ترجمة وتقديم: محمد الحباشة- كاتب وروائي تونسي
يُعدّ ليوناردو بادورا واحدا من أهمّ كُتّابِ أمريكا اللاّتينيّة والعالم. حقّق شُهرة واسٍعة بِفضل رُباعيّته “أربعة فصول في هافانا” ، التي بدأ بها مسيرته كروائيّ صاحب مشروع ورؤية وأسلوب خاصّ. تخرج هذه الرُّباعيّة عن النّمط الكلاسيكيّ للرّواية البوليسيّة، فهي تداخُلٌ لأنواعٍ روائيّة عديدة، تمتحُ من السّرد التّاريخيّ والاجتماعيّ وأدبِ التحرّي، لتُشكّل ملحمة وجوديّة عن كوبا والإنسان المُقيم فيها. ليس ماريو كوندي، الشّخصيّة الرّئيسة للرّباعيّة، مجرّد تحرٍّ يقوم بفكّ شفرة الجرائم فقط، بل هو شخصيّة مركّبة ونموذجيّة في الآن ذاته، حاملة لكلّ مشاكل وخيباتِ جيلها وعقده الموروثة، التّاريخيّة والذاتية. بدأت هذه الشّخصيّة تتطوّر من رواية إلى أخرى، ولم تتشكّل ملامح الرّباعيّة في ذهن الكاتب، وهو يكتب الرواية الأولى “ماضٍ مُكتمل” إلاّ عندما اقتنع بأنّ ماريو كوندي يستحقّ العيش في رواياتٍ أخرى. بل إنّه لم يكتفِ بحُضوره في الرّباعيّة فحسب، بل استدعاه في رواية أخرى، غير بوليسيّة، وهي “وداعا همنغواي” حيثُ تتبّع بادورا سيرة الرّوائيّ الأمريكي الكبير إرنست همنغواي وأيّامه الأخيرة في هافانا، وجعل ماريو كوندي صدِيقا له.
رُفِضت في البداية رواية “ماضٍ مُكتمل” في كوبا سنة 1990. ونُشِرت في المكسيك بفضلِ تدخّل صديق للكاتب، هو “باكو إغناسيو تايبو”، في دارِ نشر تابعة لجامعة “غوادالاخارا.”
تتميّز مدوّنة بادورا الرّوائيّة بالتنوّع، تنوُّع هواجسه واهتماماته. فمع هذا “الهمّ” الواقعيّ، حيث هافانا القاع، ورواياته البوليسية السوداوية، يشتغل الكاتب على الشّخصيّات التّاريخيّة، ويعيد تركيبها في مناخات روائية خاصّة، تستلهم من واقعها المعيش ومحيطها، بقدر ما يستعين الكاتب بمُخيّلته لبنائها. ومنها شخصيّة الشّاعر الكوبي الكبير “خوسيه ماريا دي هيريديا” في “رواية حياتي.” لم يعش دي هيريديا سوى خمس وعشرين سنة فقط، أنجز خلالها عشر مجموعات شعرية، وأصبح أهمّ شاعر كوبيّ في القرن التّاسع عشر. يتتبّع الكاتب سيرة هيريديا، عبر شخصيّة فرناندو تيري، العائد إلى هافانا بعد ثمانية عشر عاما من المنفى، ليجد مخطوطا ضائعا لسيرة هيريديا، فيُعدّ عنه أطروحة دكتوراه. تتقاطع حياة تيري بحياة هيريديا في موضوعات المنفى والقضايا السّياسيّة والخيانات، وهي موضوعات أثيرةٌ لدى بادورا، مثلها مثل تقنية الحيوات المتقاطعة، كأداةٍ فنّية للحبكة الرّوائية. وهو ما نكتشفه بجلاء وبصورة أكثر تركيبا في روايته الأهمّ والأكثر اكتمالا “الرجل الذين كان يحبّ الكلاب.” رواية عن سيرة المُصلح الثّوري الروسي ليون تروتسكي وقاتله “رامون ميركادير”. تتقاطع السّيرتان على امتداد ألفِ صفحة تقريبا، في الترجمة العربية لبسّام البزّاز، الصادرة عن منشورات المدى، لتُغطّي جزءا كبيرا من تاريخ القرن العشرين، بحروبه وخساراته الكثيرة.
استحقّ بادورا جائزة “أميرة أستورياس” الشّهيرة، سنة 2015، وهي من أرفع جوائز إسبانيا وأوروبا، وهو مترجم إلى أكثر من عشرين لُغة، من بينها العربيّة.
يكتب بادورا ويعيشُ في البيت الموروث عن عائلته، في حيّ شعبيّ في “مانتيلا”، في هافانا. يشتغل في الصّحافة الثّقافيّة، ويكتب يوميّا متزوّدا بالقهوة وسيجار “الكوهيبا” الكوبي الشهير. يعيشُ مع زوجته “لوسيا” التي لا ترى مانعا في بقائه في كوبا، رغم الصّعوبات، ودون اهتمام بعروض الهجرة الكثيرة.
وفي كتابه الأخير “المياه من كلّ جهة: أن تكتب وتعيش في كوبا” الصادر في أبريل 2022، الذي اخترنا أن نترجم فصله الأوّل، في شكلِ مقالة عن الكتابة والحياة في كوبا، يجمع بادورا سلسلةً من المقالات عن تجربة الكتابة الروائية، وأيضا عن الإقامة في كوبا كشكلٍ من أشكالِ الإقامة في العالم. وهو في هذه المقالة، يحاوِلُ الإجابة عن سؤال طالما طُرح عليه بتكرار، وهو “لماذا اخترت العيش في كوبا”. نكتشف من خلالِ هذا النصّ، ونصوص أخرى في الكتاب، أدِيبا يكتب بوعيٍ حادّ بتاريخ بلده وقضاياه الحسّاسة، فهو يربط ماضي كوبا بحاضرها، ويصرّح أنّه شديد الارتباط بهذا الحاضر، ويحتاجه ليكتُبَ ويعيش. فبادورا نموذجٌ للكاتب الملتزم لا فقط بالمفهوم “الغرامشي” للكلمة، وإنّما من بابِ ممارسة “مسؤوليّة فنّية” تجاهَ بلده وواقعه.
لا تتنزّلُ هذه المقالة إذن، في خانة التّبرير أو التّفسير لقرار البقاء والالتزام بقضايا البلد والكتابة عنه، بل هي بمثابةِ رسالة حبّ إلى كوبا وعاصمتها هافانا حيثُ يعيش ليوناردو بادورا، ويستلهم معظم حكاياته وموضوعاته.
التحوّل، التّفرّد، الكتابة
لطالما سألني الصّحفيّون بإلحاح، من كلّ مكان في العالم، عمّا حفّز قراري على الاستمرار في الحياةِ والكتابة في كوبا. ما الذي تملكه كوبا أو لا تملكه، حتّى يكون مهمّا جدّا سؤال كاتبٍ لماذا اختار العيش في بلاده؟ أيّ مُفاجأةٍ في اختيار البقاء في بلادك، والكتابة بإحساس الانتماء إلى مُحيطك والشّعور الحميميّ بقربك منه؟ أعتقد بأنّي إذا رحلتُ، فإنّ السّؤال عن أسباب هذا الاختيار سيكون منطقيّا أكثر وفي محلّه، أي السّؤال عن منفايَ واستقراري في الخارج. لأنّه يبدُو لي عاديّا، أن يعيشَ كاتبٌ كوبيّ في كوبا، بالرّغم من كلّ المشاكل الحقيقيّة. فالعكس هو ما يمكن أن يكون غَريبا، مثله مثل الأسباب المؤدّية لهذا القرار.
أتفهّمُ طبعا، أنّ جُملة الخصائص التّاريخيّة والرّاهنة للحياة الكوبيّة، والظّرف السّياسيَّ والتّفرّد المُركّب للحياة اليوميّة، يُبرِّرُ أحيانا هذا الفُضُول الصّحفيّ. ولكنّ تراكم التّفاصيل هذا مع الخصوصيّات الأصليّة للبلد، وحتّى المشاكل والنّقائص، يُمكنُ أن يُشكّل في الوقتِ نفسِه مغناطِيسا قادِرا على جذب الكاتب نحو مكانه وثقافته وحاضره، مهما كان تراجيديّا وحتّى مُعرقِلا بشكل تامّ. وبالتّالي، فإنّ الكاتب يظلّ في مواجهة الفعل الحاسم وشديد الأهمية، لتحكيم إرادته الحرّة، في قرار مغادرة أراضيه، أحيانا للأبد، أو البقاء واستلهامها في الكتابة. هذه هي حالتي: أنا كاتبٌ كوبيّ يعيش ويكتُبُ في كوبا، لأنّي لا أستطيعُ ولا أرغب في أن أكون شيئا آخر. وأُصِرّ، أنّه بالرّغم من مختلفِ المشاكل، فإنّي أحتاجُ كوبا لأكتب وأعيش.
ولكن ماهي كوبا؟ ماذا تملك هذه الجزيرة؟ عندما يُطرح عليّ مثل هذا السّؤال، أُكرّر عُموما بأنّ كوبا بلدٌ أكبر من جُغرافيّته. للسّياسة والثّقافة والاقتصاد الكوبيّ صدى كونيّ. وسواء اعترف الكوبيّون بهذا ذاتيّا أو لا، فمن المؤكّد أنّ هذه الخاصّية تُعدّ مُعطًى يعرّفنا ويُؤثّر فينا، لاسيّما إذا كنتَ كاتبا ترغب في فهم واستحضار بلدك وناسه.
منذ فترةِ تمدُّد الاستعمار الإسباني على أراضٍ أفريقيّة وآسيويّة وأمريكيّة، شكّلت كوبا بالتّأكيد وعاصمتها هافانا، جزءا هامّا من إمبراطوريّةٍ “لا تغيبُ عنها الشّمسُ أبدا”، نظرا لموقعها الجغرافيّ. فهي “مفتاح خليج المكسيك” و”متراس جزر الأنديز الغربيّة.” كما لُقّبت أيضا بجزيرة أهمّ ثالث مدينة في أمريكا المُستعمرة، لا تتقدّمها سوى العاصمتين الكبيرتين لمملكتي البيرو والمكسيك السّابقتين.
وبعد حركات الاستقلال الأمريكيّة – اللاتينيّة، المُحقّقة في بدايات القرن التاسع عشر، أصبحت كوبا المُسمّاة بـ”لؤلؤة الكاريبي” ، الأرض الأكثر ديناميكيّة وازدهارا في المملكة الإيبيريّة، وقد أصبحت آنذاك مبتورة. فقد كانت معظم الثّروات المُساهمة في ضمان عيشِ البلاط المدريديّ واقتصاد شبه الجزيرة الإسبانية، تُستخرجُ من الأراضي الكُوبيّة. ولكنّ الازدهار الاقتصادي والمزايا الجغرافيّة للجزيرة، شكّلت أحيانا سببا رئيسيّا لأكبر مصائبها. وهذا ما يُفسّر أنّ كوبا لم تُصبح دولة مُستقلّة على عكس الجمهوريّات الأمريكيّة الأخرى، ولم تنل تحرّرها في النّهاية بعد سنواتٍ من الحرب، إلاّ بتدخّل عسكريّ انتهازيّ من الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وقد تكلّل هذا التّدخّل بالنّجاح بفضل تنقيح دستوريّ، يمنح للولايات المتّحدة الحقّ في التّدخّل في الشّؤونِ الدّاخليّة لكوبا، المُسمّاة بالضّبط “الجمهوريّة الوسيطة”، المولودة سنة 1902.
ولكنّ الجمهوريّة المُختارة، وضحيّة التّاريخ في الوقت نفسه، سوف تعيش مصيرا سيرمِيها بقوّة في التّحوّل والتفرّد: ثورةٌ منتصرة في يناير 1959، تبدأ في تغيير كلّ شيء في الحين. ثمّ بدأت تفرِض طابعها الاشتراكيّ منذ سنة 1961. وإلى حدود اللّحظة، بعد قرن من ثورة أكتوبر، وربع قرنٍ من اختفاء الاتّحاد السوفييتي وكلّ أثرٍ للاشتراكيّة الواقعيّة في أوروبا الشّرقيّة، ظلّت تحتفظ بطابع اشتراكيّ للدولة، اقتصاديّا وسياسيّا، وفي قالب المشروع المثاليّ للقرن العشرين.
صاغت إذن كلّ هذه التّوتّرات والتحوّلات، هذه الخصائص والعلامات المتفرّدة، ملامح شخصيّة أو روحٍ معنويّة مّا: فإحساس الانتماء إلى الأمّة الكوبيّة، أن تكون كوبيّا، يُعرَّفُ بشكلٍ كبير عبر هذه التحوّلات والخصائص.
ليس صُدفةً أن تُشكِّلَ كوبا أساطير تتجسّدُ في حقائق يمكن التثبّتُ منها، وفي تماهٍ تامّ مع ذلك الظّرفِ. يُمكن أن أذكر بعضها: أين يُنتَجُ أفضلُ تبغٍ في العالم؟ أيّ رُمٍّ يتجاوزُ في جودته ما تُنتِجُهُ مصانع التّقطير في سانتياغو في كوبا؟ أليست المُوسيقى الكوبيّة معروفةً ومسموعة في كلّ أرجاء العالم؟ ألا يرقص على أنغامها الجميع؟ أليس جوزيه راوُول كابابلانكا1 واحِدا من أكثر أبطال الشّطرنج في العالم عبقريّة، منتميا إلى نُدرة اللاعبين المولودين خارج روسيا؟ أليست أليسيا ألونسو2 أيقونة رقص عالمية، وربّما أروع الرّاقصات اللّواتي أتقنَّ باليه جيزيل3 على امتداد الزّمن؟ وماذا عن إعادة العلاقات الدّبلوماسيّة بين كوبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة؟ ألم يحتلّ الصّفحات الأولى للصّحافة العالميّة، تماما بعد موت فيديل كاسترو؟ ألم تكن كوبا أوّل دولة من دول أمريكا اللاّتينيّة، قضتْ على الأمّيّة سنة 1961. ولو نذكُر سنة 1962، ألم تكن مركز أزمة الصّواريخ، عندما شارف العالم على حربٍ نوويّة؟ ألم يكن خافيير سوتومايُورْ4 الرّجل الوحِيد في العالم الذي قفز للأعلى على ارتِفاعٍ هائلٍ مسنودا بساقيه فقط؟ أليس شاطئ فاراديرو، أجمل شاطئ من شواطئ الكاريبي؟ أمّا نحن الرّجال الكوبيّين (وليس الكوبيّين فحسب) ، ألا نعتقِد بأنّ مواطناتِنا النّساء، اللّواتي وُلِدن مزيجا من عديد الأعراق، هُنّ أجمل نساء العالم؟ ألسنا الآن نعيشُ في بلادنا فترة من أجمل فترات التحوّل؟
بالنّسبة إلى كاتبٍ، فإنّ ثِقل هذا التفرّد وهذه القرائن الحاسِمة، يُشكِّلُ تحدّيا مُرهِقا. فتولّي فهم جوهر مّا للخصوصيّة الكوبيّة والتّعبير عنه، يفرِضُ رِهانا ثقافيّا وإبداعيّا لا يمكننا التّملّص منه. ولا يُمكِننا التّعبير عنه سوى بإيجاده لا في أصالته المرئيّة والمحدودة، وإنّما في كونيّته التي تُكبره وتضمن استمراره. وهذا التّحدّي هو ما رفعته ككاتب.
لديّ أيضا العديد من الأجوبة المُمكنة عندما أُسأل لماذا أعيش وأكتب في كوبا. ولكنّي أفضِّلُ أبسطها: لأنّي كوبيّ، ولديّ وعيٌ حادّ بما تعنيه هذه الهويّة. ربّما يجعلُ منّي هذا الاختيار المسؤول لإقامتي، حالةً مثاليّة جدّا لأنّي أدافع عن جنس نادر من الأفراد الحداثيّين: مازلتُ في الستّين، أعيشُ في البيت الذي وُلدتُ فيه، في حيّ من الهامش الهافاني. الحي نفسه الذي رأى فيه النّور أبي، وجدّي وجدّ أبي.
من السّهل استنتاج هذا: لطالما أحسستُ بأنّي مانتيليرو5. ولكنّي أيضا كاتبٌ هافاني، وبالتّالي كوبيّ، لأنّ تفاصيل واضطرابات التّاريخ والحياة هي غذائي الإبداعيّ. ومع ذلك، فإنّه يصعب فهم الرّوح الكوبيّة، حتّى بالنّسبة إليّ. أمّا التّعبير عنها أدبيّا فيُعدُّ تحدّيا أصيلا. فمُجرّدُ العيش في كوبا والكتابة في بلدٍ اشتراكيّ بحزبٍ واحدٍ، يُعقِّد الأشياء في الحِين. ولكن، نعم، تتغيّر الحقائق في هذا البلد مع الحِفاظ على الأُسس نفسها، بينما تتكاثرُ المصاعب.
شرعت كوبا هذه السّنوات الأخيرة في تجديد بعض بُناها الاقتصاديّة ولو بنسقٍ بطيء. وبِفضلِ هذا التّطوّر، أصبحت الجزيرة محطّةً مُعاصرة تجلبُ السيّاح أكثر فأكثر، ومن بينهم مسافرِو أمريكا الشّماليّة، الذين يُساهمون بِفضل حضورهم وطلباتهم، في تغيير ملامح البلد ومُدُنِه وحتّى طريقة تفكير وفِعلِ وعيشِ العديد من النّاس. فهافانا تفتحُ الآن فنادِق مع كلِّ النّجوم الممكنة، ومحلاّتِ بيعِ ملابس فاخرة، بينما يطوفُ شارِعُ ماليكون المُجاورِ للبحر (بمائة دولار السّاعة) بِسُيّاحٍ على متنِ سيّارات مكشوفةٍ مُتلألئة، مصنوعة منذ أكثر من ستّينَ عاما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. بالإضافة إلى المطاعِم الخاصّة التي تُفتحُ بقائماتِ طعامٍ بأثمانٍ تُماثِلُ أثمان باريس. وفي كوبا تُباعُ كذلك (أو يُدّعى بيع) سيّارات تويوتا اليابانيّة بثلاثمائة ألف دولار، وسيّارات البيجو الفرنسيّة بمائتين وخمسين ألفًا.
ومع ذلك، وفي هذه المدينة نفسِها، فإنّ مُعظم الُعمّالِ يتلقّون من الدّولة أُجورًا بين خمسة وعشرين وثلاثين دولارا في الشّهر، كحدٍّ متوسّط. وعلى حسبِ علمي، لا أحد يموتُ جُوعا، بالرّغم من أنّ بطون عديدِ النّاسِ تُقرقِرُ، بينما يبحثُ الآخرون عن طُرُقٍ مُختلِفةٍ للهجرة، لأنّهم يُعِدّونها الحلّ الوحيد لجميع مشاكلهم. كيفَ إذن يضمن الكوبيّون بقاءهم على قيدِ الحياة؟ طيّب، بِفضل فنِّ التّحليل وفِعلِ الابتكار، هاتان هما الكنايتان المُمثِّلتانِ لاستراتيجيات العيش الأكثر تعدّدا والأكثر تعقِيدا أيضًا، سواء أكانت قانونيّة أو ممنوعة.
تنبجِسُ إذن من هذا الخليطِ من العناصر العجِيبة اللاّمُفسّرة أو غير المفهومة، اليوميّة والمُستهجنة، مجموعةٌ من الخصائص الأخرى والميزات الفرديّة، التي تعملُ كصُورٍ ممُثِّلةٍ لبلدٍ وثقافة، وأيضا كمادّة خامٍ للإبداعِ الفنّي وليس الأدبيّ فحسب.
تُعدُّ حقائق البلد والمشاعر العابرة للمجتمع، من العناصر التي تمسّني، ككاتبٍ يعيشُ في كوبا، لأنّ الحياة اليوميّة لمُواطنيَّ هي حياتي أيضا بشكلٍ أو بآخر. ومثل معظم الكوبيّين، فإنّي لا أتمتّعُ بحقّ الاستعمال العاديّ للإنترنت. فعُطلٌ في جهاز الإرسال اللاّسلكيّ للإنترنت على حاسوبي، يُشكّلُ كارثة عائليّة ومهنيّة ووجوديّة. ومع ذلك، فإنّ هذا القُربَ، لا يُخلّصني من عبء بعض المفاجآتِ، بل يكشِفُ عجزِي التّامّ عن فكّ شفرة العالم المُحِيطِ بِي وفهمِه، العالم الذي أنتمِي إلِيه كمُواطنٍ كوبيّ. يُساهم هذا الظّرفُ الغريب ربّما، في تشجيعِ مسؤوليّةٍ فنّية وحضاريّة لمحاولة تحديد واقع صعبٍ ومتدهور، والتّعبيرِ عنه، لاسيّما أنّه ليست لأقوالنا سوى مكانةٍ صغيرة أو مُنعدِمة في هذا الواقع (طبعاتٌ محدودةٌ للكتب، تمكّن شاقّ من الصّحافة الرّسميّة.) ومع ذلك، فإنّ أقوالنا تسعى إلى تخليد ظروفِ التّحوّل الرّاهنة التي نعيشها نحن الكوبيّين الآخرين. ومن أجلِ هذا أيضا أبقى لأعيش وأكتب في كوبا. وربّما تساعد بقيّة نصوصي على تفسِير كيفَ أعيش وأكتب، ولماذا أنتمي إلى هذا البلد.