كمال فهمي
باحث مغربي
لا يمكن الحديث عن «ما بعد الحداثة» فلسفيا دون العودة إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر فرانسوا ليوتارد François lyotard وكتابه التأسيسي لأطروحة نهاية «المحكيات الكبرى» métarécits.
ونعني بذلك كتاب rapport sur le savoir 1979 la condition post moderneوإذا لم يكن ليوتارد هو أول من استعمل مفهوم ما بعد الحداثة، إذ تم استخدامه في النقد الأدبي والفني، فإنه بدون منازع أول من استخدم عبارة «ما بعد الحداثة» في مقابل الحداثة على المستوى الفلسفي، فهو في تشخيصه للمعرفة في المجتمع ما بعد الصناعي، يؤكد أن الثقة في المعرفة العلمية وفي التقدم العلمي قد اهتزت بفعل الشك في حقيقة ما عبرت عنه السرديات الكبرى الشمولية منذ الأنوار من تفسير كلي للتاريخ الإنساني، والتجربة والمعرفة، وما آمنت وبشرت به من تحرر الإنسان العاقل، وتاريخ العقل الكوني في فلسفة هيجل. فالحكايات الكبرى كانت في نظره مبررا لمشروع العلوم الحديثة، لكن بعد محرقة أوشويز Auschwitz وما طرأ على المجتمع من تحولات نتيجة الإعلاميات فقد فقدت مصداقيتها، حيث تحولت إلى سلعة معلوماتية.
وقد استخدم ليوتارد بصفة عامة كلمة حداثي ليعني بها كل معرفة تمنح لنفسها المشروعية استنادا لخطاب مرجعي، من السرديات الكبرى métarécits من قبيل جدل الروح أو هرمونيطيقا المعنى أو تحرر الذات العاقلة والعاملة. وهو يعني بما بعد الحداثة تشكيك الفكرالمعاصر في السرديات المرجعية الكبرى، تحرره من النظريات والفلسفات التي تقول بالتقدم في التاريخ ومعرفة كل شيء بالعلم، وتحقق الحرية المطلقة للإنسان، كما عبر عن ذلك فلاسفة الأنوار والهيجيليون والوضعيون والماركسيون.
وهكذا يمكن القول إن إنسان ما بعد الحداثة يعتبر مثلا أن فلسفة الأنوار، والهيجيلية والماركسية ليست سوى طوباويات utopies يجب التحرر منها لأنها لم تعد تمثلنا، وأن لكل واحد منظوره وتاريخه ومتمنياته وعقائده، لقد أصبح أكثر وعيا وحساسية بالاختلاف والتعدد الذي يطبع الحياة الإنسانية، ولذلك فإن ما بعد الحداثة تتميز عوض سيادة عقائد ونظريات شمولية، حكايات كبرى، بتكاثر الحكايات الصغرى. Microrécits وتعدد الجماعات من حيث أنساقها وقيمها.
يقول محمد الشيخ محددا الحداثة وما بعد الحداثة في كتابه القيم في وضوحه وسلاسته ودقته وهو يبين أن أصول ما بعد الحداثة ترجع إلى نيتشه وهيدجر: «لقد ذهبت الحداثة ضحية أساطير المحدثين الثلاثة: راحت بدءا ضحية أسطورة «الأنانة» (قولي أنا أنا) فكان أن اعتقدت في مذهب «الفردانية» وراحت تثنية ضحية أسطورة «شفافية اللغة» و«صدقية المنطق» فكان أن قالت بمذهب «العقلانية» وسقطت تثليثا صريعة أسطورة «الإرادة» فكان أن قالت بفكرة «الحرية». لقد قامت الحداثة على مرويات تبريرية وتسويغية جامعة، ميثولوجيات، وقام نيتشه وهيدجر يسفهان أحلامها، وهو يؤكد «أن ما يميز ما يعرف اليوم بدعاة ما بعد الحداثة، بما أسموه نهاية الحداثة: أفول المرويات الجامعة، إذ صار عندهم التشظي وعدم التحدد والتحفظ الشديد في كلية القول وشموليته: تلك هي العلائم التي يستعرف بها فكر ما بعد الحداثة ويستعلم »1
الاختلاف والخلاف différence et différend
يترتب حسب ليوتارد عن غياب أو انهيار، خطاب واصف شمولي واحد، يمكن أن يسمح بجمع تعدد الخطابات وتركيب الشدرات في وحدة، غياب قيم وحقائق يمكن الاستناد إليها في الحكم والتفاهم، ومن ثم سيادة الاختلاف والخلاف differend. لقد أنهى عصر ما بعد الحداثة بثوراته الفنية والتقنية،مبدأ «جماعة الذوق» أي الجماعة المتجانسة التي يجمعها ويوحدها فن وإبداع واحد، كما أنهت الثورات الفلسفية والأيديولوجية ما يمكن تسميته بـ«الجماعة السياسية» و«الجماعة الأخلاقية»، بحيث لم يعد من الممكن اليوم القول بوجود جماعات لها نفس القيم، لقد انحلت كل الجماعات وأصبح السائد هو التعدد والاختلاف والخلاف والتفرد والفردانية، وهو يؤكد وجود ثلاثة أصناف من الاختلافات:
الاختلاف المرجعي الذي يفصلنا عن العالم، ويدفعنا إلى الكلام، إلى إنتاج خطابات لغوية، تسعى إلى اختزاله في كلمات ومفاهيم، حيث ينتقد هيمنة العقل/ اللغة التي من خلالها تسعى الفلسفة لإدراك كثافة العالم، لكن العالم المرئي، الصمت الجميل، ما قبل اللغة يظل مستعصيا على العقل واللغة، ومن ثم ينتقد كل نسق يدعى تمثيله للعالم، من خلال النسق العقلي واللساني، كالأفلاطونية والهيجيلية التي لم تدرك أهمية ما هو حسي، جسدي، نفسي في بناء تمثلنا للعالم.
والاختلاف داخل اللسان نفسه كما كشف عنه دي سوسير، فك الارتباط بين الدال والمدلول، والمعنى والمرجع، الفكر والواقع.
والاختلاف الليبيدي الذي يسكنهما معا، ذلك لأن الرغبة هي القوة التي تدفع إلى التمثل، إلى معرفة حقيقة الواقع، لكن بين الحقيقة والواقع،تباعد لا يمكن اجتيازه، فالواقع يظل دوما هو ما هو خارج ذاتنا، ولغتنا، وتمثلنا، ومعرفتنا.
وأمام التعدد والاختلاف فإنه يرى أن السلوك الأخلاقي حقا يقتضي النظر إلى الأشياء في اختلافها، لا النظر إليها انطلاقا من مفاهيم مجردة، كالعدالة أو الخير أو الحقيقة….. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الخلاف في الخلاف، السعي إلى مد قنطرة عبور بين الطرفين المتخالفين، المتصارعين، ففهم مطالبهما هو أول الطريق لوجود حل للخلاف.
ليوتارد وإستطيقا الاختلاف والرسومي
إستطيقا ليوتارد تقوم على أولوية الحسي في اختلافه عن العقلي، كما يظهر ذلك في كتابه «الخطاب والرسومي discours figure» حيث ينتقد هيمنة العقل/ اللغة التي من خلالها تسعى الفلسفة لإدراك كثافة العالم، وهي من زاوية أخرى إستطيقا تعلن انتماءها للتحليل النفسي، تقارب الفن من زاوية تحليلية سيكولوجية وفلسفية. ومن المعلوم أن للرغبة في منظور فرويد مكانة جوهرية في البناء النفسي، وفي علاقة الذات بالواقع الخارجي، وفي تفسير الإبداع الفني. فالرغبة (الليبيدو) في نظر ليوتارد تشكل عنصر اضطراب في علاقة الجسد بالعالم، وتمثله في حقيقته. حيث تجعل الحقيقة شيئا متغيرا ولا مستقرا. وعلى عكس الخطاب اللغوي يحتل الفن مكانة متميزة باعتباره حلقة اتصال الواقع بالمتخيل، هو «الطريق الملكي حيث تحقق الرغبة سعيها للتعبير عن الحقيقة، ونقل الحقيقة التي تطمسها وتكبتها المعرفة العقلانية، التي تعتبر أن الحقل المنظم، القار المقنن للغة، هو إما انعكاس للشيء، أو يعالج صمته من خلال إعادة بنائه وفق معاييره»2.
فمعرفة الموضوع من خلال اللغة لا يمكن أن تتحقق، إلا من خلال تفكيكها ، وخرق سننها كما يبدو في الشعر وفن التصوير، الشعر الذي يخلق لغته الخاصة المتميزة عن اللغة اليومية ويخلق معانيه وجماليته في استقلال عن الواقع وفي الفن الرسومي مسلك الرغبة والحلم والقوة الليبيدية الذي يتحرر من المرجع الخارجي، ليصبح هو المرجع والدلالة، لا يحيل إلا على ذاته.
والرسومي figural هو ما لا يمكن أن يقال، ما يوجد خارج الخطاب والكلام، يمنح نفسه للنظر ويسمح بانبثاق قوة المحسوس كما هو في لوحات سيزان وكاندنسكي وما لفيتش.
وقد أشاد ليوتارد بلوحات الفنان الأمريكي المعاصر بارنت نيومان الذي اشتهر بتعبيريته التجريدية بالتجريد الكروماتي فما يميز لوحاته هو كونها كثيرا ما تعتمد على اللون الواحد monochrome الذي تخترقه خطوط أفقية أو عمودية ذات لون مختلف كما في لوحته «الإنسان البطل العظيم» حيث نجد اللون الأحمر فقط يخترقه أفقيا شريط أبيض. في لوحاته نجد دائما خطوطا رقيقة أشرطة تثير التساؤل هل هي قاسمة فاصلة لفضاء اللوحة أم أنها توحدها، ولوحته «الفراغ» التي تدل على البداية والنهاية باستعمال لونين فقط هما الأبيض والأسود.
فموضوع الفن في إستطيقا ليوتارد ليس هو الجميل، وليس إنتاج خطاب أو دلالات، بل وضع حدث للرؤية لمنطق العين الذي لا يمكن للنظرية أن تحيط به. فإذا كان من المستحيل أن يكون لنا اتصال مباشر مع الوجود، ولا يمكن لنا تمثله فيجب -كما يقول- أن نفسح المجال لقوة الرغبة في تعيين الأشياء من خلال ما هو رسومي figural.
ومن ثم اهتم ليوتارد بالآثار الفنية المثيرة والمزعجة التي تدل على حدود المقاربة المفاهيمية، وعلى ما يسمى بالتجربة الجمالية أمام الجليل، السامي sublime، انطلاقا من تحديد كانط للتمييز بين الجميل والسامي، فالسامي يتميز بالعظمة والفرد والجمال، إنه شيء ما لا يمكن تمثيله، والفن هو الذي يستطيع أن يقدم لنا وحده اللمسة الحسية للوجود.
وعلاوة على ذلك فإن السامي يتحدد بكونه ما يثير في أنفسنا الشعور بالقلق والذعر والمتعة. يصدم فكرنا ويستعصى علينا فهمه في كليته، ويثير صراعا متميزا بين العقل الذي يقرر أن كل شيء متناهٍ، والخيال الذي يدرك شيئا لا متناهي يتجاوزنا. حيث يرى ليتوارد أن الفكر لا يمكن له أن ينظم كل شيء عقليا، وأن بعض الأشياء تظل مستعصية على تناولها من زاوية مفاهيمنا العقلية عن الأشياء.
وما ينتجه الفن الحقيقي هو ما يسميه بـ «الحدث» événement، ويعني به ما لا يندرج في كلية، في حكاية كبرى تمنحه معنى. إنه يفقد خصوصيته عندما ندرجه في نسق منطقي للعلية، يفقد شيئا مما يسميه حدثيته l evenementalité، إنه ما لا يمكن اختزاله في نسق لساني قائم على تقابلات. فمفهوم الحدث عنده ليس يعني ما نقصده في لغتنا المتداولة بالحدث كما هو الشأن عند مشاهدتنا للتلفاز، وما نترقبه من أخبار. بل هو ما قد يجعلنا نتساءل: هل وقع بالفعل؟ هو ما نشعر إزاءه بالذعر والقلق. ما يختبر قدرتنا على الفهم والتحليل، ويسبب قلقنا ومتعتنا، كما في وقوفنا أمام شيء جليل، متسامٍ. ومن ثم يرى أن الفنان الحقيقي هو الذي يبدع الحدث نتيجة معاناته الخاصة في العالم. وهو يكون ما بعد حداثيا، بالسعي إلى الجديد، ليس وفقا لأنظمة خطاب مؤسسة قبليا، وإنما باكتشاف وسائل، للعثور على ما لا يمكن التعبير عنه بواسطة أي نظم للعبارة.
والحال أن الجمهورعندما يقف أمام الأعمال الما بعد حداثية يقول: إنها غير مفهومة، عصية على التفسير، بينما يكون ذلك هو المطلوب في نظر ليوتارد، هو تحديدا مقاومة الاستيعاب من قبل الأنساق المهيمنة، فلا ينبغي أن ننتظر من الفن تمثيل الواقع بشكل صحيح، أو تقديم رسالة، أو توجيها أخلاقيا، فالفن ما بعد الحداثي هو ما يبدو على شاكلة انغلاق ذاتي، يقاوم التفسير وغير قابل للاختزال إلى أية قيمة استعمالية.
وهو يعتبر أن الثورة التي أحدثها «سيزان» و«كاندنسكي» و«مالفيتش»، في الفن هي تفكيكهم للمنظور perspective، فصل العلاقة مع واقعية الواقع كما تبدو للعين، لم يعد يهمهم تمثيل الواقع، جعل اللوحة نصا تحيل على ما تمثله، كما عبر عن ذلك «ألبرتي Alberti» قديما عندما شبه الوحة بـ«نافذة على الواقع»، بل عودتها إلى صمتها، فالتصوير ليس من أجل الكلام بل من أجل السكوت. من أجل ما لا تقدر اللغة عن التعبير عنه، من أجل تجاوز المرئي إلى اللامرئي.
انطلاقا من ذلك يقف ليوتارد عند لوحات سيزان عن جبل سانت فيكتوار mont saint victoire، ليؤكد أنها مستقلة، تكشف خصائصها البلاستيكية عوض أن تخفيها، لكي تفسح المجال لما تمثله، فتصويره يجمد ويثبت مناظر الجبل في ضخامتها، ما يدل عليه هو فعل النظر عينه في حالته الخالصة، جعل اللامرئي مرئيا.
وإذا كان العمل الفني شبيها بالحلم، من حيث هو منتج لصور، ولأنه نتاج فعل الرغبة، اللاشعور والغرائز، وهو كذلك إبداع، لكونه إنتاج ما لم يكن من قبل، فإنه لا يمكن أن يتحقق كعمل، إلا بتدخل الوعي. ومن ثم لا تتم بلورته إلا في علاقة مع الموانع، والسنن الفنية، والقبليات الإيديولوجية والنظريات الفنية. لكن الفنان الحقيقي هو المبدع لفنه.
«إن فنانا، كاتبا ما بعد حداثي، يكون في وضعية فيلسوف: النص الذي يكتبه، العمل الذي ينجزه، ليسا من حيث المبدأ محكومين من طرف قواعد مشكلة سلفا، ولا يمكن الحكم عليها بواسطة الحكم المحدد، من خلال تطبيق مقولات معروفة على هذا النص، وعلى هذا العمل، لأن هذه القواعد والمقولات، هي ما يبحث عنها العمل الفني أو النص نفسه… من هنا يكون للنص وللعمل خصائص الحدث»3 .
وما يميز عقيدة الفن الحديث في نظره هي فقد الإيمان باستقرار المرجع، ومن ثم تخليه عن براديغم التشخيص، ليس بمعنى أنه لم يعد هناك واقع، بل أصبح الواقع هو اللامتعين ذاته، ما يرفض التمثيل، فالفن في عصرنا لم يعد يستجيب لأي معيار محدد، أو غائية مسبقة، لأنه في جوهره لم يعد تمثيلا لشيء بل تمثيل لعدم قدرته على التمثيل، أصبحت قضيته هي ما يجعل من الفن فنا، ولا أدل على ذلك من الريدي ميد عند ديشان، لم يعد السؤال هو ما هو الجميل بل ما هو الفن؟