عبد الجليل الشافعي
يعدُّ الشاعر حسن نجمي1 من أهم الأصوات الشعرية المغربية والعربية التي استطاعت أن تحقق استمرارية في الزمن وتراكما في التجربة وتنوعا في زوايا الطرق والرؤيا الإبداعية، استمرارية امتدت لما يقارب أربعة عقود. ولعل القارئ لبعض إصدارات الشاعر لا تخفى عليه الخلفيات المعرفية التي تُطل من ورائها متونه الشعرية، ويشعر بأن الإبداع، لا يتخلَّق من طين الموهبة فقط، وإنما لا بد له من عناصر أخرى، أبرزها -في تقديرنا- المعرفة والقراءة الواسعة المستمدة من خلفيات ثقافية مختلفة، والمستجلبةُ من صنوف تجارب حياتية مختلفة أيضا… كل ذلك، إذا انصهر أفضل ما يكون عليه الانصهار، أمكننا، إذَّاك أن نكتب نصوصا إبداعية بالمعنى العميق للكلمة. وقد استطاع الشاعر حسن نجمي، أن يحقق هذه “المعادلة” الإبداعية غير اليسيرة. هذا ما ينبئنا به ديوانه، “على انفراد”2. كما ينبئنا بالخلفيات والمرجعيات والأطر التي يعود إليها الشاعر ليبني نصه. الديوان يعرفنا أيضا، على مدى اشتغال وانشغال الشاعر بالمكان، وبتعبير أدق وأرحب، انشغاله بالفضاء، انشغال واشتغال وتفكير لم يتوقف عند تخوم الشعر فقط، بل تعداه إلى أعماله السردية والنقدية أيضا3.
فكيف تجلى هذا الانشغال في ديوان «على انفراد»؟
وما علاقة الفضاء بالنوستالجيا التي صبغت كثيرا من قصائد هذا الديوان؟
نوستالجيا لزمن الطفولة وحنين حارق لفضائها وعوالمها:
جاء ديوان “على انفراد”، مكونا من 64 نصا شعريا -فضلا عن إهداء واستهلال مزدوج- تختلف من حيث الطول والثيمات، مقسمة على أربعة “مباحث” كبرى، عنونها الشاعر كالآتي: (1- امتثالات. 2- مرايا. 3- تاريخ الليل. 4- دفتر الشذرات). وتوزعت على 126 صفحة من الحجم المتوسط.
وقد عبر الشاعر من خلال ديوانه هذا عن الكثير من “القضايا” -المعاني إذا رمنا التدقيق-، فالشعر حمَّال معانٍ، بدرجة أولى -وربما بدرجة أخيرة- عبر عن انشغالاته وأحلامه وخيباته، وعن توجسه وتهيُّبه من الشعر، فكأنه موسى وهو يرى الحبال تتخلق ثعابينَ، في طفرة تنشئها العين المخدوعة لا الطبيعة.. كأنه موسى، الذي وصفت حالته الآية “فأوجس في نفسه خيفة موسى”. (سورة طه، الآية 67). هذا هو الإحساس الذي يختم به الشاعر ديوانه، إذ يقول في قصيدة بعنوان (صوت):
“وحدي في الغرفة
أُسمِع أذنيَّ صوت قصيدتي الأخيرة
….
أصبحت أتهيَّب من كلماتي”. (ص، 126).
لكننا في هذا المقال سنحاول التطرق إلى ثيمة النوستالجيا، محاولين تتبع تجليات حضورها التي تشد الشاعر إلى ماضيه، النوستالجيا التي تعود بالشاعر إلى طفولته، الطفولة التي هي “أبو الرجل”، كما يقول المثل الإنجليزي. ويتبدى هذا الحنين الجارف كماء هزم السد، في قصيدته المعنونة بــــ: (شبه أوطوبيوغرافيا). مما يشير إلى أن صاحب كتاب “شعرية الفضاء”4 لم يسلم هو نفسه من شرَك هذا الفضاء ومصيدته، وفي هذا إيماء إلى أن الفضاء يمكن أن يسكننا على النحو الذي نسكنه، وأنه بإمكاننا أن نُخرج الطفل من الحي-القرية الذي كان يقطنه، لكننا لا نستطيع، مهما أمعنا في المحاولة، أن نخرج الحي-القرية، من الطفل، حتى وإن غدا هذا الطفل رجلا وجاب العالم باتجاهاته الأربعة وقاراته الخمس. فالإنسان، على نحو ما، تحكمه غريزة شبيهة بغريزة سمك السلمون، مهما ساح وجال وغاص في أنهر وبحار الوجود، لا بد راجع، بقوة تكاد تكون قهرية قدرية، إلى حيث المنبع الأول والمنشأ الطفليُّ.
إن القصيدة التي نحن بصدد دراستها، بوصفها نموذجا تمثيليا، تحيل على معناها عتبتها الأولى، وهي العنوان: (شبه أوطوبيوغرافيا)، فهي إذن “شبه سيرة ذاتية” والذي يكتب سيرته الذاتية، أو شبه سيرته، لابد عائد إلى مرحلة الطفولة والتكون البدْئيّ، وهذا ما نُلفيه، واضحا، حين نشرع في قراءة متن القصيدة، ولنتأمل مطلعها الدال: “ولدت هناك”. هذا المطلع الشعري، يرمينا مباشرة إلى الفضاء، إلى “الهناك”. ويجعلنا نتساءل عن طبيعة هذه “الهناك” وبما تنمازُ وتتصف به. وحين نستمر في قراءة النص، نجد الشاعر، يخبرنا عن هذا كله، ويسرد لنا، شعرا، ما الذي اجترحه هناك:
“رأيت القمر لأول مرة هناك. وأحببت لأول مرة قرب سياج الضوء. هناك”. ص، 39.
الشاعر هاهنا، يخبرنا عن “المكان” الذي رأى فيه القمر لأول خطرة، “هناك”، وفي ذلك إشارة إلى ميزة هذا الفضاء، ألا وهي الانفتاح على السماء، أي أنه فضاء لا يؤمن بشيء اسمه السقف، السقف بمدلوله المادي والرمزي في الآن ذاته، السقف الذي يحجب الرؤية المتعلقة بالنظر الفيزيولوجي، والرؤيا، المتعلقة بالنظر الفلسفي التأملي والأدبي، الرؤيا بما هي إعادة نظر في الموجودات وعدم الاكتفاء بالممكن والمتاح، فهي إذن، أي الرؤيا ” تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها”5. بمعنى أن الرؤيا، تبعا لهذا الفهم، شكل جديد في النظر، وطرْق مختلف لأبواب الأشياء وماهياتها، وبالتالي، فإنها “تكتسب صفات لا علاقة لها بالمتداول والمتعارف عليه بين الناس. ولذلك فهي تجعلنا نندهش ونشعر بالغرابة إزاء الأشياء في العالم، بخلاف الرؤية التي نصطدم في ظلها بالأشياء العادية والمألوفة”6.
إن الفضاء الذي يحن إليه الشاعر هو بادية/شبه مدينة -بما أنه مشرَّع نحو السماء-، وليس مدينة، فالمدينة بخرسانها الأصم وبنائها الطويل العريض الناتئ كورم خبيث في حالة نشطة على الدوام..، يحجب كل ذلك. أما البادية ففي شساعتها ورحابتها وانفتاحها على اللامحدود، تمنح الإنسان -ومنه الشاعر- رؤيا مختلفة وعميقة “لأشياء” العالم وعناصره.
وبالعودة لمتن القصيدة، فإننا نجد الشاعر يخبرنا عن أهم حدث مغيِّر في مشاعر المرء ونظرته لذاته وجسده وكل دنياه، يتعلق الأمر هنا بالحب الأول الذي يلامس الفؤاد الغر. يقول:
“رأيت القمر لأول مرة هناك. وأحببت لأول مرة قرب سياج الضوء. هناك”. ص، 39.
ليستمر بعد ذلك، في سرد ‘سيرته’: “هناك- حيث القليل من كل شيء: رائحة الخبز. مذاق الشواء. الأزقة الأولى. البيوت الواطئة. السور الطويل الممتد لفحم الطفولة. ضفائر باب الفران. المرآة المؤطرة بالخشب البني” ص، 39.
إذن، فالشاعر ما يلبث حتى يطلعنا بخصوصية وصفات ذاك “الهناك” المتشعب داخل حشاياه والقاطن في روحه حتى بعد أن ابتعد عنه زمانا بشكل أكيد، وجغرافيا، على نحو نسبي. “الهناك” الذي يتسم بالندرة في كل شيء.
ويعبر، بعد ذلك، عن حنينه إلى رائحة الخبز، ومذاق الشواء، وللأزقة الأولى ولغطاء باب الفرن والمرآة… أي أن النوستالجيا تأخذه وتقذف به إلى التفاصيل السحيقة، وإلى الصغير والبسيط من الأشياء التي شكلت الطفل الذي كَانَهُ الشاعر ذات زمن.
هذه العناصر قد تبدو بسيطة، وربما غير ذات جدوى، عند من لم تتعرش طفولته في مثل هذا الفضاء، وعند الذي يرى الأشياء بمنظار الرؤية لا الرؤيا، لكنها بالنسبة للشاعر، عناصر شديدةُ الأهميةِ نفيسةُ القيمةِ وأبديةُ الحضورِ في الوجدان، حتى أنها تتمنع، كخيل المروج القديمة التي لم تألف اللجام، على النسيان وتحرنُ عنه.
إن هذا المقطع وما يثويهِ من عناصر، هو الذي ذهب بنا إلى استعمال مصطلح الفضاء، وعدم الاكتفاء بمصطلح المكان. لماذا؟ لأن الفضاء ” أوسع وأشمل من المكان [يحضُن] مجموع الأمكنة التي تقوم عليها الحركة (…) المتمثلة في سيرورة الحكي سواء التي تم تصويرها بشكل مباشر أم تلك التي تدرك بالضرورة، وبطريقة ضمنية مع كل حركة حكائية”7 بقطع النظر عن شكل تحققها، نثرا كان أم شعرا. الأمر الذي يعني أن الفضاء “يحوز غزارة وتنوعا وتعقيدا”8. أكثر مما يمكن أن يحوز عليه المكان. فالمكان إذن، جزء من الفضاء وعنصر واحد ضمن عناصر أخرى تشكله…
بعد أن يعبر الشاعر عن حبه الأول، يستمر -عن وعي، وربما من دونه- في استجلاب ماضيه الذي لم يمضِ، ماضيه الذي يمده الحنين بإواليات الحياة وينفخ فيه تواشجات الديمومة واللَّازوال. والمتأمل للإهداء الذي استهل به الشاعر ديوانه، سيلمح ذلك ولا شك، إذ جاء الإهداء، في تكسير وخروج عما عهده القارئ في الإهداءات التي تتصدر الكتب عادة، جاء مخاطبا الموتى لا الأحياء، بل مخاطبا جموعا من الموتى وليس ميتا واحدا: ” إلى موتاي” (ص، 9)
هذا الحنين الهدَّار الجارف، هذه النوستالجيا القوية إلى الأمكنة وناسها وروائحها وأشيائها، (أي إلى الفضاء)، تتجلى أيضا من خلال المقطع الشعري التالي:
“وجه أمي البعيد مثل عصمة نبي. الفراشُ الملون الهارب خلف الأسلاك. الزرازير (…) الأصداف المذهبة في معطف العيد. الجسد الصغير الخفيف المجنح تحت شجر الأوكاليبتوس. الجسر المهزوم عند أول هطول” ص، 39.
فالشاعر لم يقدِر على نسيان الفضاء وما حوى، ولذلك فهو مغلول، بأياد هلامية لا تُرى، إلى عروةِ الحنين وحبل النوستالجيا. الحنين الذي لا يستأذن أحدا لينبعث من فانوس الروح، فــ” الحنين (…) مهاجم متوحش، غادر، يتبع أسلوب الكمائن، ويهجم في الوقت الذي لا تتوقعه.. يرتدي الحنين دائما قناعا، ومن دواعي السخرية، أننا نقع ضحية له بمحض المصادفة”9. حنينه لوجه الأم وكسوة العيد وللطبيعة المشكلة لهذا الفضاء: الفراشات والطيور. كما يحن لجسده الصغير، يحن لطفولته. لأن الطفولة هي الجنة الوحيدة الممكنة في هذِي الحياة الشبيهة بالجحيم، ولعل هذا ما يفسر الفرح الذي يغزونا حينَ التطلعِ إلى الأطفال وهم يلعبون مع أترابهم” رؤية الأطفال يلعبون تبهج، لأنها تذكرنا بالجنة الوحيدة التي لا يخامرنا أدنى شك في وجودها: الطفولة”10. ولذلك، لا نستطيع أن نغتال الطفل الذي يسكننا، مهما بالغنا في المحاولة، ونُصادفه دون أن نشعر ينبعث من رماده، كما لو كان هذا الطفل يملك خاصية العنقاء.. وبالتالي “حتى إن قتلنا الطفل وتركناه في ركن قصي من ذواتنا، فإنه ينبعث من رماده ويطل برأسه كلما رأينا صغارا يلعبون ويود لو يشاركهم”11. والقصيدة، في ماهيتها الدلالية وجوهر معانيها، حنين للطفل الذي لم يكبر، حتى وإن كبر الشاعر.
إن الشاعر هاهنا، لا يستحضر ما سبق ذكره من العناصر فقط، بل نجد استحضارا لكثير من العناصر غيرها حين نستمر في القراءة:
“أسطوانات 45 لفة. الأب برأسه العارية يكتشف كل مساء هواء الأغنيات. الأعراس السخية. الجنائز التي تفتح أبواب المنازل. كسكس الجمعة. مزبلة الأمريكان. الوزغة المرقطة. الفأر المشتعل المشدود إلى حبل مرتجف. المعلمون. الدفاتر الحمراء. التمارين. السبورة. السبورة السوداء. القرآن الكريم. تلاوة (اقرأ) وكتاب (الفصحى)”. ص، 39-40.
وتأملنا في هذا المقطع يؤكد لنا مسألة شديدة الأهمية، وهي أن ” الشعر انتباه”12 انتباه للتفاصيل التي بدل أن يسكنها الشيطان، كما درج الناس على القول، يسكنها الجمال، وتسبتُ فيها الحياة دهرا، ثم تخرج -دائما- في الوقت الذي لا نتوقعه… هذه التفاصيل التي تعمل عمل الماء، قطرة، قطرة، قطرة، حتى تشكل نهر وجدان الشاعر وتحيي مسامه وخلاياه وتنشر في العروق والأعصاب كهرباء الحياة.. تفاصيل، تتبدى في الأسطوانات القديمة وشكل الأب في المساءات البعيدة، الأب الذي لا تعرَى رأسه إلا في الدار، لأنه إن فعل ذلك خارجها يكاد يكون الأمر نقيصة واعتوارا في الرجولة وخرما في المروءة..، في سياق الزمن الذي تحكيه القصيدة..
تتبدى هذه التفاصيل أيضا -إضافة إلى كل ما سبق- في طبيعة المناسبات البدوية، سعيدة كانت أم حزينة تلك المناسبات، حيث كل المنازل مباحة أبوابها مشرعة مداخلها دون استئذان، في انزياح غير “آثم” عن منطوق الآية: “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها” (النور، الآية 27) بل حتى الكلاب يستوطنها جبن طارئ عرضي، فتغدو مثل كلاب الجملة التي يكني بها العرب على كرم المرء: (فلان جبان الكلب). أو كأنها كلاب “حاتم الطائي” لما ينشد مفتخرا: “فإني جبان الكلب بيتي موطأ”13. تتبدى، فوق ذلك، العناية بالتفاصيل، في ذكر الشاعر لأكلة الكسكس والمدرسة الابتدائية والمعلم والأدوات وتلاوة القرآن…
وإذ نستمر في القراءة، يفاجئنا الشاعر بعودته، بعد أن التقط بقُمرة اللغة تفاصيل غارقة في سفوح الطفولة، يعود إلى الحديث عن الحب من جديد، ولعل في هذا التَّكرار تنصيصٌ على أهمية الحب، في مسرى حياة كل رجل، وفي مسرى حياة الشاعر بخاصة، يعود إلى الحديث عن لمحة البراءة التي كانت تكسوه، وعن الخجل الذي يعتري الواحد في تلك المرحلة العمرية، خجله من أفعال قد تقتلها العادة وتنزع عنها خاصية الإدهاش، أفعال كالنظرة واللثم والتقبيل، فيقول، مستذكرا كل ذلك، كما لو كان شاعرا جاهليا تسكنه رغبة البكاء على الأطلال:
“حبنا الطفل. الهروب من أول نظرة شغوفة. الخجل في أول قبلة أدفأها بخار المستحمة” ص، 40.
يتذكر جميع أولئك، وتحضره الذكريات تترى، ويأسره الحنين للذي مضى، من دون أن يمضي، للذي توارى، دون أن يفقد فاعليته في وجدان الشاعر وجوانايته.
والملاحظ أن الشاعر تحدث عن ماضيه وطفولته الأولى بنوع من اليوتوبيا التي تخلقها النوستالجيا عادة وتغذيها، -وقد تضفي عليها غلالة من جمال مبالغ فيه أو متخيل، تحدث بوردية وطوباوية واضحتين، ربما مرد ذلك إلى الوهم الذي ينشأ عن الذكريات حين تبتعد وتوغل في دروب النأي، ربما بسبب حزنه عن الشباب الذي ينسحب منه رويدا رويدا، حتى لكأن بيت “ابن الرومي” يصفه، حين يقول: “كفى حزنا أن الشباب معجل// قصير الليالي والمشيبَ مخلد”. لكنه، وعلى عكس ما قد يتوقعه القارئ، لم ينهِ قصيدته بهذه النظرة الحالمة، ولا على هذا النحوِ الوردي، بل أشار إلى أن انقضاء هذه الطفولة، التي هي بمثابة انقضاء لكل اللحظات والمشاعر الدافئة، أشار إلى أن خروجه من هذا الفضاء الطفل، ودخوله فضاء آخر، خروجه من فضاء البادية الشاعري، إلى فضاء المدينة المنثور، هو تدشين لمرحلة تتسم بغير قليل من الحيرة، الحيرة التي جعلته يعيش وحيدا في الظلام يناجي ذاته ويكلم نفسه. وهذا ما يبرز من خلال المقطع الذي جعله الشاعر قفل قصيدته:
“والانصراف الذي فتح طريقي إلى الناس-
وإلى الحيرة الكبرى.
(….)
ودخلت فائضا إلى غرفة بدت لي ناقصة. فانصرفت-
أكلم نفسي مع أنني لا أحب الكلام في الظلام” ص 40.
لقد حاولنا في مقالنا هذا دراسة النوستالجيا في ديوان، “على انفراد”، للشاعر المغربي حسن نجمي، مقتفين تجليات هذه النوستالجيا وأشكالها، مركزين على المعنى بشكل أساس، رابطين هذه الثيمة بعنصر الفضاء، وذلك بإيعاز من قصيدة “شبه أوطوبيوغرافيا” التي تنضح بهذه المعاني، والتي تومئ إلى أن الشاعر منشغل بفضاء طفولته والعوامل المشكلة لشخصيته إبان هذه الطفولة.. لكن تجدر بنا الإشارة، ونحن في هذه المرحلة الأخيرة من الدراسة، إلى أن تعبير الشاعر عن كل هذه المعاني، قد جاء في لبوس من المجاز، بمعناه الواسع، وفي طبق من الانزياح، على اعتبار أن النصوص الأدبية “مسكن المجاز”. ولذلك فإن الديوان، على سبيل التعميم، والقصيدة المدروسة على سبيل التخصيص، ترشحُ بهذه العناصر البانية للشعر، المعطى الذي يشي باهتمام الشاعر بالصور الفنية، كالاستعارة والتشبيه وغيرهما، كما هو حاصل في هذه الجمل الشعرية: (سياج الضوء+ فحم الطفولة+ وجه الأم البعيد مثل عصمة نبي+ حيث اتكأت على قميصي فلم يتحرك هواء في الناي…). واهتمامه باللغة بما هي رافعة للدلالة والقادرة على تجسير العلاقة بين المبدع والمتلقي، مما أكسب الديوان، وقصيدة ” شبه أوطوبيوغرافيا” جودة في القول وفي حامل القول على السواء، وأكد أهمية صوت الشاعر حسن نجمي، ضمن خريطة أصوات الشعراء المغاربة والعرب.