عصام جميل
لا شك أنها كانت ممازحة من ذلك الخياط الذي سألته إصلاح سترتي، إذ ابتسم وقال لي:
– اذهب إلى خياط موسوليني، فلن تجد أحدًا يصلح كُمَّي سترتك غيره.
ثم دس في يدي ورقة صغيرة كتب عليها عنوانه واسمه… غابرييللي… هذا كان اسمه. انتابني الشك في أول الأمر معتقدًا أن الخياط الذي أعطاني هذا العنوان كان يحاول إبعادي لأن العمل الذي طلبته منه لم يعجبه، أو لأنه كان منشغلًا بعمل آخر…؛ ولكن لعل ما طلبته منه كان يتطلب مهارة من نوع خاص… لعله كذلك… فهذا ثالث خياط يعتذر عن إصلاح كُمَّي سترتي… لا أدري في الحقيقة إن كان هذا العمل يتطلب دقةً وعناية فائقتين أم أنهم يستخفّون تقصير كُمّ سترة!؟… ثم ماذا بخصوص خياط موسوليني؟ هل فعلًا هناك خياط يُكنّى «خياط موسوليني»؟
على أية حال، لم يكن أمامي خيار آخر غير أن أضع العنوان الذي بين يدي على خريطة الهاتف الجوال ليقودني عبر تلك الأحياء القديمة من المدينة بحثًا عن خياط موسوليني هذا! ولا أدري إن كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟ فهأنذا أضيع نصف النهار من أجل أمر تافه… لقد أغلقت محلي وأهملت تجارتي لأجل تقصير كُمّي سترة!… كم أشعر بالغيظ من قِصرِ قامتي وحيرتي وعنائي كلما أردت شراء لباس يستر جسمي… فكل القمصان التي أتسربل بها تبدو فضفاضة طويلة الأكمام، وكل البناطيل الجديدة التي أقتنيها ما أن أضع ساقيّ بداخلها حتى أنزلق وتختفي قدماي وحذائي في جوف تلك السراويل الطويلة. أقول الحق.. لولا إصرار زوجتي على ارتداء سترة جديدة بمناسبة زواج ولدي لما فكرت بشراء هذه السترة اللعينة التي يتدلى كُمَّاها كشبحين متراقصين يسخران من قِصَر قامتي. وما حاجتي أنا إلى سترة! أنا أقضي كل يومي في محل بيع الكتب المستعملة الذي أديره دون أن يكترث أحدٌ ما إلى ردائي أو إلى رأسي الذي زحفت جيوش الصلع إليه من جهاته الأربع. ما زالت خريطة السيد غوغل في هاتفي المحمول تقودني عبر دروب وأزقة لم أسمع بها من قبل، ولكن على الأرجح أستطيع أن أُحدد أن المكان هو حي تكثر فيه الجالية الإيطالية، حيث تنتشر مطاعم البيتزا وتتصدر ألوان العلم الإيطالي كثيرًا من الواجهات التجارية، وأعني الأحمر والأخضر والأبيض، لست مندهشًا لهذا الأمر فالخياط الذي أبحث عنه اسمه غابرييللي ويكنّى خياط موسوليني!… ها هو ذا هاتفي المحمول يصدر تنبيها صوتيًا يُعلمني فيه أن العنوان الذي على الخريطة قد اقترب، وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي في مواجهة المكان المطلوب. في الواقع لم يكن محلًا تجاريًا كما اعتقدت بل كان منزلًا عاديًا؛ ولكن عندما ترجلت من سيارتي واقتربت من المنزل اكتشفت أن له واجهة زجاجية واسعة وكبيرة يستطيع الناظر إليها أن يلمح عبر الزجاج هيكل ماكينة خياطة ضخمة تقبع في الداخل. ألصقت وجهي على الزجاج وحجبت بكفيَّ الضوء الساقط لأستطلع إن كان أحدٌ ما في الداخل فلم أجد أي شخص، ثم نقرت على الزجاج وكررت المحاولة حتى تراءى لي رجل كهل وطويل بعض الشئ يدلف قادمًا من داخل المنزل ويضع شريط قياس حول رقبته يتدلى طرفاه على صدره، تقدم وفتح لي الباب فبادرته بالسؤال ناظرًا إليه من تحت لِقِصر قامتي:
– السيد غابرييللي؟
– نعم، تفضل بالدخول.
ثم أفسح لي الطريق لأدخل وعيناه مثبتتين على الكيس الذي بيدي والذي فيه لفَفت سترتي.
كان المكان عبارة عن غرفة استقبال كبيرة فُصِلَت عن البيت بقواطع خشبية أُلصِقت عليها ماركات تجارية لملبوسات رجالية، وبالقرب منها ترزح ماكينة خياطة صناعية كبيرة الحجم، كما كانت هناك مانيكانات أُلبِست بدلات رجالية لم تكتمل ياقاتها وصور بالأبيض والأسود لغابرييللي في شبابه احتلت جزءًا كبيرًا من أحد الجدران، غير أن أهم صورة تشدُّ الانتباه كانت تلك التي يقف بها شاب في مقتبل العمر يحمل بيده شريط قياس بجانب موسوليني ببزته العسكرية المعهودة، حينها أيقنت أن الأمر لم يكن مِزاحًا كما ظننت… إنه بالفعل خياط موسوليني.
– هل هذا أنت يا سيد غابرييللي؟
وأشرت بإصبعي إلى الصورة.
-نعم، إنه أنا.
ثم ضحك ومد يده إلى قطعة الملابس التي كنت أحملها معي…
– هات ما عندك… ما طلبك ؟
– أريد تقصير كُمَّي هذه السترة.
ثم بعد أن تفحصها جيدًا قال لي:
– سيكلفك الأمر ثلاثين دولارًا.
– لا يهم، المهم أن يتم تصليحها اليوم لأن غدًا عرس ابني.
– أستطيع ذلك، سيستغرق الأمر ساعة… هل تريد أن تعود بعد ساعة أم تفضل الانتظار؟
– أفضل الانتظار.
قلت ذلك، ثم أشار لي بالجلوس على أحد المقاعد بينما أخذ يعمل على تفكيك طرف كُمّ السترة بمبضع صغير مما يستخدمه الخياطون، مُعدلًا نظارته كل حين ليحدد مكان الخيوط بصعوبة. صرت أنظر إليه بارتياب إن كان فعلًا يستطيع إنجاز العمل وذلك لتقدمه في السن، فحسب تقديري له كان قد تجاوز السبعين، أو ربما أكثر، ثم أخذت أُراقب ارتعاشة يده القليلة وصعوبة تحديده مكان الخيوط؛ ولكن بعد مضي بضع دقائق اطمأن قلبي فوجدته يقوم بعمله بإتقان ودقة.
– متى التقطت هذه الصورة؟
قلت مشيرًا إلى تلك الصورة محاولًا كسر الصمت أثناء انشغاله بالعمل، فنظر إلى الصورة وترك ما بيده وكأنه كان يسترجع واحدة من المحطات المهمة في حياته…
– هذه في سنة ١٩٤٣، بعد شهرين من التقاط هذه الصورة تمت إقالة موسوليني من منصبه.
ثم صار يتحدث مستذكرًا سنوات شبابه وكيف أنه جُنِد للقوات الملكية وأُرسِل بعدها إلى ليبيا، ثم بعد أن إستسلمت إيطاليا لأرادة الحلفاء وبعد انهزام هتلر ومقتل موسوليني لم يفكر بالرجوع الى بلده، ثم استمر يحكي عن ويلات الحرب وما خلّفته وراءها، كان يتحدث بإنكليزية تشوبها لكنة إيطالية وفي عينيه يلتمع بريق لصوَرِ أساطيل حرب تمخر البحار، وجنود تُساق في خنادق حاملين بنادق ذات حراب، وقذائف تنفلق وتتشظى ، وجثث قتلى تختلط دماؤها بالتراب…
– غابي… غابي ..
كان صوت امرأة تنادي آتٍ من داخل المنزل.
– نعم يا حبيبتي أنا هنا.
أجابها أثناء انهماكه بالعمل ثم اقترب وقع خطاها فدخلت امرأة مسنّة بالكاد تقدر أن تحمل جسدها الثقيل، كانت تمسك بيدها كأس ماء وحبة دواء.
– خذ، لقد نسيت حبة الدواء.
ثم نظرت إليَّ وحيتني بإيماءة صغيرة من رأسها وبعدها عادت أدراجها بعد أن اطمأنت أنه قد تناول الحبة.
– هذه زوجتي، إنها تونسية الأصل، تعرفت عليها في إجازتي التي قضيتها في تونس يوم كنت مجندًا في ليبيا، إنسانة رائعة، كانت هي التي اقترحت أن نهاجر إلى أستراليا. فبعد استسلام إيطاليا لإرادة الحلفاء كان الجوع والفقر يعمّان في كل مكان.
ثم توقف عن الكلام وسرح متأملًا وسابحًا في لجج الماضي وكأن شريط ذكرياته مرَّ أمام عينيه في لحظة من الزمن؛ ولكنه استدرك وعاد إلى عمله في تقطيع الخيوط، ثم سألني أثناء انشغاله بالعمل:
– ماذا عنك أنت؟ ماذا تعمل؟.
– أنا بائع كتب مستعملة.
وما أن تلفظت بهذا حتى توقف عن العمل ونظر الي بريبة عاقدًا حاجبيه:
– بائع كتب مستعملة؟! لم أسمع عن مهنة مثل هذه من قبل!
– إذا لم تكن مولعًا بالقراءة فبالتأكيد لم ولن تسمع.
– هل أنت بائع جوال؟
قال، وأمارات التشكك قد تسللت إلى وجهه.
– كلا… عندي محل لبيع الكتب المستعملة.
– أيها السيد، ليكن في حسبانك بأني أريد أجرتي فور انتهائي من إصلاح سترتك.
– بالطبع! ومن قال لك أني سأمتنع عن الدفع.
ثم أخرجت محفظة نقودي وجعلته يرى ما بداخلها فاطمأن فور أن شاهد النقود وعادت الابتسامة إلى وجهه فعاد يسأل من جديد:
– وهل تجارتك مربحة، أعني بيع الكتب المستعملة.
– إنها تكفي لتسديد نفقات معيشتي.
– أفضل من مهنتي، لقد كسدت ولم يعد أحد يهتم بتفصيل بدلة رجالية في هذه الأيام، الكل يفضل الألبسة الجاهزة، اقتصر عملنا على التصليحات وحسب.
– ولكن لديك كثير من البدلات الرجالية التي لم تكتمل.
وأشرت بيدي إلى المانيكانات ثم أردفت:
– هذا يعني أنك ما زلت تعمل.
– لا تغرنك تلك البدلات التي لم تكتمل، إنها للدعاية فقط، أنا أستخدم ما بحوزتي من قطع قماش قديم فأفصلها للمانيكانات كي لا يصيبني الضجر.
ثم أطلق ضحكة مريرة وعاد إلى عمله في تفكيك خيوط كُمّ السترة.
في الواقع لقد تأسيت عليه كثيرًا، فهو مُصرٌ أن لا يتوقف عن العمل حتى في هذه السن المتقدمة بالرغم من كساد مهنته؛ ولكن لا أُخفي أنه قد دبَّ فيّ ابتهاج لشعوري أن من يصلح بدلتي هو خياط موسوليني بشحمه ولحمه، ولقد قرأت كثيرًا من الكتب عن هذا الطاغية وعن نهايته المفجعة، وفكرت أن شخصية هذا الخياط المخضرم وما مر عليه من تجارب تصلح أن تكون موضوعًا صحفيًا شائقًا… ليتني كنت صحفيًا.
ثم أخذت أنظر إليه وأتأمل ملامح وجهه النحيف، كان ما يزال محتفظًا بوسامته رغم الأخاديد التي حفرتها السنين عليه؛ ولكن بينما كنت أقارن بين صورة شبابه المعلقة على الجدار وبين شخصه، نهض من مقعده وعيناه تبحثان عن شيء ما على الرفوف التي ثُبتت على الجدران، كانت تلك الرفوف تكتظ ببكرات خياطة من شتى الأصناف والألوان، كما اكتظت بعُدد الخياطة من إبر ودبابيس وأزرار.
– اللعنة… كانت هنا دائمًا.
قال محدثًا نفسه بينما راحت أصابعه الطويلة تبحث وتنقب في عُدد الخياطة على الرفوف كأصابع عازف بيانو يبحث عن مفتاح نوتة ضائع.
– هل أستطيع مساعدتك؟
قلتها لأستطلع عمّاذا يبحث.
– شكرًا، إنها لفافة قماش لاصق… سأبحث عنها في الغرفة الملحقة.
ثم مضى في طريقه إلى غرفة ملحقة تختفي خلف تلك القواطع الخشبية.
– سألقي نظرة على سيارتي وأعود.
قلت ذلك ثم خرجت لأتأكد ما إذا كان المكان الذي أوقفت به سيارتي لا يحمل علامات تمنع وقوف السيارات، وما أن تأكدت من سلامة الأمر حتى عدت أدراجي إلى المكان فجلست أنتظر. مضت دقيقتان على جلوسي في نفس ذلك المقعد وأثار انتباهي ذلك الصمت المطبق الذي لفَّ المكان، كان غابرييللي ما يزال غائبًا عن نظري وتملكتني الهواجس إذ لم أعد أسمع أي صوت.
– سيد غابرييللي.. هل ما زلت تبحث؟
قلت وأصغيت السمع ولكن لم يرد أذنيّ أي جواب… لعله دخل إلى المنزل… قلت في سرّي ثم لبثت أنتظر وأنتظر، مضت خمس دقائق ولم يخرج فتعاظمت شكوكي، لذا نهضت مستطلعًا الأمر واجتزت تلك القواطع الخشبية فشدَّ انتباهي بكرات الخيوط المبعثرة على الأرض، كانت غرفة صغيرة ملحقة تكتظ بعدد الخياطة التي طُرِحت أرضًا بينما كان جسد غابرييللي مسجى بلا حراك، اندفعت إليه فَزِعًا وهززت وجهه:
– سيد غابرييللي … سيد غابرييللي .
ولكن كانت عيناه جامدتين كقطعتي زجاج لا يرف لهما جفن، فاندفعت أطرق بشدة على الباب الخشبي الذي يفصل صالة الخياطة عن المنزل وأنا في أشد حالات الذعر حتى خرجت زوجته فَزِعة ثم صرخت بأعلى صوتها حين شاهدت زوجها مسجّى على الأرض، ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى امتلأ المكان بالناس، كان الجميع يعرف غابرييللي وكلهم بذلوا أقصى ما يستطيعون لأجل إسعافه ولكن كان الوقت قد فات على ذلك. كان سبب الوفاة أن قدميه انزلقتا من فوق مدرج صغير استخدمه ليرتقي بحثًا في أحد الرفوف العالية. كنت أقف واجمًا وكأن مسًّا أصابني فلجم لساني رعبًا بينما كان البعض يحاول أن يستفهم منّي كيف وقعت الواقعة، ولكني كنت منهارًا فلم أستطع الكلام، فأسندت يدي على أحد الكراسي متكئًا ثم جلست عليه وأنا أنظر بعين ذاهلة إلى تلك الجموع التي ملأت المكان بينما اقتحم أذني عنوة لغطهم الذي تحول إلى ضجيج اختلط بصراخ الزوجة وعويلها. لا أدري كم من الوقت مضى وأنا على هذا الحال فلقد فقدت الأحساس بالزمن، إلى أن صارت الجموع تتراجع قليلًا لتخلي المكان لبعض رجال الشرطة الذين دخلوا لتوهم يتبعهم رجال الإسعاف. فور دخولهم اندفع رجال الإسعاف محاولين إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولكن لم يطل بهم الوقت حتى أخذت تعابير وجوههم تُخبر أن الوقت قد فات. بقيت جالسًا في مقعدي أراقب بعيون ذاهلة ما يجري أمامي حتى صارت الرؤوس تتجه نحوي وسمعت من يخاطب الشرطة قائلًا:
– هو الذي كان معه.
بدأ رجال الشرطة يخلون المكان من الناس حتى لم يبق غيري أنا وزوجة غابرييللي ورجال الإسعاف، ثم اقترب مني شرطي وطلب أن أبين له تفاصيل الحادث فقصصت عليه ما جرى باذلًا أقصى ما أستطيع من جهد بعد أن جف لساني وكاد يلتصق بسقف حلقي. كان بعض رجال الإسعاف منشغلين بقياس ضغط الدم لزوجة غابرييللي التي افترشت الأرض بعد أن انهارت تمامًا وكاد يغمى عليها، بينما أثار انتباهي اثنان من رجال الشرطة كانا يتحدثان بصوت خافت لا يكاد يُسمع ويشيران بأيديهما إلى أدوات الخياطة المبعثرة على الأرض ثم سلط أحدهم نظره عليّ كمن يتهمني وسمعته يقول لرفيقه…
– يبدو وكأن هناك آثار شجار…
وفور سماعي لهذا تجمد الدم في عروقي وتصبب عرقي ثم شعرت أن الأرض تلف بي فسقطت من على الكرسي أرضًا.
كانت الرؤية مضطربة وصار الظلام يغشى عيني بينما كنت أسمع أصواتًا تتداخل بعضها ببعض وكأنها آتية من كوكب بعيد لم أفهم منها شيئا. حين أفقت وجدت هناك ما يكمم فمي ورجال الإسعاف متحلقين حولي ثم اتضح لي أنهم وضعوا جهاز تنفس مزود بالأوكسجين على وجهي، أما في الزاوية التي كان جسد غابرييللي مسجىً فيها فقد بدا لي أني رأيت شرطيًا يرسم بالطباشير على الأرض ويحدد مكان جسد غابرييللي، وما أن انتهى من الرسم حتى هرع رجال الإسعاف بنقل الجثة على حمالة إلى سيارة الإسعاف ثم اقترب مني شرطيان وساعداني على النهوض ثم بعدها أخذ أحدهما يديَّ ووضع فيهما الأصفاد ثم قال لي…
– لست ملزمًا أن تقول أي شيء؛ ولكن قد يضر دفاعك إذا لم تذكر الآن شيئًا قد تعتمد عليه في المحكمة كدليل.
وفور انتهاء الشرطي من تلاوة ديباجته اقتادني مع الشرطي الآخر إلى الخارج حيث كانت الجموع متجمهرة، بينما انبرى بعض رجال الشرطة إلى إغلاق محل الخياطة ووضع أشرطة تحمل شعار الشرطة لتسيّج وتحول دون دخول المكان. كان كل من في الشارع قد جاء لينظر إلى رجل قصير القامة ألقي القبض عليه بتهمة قتل خياط موسوليني.
في سيارة الشرطة كنت في المقعد الخلفي محاطًا بشرطيين عن يميني وعن يساري حتى حُشِرت وضاق نَفَسي، وشعرت أن شهيقي وزفيري يتناوبان بسرعة بينما كنت أختلس بطرفي عيني نظرات مرتعبة إلى الشرطيين اللذين يضيقان عليَّ غير مكترثين.
وعند وصولنا إلى مركز الشرطة تم فك أصفادي ومن ثم تفتيشي بدقة متناهية من قِبل أحد الأفراد بينما كان شرطي آخر يتلو عليَّ تلك الديباجة التي سبق وأن رُدِّدَت على مسامعي:
– لست ملزمًا أن تقول أي شيء؛ ولكن قد يضر دفاعك إذا لم تذكر الآن شيئًا قد تعتمد عليه في المحكمة كدليل.
كل ما كان في حوزتي قد تم تسليمه للشرطة؛ محفظة نقودي، مفتاح سيارتي، دفتر صغير لكتابة الملاحظات، ثم بعد ذلك تم اقتيادي إلى غرفة تخلو من الأثاث إلا من منضدة وكرسيين، الشرطي الذي أودعني في هذه الغرفة قال لي أن أمكث ريثما يحضر السيرجنت. لبثت أوزع النظر في تلك الغرفة فلم أجد ما يثير الإنتباه سوى كاميرات مراقبة زُرِعت في الزوايا العليا. كان الجو في الغرفة خانقًا وقد زادته كآبة تلك الجدران التي طُليت باللون الرمادي الغامق، كان تفكيري قد شُلَّ تمامًا ولم يعد ما يشغل ذهني غير تذكر تلك الدقائق التي خرجتُ بها لأتفقد سيارتي، لو كنت قد مكثت مكاني لعلي كنت قادرًا أن أنقذ غابرييللي، لا بل أُنقذ نفسي من هذه الورطة التي ابتليت بها، أبسبب كُمّ سترة أقضي بقية حياتي في السجن! وكيف أثبت لهم أن غابرييللي قد سقط من تلقاء نفسه ولم يكن بسبب أي شجار! وهل يعقل أن ألتحم بشجارٍ مع رجل يفوقني طولًا وضخامة!
كنت قد مكثت طويلًا وأنا أقلب أفكاري وأنعى حظي العاثر الذي جاء بي لهذا الخياط في هذا اليوم المشؤوم، حتى جاء السيرجنت أخيرًا وكانت امرأة قدمت نفسها باسم «سيرجنت ربيكا». كانت امرأة في الأربعين من العمر تعتمر قبعة الشرطة وتزين كتفها بأشرطة أجهل كنهها، كانت تحمل جهاز تسجيل صوتي صغير، وقبل أن تبدأ بتسجيل أقوالي ردَّدَت على مسامعي تلك الديباجة المكرورة… « لست ملزمًا أن تقول أي شيء؛ ولكن قد يضر دفاعك …… قد تعتمد عليه في المحكمة كدليل».
وابتدَأت تسجل أقوالي فقصصت عليها ما جرى وكيف قادتني الظروف إلى هذا الخياط لأشهد دقائق حياته الأخيرة، ثم بعد سؤال وجواب طال الوقت بنا حتى أكملت السيرجنت كل الشريط الصوتي الذي كان بحوزتها فاستلته من جهاز التسجيل ثم ألصقت عليه شريطًا لاصقًا وطلبت أن أضع توقيعي على الشريط، بعدها خَرَجَتْ ولم تعد. والحقيقة لم أكن أعلم كم من الوقت مضى على وجودي في مركز الشرطة فلم يكن لدي ساعة يد ولم يكن هاتفي الجوال معي، إذ بقي حبيس سيارتي، وهكذا لم أستطع أن أطمئن زوجتي وأولادي… وبماذا أطمئنهم وما عساي أقول لهم وما زالت نُذُر الشر ترف فوق رأسي. أخيرًا ، وبعد أن أرهقني التفكير والتعب وضعت رأسي على المنضدة وأغمضت عينيّ، ولست أعلم كم من الوقت انقضى وأنا على هذه الحال حتى فُتِح الباب من جديد وظهر ذلك الشرطي الذي تولى تفتيشي وكان يبتسم هذه المرة فطلب أن أتبعه قائلًا…
– هيا… ستخرج بعد قليل.
ولم أكد أصدّق ما أسمع، فكأن كابوسًا كان يكتم على أنفاسي سرعان ما أطلقني حرًا، حتى أنني تعثرت وسقطت أرضًا من شدّة الارتباك، فخرجت أتبعه وعادت أسارير وجهي إلى الانفراج ثانية. لقد علمت بعدها أنهم وجدوا أنْ ليس هناك أدلة تكفي لتوجيه تهمة جريمة قتل، لا سيما بعد تقرير الطبيب الشرعي الذي بين أن سبب وفاة غابرييللي هو سكتة قلبية تعرض لها بعد سقوطه المفاجئ، كما أن الخياط الذي أعطاني عنوان غابرييللي قد بيّض صفحتي فثبت للشرطة أنه لم تكن هناك أي نية مبيتة حين توثق لهم أنه هو الذي أعطاني اسمه وعنوانه وأنه ليس لي معرفة بغابرييللي قبل اليوم.
سلمني الشرطي حاجياتي التي تخصني قبل أن يطلق سراحي ولكني تذكرت أن سيارتي ما زالت مركونة قرب محل الخياطة فأخبرت الشرطي بذلك ولم أكَد أصدق أن رجال الشرطة أنفسهم سينبرون لتوصيلي إلى المكان الذي أخذوني منه. حينما خرجت من مركز الشرطة كانت الشمس تسكب حمرتها في الأفق ساعة غروبها وقدّرت أن فترة احتجازي لم تدم أكثر من ست ساعات.
فور وصولهم إلى المكان هرع رجال الشرطة الذين أوصلوني إلى تفكيك الأشرطة التي وضعوها حول المحل وكان ذلك إشارة منهم إلى أن الحادث لم يكن يحمل أي طابع إجرامي.
عندما فتحت باب سيارتي كان أول شيء فعلته هو التقاط هاتفي المحمول، وفور أن أمسكت به ظهرت على شاشته سلسلة طويلة من التنبيهات بخصوص المكالمات الهاتفية التي لم أرد عليها، كانت زوجتي وأولادي في أشد حالات القلق وفور أن تحدثت معهم هدأت نفوسهم وعاد كل شيء إلى طبيعته. شغلت محرك سيارتي وهممت أن أنطلق إلا أني نظرت صوب محل الخياطة وتذكرت سترتي التي بقيت هناك، ترجلت من السيارة وخطوت باتجاه المحل إلا أني عدت أعقابي لاعنًا السترة الجديدة وكُمَّيْها وأقسمت ألّا أرتديها حتى لو انفضَّ عرس ابني بسببها.
هأنذا أعود ثانية إلى محل بيع الكتب المستعملة بعد إقفاله لأيام انشغلت بها بعرس ابني، وفور أن فتحت باب المحل حتى عبقت في أنفي رائحة الأوراق القديمة فاستنشقتها بملء صدري منتشيًا بعالمي الجميل الذي تعودت أن أقضيه مع الأوراق الصفراء التي بين ثنايا أغلفة الكتب، وكان أول أمر تبادر إلى ذهني هو أن أبحث بين الكتب عن أي شيء يؤرخ سيرة الطاغية موسوليني لعلي أجد ذكرًا لخياطه الشخصي. كانت بعض الرفوف العلوية تحتوي على بعض السِيَر على ما أتذكر، فصرت أقلب الكتب حتى وجدت كتابًا يؤرخ للعلاقة بين هتلر وموسوليني فجلبته ووضعته أمام مكتبي لأقرأه وقت فراغي، ثم تناولت بعضًا من صحف اليوم التي جلبتها معي وصرت أقلب صفحاتها لأتابع ما استجد من أحداث الساعة؛ ولكن كان اندهاشي عظيمًا إذ رأيت صورة موسوليني على إحدى صفحات الجريدة وكان اندهاشي أعظم عندما لاحظت صورة أخرى بجانبها، هي نفسها التي كانت معلقة في محل غابرييللي، وفيها يقف غابرييللي مع موسوليني. كان عنوان المقال (وفاة خياط موسوليني). تابعت قراءة المقال بشغف وكان بمثابة رثاء أطرى فيه الكاتب على هذه الشخصية المهمة، وأعني غابرييللي، موجهًا أنظار بلدية المدينة إلى منزله كتراث يجب المحافظة عليه، كما اقترح كاتب المقال أن يُقام لغابرييللي صرحٌ يخلد ذكراه، فلم أتمالك نفسي فتركت الجريدة وصرت أضحك ملء فمي…
عذرًا فقد تذكرت أمرًا فاتني أن أذكره لكم، فقد روى لي غابرييللي أمرًا حين اقترحت عليه أن يجد صحيفةً تهتم بقصته مع موسوليني لتجري معه تحقيقًا صحفيًا يسلط الضوء عليه، قلت له هذا كاقتراح للترويج عن عمله كخياط مخضرم، ولقد روى لي أنه اتصل بالعديد من الصحف واقترح عليهم مثل هذا الموضوع الصحفي ولكن جميعهم كانوا يشيحون بوجوههم عنه وتنكمش أساريرهم فور سماعهم اسم موسوليني…