سليمان المعمري
كانت بقايا ابتسامة على شفتَيْ عبدالعزيز الممدد على ظهره، فيما يحيط به أبوه وبعض إخوته وثلة من أصدقائه، وآخرون لا أعرفهم، من بينهم شيخ ذو لحية بيضاء طويلة انحنى على الجثمان وطفق ينتحب بطريقة مؤثرة. ظننتُه لأول وهلة جد عبدالعزيز لولا أنني تذكرتُ أنه مات منذ سنوات بعيدة، ذلك الجدّ لم يغادر إلا بعد أن علّم حفيده الذي سيصبح بعد ذلك طبيبًا كيف تشي العينان باقتراب الموت قبل أي شيء آخر في الجسد. كانت ابتسامة عبدالعزيز ابتسامة رجل مبتهج بانتهائه للتوّ من إطعام حَمام، مطمئنة، لا يبدو فيها شيء من القلق أو التوجّس أو الحيرة، ابتسامة تكاد تقول: “لقد عشتُ حياتي كما أردتُ؛ قصيرةً عريضة لا طويلة ضيقة”. تخيلتُه يغمزني بعينه قائلًا: “سأشرح لك الأمر في مقهى ألطاف فيما بعد”. وددتُ لو أنحني عليه وأحضنه لكنني ترددتُ عندما رأيت نظرة الحزن الأبيّة في عيني الشيخ محمد، الواقف وهو ينظر لفلذة كبده المسجاة على الأرض. حمود الشكيلي قشع كل تردد عندما انحنى على صديقنا باكيا وقبّله على جبينه، ففعلتُ مثله دون أن أبكي. أصيب حزني بالخَرَس، ولعلي قلتُ لنفسي: لماذا أبكي إذا كان حدسي يقول إن عبدالعزيز سينهض من رقدته بعد قليل ويقول بضحكته المعهودة: “اعذروني. أعرف أنه مقلب سمج، لكنني كنتُ مضطرًّا إليه لأتأكد كم أنا عزيز عليكم، وها قد تأكدتُ. فشكرًا لكم، عودوا إلى بيوتكم”. قبلتُ عبدالعزيز على جبينه إذن ولم أبكِ، ومع ذلك، كان ثمة شيء ينتحِب داخلي وأنا أعود إلى وقفتي الذاهلة: “لا مقهى ولا حديقة، إنك لن تراه بعد اليوم، وعليك أن تحافظ على هدوئك لتعُبَّ منه ما يكفي لعمرك المتبقي”.
خرجنا ثلاثتنا، حمود ومازن القادمَيْن من مسقط، وأنا القادم من صحم، إلى الباحة الخارجية لبيت الشيخ محمد بن ماجد. كانت السيارات تملأ المكان، والشمس بدأت بالشروق دون أن تراعي أن شناص اليوم حزينة. لم تمض دقائق حتى انضم إلينا سعيد الحاتمي القادم من عبري، وفعل كما فعلنا؛ طلب من نعيم -شقيق عبدالعزيز، الذي بدا متماسكًا إلى درجة تبعث على الإعجاب- إلقاء نظرة أخيرة على صديقنا الراحل، فتحقق له ما أراد. سوف لن ننسى نحن الأربعة لنعيم هذا الصنيع.
بعد قليل، هربنا، مازن وأنا، من الشمس إلى المجلس بانتظار انتهاء طقوس الغسل. كان زكي يجلس بجوار أبيه في طرف المجلس، ويقول شيئًا عن المرض الأخير لشقيقه الأكبر الذي لَطالما اعترف له بالفضل في إمداده بمَعِين من القصص، إلى درجة أن أهداه مجموعة “الصندوق الرمادي” كلّها، كان قد رافقه في رحلته العلاجية الأخيرة إلى الهند، لكن لأنني ومازن كنا في الطرف الآخر للمجلس، فقد كنا نلاقي صعوبة في سماعه بوضوح. تذكرتُ رسالته الصوتية التي بعثها لي من الهند فأخرجتُ هاتفي من جيبي ووضعت السماعة في أذني: “وصلنا أنا وزكي يوم السبت الساعة 12 بتوقيتكم، وعلى طول ودوني المستشفى. شفت طبيب الكبد، سوّا فحوصات وراجع الملف. وبعدين فحصني وسوالي فحوصات دم وسوالي أشعة مقطعية للكبد، وعاد اليوم المعاد أرجع أقابله صباحًا بعد ساعة ونص من الحين، وأسوي أشعة مغناطيسية للكبد. وبعدين أقابل جراح زراعة الكبد، الدكتور ريلا، هذا أشهر واحد في زراعة الكبد هنا في هذي المنطقة كلها. فعاد يعني كذا الصورة مبدئيًّا بادية تتضح، بس هو حتى هذا الدكتور مال الهند رأيه موازي لرأي تركيا ولرأي أمريكا، إني محتاج نقل كبد يعني. بس كيف الإجراءات؟ هذا كله راح أعرفه بالتدريج من معهم، بس من أخلّص أول شي الإجراءات مال التشخيص وتثبيت السبب يعني”.
حركتُ إبهامي إلى الأسفل قليلًا فتعثرت برسالة صوتية أخرى سجّلها بعد ستة أيام من الرسالة السابقة: “أشكرك من كل قلبي على كلماتك الجميلة، وعلى ما نشرت البارحة. ظليت فترة أفكّر في كل كلماتك، وأنا عاجز عن قول أي شيء آخر”. لماذا كان عاجزًا عن قول أي شيء آخر؟ هل شعر حقًّا أنني أرثيه وهو حيّ كما قال له بعض أصدقائه الذين لم يحبّوا المقال؟. ووجدتُني في خضمّ ذلك الحزن الكبير الذي يخيّم على المجلس أبحث في مفكرة هاتفي عن ذلك المقال.
“ليس أجمل من أن تمد يدك في العتمة ليد أخرى لتقودها إلى ممر مضيء، ما أروع أن تبذر الأمل وتسترجع ابتسامة إنسان”، هكذا يلخّص عبدالعزيز الفارسي مهنة الطبيب، من هذا المدخل سأقول إن مهنة الطب ساهمت في إبراز كثير من الجوانب الإنسانية للأديب عبدالعزيز الفارسي، خصوصًا أن تخصصه هو مرض السرطان، هذا المرض الذي قضى سبع سنوات في كندا وهو يحاول كشف أسراره وسبر أغواره.
يدرك عبدالعزيز أن مريض السرطان بالذات يحتاج إلى معاملة خاصة، ينبغي ألا يكون الطبيبُ ذلك الكائنَ الجامد الذي يكرر الأفعال بآلية مقيتة، كما يقول في شهادة له في مجلة نزوى، ينبغي عليه ألا يرى البيولوجيا فقط ويهمل الروح العظيمة التي تتجلى باختلاف عند كل مريض. “إن سمحت لنفسك بذلك، أذنت لنفسك بالفشل، ولمريضك بالاستسلام والموت”.
من هنا نرى إصراره على بث روح الأمل والتفاؤل في مرضاه حتى أولئك الميؤوس من شفائهم. ذلك أنه من أولئك الذين يحظون بامتياز رعاية الشخص الذي على وشك الموت، وهم يعرفون -كما يخبرنا إس. موراي باركس في تقديمه لكتاب “عن الموت والاحتضار” للطبيبة النفسية الأمريكية إليزابيث كوبلر روس (ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم)- “أن المرحلة الأخيرة من الحياة يمكن أن تكون وقت القبول السلمي، وقت الهدوء الذي يتناقض مع التوترات والإحباطات في معركة البقاء على قيد الحياة”. أبرز هؤلاء في حياة عبدالعزيز ربما كان المريض المدعو خالد، بطل قصته “أخائف من الموت يا أبا هاجر؟” الذي كان قبل يومين فقط من رحيله يضحك وقد اسودتْ عروقه من أثر العلاج الكيميائي، مقدمًا درسًا بليغًا للفارسي: “عَلَّمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون”، في الحقيقة كل مريض من هؤلاء كان معلّمًا لعبدالعزيز، كما يقول في شهادته آنفة الذكر. “إنني أتعلم منهم دون توقف، من لغة الجسد والإيماءات، من نظرات العيون، من الدمع، من دقة ملاحظاتهم حول الأشياء الصغيرة التي لم أكن أنتبه لها قبلًا، ومن الابتسامات الصادقة حين يستعيدون أنفسهم، ومن إجاباتهم عن الأسئلة التي تخطر على بالي فجأة وأطرحها عليهم دون تردد”، بل إنه حتى في الكتابة الأدبية تعلّم منهم. إذ كانت قصصه الأولى سوداوية، وغارقة في ذاتيتها، ومليئة بزوائد اللغة. هؤلاء المرضى الشجعان هم من لفتوا نظره “للجهة الأخرى من العالم، للسماء والشمس، ورؤية الحياة بمنظور متجدد”. منحوه لغة جديدة، كما يقول، وألهموه ملاحظاتهم، وتعلم من نبراتهم الساخرة الكثير.
ربما كانت حساسية الأديب التي يضيفها الفارسي إلى إنسانية الطبيب، هما ما يفسّران صداقته لكثير من المرضى التي استمرت حتى بعد شفائهم. أما أولئك الذين اختارهم الله كخالد فإن رحيلهم يسبب له حزنًا كبيرًا، وأول ما يفعله هو الذهاب إلى العزاء، كأي صديق من أصدقاء الميت.
من الحكايات الإنسانية الجميلة في هذا السياق، يروي عبدالعزيز حكاية مريضة مسنّة كان يعالجها، وكانت لا تثق بغيره في تغيير الأدوية الكيماوية لعلاجها من سرطان القولون. وصادف أن عرفتْ المرأة من إحدى الجرائد العمانية أن الطبيب عبدالعزيز الفارسي كاتبٌ أيضًا، بعد أن رأت صورته. صار أولادها يخبرون عبدالعزيز حين يأتون معها لزيارته في عيادة الأورام بأنها باتت تُلزمهم -قبل فرش أي جريدة ليتناولوا عليها الطعام- بأن يفتشوها جيدا ليتأكدوا من خلوها من صورته، وتقول لهم: «لا تأكلوا على وجه عبد العزيز». وحين طمأنها أن الأمر عادي جدا، وأنه ليس مصابا بجنون العظمة، ومن ثم فإنْ لم يأكل أولادُها سيأكل غيرهم على صورته وحروفه. قالت له بلهجتها العمانية: «اللي ما تشوفه عيني ما مشكلة. بس ما تهون عليّ أشوف وجهك على الأرض تحت الأكل في بيتي». يروي عبدالعزيز أنه تماسك كثيرا أمامها. ولكنه حين عاد إلى شقته بكى كطفل، ولم يزل يبكي كلما تذكر ذلك الموقف، وظل مدة تزيد عن السنة، منذ سماعه لجملتها، وحتى بعد وفاتها بأشهر، يحرص على ألا ينشر أي شيء في جرائدنا حتى لا يثير حزنها وهي تكتشف أن وجهه تحت الأكل!.
ثمة عبارة موحِية في رواية “مقبرة براغ” لأمبرتو إيكو تقول إن” أحاديث الأطباء جذابة لأنها تتناول دائما أوجاع شخص آخر”، لكن عندما تتبدّل الأدوار ويصبح الطبيب مريضًا، سواء تحدث عن ذلك أم لم يفعل، فإن حزننا يكون مضاعفًا، لأننا نفقد اليد السخية الممدودة في العتمة لتقودنا إلى الممر المضيء. من هنا نفهم تأكيد هوميروس في إلياذته قبل ألفين وثمانمائة عام أن حياة الطبيب تساوي حياة كثيرين.
يصبح الطبيب مريضًا؟ نفقد اليد السخية الممدودة؟ هل كنتُ أرثيه دون أن أشعر؟ لماذا الاستشهاد بكتاب “عن الموت والاحتضار”؟!. لقد كنتُ أرثيه حقًّا، وهذا هو الشيء الآخر الذي عجز ربما عن قوله. لكني كنتُ فقط أحاول تطبيق وصية ماركيز؛ أن أخبره أنني أحبه متجاهلًا أنه يعرف ذلك. هل عجز فعلًا عن قول شيء آخر؟ أم أنه يمارس هوايته الأثيرة: الصمت؟. من يعرف عبدالعزيز جيدًا يعرف أن الصمت جزء مهمّ من فلسفته في الحياة. إذا ما رأى شمسًا تغرب أو ساقية تجري أو طفلًا يركض، فإنه لا يعبّر عن دهشته بشهقة إعجاب أو حفنة من الكلمات، وإنما بالصمت الذاهل. إنه يُنصت أكثر مما يتكلم، وإذا ما تحدث بعد هذا الصمت فإنه يقول كلامًا كثيرًا في كلمات قليلة. لقد مارس الصمت حتى مع مرضه. قليلون من باح لهم به، وحتى هؤلاء القليلون لم يقفوا تمامًا على خطورة هذا المرض، من فرط ما كان يتحدث عنه بهدوء الأطباء لا بقلق المرضى. كانوا واثقين أنها سحابة صيف عابرة سيبددها عبدالعزيز بصلابته المعهودة التي لطالما أذكت القوة في المرضى وبذرت فيهم الأمل بالحياة. كان تجسيدًا لفلسفة كيركيغارد: “إن تشخيص الحالة الحالية للعالم بأكمله والحياة عمومًا هي المرض، لو كنتُ طبيبًا وسُئلتُ عن العلاج؛ فسوف أجيب: الصمت”. تمنت فرجينيا وولف يوما أن تكتب رواية عن الصمت، عن الأشياء التي لا ينطق بها الناس، ماذا لو أنها أدركت زمن عبدالعزيز أو أنه عاش في زمنها؟ لا أظنني مُغاليًا إن قلت إنه سيكون أحد ملهميها لكتابة هذه الرواية، وربما يقرأ مخطوطتها الأولى قبل النشر ويدلي لها بملاحظات ثاقبة تُثري النصّ وتعمّق أحداثه وشخوصه، تماما مثل ما فعل مع هدى حمد في روايتها “الأشياء ليست في أماكنها”، ومعي في روايتي “الذي لا يحب جمال عبدالناصر”.
أغلقتُ المقال، وطفقتُ أتملى وجوه الحاضرين في المجلس. ثمة صبيّ عمره بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة يكسو وجهه حزنٌ نبيل لافت للانتباه، حزنٌ محترم لا يعترف بالدموع، ولا بطرق التعبير الأخرى المكرورة عنه، حزنُ شجرةٍ عطشى وحيدة أُبلِغتْ للتوّ أن الفلج الذي يسقيها جفّ. ليست العينان وحدهما اللتين تشعّان بالحزن، بل الوجه كله حزن. فكرتُ: عبدالعزيز أَحزَنَ الجميع، من الشيخ العجوز المنتحِب قبل قليل، إلى هذا الصبيّ الصغير.
التفتُّ إلى مازن وتبادلتُ معه بعض الكلمات، لا أذكرها الآن. الأرجح أنها كلمات عن تهيئة النفس للفقد الكبير. عندما فقدني عبدالعزيز لثلاثة أسابيع عام 2016، وهي ما سأسميها متهكِّمًا بعد ذلك “رحلة سويسرا”، عبّر عن هذا الافتقاد بوضع كلماتي في صفحته على “فيس بوك”: “يحق لك أن تقول إنني محتقن بالفقد لدرجة أنني أشعر أنني قوي. عندما تعتاد الفقد لا يعود لديك ما تخشى عليه … إنني أنظر لكل من حولي على أنهم مشاريع فقْد متحركة: أمي، أبي، إخوتي، أصدقائي، زملائي في العمل، الجيران، ولا أخالني مبالغًا إذا قلتُ إنني تجسيد لعبارة الفيلسوف سيوران: لا أقدر على تأمل ابتسامة دون أن أقرأ فيها: “تملَّ مني فهي المرة الأخيرة”. كان مازن شاردًا، وأظنه مثلي غائبًا في ذكريات صداقته البعيدة مع أبي سعود، شردتُ بدوري في كل ما لم أقله لعبد العزيز، في المشاوير التي لم نذهبها، الثمار التي لم نقطفها، البحر الذي لم نلقِ بأنفسنا فيه، الحارس الذي لم نغافله لندخل حديقة السعداء. قفزتْ في روحي فجأة الأم الثكلى. تُرى كيف هي حالتُها الآن هذه العظيمة التي يدين لها عبدالعزيز بكل دماثته منذ وضعتْ له وهو لم يتجاوز الثانية عشرة بعدُ منهاجَ حياتِه: “لا تجرح أحدًا مهما كنتَ غاضبا، وإن كان لا بُدَّ من جرح أحد فاختر جرحه بسكين، لكن لا تجرحه بكلمة. جرح السكين يبرأ، وليس من جرح الكلمات بُرء”. كان كلما تذكرها يضيء كسراج فرِح. أتُراه قلبُ الأم أحس باقتراب الفقد عندما ذهبتْ مسرعةً إليه من شناص إلى مسقط، قبل رحيله بيوم واحد فقط!.
أعود للهاتف. أتأمل الدمية الوردية النائمة التي اختارها عبدالعزيز صورة لــ”بروفايله” في فيسبوك. لا تشبه أي دب مستيقظ. بل هي أقرب إلى طفل نائم. كان هذا الحساب شبه نائم أيضًا، ولا أذكر أن صاحبه نَشَط فيه لعدة أيام متواصلة إلا فترة محدودة قبل عدة سنوات عندما غبتُ تلك الأسابيع “السويسرية” الثلاثة من عام 2016. أحرك إبهامي بسرعة بحثًا عن ذكرى ما من تلك الفترة. أجدها فأشرق بالدمع: “أحتفظ لك بحكايات كثيرة مذ غبتَ يا سليمان المعمري. الصياد الوديع أنهى جرعاته الثلاث. أخبرته أن الأشعة تقول إن المرض يستجيب بشكل كبير وسأعطيك ثلاث جرعات كيميائية أخرى. أخبرك بذلك يا صديقي لأن الصياد بكى بحرقة حين عرف بنتيجة الأشعة وقال: “أنا مبتهج لأني سأعود للبحر قريبا”. وهنا قفز وجهك أمامي. لا بد أنك مشتاق للبحر يا سليمان”.
نعم يا صديقي. مشتاق، وعندما نلتقي في مقهى ألطاف بعد قليل، وبعد أن نشرب الشاي هناك سنتوجه إلى البحر، سأدعوك لرحلة في عَبّارة من شناص حتى مسندم، سنثرثر كثيًرا ونستعيد تلك الرحلة التي كانت في خصب قبل عدة سنوات. ومن يدري فربما نلتقي في العبّارة ذلك الرجل الشناصي الحكيم. هل تذكره؟ أنتَ من عرفتنا عليه حين كتبتَ عنه في “شرفات”؛ ذلك الذي سألتَه ذات مرة عن سبب احتفاظ كل شعره بلونه الأسود دون صبغ أو إضافات رغم أنه تجاوز الستين فأجابك: “لأني أسعد أهل عُمان. أنام مطمئن البال دون نكد، ولا أفكّر فيما سآكل غدًا، أو من سأقابل، أو متى سأفقد عزيزًا. فأنا متأكد أني لن أموت قبل يومي. إذا استيقظتُ في الصباح ووجدتُني حيًّا؛ اعتبرتُ أني وُلِدتُ في ذلك اليوم، وعليَّ أن أفرح بذلك. لقد عشتُ طويلًا، وعرفتُ الكثيرين، لكنّي لم أودّع وجهًا واحدًا وقلبي يبغضه، ولم أدخل نزاعًا ضدّ إنسان. بل إني كلما فارقتُ شخصًا دعوتُ له: اللهم اكتب له الخير مع كل خطوة”. ياااه كم هي سهلة شروط السعادة يا صديقي ونحن لم نكن منتبهين. نبحث عنها بعيدًا بينما هي تحت أرجلنا. إنها كالهواء الذي نتنفسه، لا نشعر بأهميته إلا حين نختنق. نشهق للعناوين الكبيرة بينما السعادة في سطر على الهامش، في انفراجة باب صغير، أو تكة ساعة تخبرنا بقرب وصول حبيب، أو صرير قلم يسجّل مزاجنا في ورقة، في اختلاجة عين عصفور يطير فوق رؤوسنا دون أن يخاف. لكن أتدري ما هي السعادة بالنسبة لي الآن؟، أن أرفع يدي وألوّح بها كساحر فينمحي هذا اليوم تمامًا.
انتهتْ طقوس الغسل، وحُملت الجنازة على الأكتاف من البيت إلى المسجد القريب. أربعة يحملونها وسيل من البشر خلفهم. لم تمضِ فترة قصيرة على دخول النعش إلى المسجد حتى نودي للصلاة. ذكّرنا الإمام بالتكبيرات الأربع المفترضة في الصلاة وما يقال في آخر كلٍّ منها من أدعية. كنتُ في أحد الصفوف الخلفية، لذا لم أره رغم أني أسمع صوته بوضوح، فلم أعرف هل هو راشد صاحب المزرعة أم أنه عبيد الديك. المؤكد أنه ليس جمعان التائب لأن صوت هذا الإمام جميل حقًّا ويبعث على الخشوع. منذ أن قرأتُ “تبكي الأرض يضحك زحل” كمخطوطة قبل ستة عشر عاما وأنا أتمنى أن أرى هؤلاء الثلاثة. لكن عبدالعزيز لم يُرِني إلا ألطاف صاحب المقهى. تُرى هل لا تزال ابتسامة عبدالعزيز مكانها الآن بعد أن سُجِّي في التابوت أم أنها طارت إلى الأفق الفسيح؟.
انتهت الصلاة وتوجهتْ الجنازة إلى مقبرة الغوابي.
بينما انهمك جمع غفير بوضع الجثمان في القبر، كنتُ ومازن حبيب وعلي المخمري نقف تحت سدرة داخل المقبرة تبعد نحو مائة متر عن القبر. كنتُ أستعيد كلمات خالد بخيت الذي أعرف أنه أكثر شخصيات الرواية شبهًا بكاتبها: “لا أدري لماذا كلما دخلت بوابة المقبرة فحصتها جيّدا بناظري بحثًا عن قبري. تُرى: أين سيدفنني هؤلاء لو متُّ اليوم؟. ألا يحق لنا أن نختار قبورنا؟”. لو أن عبدالعزيز خُيِّر أن يدفن في مكان لما اختار إلا شناص التي أحبّته وأحبها، وكتبها وكتبتْه، واستعار أسماء أهلها العجيبة في قصصه ورواياته.
اقتربنا من القبر الذي صار محاطًا بعدد كبير من الناس. حرصتْ الشمس على ألا تضايق هؤلاء، فابتعدت قليلا. لم أطق رؤية التراب ينهال على صديق العُمر فأشحتُ بوجهي وتشاغلتُ بتقليب نظري في الوجوه. وفجأةً ارتطمتُ بالصبيّ صاحب الحزن النبيل. كان حزنُه لا يزال يتدلى كثمرة ناضجة تنتظر من يقطفها. توجهتُ إلى نعيم الذي كان في مرمى بصري وسألته مشيرًا إلى الصبيّ: “من هذا الولد؟” فأجاب: “هذا محمد ابن أختي، وكان يحب المرحوم كثيرا”.
بعد أن استقر عبدالعزيز تحت الأرض ورُشَّ ترابُ القبر بالماء انبرى رجل يقرأ عليه ترنيمة الغياب. تخيلته هو نفسه إبراهيم الراعي الذي كان عبدالعزيز معجبًا بصوته الندي وهو يخاطب الميتين بعد أن يدفنهم: “يا عبدالله ابن أمة الله، يرحمك الله، ذهبتَ عن الدنيا وزينتها، وصرتَ الآن في برزخ من برازخ الآخرة، فلا تنس العهد الذي فارقتنا عليه…”. من فرط إعجاب عبدالعزيز بهذا الراعي استعار دعاءه المطوّل في “تبكي الأرض..” على لسان عبيد الديك وهو يواري زاهر بخيت التراب.
بعدها شرع الرجل في الدعاء لعبدالعزيز والجميع يردد وراءه: “آمين”. اللهم أبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، اللهم إن كان محسنًا فزِدْ في حسناته، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته. اللهم آنسه في وحدته، وفي وحشته، وفي غربته. دعاء إثر دعاء وأنا أردد معهم “آمين” مُرهِفًا السمع بانتظار دعائي الأثير الذي أنتظر. وحين تأخّر، رفعتُ عينيَّ إلى السماء وقلتُ والدموع تترقرق في عيني: “اللهم ارحم رجلا أفنى عمره في تخيّل الأشياء”.