أحمد الويزي
كاتب ومترجم مغربي
بمقدور مَن رآها على تلك الحال، ألّا يتعرّف عليها. ربّما اعتبرها مجرد كينونة نكرة، طرأتْ فجأة على المكان. ربّما ظنّها مخبولة من كتيبَة هؤلاء الحَمْقى الممْرورين، الذين تضجّ بهم الأركان والهوامش القصيّة من المدينة، وما إن تحرّكهم غريزةُ الجوع والعطَش أو الرّغبة في الدّخان، حتّى تراهم ينتشرون بين الطّرقات والأزقّة، بحثًا في حاويات القمامة عن أعقاب السّجائر، وبعض ما يملأ البطن. أنا نفسي لم أتعرّف عليها بسرعة، لولا صيحةُ النّادل وضحكتُها. لولا تلك الضّحكةُ بالذّات، التي خالطها بعضُ سعال.
ضَحِكتْ بالطّريقة القديمة نفسها، ثمّ قطعتْ نوبةُ سعالٍ قصيرةٌ، استرسالَ قهقهتها. ومع ذلك، استطعتُ تمييز ضحْكتها، ثمّ التقطتُ موقع الخال الذي يتوسّط خدّها الأيسر، فتذكّرتُ وقفتها وراء الكونطوار في ثمانينيّات القرن الماضي، ونشوتها التي يترجمها غناؤها لَعْروبي، حين يتوهّج الفضاء، ويستعرّ زمن اللّيل. شيءٌ عجيبٌ أنْ يحافظ المرء على بعض ما يميّزه، حتّى بعد أن يستبدّ به الجنون!
كنتُ أجلسُ في الرّكن الأيمن، الذي تعوّدتُ الجلوس فيه، بحانة «لاتاڤيرْن»ْ. في الزّاوية اليُسرى من الكونْطوار، حيث يؤنِسُني جعل الجدار خلفي، ومدخلَ الحانة أمامي مباشرة. أجلس بسرعة دائما، ثمّ أنشغل عمّا حولي بالقراءة والشّرْب. لكن لا أذكر أنّي قرأت شيئا. ربّما قرأتُ لوقت وجيز وحسب، ثمّ توقّفت. إنّما الذي رسخ بذهني، هو أنّي بقيت أعبُّ من جعّتي على مَهَل، بينما الكتابُ ينتظرني فوق الطّاولة. كان موضوعا أمامي، وأنا أجلسُ بين إجفالٍ وقليلٍ من التّنبه في ركني، أحتسي نصيبي من البيرة في أناة، إلى أنْ أفزعني صوتُ النّادل. علا على نحو مباغتٍ فوق لغط الحان، وهو يكرّر عبارة: خَرْجي بَرّا، بَرّا، بَرّااااا…
قبل الصّيحة، لم يكن النّادل يطوف حول موائدنا، وإنّما يقف بمحاذاة الكونْطوار لينصت إلى بعض تعليمات «البارْمان»، أو ليتحادث معه ربّما في أمر هامّ، أو لتزجية الوقت الضّائع بين خدمة وأخرى فقط، برفقته. المهم أنّه ظلّ يقف بالقرب من زميله، ولا يتنقّل بين موائد الزّبائن. ولم نكن نحن في تلك الأثناء، غير قلّة. زمرة ضئيلة من الرّواد المألوفين الذين توزّعوا حول الأرجاء كلّها، وانغمسوا في جوّ مشوب بما يشبه السّكون والخمول. بالطّبع، لم يكن ثمّة سكون مطلق ولا خمول نهائيّ، إنّما كان ثمّة كلامٌ ولغط وبعض الضّحك أيضا. إلا أنّ لا هذا ولا ذاك بلغ درجة الصّخب المبالغ فيها، التي عادة ما تميّز لاتاڤيرْنْ خلال مساءات الجمعة والسّبت من كلّ أسبوع، حين يتقاطر الكثير من الرّواد.
في تلك الأثناء، انهمك بعضنا في حديث خاصّ مع غيره، كما انصرف آخرون عمّا يحيط بهم، لا يكترثون بشيء سوى ملء قسيمات اللّوطو والتْيِرْسي، وهم يدخنون بغير انقطاع، ويشربون في صمت شبيه بصمت الرّهبان. وثمّة من بقي مثلي ساهما، يتلهّى بأسرار نفسه في غفلة مقصودة عمّا يقع بالجوار، وسط دوّامة من التّكاسل والخمول، إلى أنّ علا صوت النّادل على غير العادة، فانتابني فَزع. لم يكن فزعا خالصا بحصر المعنى، وإنّما هو بالأحرى توجّسٌ مشوبٌ برجْفة، اندفع على إثرها وعيي، وقد استفَزّته وخزة التّنبه، ليُخرجني من دائرة الشّرود التي لفّتْني، ويجعلني ألتفتُ في شبه ذعر إلى حيث اتّجه النّادل. حينها، أبصرتُ يدها. يد العاوْنِيّة التي صارت شمطاء مقوّسة الظّهر قليلا. تحرّكت يدها المتّسخة بدُرْبةِ مغتصبٍ، يتقن مناورات السّلب والابتزاز، ونزلتْ على كأس كانت طوْعَها، ثمّ انتقلت بها إلى فمها.
رأيتُ يدها تمتدّ بخفّة إلى تلك الكأس المليئة حدّ النّصف، وتسحبها من أمام زبون جلس بمفرده هو الآخر، ثمّ تصبّ السّائل دفعةً واحدة في جوفها، وتعيدها إلى مكانها بهدوء، بعد أن انتهتْ الغزوة. أعادت الكأس، وهي تضحك بفم فقَدَ سحره القديم، وصار معظمه أدْرد، غير مكترثة بوعيد النّادل ولا بدفعه المتتالي من الخلف. وقد بقي هذا يسبّها، ويدفعها بقوة من ظّهرها، في محاولة منه لإخراجها من الحان بسرعة. إلاّ أنّها لم تكن تأبه له، وإنّما استمرّت تضحك، وهي تمشي منقادة بهدوء. وحين تخطّت عتبة المدخل، توقّفتْ. التفتت إلى الخلف فورا، وشرعت في مسح أركان الحان بنظرة عجلى، كمن يبحث عن شيء أو شخص بعينه. وتهيّأ لي في تلك الأثناء، بأنّها لم تصوّب نظراتها سوى باتّجاهي، أنا بالذّات.
أتعرّفتْ عليّ، مثلما تعرّفتُ عليها؟ واضح أنّها رأتْني، لكنّها لم تتقدّم نحوي. مخافة أن يُعنّفها النّادل ربّما، لم تتقدّم. وإلاّ لمَ توقّفتْ عند مشارف العتبة، واكتفتْ بإرسال النّظرات نحوي؟ أأرادتْ بذلك أن تحيّيني على طريقتها، أم ودّتْ لو أنّها تلتمس منّي شيئا، أو تعاتبني وحسب، ما دامتْ لم تسمع صوتي يدافع عنها؟ ربّما رغبتْ في بيرة وسيجارة، أو شيء ممّا تعوّدتُ إكرامها به في السّنوات الماضية!
وفي اللّحظة التي ملأتُ فيها الكأس، والتفتُّ صوب النّادل، لأطلب منه توصيلها لها، لاحظتُ بأنّها لم تعد هناك. اختفتْ العاوْنِيّة بسرعة من أمام الباب، وكأنّها لم تكن في الأصل موجودة. استغربتُ لهذا الظّهور المباغت، الذي أعقبه غيابٌ آخرُ مباغت، بعد أمدٍ توارتْ فيه هذه المرأة المخبولة عن أنظارنا تماما. أتردّدتْ على الحان قبل هذا اليوم، دون أن ألاحظ هذا؟
– منذ متى عادت العاوْنِيّة إلى الظّهور بالنّاحية؟ سألتُ النّادل.
– منذ البارحة، أستاذ.
– أريد منك رجاء يا السّي خالد، أن تقدّم لها هذه الكأس، ما دامت الآن قد التزمت بالبقاء في الخارج.
في البدء، تلكّأ. تحجّج بعلّة الحفاظ على راحة الزّبائن، فقال إنّ مثل هكذا سخاء قد يُشجّعها، ويدفع بالكثيرين من أمثالها إلى التّردد على المكان، لإزعاج راحة الكلّ. لكنّي استعطفته، فأذعن في الأخير لرغبتي، وحمل الهدية. رأيته يختفي بالكأس، ثمّ يقفل راجعا بها، وهي ما تزال ملأى. وضعها أمامي، وقال:
– اختفتْ عن الأنظار. وكأنّ الأرض ابتلعتها!
– لا عليك، السّي خالد. قدّم للأستاذ الجالس هناك، بيرة على حسابي!
تصرّفتُ بتلقائيّة، وكأنّي مسؤول عمّا صدر عن العاونيّة من رعونة، أضرّت بذلك الزّبون الغارق مثلي في الصّمت، عند مدخل البار. وحين وضع النّادل أمامه، زجاجة بيرّة لم يطلبها، وأخبره بأنّي المتبرّع بها، رفع يُمناه باتّجاهي في امتنان، وقال باختصار:
– شكرا بزّافْ… وبصحْتك.
– لعلّها تعوّضك عما سلبته تلك المجنونة! قلتُ بأعلى صوتي وعلى غير العادة، وأنا في حال غريبة من النّشوة والصّحو، اعترتني بعد تعرّفي على هوية العاوْنِيّة، التي ألفتُ رؤيتها في أوقات بعيدة من عمري، بحان ليسْكالْ. وكأنّ تيارا كهربائيّا سرى منها مباشرة، ليمتدّ بين أعماقي إلى أبعد غور، بمجرد رؤية ضحكتها، ونظراتها القديمة قبل الاختفاء!
– لا أحد محصّنٌ منّا ضدّ الجنون! قال صاحبي الصّامت في شبه حكمة، ثمّ عَدّل من وضع الجلوس، وعاد مجدّدا إلى الانكفاء على قوقعته.
***
في البيت، تملّكتني حالةُ احتدام واستعار، تسّبب لي فيها ما استبَدّ بخاطري من رغبةٍ في الكتابة. والحقّ أنّ هذه لم تستأثر بي بعد ولوج الشّقة فورا، وما استتبع ذلك من حصول الاطمئنان، وإنّما أحسّستُ بها وأنا بعدُ في لاتاڤيرْنْ، تسري بين عروقي لحظةً بأخرى، سريانَ جسم غريب بين كريات دمي، على خلفية تذكّري لصورة العاوْنيّة. تذكّرتها في شبه وضوح نوستالجيّ ساطع، فاستحضرتُ معها أيّام الشّباب، وجلساتي رفقة ثلّة من الصّحاب القدامى في ليسْكالْ، حيث كانت تعمل.
عادتني صورة هذه البارْميتَة بنوع من الحنين المتلهّف والموجع، فالْتَبس عليّ تحديد مبعث ذلك اللّسع الحِرّيف، الذي غمرتني به هذه الذّكرى البعيدة. واختلطتْ عليّ بكيفية سادرة في الارتباك، جملةُ أمور مبهمة حتى ما عدتُ أدري، أوقَع جزعي بسبب ما طال مصيري من تراخٍ وهبوط في الهمّة، للتّرهل شبه الشامل الذي اعتراني، وتقلّص مساحة الخيال والأمل معا، بعد أن تجاوزني قطار الشّباب المحمّل بطاقة الحلم ووداعة التّرقب والرّجاء؛ أم أنّي لم أتروّع أسىً ولا شجنا، إلاّ بسبب ما حلّ بالعاوْنِيّة المسكينة، وحسب. هذه المرأة التي كانت إلى وقت من الأوقات، تُهيّج نيران اللّوعة في النّفوس، وتُذكي حَرّ الحُرقة والاشتياق في كبد السّكارى، بلمسات أنثويّة طافحة بالغنج والدّلال، وهي تنثر بين أركان ليسْكالْ مقاطع من غنائها لَعْرُوبيّ، الذي يطفح ببَحّة وخشونة عذبتين، مرفقة ذلك بغمز غاوٍ تحرص على توزيع كَيِّه بالتّساوي بين الجميع.
كانت العاوْنِيّة بارْميتَة استثنائيّة، تؤدّي مهمّتها بإتقان وكاريزما مغناطيسيّة آسرة. تلين في الوقت الذي ينبغي لها اعتماد اللّين، وتقسو حين يتعيّن عليها أن تغدو جافّة، حتّى تصدّ عنها كلّ تهوّر طارئ من أيّ زبون أرعن. ورغم تقدّمها في السّن، ورغم انتشار سيماء التّعب والإجهاد على وجهها، فإنّها حافظتْ على ملامح الأنثى الغاويّة، التي تعرف كيف تتغنّج، ومتى تعتمد على التّدلل في نظرتها وحركاتها. لكنّ العاونِيّة غالبا ما تستهين بهذا، فتبقى لبؤة متوجّسة وقاسيّة، تكشف عن ملامح جامدة جمودَ مَن انعدمتْ أحاسيسه، وتحجّرت علاقته بجسده وجسد غيره؛ وهو ما ظلّ يثير في نفوسنا بعض الحيرة والارتياب، فلا يتجرّأ أحدٌ منّا على التّحرش بها. وحين يحلو لها أن تسلس طبعها، وتتعطّف بنظرة متحنّنة، لا تتراخى في مهامّها، وإنّما تمكث صلبة وصارمة في تسيير شؤون البار، حتّى دون الحاجة الى مساعدة السُّعاة الذّكور.
ولشدّ ما عاينتُ انقلابها من حال إلى أخرى، أثناء الأشواط الأخيرة من عمر سهرنا. تنزع عنها قناع الرّصانة والحياد، فتنخرط في إذكاء الحماس بين الأرجاء، مشعلةً فتيل الشّجن في قلوب السّكارى، حتّى تزيد الدّماء نسبة السُّعريات الماجنة، التي لا يطفئ لهيبها غير توالي البيرة، قبل حلول لحظة الإغلاق. وحتّى مع هذا، بقيت العاوْنِيّة قادرة على التّماسك، وصدّ رعونة كلّ من تسوّل له غريزته الحيوانيّة، التّحرش بها أو الاحتكاك بأهدابها، على نحو يتجاوز حدود اللّياقة. وظلّتْ بهذا، سنَد السّكارى الرّسميين في ليسْكالْ. تؤازرهم في ليل وحدتهم، وتدعم نهارات ضياعهم. وكلّما تحرّكتْ بين جوانحهم وحشة، أو هاجت نسبة الّلوعة في المُهج، وقوي الإطراق والتّراخي، وضاقت بذلك مغالق الشّرنقة المُخرسة للألسنة والمُتيّهة للنّظرات؛ تتدخّل العاونيّة لمعالجة الوضع. تتدخّل مثلما يتدخّل أيّ مايسترو متمرّس، لضبط البناء الهارموني بين أفراد الجوقة، وتطويق تشاجن الأصوات المتنافرة للآلات، لأجل توحيد الأداء الموسيقي ضمن توليفة منسجمة ومتناغمة، لا تقبَل بأيّ نشاز. تختار العاوْنِيّة الأوقات المناسبة لتدخّلها، فتصْدَع في الوقت المناسب بمقطع مشحون بالوجْد، تنتهبه من عَيْطة مرْساويّة عتيقة، أو بَرْوالة عَروبيّة ما تزال تحتفظ بشحنتها الخشنة. تصدع بذلك بصوتٍ شرخه الدّخان والنّبيذ، فيقطع السّكارى التّأملات التي أغرقتهم في الصّمت، أو النّقاشات البيزنطيّة التي تاهت بهم عن أجواء الغبطة الباخوسيّة. تتهلّل وجوه البعض، وتدبّ معالم البشاشة بين دماء الآخرين، فتصحو الهمم التي غفتْ، ثمّ ينتشر الصّخب في ليسْكالْ، وتتعارض دِسيبْلات الجلبة والجلجلة، ويقوى الهزيز. وعلى إثر ذلك، ترقّ ملامح هذه المرأة العجيبة، وتتحنّن أكثر، وتشرع في توزيع الغَمْز والضّحك، وتشجيع من انصرف الى الغناء برفع درجة الصّوت أكثر، بل عادة ما ترافق المغنّين في ترديد المقاطع المحفوظة من ريبرتوار أمّ كلثوم، أو فريد، أو عبدالحليم وغيره. وكأنّ العاوْنِيّة كانت تبتهج لهذا، وتطرب له أيّما طرب!
ثمّ إذا بها تنقطع عن ليسْكالْ. توقّف حضورها المداوم دون سابق إخطار، فاستغرق الأمر قرابة أسبوعين، عادت بعدهما الى مزاولة مهامّها بقليل من الأريحيّة والحيويّة والخِفّة، وكثير من السّهو والتّراخي والفتور، لاحظه كثيرون. لم تعد العاوْنِيّة هي نفسها، مثلما ألفنا في السّابق، وإنّما صارتْ أخرى. أثخنتْ خِلقتها بعض الشيء، وتبدّلت ملامح وجهها قليلا، واستبدّ بسَحنتها مزيدٌ من الاصفرار، بينما طغى على الحركات بطءٌ وتقصير، عزاهُما بعض الزّبائن بأنّها تصطنع ملمح الرّصانة الزّائد، الذي عادة ما تتّخذه النّسوة هيئةً للإعلان عن ثبوت قطيعة في سِيَر حياتهنّ، بدافع خطوبة أو زواج أو ما شابه. وبعد انصرام أشهر أخرى، تخلّلتها فترات انقطاع ثمّ استئناف الظّهور، لم أعد أذكر عددها بالتّحديد، عادت العاوْنِيّة إلى دائرة الغياب، لتنقطع أخبارها هذه المرّة تماما، حتّى إنّا تعوّدنا على ذلك، وطمرْنا ذكراها تحت تُرْبة النّسيان، ولم يعد اسمها يستعاد بيننا إلاّ لماما.
والحقّ أنّا لم نركن إلى الذّهول عن العاوْنِيّة بسرعة، ولا سلَوْنا عن استحضار توهّجها القديم فينا وبيننا، أو التّعامي وعدم الاكتراث المطلق بهذه الذّكرى. وإنّما ظلّ اسمها يتردّد على ألسنة معدودة، خاصّة بين فئة الرّواد الذين ربطتهم بها آصرة الألفة النّاجمة عن تعوّدهم المتواصل على رؤيتها خلف الكونطوار، وإدمانهم لابتساماتها وأغانيها ونُكَتها الماجنة، حتّى عدّوها جزءا من فضاء ليسْكالْ، وعنصرا مهمّا من مؤثّثاته. لذلك، لم ينصرف هؤلاء إلى الشّرب بتلقائيّة ولا مبالاة، دون أن يأتي عليهم حينٌ غلبهم فيه الشّوق إلى صورة تلك البارميتة الاستثنائيّة. ولذلك، كنتُ أنا أسمع منهم الملوّح باسمها، وهو في ذروة النّشوة والتّهلّل، والمغالب لحنينه الذي يتذكّر مقطوعة من أغانيها لَعْروبيّة، والمتضاحك مع نديمه الذي يستحضر حادثة طريفة، حدثت لها في البار ذات وقت، أو نكتة من المُلَح والنّوادر التي تركتها العاوْنِيّة راسخة في ذاكرة الكثيرين.
كانت هذه الفئة الرّسمية الملازمة لليسْكالْ، هي التي شعر أفرادها تحديدًا بوحشة الحان وشبه فراغه، على خلفيّة توالي بارمانات كثر، لم يستقرّ منهم أحد في هذه الوظيفة المتعبة، بقدر ما استغرقته تلك البارْميتَة وراء الكونطوار. وكنتُ أنا بالطّبع من زمرة أيتام هذه الحانة، التي لم تنس ذكرى العاوْنِيّة بسهولة، رغم أنّ علاقتي بها لم تتجاوز حدّ التّقدير المتبادل، قطّ. ومع هذا، طفقتُ أسأل السّعاة وبعض الرّواد عن أخبارها. لكنّ ذهني تحيّر بفعل ما سمعته من حكايات، ما تنفكّ تتجدّد وتتناقض باستمرار. البعض ذكر بأنّها تزوّجت. عثرتْ على زوج مثاليّ كانت تهفو إلى مثله، فأقلعتْ عن حياة السّكارى والبارات، مقتنعة بالاكتفاء بدور الزّوجة المنضبطة لشؤونها وحسب، مثل أخريات قبلها. والبعض الآخر جزم بأنّها لم تتزوّج، وإنّما سافرت إلى الخليج. حصلتْ على عقد خدمة من السّوق السّوداء، وسافرت للاستقرار والعمل بأحد محلات الرّقيق الأبيض المنتشرة بمدن الخليج، حيث تقدّم خدمات الجنس المتنوّعة تحت شعار: «أعمال التّجميل والتّدْليك». وأضاف فريق ثالث بأنّ العاوْنِيّة لم تسافر، ولا تزوّجتْ بالكلّ، وإنّما استبدلت حانة بأخرى تقع بمدينة أگادير. ولم يكتف أفراد هذا الفريق بذكر هذا وكفى، وإنّما أكّد أحدهم بأنّه شاهدها ببار «التُّوڤابْيانْ» تحديدا، تواصل رقصها خلف الكونطوار مثل بطّة هرمة، وتصدح من حين لآخر بنفس المواويل والبَراويل. ثمّ زاد على ذلك بالقول إنّ جسمها أثخن، لكنّه تشرّب بنضارة وبياض ملحوظين، لأنّ جوّ المدينة البحريّ لاءم معدنها.
لكن، حين التقيتُها بالصّدفة، هالتني حالة جنونها! رأيتها بعد انصرام عدّة شهور على غيابها، تغنّي في الشّارع غناءها لَعْروبي، وترتدي معطفًا من الصّوف متّسخا في عزّ الصّيف، وتضع طبقة غير متناسقة من الأصباغ والماكياج على الوجه. صادفتها في محيط مقهى البريد المركزي بگيليز، فتروّع لمنظرها خاطري، وهجمت عليّ حالة من التّضايق، جعلتني لا أصدّق ما رأيته: مسخا تراجيديّا لامرأة كانت إلى وقت قريب، محبوبة ورزينة!
وأذكر بأنّ الأشجان والصّور قد اختلطت بذهني، فما عدتُ أدري أهي من يرقص على ذلك النّحو في الشّارع، أم امرأة أخرى تشبهها، أسقطتُ عليها جماعَ ما تبقّى بالذّهن، من طيفَ ذكراها. وحتّى أقطع الشّك باليقين، عمدتُ إلى استعمال اسمها. ناديتُ الرّاقصة بـ«العاوْنِيّة»، فالتفتت هي بسرعة نحوي، ثمّ ندّتْ عن فمها ابتسامة. وحين دنتْ منّي، ترغب في سيجارة، تضاعفتْ درجة يقيني. كانت الضّحكة المميّزة لها هي هي، والخال النّابت على صفحة الخدّ الأيسر هو هو. أحسستُ بمزيج من الذّهول والذّعر، فناولتُها قطعة نقديّة، لكنّها اقتربتْ أكثر لتطبع على خدّي قبلة امتنان، وهي تردّد: «ميرْسي، ألْبوگوسْ!». عندها، ابتعدتُ في هرولة مذعورة، وقد تحرّكت مهجتي، وانقلب سكون عاطفتي إلى فورة واضطراب، بفعل ما باغتني من أسئلة. كانت أسئلة شقيّة، أتعبني معها إثبات معنى العقل والجنون، وحَدّ السّعادة والشّقاء، ودلالة الصّحة والاعتلال، ومفهوم الاتّزان والاختلال، سواء في الجسم أو النّفس. وبقي الذي حيّرني أكثر، ضمن سياق هذه المصادفة غير السّعيدة، هو سرعة تحول العاوْنِيّة المسيخ، من وضع الوقار إلى اختبال جعل بؤسها عرضة للعموم، على نحو لا يتمنّاه المرء لنفسه ولا لغيره.
وحتّى حين أخذت عيني في التّعود عليها، وهي على تلك الحال. وحتّى حين أثبت لي أصدقاء كثر بأنّها جُنّت، فعلا. وحتّى حين زادت هي في إثبات ذلك بغزوات، تكرّر فيها اقتحامها لخلوة ليسْكال، كي تلتمس منّا بيرّة أو سجائر؛ فإنّ مصيرها التراجيديّ بقي يسكنني، ويثير بداخلي قلقا تلقائيّا، لم تفارقني فيه أسئلتي الوجوديّة. وإنّما بقي ذهني على إثر كلّ غارة، يصحو على عنف تلك التّساؤلات، فتوشك درجات انتشائي معها أن تُجهض أحيانا، سواء حين أراها بباب البار، أو أصادفها في الطّريق. حينها، أحسّ بعبثيّة المصير ومكر العيش، فأتذكّر على الفور وحدتي، ووحدة الكائن عموما في مواجهة غدر الجسد ونكثه، ثمّ أرتاب ممّا يخبّئه لي المستقبل.