زاهر الهنائي
تُعدّ هذه المساهمة محاولة لرصد جهود الاستشراق الألماني في دراسة اللهجة العُمانية تحديدا، ولا تناقش جهد المستشرقين الألمان في دراسة التنوع اللغوي في عُمان1. وتُعنى، بشكل خاص، بجهد المستشرقين الألمان أو أي نشر من قبل المؤسسات الألمانية داخل القطر الألماني، ولا علاقة لها بما كتب من بحوث ودراسات باللغة الألمانية خارج القطر الألماني2 من غير الألمان، ولذلك لم تتعرض المساهمة، على سبيل المثال، للدراسة المهمة للمستشرق النمساوي رودو كناكيس عن اللهجة العربية المستعملة في ظفار، والتي نشرها سنة 1911 في فيينا باللغة الألمانية3.
يُعدّ الاستشراق الألماني، بالنسبة إلى الاستشراق الأوروبي، رائدا في دراسة اللهجة العمانية؛ فأقدم دراسة شاملة في اللهجة العمانية هي دراسة المستشرق الألماني كارل راينهارت Carl Reinhardt، التي نشرها في وقت مبكر سنة 1894 بعنوان “لهجة عربية محكية في عُمان وزنجبار” (Reinhardt 1894)، حاول راينهارت في دراسته هذه تقعيد لهجة وادي بني خروص خصوصا، ولهجات المناطق بين نزوى والرستاق بشكل عام، كما يشير إلى ذلك في مقدمته -سنتعرض لدراسته بالتفصيل لاحقا-. وقد سبق راينهارت في دراسته للهجة العمانية اثنان من المستشرقين الألمان، فقد نشر فرانس بريتوريوس مقالا في مجلة الجمعية الألمانية الشرقية سنة 1880 بعنوان: “حول اللهجة العربية في زنجبار”Praetorius 1880) )، حاول بريتوريوس هنا وصف ظواهر اللهجة التي كان يتحدث بها العمانيون في زنجبار ذلك الوقت، مسجلا بعض الألفاظ والتراكيب المستعملة في الحياة اليومية، وأكد في بحثه أن المستوى اللهجي في زنجبار هو نفسه المستعمل في مسقط. كما تُبرز دراسته ظاهرة التباين اللهجي في اللهجة نفسها، كما يقارنها ببعض ظواهر اللهجات العربية اختلافا وتشابها، كما يرصد أيضا، بشكل هامشي، تأثير اللهجات العربية الأخرى عليها من ناحية، وتأثير لغات أخرى كالفارسية والهندية من ناحية أخرى، كما يحاول كشف علاقتها بلغات سامية أخرى كالأمهرية والأثيوبية والمالطية والتغرينية (ينظر Schmid 2015) . وتعد محاولته هذه أول محاولة ألمانية لدراسة اللهجة العمانية.
كما نشر الألماني برنهارد مورتس Bernhard Moritz سنة 1892 مجموعة من الكتابات والمراسلات من زنجبار وعُمان تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر (Moritz 1892). أعد مورتس هذا العمل في الأساس لغرض تدريس اللهجة العمانية في الجامعات الألمانية، وذلك في إطار دراسة اللهجات العربية المختلفة، ويهدف إلى مساعدة الطلاب في التمرن على اللهجة من خلال هذه النصوص الحية المختلفة التي جمعها، ويحتوي الكتاب على 116 وثيقة رتبها وفق تسلسلها الزمني، كما وضع لها قاموسا بالمصطلحات الواردة فيها مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومقدمة عامة أو مدخلا إلى اللهجات العربية ولهجة عمان. ورتب الوثائق في سبعة فصول، جاءت على النحو الآتي:
الفصل الأول: جمع فيه كتابات رسمية صادرة من مكتب السلطان برغش وأخيه السيد خليفة.
الفصل الثاني: يتضمن كتابات لمطالب وحاجات موجهة إلى السلطان.
الفصل الثالث: فيه مجموعة من الوثائق المتعلقة بالبيع والشراء، كصكوك لبيع الأراضي والمنازل، ووثائق لتأجيرها، كما يحوي وثائق في تجارة الرقيق والديون والوصايا والفواتير، وبعضا من أحكام القضاء…
الفصل الرابع: يحوي رسائل لتجار من الساحل الصومالي.
الفصل الخامس: يجمع فيه رسائل خاصة من زنجبار وبرّ شرق أفريقيا.
الفصل السادس: يحتوي على رسائل خاصة من عُمان، ورسالة من جِدّة بالمملكة العربية السعودية.
الفصل السابع: يتضمن كتابات من محفوظات أرشيف الجمعية الألمانية – الشرق أفريقية، كبعض الاتفاقيات وأوامر إلى أحد الولاة، ووثائق في ما يتعلق بالجمارك واستئجار السفن..
وقد استفاد من عمل راينهارت كلّ من الألمانيين هاينريش بروده Heinrich Brode (١٨٧٤-١٩٣٦) وفالتر رويسلر Walter Rössler (١٨٧١-١٩٢٩)، اللذين كانا يعملان في القنصلية الألمانية في زنجبار، فقد قام رويسلر بنشر كتاب: “Nachal und Wad il Ma’awil. Eine Erzählung im. Omandialekt، سنة ١٨٩٨ رصد فيه سردية بلهجة نخل ووادي المعاول وقام بترجمتها إلى اللغة الألمانية، كما أصدر عملا آخر عن اللهجة العمانية سنة ١٩٠٠ بعنوان: «تاريخ مرض الجدري.. سردية باللهجة العمانية» Die Geschichte von der Pockenkrankheit: Eine Erzählung im Omandialekt، أضاف نصوصًا أخرى من اللهجة العمانية المحكية في زنجبار تتحدث عن تاريخ مرض الجدري، أما هاينريش بروده فقد نشر كتابًا عن اللهجة العمانية سنة ١٩٠٢ بعنوان: Der Mord Sejid Thueni’s und seine Söhne، جمع فيه نصوصًا من اللهجة العمانية المحكية في زنجبار تتحدث عن مقتل السيد ثويني وذِكرٍ لأبنائه..
ثم سادت بعدَ ذلك فترة انقطاع طويلة في دراسة اللهجة العمانية لدى الألمان بشكل عام والمؤسسة الألمانية بشكل خاص. ولم ينقطع هذا الصمت إلا بظهور دراستين (2009، 2011) لأحد الباحثين باللغة الإنجليزية في مجلة دراسات اللغة العربية التي تصدرها جامعة هايدلبرج الألمانية4. فقد نشر الباحث اللغوي الإنجليزي دومينيك إيديس من جامعة ليدز سنة 2009، بحثا بعنوان: “Retention of the passive verb in a Bedouin dialect of northern Oman” (Eades 2009)، وبحثا آخر سنة 2011 بعنوان: “A Transitional Arabic Dialect of the Northern Omani Interior” (Eades 2011)، ثم قام هاينر فالتر سنة 2013 بنشر كتيّب يهدف إلى تعريف السائح الألماني باللهجة العمانية، بعنوان: “العربية العمانية، كلمة بكلمة” (Walter 2013)، ويحتوي عمله على مقدمات نظرية في قواعد اللهجة، وخصص جزءا للجانب العملي، احتوى على نماذج من المحادثات في مختلف مواقف الحياة اليومية، كما وضع مقدمة للتعريف بالبلد وعاداته وتقاليده، ليستفيد منها السائح الألماني، المستهدف الرئيس من وضع هذا الكتاب، ولكن يتسم هذا الكتاب بالمعالجة السطحية في دراسة اللهجة لطبيعة الهدف ودافع المنشأ. يحاول فالتر حاليا إصدار نسخة صوتية جديدة من الكتاب بالاستعانة بأصوات عمانية، تساعد السائح الألماني على التعرف بدقة على العبارة واللفظ سماعا ونطقا.
وفي 2015 قدّم الباحث يونَتان شميد من معهد الدراسات الاستشراقية بجامعة لايبزج دراسة تحليلية بعنوان: “العربية المحكية في عُمان” (Schmid 2015).
سنسلط الضوء فيما يلي على عمل المستشرق الألماني كارل راينهارت، الذي يعد أقدم دراسة شاملة عن اللهجة العمانية.
Ein arabischer Dialekt, gesprochen in Oman und Zanzibar
اللهجة العربية المحكيّة في عمان وزنجبار1984 شتوتجارت وبرلين
تعدّ دراسة كارل راينهارت أقدم دراسة شاملة للهجة العمانية، سواء على مستوى الاستشراق الألماني أو الأوروبي. وكان راينهارت قد اطلع على مساهمة الطبيب الإنجليزي من أصل هندي جاياكار التي نشرها سنة 1889 في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية فيما يتعلق باللهجة العمانية (Jayakar 1889). ولكنه وجدها قد فقدت كثيرا من قيمتها لافتقادها إلى إعادة كتابة اللهجة بالأصوات التي اعتمدتها الجمعيات الاستشراقية. تكتسب دراسة راينهارت قيمتها من كثرة اعتمادها على الكتابة الصوتية لوصف النطق بدقة، وكذلك من الدقة والصرامة التي اتبعها في تقعيد اللهجة stringent structuring، كما تحفل الدراسة بكثير من النصوص والحكايات والأمثال. ويبدو أنه كان يحذو في ذلك حذو كتاب قواعد اللغة العربية الكلاسيكية لكاسبَري5، حيث كان يحاول أن يصف اللهجة على نحو من الكمال مثلما فعل كاسبري في وصف اللغة الكلاسيكية، وكان شغله الشاغل أن يشتغل على منهج اللائحة النظيفة clean slate، فلم يُعر اهتماما باللغة المكتوبة أو اللهجات العربية الأخرى (Schmid 2015). ويذكر في بداية مقدمة الكتاب أن وطن اللهجة التي سيصفها فيه هي لهجة وادي بني خروص أو تقريبا لهجة المناطق الواقعة بين نزوى والرستاق، وسبب هذا الاحتمال في تعيين اللهجة هو اعتماده في تسجيل اللهجة على أناس قدموا من عُمان إلى زنجبار، وليس من خلال إقامة الباحث في وادي بني خروص، فراينهارت لم يذهب إلى عُمان إلا عرضًا. وقد أشار إلى ذلك في مقدمته، وأوضح أنه قد خطط للذهاب إلى عمان ومعاينة اللهجة على الواقع لاختبار نتائجه وما توصل إليه في دراسته، ولكنه، حسبما يذكر، لم يوفق لذلك.
يصنف راينهارت اللهجة التي اشتغل عليها أنها أقرب إلى لهجة البدو، مع أن أهلها يعدون حضرا. كما يشير إلى أن وصف هذه اللهجة بالعمانية ليس دقيقا تماما باعتبار أن هناك في مسقط أو في صور لهجة مستعملة، وأن اختلافات جوهرية تظهر هنا في اللهجة المعالجة. ونظرا للوجود العماني في شرق أفريقيا، يرجعه هو إلى ألف سنة تقريبا، فإن هذه اللهجة أصبحت لغة الوجهاء، وخاصة لغة البلاط، ولغة الثلثين تقريبا من العرب القاطنين هناك، في حين تسود اللغة السواحلية كلغة دارجة أخرى قد تسلل إليها كثير من الكلمات العربية. وقد كان دافعه إلى تأليف هذا الكتاب في المقام الأول -كما ذكر- يتمثل في طلب المستشرق الألماني المعروف المستشار إدوارد ساخاو، الذي كان حينها مديرا للدراسات الشرقية، فقد طلب منه إعدادَ كتاب عمليّ عن هذه اللهجة التي أصبحت “مهمة” والحاجة إليها ملحة، بسبب الاستعمار الألماني لشرق أفريقيا -على حدّ تعبيره- وذلك بمناسبة سفره إلى زنجبار عام 1888. قام راينهارت بجمع مادة الدراسة خلال إقامته في زنجبار خمس سنوات، وقد وصف عمله بالمضني في تلك الأجواء الاستوائية الحارّة. ولم يكن همه في ذلك أن يشتغل بوضع مقارنات بين اللهجة المحكية هناك وغيرها من اللهجات العربية أو الانشغال بلغة الكتابة كما فعل بعض من اشتغل على اللهجات، وإنما كان شغله الشاغل أن يجمع أكبر قدر من المادة اللغوية لهذه اللهجة المحكية “الرائعة” -حسب تعبيره- مدعومة بالقواعد ليستفيد منها الدارس. وقد كان على اطلاع بما نشره الطبيب جايكار عن لهجة مسقط، كما سبق الذكر، إلا أنه ذكر أنه لم يتمكن من الاستفادة من هذا العمل، وقد علل ذلك بسطحية معالجة جايكار، واحتواء عمله على بعض الأخطاء، واشتماله على عموميات فقدت قيمتها لفقدانها كتابة المادة اللغوية بالطريقة التي تعتمدها الجمعيات الاستشراقية (Transcription). كما أشار إلى دراسة الدكتور مورِتس (Moritz 1892)، التي تختلف عن دراسته في أنها اشتغلت باللغة المكتوبة، فقد اشتملت على كم كبير من أصول من الرسائل الكتابية ومعجم للمصطلحات الواردة في هذه الرسائل. وبيّن راينهارت أن نيَّته في الأساس، كانت إظهار التباين بين هذه اللهجة في النطق والكتابة، ولكن وجب عليه أن يتخلى عنها، لأنه رأى أن صورة اللغة المُحصَّلة ستكون غير كاملة في النهاية وستترك مجالا واسعا للشك. وعلق آمالا على أن يقوم بهذا العمل ويكمله المشتغلون في حقل دراسات اللغة العربية؛ لأن هذه اللغة المعالجة، -اللهجة هنا- تُظهر قدرا من سلامة المبنى والمعنى للغة الساميّة كما لا تظهره لهجات عربية أخرى. وكان راينهارت حريصا قدر الإمكان، على ما يبدو، أن يكون الكتاب جاذبا للمتعلم من خلال عنايته في انتقاء الرواية واختيار الأمثلة وترك بعض الشواهد. كما أشار أيضا إلى صعوبة العمل الذي قام به وأنه لن يعدم بعض النقد واللوم في بعض الجوانب من قبل بعض أساتذته وزملائه، ولكنّ القناعةَ بأن الاشتغال بقواعد اللغة العربية مسلك شاق وصعب، كانت تخفف عنه ذلك. ويُظهر الباحث هنا تواضعا بقوله: إنه وضع هذا الكتاب للطلاب، مع أنه لا يزال هو بنفسه أحد الطلاب، ولكن ما يشفع له القيام بذلك هو طول وقِدَم علاقته وصحبته للعرب (العمانيين). كما يعترف بأنه لم يكن وفيا دائما لمبادئ العمل وأساسياته في عمله هذا، مما نتج عنه ظهور بعض التناقضات في الكتاب. ولكنه يعتذر عن ذلك بأنه قد أَلَمّ به مرض شديد أثناء عمله منعه من إكمال الكتاب، فنوى التوقف عند الصفحة 231 وبدا له أن يترك موضوع الفعل في الملحق على شكل جداول. ولكن بعد تحسن صحته قليلا دفعه الشعور بالواجب مرة أخرى وكذلك إجلاله لطلب أستاذه المستشرق الألماني المعروف البروفيسور نولدكه، صاحب تاريخ القرآن، إلى أن يتمّ ما بدأه. ولكنه لم يتمكن من تعديل ما تمت طباعته سابقا من العمل؛ ولذا وقع ذكرُ بعض الأشياء والكلام عنها في المكان الخطأ، مما أدى إلى الإضرار بالشكل دون المادة -حسب تعبيره-. كان راينهارت يتذمر دائما من الأجواء الاستوائية الحارة الرطبة التي تجلب إلى الإنسان التعب والإرهاق، ولا تعينه على إنجاز عمل “فيلولوجي” يتطلب أجواء منعشة باردة، ويتشكى أيضا من قلة المواد التي تعينه على إنجاز مهمته البحثية. وقد تمنى بعد عودته إلى ألمانيا أن يراجع العمل مرة أخرى ويضيف إليه ويعدل فيه. ولكن رغم هذه النواقص -حسب تعبيره- التي ضاءل فرصةَ إتمامها بعدُ الكاتب عن مطبعة الرايخ، وأمل راينهارت أن يغفر له القارئ المتساهل ذلك في ظل ظروف نشأة الطبعة الأولى، وأن يشفع له ما أظهره من جدية في العمل، وكذلك إسهامه في نشر لهجة عربية لم تكن معروفة. كما يذكر أن تعدّد مهامه وأعماله كمترجم في غير ما جهة قد صعّب عليه كثيرا إنجاز عمله لهذا الكتاب، فقد كان يعمل مترجما للقنصلية، ولمفوضية الرايخ، وكذلك للجمعية الألمانية- الشرق أفريقية، ولكن تطلَّب ذلك منه، من جهة أخرى، تمكنا واسعا، قدر الإمكان للهجة المحكية، مكنه من التعامل معها والتأليف فيها. ولم يبق له خيار، كما يقول، إلا أن يضع كلّ جهده ووقته في دراسة اللهجة المحكية وأن يزهد في كل الملذات والمسرّات الأخرى. كما أشار راينهارت إلى صعوبة قد واجهته في إعداده العمل لم يكن سيجدها لو كان في الجزائر مثلا أو سوريا ومصر، وهي قلة العرب الذين يتحدثون لغات أوروبية في زنجبار، فهو يرى أن ذلك مما كان سيهوّن عليه الأمر ويخفف عنه شيئا في دراسته. ويُرجِع السبب في قلة تحدث العرب في زنجبار باللغات الأوروبية إلى قلة احتكاكهم بالأوروبيين؛ إذ لم يكن اتصالهم بهم يتعدى أمر قضاء أعمالهم التجارية في أوروبا ثم العودة مباشرة إلى أوطانهم. يذكر راينهارت أيضا أن هناك مشكلة واجهها غيره من المستشرقين المهتمين باللغة العربية عندما يعزمون على دراسة اللهجة وهي صعوبة العثور على أناس مناسبين في دراستها، ويُعلَّل لذلك بأنه في سنوات الحرب كان يُنظر إلى العربي الذي يعتاد بيت أحد الألمان أنه خائن ويصبح موضع سخرية وتندُّر لاذع من قبل أبناء بلده. وقد أثنى على السيد خليفة بن سعيد وتعاطف العمانيين معه، وحمد لهم وقتهم، وجهدهم الذي صرفوه في مشروع دراسته. وذكر مجموعة من العمانيين الذين استعان بهم في مهمته، فكان أول من استعان به شخص كان يُدعى “سعيد” من الرستاق، وذكر أن أجداده يعودون إلى أصل يهوديّ، وأنه لا يزال يحمل ملامح جنسه، وقد أتى إلى زنجبار منذ عشر سنوات، وكان يستطيع القراءة والكتابة، ولذلك استبعد أخذ اللهجة منه، وأحل مكانه رجلا يدعى “عبد الله الخروصي”، عمل معه سنتين وقد أثنى عليه التزامه بواجبه، وكان يدفع له أجرة شهرية من ماله الخاص تبلغ حوالي 100 مارك. وكان عبدالله هذا يجلب لراينهارت أناسا قد قدموا حديثا من عمان. وفي السنوات الأخيرة من إقامة راينهارت في زنجبار استعان بشخص يدعى “علي العَبري”، الذي قدم من العوابي، وكان لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد كان رجلا قليل الكلام بطبيعته، مما جعل راينهارت يعاني من صعوبة في الحصول منه على الألفاظ، وكذلك الحكايات والقصص، ولكن راينهارت يحمد لعلي العبري أنه لم يكن صاحب خيال، مما يجعله أكثر مصداقية وواقعية في روايته. ويذكر أنه كان بعكس عبدالله، فهو عندما يسأل عبدالله عن معنى كلمة ما أو عبارة فإنه سيكون مطمئنا أن الإجابة من عبد الله ستكون مثلما توقعها هو، فقد كان عبدالله يرى أن من الإحراج مثلا أن يقول لراينهارت أن توقعه ليس في محله، وأنه بذلك يخدم راينهارت على أفضل حال. أما علي فكان صريحا مع راينهارت، فيقول له إن هذه الكلمة لا يعرفها أو هي ليست دارجة وعليه أن يقول في هذه الحال كذا وكذا. وبهذا لم يبق لراينهارت -على حدّ تعبيره- من خيار إلا أن يراجع مرة أخرى تسجيلاته الكتابية، ويسأل عن بعض النقاط التي يشك فيها عمانيين آخرين، حتى أنه اطمأن في النهاية إلى أن أي كلمة أو عبارة في هذا العمل هي محل ثقة، وخاصة أن أُلفته للغة أصبحت بعد ذلك أكثر، ورهافة وحِدَّة سماعه لها زادت، وهو المتطلب الرئيس في دراسة اللهجة. وتمنّى أيضا لو تتاح له عشر سنين أخرى في صحبة “أبناء الصحراء” -حسب تعبيره- حتى يبلغ بعمله التمام، إذ كانوا -في نظره- يملكون ثروة لغوية هائلة، ولا غروَ، فلغتهم تتنفس أيضا نسيم صحاريهم المنعش، فبينهما ألفة ومودّة لا نكاد نفهمها!، مثلما عبر عن ذلك. كما يشير في مقدمته إلى أنه يُعَد استثناء أن يصل الحضري أو الأوروبي إلى مستوى اللغة التي يملكها هؤلاء الناس، ولذلك فهو يرى أنه من غير الممكن للأوروبيين الكتابة عن روح اللغة، النحو، أكثر من عموميات. كما حاول راينهارت ترجمة الكلمات والعبارات ترجمة حرفية قدر الإمكان حتى يحافظ على المعنى الأصلي. وكان يحرص على ملاحظة ورصد تعدد المعنى للكلمة في سياقاتها المختلفة. وقد أهمل راينهارت وضع فهرس للكلمات في نهاية الكتاب، كما جرت العادة، والذي كان ينوي فيه تسجيل بعض التباينات المعروفة في النطق. وقد علل ذلك من أجل توفير المساحة، وكذلك لأن الفهرس سيظل ناقصا -على حد تعبيره-. ولكن بعد تحفظه على ذلك، أشار في مقدمته إلى أنه لاحظ أن هناك عددا كبيرا من الكلمات كان بحاجة إلى مزيد توضيح وشرح نتيجة تغير وتبدل صوتي فيها، ولاحظ أيضا وجود عدد من الأبيات التي تعود إلى شعر المتنبي والحريري، الشاعرَين المفضلين لدى أهل عمان -حسب تعبيره- كانت بحاجة إلى تسجيلها وتوضيحها في هذا الفهرس. وقد اعتمد راينهارت في تقعيده على عدد كبير من الحكايات والمحادثات ومعجم حافل بالأمثلة. وقد اختار لنفسه طريقة خاصة لكتابة هذه الحروف العربية الثلاثة خ، ذ، ث، باستخدام رموز من الكتابة الإغريقية الحديثة بسبب عجز لغة الكتابة القديمة عن تمثيل المباني الجديدة بشكل جيد، مثلما يرى، كما أنه لم يلتزم في أجزاء من كتابه بتحويل الكتابة العربية إلى أحرف لاتينية، وذلك من أجل توفير المساحة -حسب تعبيره-. ولا يذكر في دراسته صيغ الأفعال القياسية والمطّردة، وكذلك الأفعال التي لا تمثل قدرا معتبرا من الصعوبة في بنائها. ويشتمل ملحق الكتاب -وهو الجزء الرابع والأخير من كتابه- على مجموعة من النصوص والحكايات، و200 مَثَلٍ، ومختارات من أشعار الحرب. والهدف منها -كما يذكر- تقديم عينة من اللهجة وإبراز كيف يتحدث ويفكر العماني غير المتعلم. وكان اختياره للحكايات التي تعالج ما يحدث في الحياة اليومية المعتادة، ولم يلتفت إلى حكايات ألف ليلة وليلة، لأن هذه الحكايات، التي عُرفت حدَّ السأم، في نظره، لا تناسب أن تكون مادة للغة العامية Volkssprache، كما اختار أربعة نماذج من الأساطير من كتاب قواعد اللغة العربية للمستشرق الألماني أدولف فارمُند، وأسطورة من كتاب قواعد اللهجة المصرية للمستشرق الألماني فِلْهِلم شبيتّا، أعاد صياغتها باللهجة العمانية، لإظهار مدى مناسبتها في هذا القالب الجديد. وقد كان يقرأُها بنفسه أولا أمام أحد العمانيين ويطلب منه بعد ذلك أن يرويها بلهجته بكل عفوية. ولكن لعدم وجود راوٍ محترف في زنجبار -حسب تعبيره- ظهر على سرد الحكايات بالنسخة الحديثة شيءٌ من التكلف والرتابة وضعف التدفُّق، ما يشي بأن الحكايات ليست من رحم هذه المستوى اللغوي الذي أُلبست إيّاه، ولذلك ينشد المرء من ذلك في الأخير -كما يرى- وفرة الصيغ والدقائق في بناء الجملة ووضوح التعبير ودقته. وكانت طريقة راينهارت في ذلك أن يدوّن مباشرة كل ما يخرج من فم الراوي على الورق، مع الأخطاء والنواقص، ثم يناقش الراوي بعد ذلك في بعض الجوانب النحوية والمعجمية. أما الأمثال التي أوردها في كتابه، فيشير راينهارت إلى أنها بشكل عام من الأمثال المستعملة، وقد أكملها بالاعتماد على عدد كبير من الأمثلة وعلى أبيات للمتنبي والحريري تُستَعمل استعمالَ المثل. كما يذكر أن شغف العُمانيين ودرايتهم بشعر المتنبي والحريري تماما مثل إلمام المتعلم لديهم بالقرآن، إذ كانت أحاديث سمرهم ومدار نقاشهم. وقد اختار راينهارت أيضا عينة من شعر الحرب الذي رواه له “علي العبري”، الذي سبق ذكره، واعتمد في ذلك على الأسهل منها قدر الإمكان. ولفت إلى أن الشعر الشعبي ليس عديما في عمان، فقد ذكر أنه كان في مسقط سنة 1893، وكان دافعه إلى ذلك، كما يقول، الشغف في التعرف على هذا البلد النائي المثير والمجهول، وجمع عينات من اللغة لمختلف القبائل والتعرف كذلك على جغرافيته، ولكن خططه واستعداداته -كما يقول- تعثرت أمام مكيدة دبرت له من قبل القصر في مسقط. وقد كان يتمنى، بما لديه من اتصالات عديدة في الداخل ومعرفته باللغة، أن يعطي قليلا تصوّرا عن البلد وأهله، الذين ورد ذكر بعضهم في كتابه. ويرى راينهارت أيضا أن العماني لا يصعب عليه فهم الشعر العربي بسبب قرب لهجته من اللغة الفصيحة، وأن اللهجة العمانية أقرب إلى العربية الفصيحة حتى من لهجة نجد ولهجة عنزة وشمّر، فضلا عن لهجة مصر وسوريا.
قسّم راينهارت كتابه إلى أربعة أجزاء، في 428 صفحة. تتضمن الأجزاء الثلاثة الأولى منه مقدمات نظرية؛ فالجزء الأول خصصه للجانب الصوتي، واشتغل على الصرف في الجزء الثاني، أما الجزء الثالث فقد ناقش فيه النحو. وختم الكتاب بالجانب العملي، فاشتمل على نصوص وحكايات وأمثلة وبعض من أشعار الحرب باللهجة المحكية.
كانت هذه نبذة عامة عن الكتاب وجهد راينهارت، تحاول لفت أنظار الباحثين إليه والاستفادة من منهجه في محاولته تقعيد إحدى اللهجات العمانية في هذا الوقت المبكر.