رأسه، حملها في حقيبة لم تتسع لها ورحل بها إلى المدينة حيث الأحلام المتكررة، ومع ذلك تمكن أن يبني عالمًا فريدًا وجميلًا بالرغم من قسوة القدر عليه. كذلك يستحضر الشاعر مشاهد من بيروت التي خبرها عن قرب ويشكل هذا الكتاب ملفًّا يوثق فيه الشاعر الجيل الذي عايشه، والمرحلة التي امتدّت لعشرات السنوات. فشاعرنا الذي عاش مرحلة ستينيات القرن الماضي لم يكلّ قلمه إذ أراد أن يجمع حياته على شكل مذكرات هدية للقارئ الذي لطالما قدّره، فسيرة حياته صلاة وتأمل وشكر وعرفان لكل من مرّ في حياته، وقد تمّ العمل على تحديث اللغة والقصيدة والاشتغلال عليها من داخلها.
تمكّن أبو شقرا أن يكتب مساحات تدعو إلى التفكير، لما تحمله قصائده من غموض عبر فيه عن القسوة والشعور بالوحشة والحنين أحيانًا وقد وضع نصه للكلّ ليترك له حرّية فهم المعنى وكأنّه إرشاد وتوجيه نحو طريق الشعر.
رافقت شوقي كلمة «المعلّم» منذ مقتبل العمر في الخمسينيات، وظلّت معه في مجلة شعر وفي مجلة أدب.
وقد يختصر نص «عليقة الشعر والنثر» تجربته العظيمة إذ يكتب: «أسرق الفرصة من ذاتي لا من الأستاذ ولا من المناظر ولا من أي شخص في المدرسة أو في أمارة الشعر وديوان النثر. وتعلمت أن أفعل هكذا في وحدتي وفي خيالاتي الخاصة وفي أفكاري المبعثرة على الطراحة حيث أكون.
ولا أدري بل كأنني أدري أن عليقة الشعر والنثر هي على الطريق المفتوحة وعلى أول الجلول وأول الحيطان. وأحيانًا تكون على منعطف أو على منزلق وليس من السهل أن يأتي أحدهم كيفما كان ويرغب رغبة سريعة في القطاف. من الصعب أن نجعل العليقة تشتعل وتلتهب وهي من الشعر والنثر معًا.»
ونختم المقالة بما كتبه أبو شقرا في خاتمة كتابه وهو عبارة عن نوع من الاعتراف والإيمان، وقد جاء بعنوان «بيتي تأملات: وأراني أحسّ بكوني أقترب من البوح الاعترافي ومن الظنون التي هي في حجم الحبة، أي القمحة، أي الحمص، أي الحنطة المشهورة. وأراني أستبق ذاتي وأحوالي وزيت الفخارة وزيت الرياح إلى بساط الرحمة والجلوس كما هي الحكاية، أي في أي حالة وأي مقصورة.»